شمس الحب لا تحرق
Bridegroom on her doorstep

الكاتبة : رينيه روزيل
روايات احلام الجديدة
الملخص
بدأت جنيفر سانكروفت إجراء مقابلات لاختيار زوج لها بعد أن نشرت إعلانا بهذا الخصوص في صحيفة. فوجود زوج إلى جانبها سيضمن لها الترقية في وظيفتها. أما الحب فلم يكن له مكان في جدول مواعيدها.. لكن حين حضر كول بارنجر الرجل المثير البالغ الجاذبية هدد أمانها النفسي وزعزع ثقتها بنفسها ولم تستطع اختيار غيره من الرجال الذين قابلتهم. فهل تفشل خطتها في اختيار زوج قبل موعد الترقية. أم أن كول خشبة خلاصها الوحيدة وإذا كان سيجاريها في مشروعها، فهل سيقودها حقا إلى الخلاص أم إلى الغرق؟

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الفصل الأول
1-صيد الأزواج ما استرعى انتباه جينيفر سانكروفت وخطف أنفاسها لم يكن خليج المكسيك الرائع أمامها، إنما عضلات ذاك الشاب وكتفيه العريضتين. كان الشاب الطويل القامة، الأسمر البشرة والعاري الصدر يدهن باللون الأبيض سياجا حديديا يفصل بين حديقة مشذبة وشاطئ نضيف. أرغمت جين نظراتها على الابتعاد عن ذلك المشهد الجذاب ثم أطفأت محرك سيارتها المستأجرة، وهي تفكر في التعقيدات التي قد يشكلها وجود ذاك الرجل. ـ كيف يفترض بأن أجري مقابلات سرية بحثا عن زوج بوجود رجل يراقبنا؟ كانت روثي توتل مساعدة جين قد فتحت باب السيارة وهمت بالخروج عندما سمعت تعليق جين، فاستدارت إليها مستفهمة:(هل قلت شيئا؟) هزت جين رأسها نفيا: لا كنت أفكر بصوت عال ثم أشارت باتجاه الرجل عاري الصدر قائلة: آمل أن ينتهي عمله مع انتهاء العطلة الأسبوعية. لا أريده أن يبعد المتقدمين للوظيفة. نظرت روثي بالاتجاه الذي تشير إليه ربة عملها، فتحولت تعابيرها من الفضول إلى الذهول، بقيت صامتة لبرهة إلى أن استطاعت أخيرا أن تقول بتعبير إعجاب: عجبا...عجبا لم تر يوما مثل هذا التعبير على وجه مساعدتها. فضربت المرأة الأخرى ممازحة،موقظة إياها من دنيا الأحلام: (توتل،زوجك رائع اقفلي فمك) أجلت روثي حنجرتها وحولت نظرها إلى رئيستها قائلة:"إذا كنت مرتبطة فهذا لا يعني أنه لا يمكنني التكلم. ثم ألم أقل لك إن وكيل الإيجار قال إنه من المحتمل أن يكون عامل الصيانة في المكان؟" ـ لا، لم تقولي لي ذلك أجابت جين بذلك بصوت حاد، بينما روثي تنظر بلا ملل إلى ذلك الرجل الغريب:"بصراحة إنه مثال رائع عن عامل الصيانة الممتاز!" حملقت جين بمساعدتها. وإن يكن ممتازا؟ هذا الأمر لا ينفي أنه حجر عثرة تعيق مخططاتها. حولت نظراتها عن روثي لتحدق إلى يديها المتشبثتين بمقود السيارة. لم لا تسير الأمور كما يجب؟ هذا المنزل الذي تملكه الشركة حيث تعمل والذي استأجرته لثلاثة أسابيع كان معزولا جداً ولكن لا يمكنها الاشتراط وهذا المكان هو الوحيد المتوفر حاليا. لقد أُثيرت مسالة رئاسة شركة المحاسبة بشكل فجائي وسريع فاضطرت لاتخاذ بعض القرارات السريعة وربما المتسرعة. لم تجرُأ على القيام بالمقابلات للأزواج المرشحين في دالاس. فمن المحتمل جدا أن تعرف الشركة أنها ليست في شهر العسل. واتهامها بالكذب سيسلبها كل فرصة لترؤس الشركة، ناهيك عن أنها قد تضطر للتخلي عن عملها! لا! لن تدع ذلك يحصل! لقد عملت طويلا وبجهد لشركة دالاس للمحاسبة ووهبت نفسها جسدا وروحا لتلك الشركة طيلة عشرة أعوام، وبالتالي فهي تستحق منصب الرئاسة فيها. وللحصول عليه، قررت أن تقلب الدنيا رأسا على عقب إن اضطرت لذلك. تمتمت قائلة"الأجدر بهذا الرجل ألا يقف في طريقي، لدي أقل من شهر لأجد زوجا مناسبا وأتزوجه، لا أريد لأجير ضخم أن يفسد جدول أعمالي" ونظرت إلى مساعدتها المكتنزة الجسم التي كانت سابقا في البحرية:" قد اضطر إلى أن أحرضك عليه، توتل" أطلقت روثي ضحكة سريعة :" انه ضخم الجثة سأحتاج إلى المزيد من جنرالات البحرية" ثم ضغطت على شفتيها وعقدت حاجبيها:" أو قد اضطر للإرسال في طلب أهل زوجي، حيث بإمكانهم إن يطردوا أيا كان بعيدا" ثم كشرت بسخرية:" لو أن حماي وحماتي أو كما أحب أن اسميهما الساحرة الشريرة والرجل الضفدع، لم يقرروا غزو مسكن عائلة توتل في زيارة مطولة لما تمكنت من إبعادي ثلاثة أسابيع عن راي والأولاد" نزعت جين يدها عن المقود وربتت على ذراع مساعدتها " أحتاجك في الالتزام بالبرنامج وفي حفظ السرية التامة" ألقت جين نضرة سريعة على المكان ثم تابعت قائلة:" وبما أن المكان منعزل جدا هنا وبما أنني سأقابل الكثير من الرجال العازبين، يُحتمل أن أحتاج مهارتك في الفنون القتالية" فتحت جين باب السيارة وترجلت قائلة:" وبما أننا نتكلم عن الرجال سأذهب لاكتشف ما خطب هذا العامل" صفقت باب السيارة واجتازت الحديقة متجهة نحو طريدتها. كانت تسرع نحوه بينما بدا غافلا عن وجودها. وحيث أنها كانت مسرعة, بالكاد لاحظت المنزل البحري المؤلف من طابقين. حتى أنها لم تلحظ الكوخ الأبيض والأزرق إلى يسارها ولا الأحواض المزينة بالأزهار الحمراء والصفراء. جين بطبيعتها امرأة ايجابية منطقية وواثقة من نفسها، غير أنها في الوقت الحاضر عكس ذلك تماما، إذ مقيدة ببرنامج زمني، كما أنها غاضبة بعض الشيء، لن تقبل بان يتم إبعادها عن الترقية التي تستحق ليس هذه المرة! كانت رائحة البحر تعبق في الجو لكن جين لم تشعر بها، إذ كانت حواسها كلها منصبة على المهمة التي أمامها. زاد التوتر من عدائها إزاء دلك الدخيل الذي تجرأ على اقتحام مكانها السري لم تكن بحاجة إلى غريب يدس أنفه في شؤونها الخاصة، فهي لا تظن نفسها قادرة على تحمل شخص آخر ينظر لها وكأنها غبية.. أو حتى مجنونة. لم يكن من شان احد كيف تختار زوجها! لقد تبعت قلبها مرة ووقعت في حب طوني حتى الجنون. تملكها الارتباك لهذه الذكرى لكنها تمالكت نفسها حتى بعد مرور سنوات على تلك العلاقة ، ما زال التفكير باسمه يؤلمها عُين طوني لاند في شركة دالاس للمحاسبة، الرئيس المباشر لجين ومنذ اللحظة الأولى التي انفتح فيها باب المصعد وخرج طوني، دخل قلب جين فأحست بالضياع كان وسيما رقيقا ولامعا، يعرف تماما ما عليه قوله ليحرك أحاسيسها، حتى ابتسامته العادية وهو يجتاز ممر الشركة كانت تدير رأسها. استغرق من جين ستة أشهر لتلفت انتباه طوني، كامرأة وليس كمجرد زميلة عمل، وحصلت تلك اللحظة السحرية في حفلة عيد الميلاد التي تقيمها الشركة وقد جاهدت كثيرا لتختار ما ترتديه إلى أن استطاعت أخيرا أن تتألق من اجل رجل بدلا من أن تتألق من اجل النجاح قبل طوني، كانت منشغلة جدا بمهنتها، لكنها وجدت نفسها فجأة تقوم بشتى الألاعيب النسائية لتجذب انتباه طوني إليها. كان طوني معروفا كزير نساء في الشركة، لكن جين كانت تكره الثرثرة فتجاهلت كل الأقاويل كانت ليلة رأس السنة موعدهما الرسمي الأول وكان طوني قمة في اللباقة والاحترام خبيرا بما يكفي ليشعر بانسجامها كلما حاول الاقتراب منها. بعد شهر من التواعد والخروج معا، اعترف طوني بحبه لها وعلى الرغم من حذرها وتحفظها الشديد، كانت جين مستعدة أن تهبه كل ما عندها، وجل ما أرادته في الدنيا هو أن تكون زوجة طوني وأم أولاده في يوم عيد العشاق، شعرت جين بأنها أسعد امرأة في تكساس وبدت في فستانها الجديد، أشبه بمراهقة طائشة، كانت تنتظر طوني ليصطحبها في أمسية رومانسية ستغير مجرى حياتها عل حد قوله، عندما رن جرس الهاتف، سمعت جين أمها تجهش بالبكاء وكانت تتصل من المستشفى باكية مضطربة فاتصلت بطوني لتلغي موعدهما. انتهى عيد العشاق بشكل مأساوي عندما توفيت خالة جين إثر حادث، كان الحزن يمزق جين، فوجدت نفسها تقود سيارتها في الليل لتعود إلى دالاس إلى شقة طوني، إذ كانت بأمس الحاجة إلى التعزية والمواساة عندما فتح لها الباب، عرفت على الفور أن ثمة خطب ما. كان طوني عاري الصدر، لا يرتدي سوى بيجاما حريرية سوداء، منحها تلك الابتسامة السحرية، فوجدته رائع الجمال حتى وهو نصف نائم غير أن شيئا في عينيه أخافها فأنبئها حدسها أن تتخطاه وتدخل مباشرة إلى غرفة نومه، مرتعدة مما قد تجده فيها. وإذا بها ترى امرأة أخرى ارتبكت عند دخولها. وبينما كانت المرأتان تحدقان إلى بعضهما أمسك طوني جين من ذراعها هامسا في أذنها بلهجة ناعسة أكثر منها نادمة "لقد حصل الأمر من تلقاء نفسه" تذكرت بألم حاد كيف أدارها بين ذراعيه، محاولا أن يخرجها من الغرفة ويقفل الباب خلفه، كان هادئا رغم أنها فاجأته بالجرم المشهود. قال لها إنه يحبها وأن ما حصل "مجرد علاقة عابرة"، وراح يبتسم لها محاولا تليين موقفها. ياله من مخادع! وقفت هناك محطمة القلب مدمرة المشاعر كان الرجل الذي كادت تهبه حياتها يخدعها بكل برودة أعصاب في حين أن امرأة أخرى تحتل غرفته. ابتعدت عنه، محدقة باشمئزاز وعدم تصديق إلى تعابيره المرتبكة لم يكن يتحلى باللياقة الكافية ليقر بخيانته، فشعرت بقلبها يهبط وبحزنها يبلغ أقصى درجاته. لقد أحبته لدرجة أن الحب أعماها عن أكاذيبه وخياناته، مع أن أصدقاءها حاولوا مرارا وتكرارا تحذيرها منه. في تلك الليلة، شهدت جين حالتي موت مأساويتين، موت شخص عزيز من عائلتها وموت رغبتها في الوقوع في الحب مجددا! لقد فقدت السيطرة على نفسها مرة وحطمها ذلك، ولكنها لن تعيد الكرة مطلقا! كان طوني من الوقاحة بحيث اتصل بها مرات عدة في وقت لاحق وكان كلامه معسولا، يقطر عاطفة جياشة، فقاومت جين الوقوع تحت تأثير سحره. مر شهران طويلان كان على جين أن تحتمل فيهما وجوده في العمل ونظراته الساحرة وعينيه الدافئتين، تينك العينين اللتين بدتا وكأنهما تعدانها بالصدق مع أنهما كاذبتان، تينك العينين اللتين قد تُفقدان أي امرأة عاقلة صوابها وتحولان أي امرأة ذكية إلى مغفلة. كانت توسلاته الماكرة في المكتب من الرقة والبراعة بحيث صعب عليها المقاومة. وبدأت جين تخشى أن تضعف أمامها. ثم رحل طوني فجأة كما أتى، عندما سمحت له فطنته في العمل وسحره ان يتبؤ أحد المناصب الكبيرة. وجدت جين أن الألم والحس بالخيانة لم يخفّا للأسف بعد خروج طوني من حياتها. نكثه بالوعود واستغلاله ثقتها علماها درسا مؤلما لن تنساه. ولم يكن طوني الخائن الوحيد في تلك العلاقة، فقد خانتها أيضا مشاعرها وسمحت لها بأن تُغمض عينيها وتسد أذنيها عن حقيقة ذلك الرجل، لن تدع نفسها تطلق العنان لمشاعرها بعد اليوم...مُطلقا ! ولا بد أن العثور على شريك حياة يتمتع بالعقل والفكر بدلا من المشاعر والغرائز، ممكن جدا. فوالداها خير دليل على الثنائي المتناسق، فهما ينسجمان من حيث الأفكار، من دون أن يكون أحدهما شديد التعلق بالآخر. كانت جين بحاجة إلى خطة وبعض المرشحين الجيدين وإلى شيء من الخصوصية، وهنا تكمن المشكلة الآن! سارت في الحديقة المنحدرة ونظراتها شاخصة إلى الرجل الذي يدهن السياج وعندما كادت تصل إليه، أجفلها بالنظرة التي رمقها بها. كانت التكشيرة تعلو وجهه تماما مثلها، لكن اقترابها منه لم يفاجئه. وقبل أن تصل إليه، وضع الفرشاة من يده ووقف واضعا يديه عل خصره، بدا من تصرفه غير الودود ذاك أنها هي الدخيلة إنه وقح فعلا! من تراه المستأجر ومن هو الأجير هنا؟ قال لها:"إذا أنت المستأجرة؟" بدا وكأنه كان يتوقع حضورها لكنه ما كان ليأسف البتة لو أنها لم تأت مطلقا أجابت باللهجة نفسها:"نعم، أنا هي متى ستنهي عملك؟ في نهاية العطلة الأسبوعية على ما آمل، لأنني صباح الاثنين سأبدأ ببعض... الإجتماعات المهمة، ولا أريد ضجة في المكان أو... ما شابه". بقي صامتا ونظراته المتشككة تنضح عجرفة وغطرسة. وعلى الرغم من انزعاجها لوقاحته، همس صوت في داخلها ينبهها إلى وسامته. كانت عيناه الفاتحتان مذهلتين وكأنهما من عالم آخر ظنت جين أنهما زرقاوان ولكن تحت شمس حزيران المشرقة. ظهر فيهما بريق ألوان متلألئة، قطع حبل أفكارها وهي تحدق إليه ضاقت عيناه الآسرتان اللتان تظللهما أهداب داكنة اللون. زم شفتيه وهز كتفيه بلا مبالاة قائلا بسخرية:"لا يسعني شيئا بالنسبة إلى الضجة ولكنني سأحاول أن أبقي صوت "ما شابه" منخفضا" قطبت جين حاجبيها مضطربة. عم يتكلم؟ ـ عفوا؟ أفلت السؤال من فمها لاهثا أكثر مما ودت أن يبدو. أما هو فتنهد، جاذبا انتباهها إلى انفه المستقيم وتناسبه مع فمه الجميل الملتوي بسخرية ـ اسمعي آنستي.. وعندما توقف لحظة عن الكلام، راحت تحصر أفكارها لتستعيد تركيزها عما جعلها تواجهه وقبل أن يكمل فكرته، مال قليلا إلى الأمام. لو كان شخصاً آخر لما لاحظت جين تلك الحركة ولكنه ضخم للغاية وحركته هذه دفعتها خطوة إلى الوراء قال لها:" شئت أم أبين، أنا هنا طيلة شهر حزيران ووكيل الإيجار ارتكب خطأًً". ورمقها بنظرة سريعة وقحة ثم تابع:" بما أنك امرأة أقرت بنفسها أنها لا تحب الضجة، فأقترح عليك القيام بترتيبات أخرى" حدقت إليه، آملة أن تكون ملاحظته مجردة من أي معنى مبطن. بالطبع لا! لا يمكن أن يكون حدقا لدرجة اللعب على الكلام. سألته:"ماذا تعني بخطأ؟" عقد حاجبيه عند سماع سؤالها وأجاب ساخرا:"أعني غلطة، سهو، زلة.." قاطعته قائلة:" أفهم جيدا معنى الكلمة، ولكن أي خطأ؟" ـ الشركة لا تؤجر هذا المكان أبدا في شهر حزيران. ـ بلى، بالطبع، ما دمت أنا هنا ـ هذا هوا الخطأ بالضبط شعرت بقلبها يغوص ولكنها لم تجب، في حين كرر شرحه:"السماح لك باستئجار هذا المكان كان خطأ" وإذ رفضت تصديقه، سألته "ولم علي أن أصدقك؟" ـ اتصلي واسألي لم تكن جين تحب أن يتفوق عليها أحد، فسحبت هاتفها الخلوي من حقيبة يدها وطلبت رقم الشركة، فقال لها :"إنه يوم السبت" أدركت ما يعنيه بدلك، فكشرت وأقفلت الهاتف:" هذا صحيح" أعادت هاتفها إلى الحقيبة، محاولة استعادة ثقتها بنفسها:"اسمع، لا يهمني في أي يوم نحن، لقد استأجرت هذا المنزل لمدة ثلاثة أسابيع وهذا كل شيء" كان نسيم البحر يداعب خصلات شعره الأسود اللامع، فوقعت خصلة على حاجبيه وبقيت هناك لحظات قبل أن تنضم مجددا إلى تموجات شعره اضطربت جين ، فحولت نضرها إلى عينيه اللامعتين لكنها شعرت بارتباك قوي عندما تلاقت نظراتهما قال بحدة "طيلة سنوات، كان شهر حزيران مخصصا للصيانة، يبدو أن السؤال الجديد غريب عن كل ما يجري" علق قوله في دهنها وشعرت بمزيد من الشك والريبة للطريقة التي لمعتا فيها عيناه العدائيتان قال:"لا يمكنك أن تبقي" فأجابته:"علي ذلك لقد قمت بالكثير من الترتيبات ولدي العديد من المواعيد طيلة الأسبوع، إن بعضا من.. المتقدمين للوظيفة سيأتون من ولايات بعيدة. الإعلان الذي وضعته سيبقى ساريا طيلة الأسبوع المقبل وقد وضعت فيه هذا العنوان لا يمكنني أن أغير خططي" ـ ولا أنا لم تستشف جين من قوله أي قلق أو اعتذار وان شعرت بشيء كالسكين في نبرة صوته استقامت في وقفتها وأرجعت كتفيها إلى الخلف وعلى الرغم من أن جين لم تكن قصيرة القامة، إلا إن فارق الطول بينهما بقي مضحكا لم تشأ أن تدعه يرهبها بعدائيته فراحت تواجه كل تكشيرة منه بواحدة منها. هذا الشاب لا يعرف من تكون جينيفر سانكروفت عندما تصمم على شيء قالت بصوت هادئ:"يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود" حدق إليها لحظة طويلة ثم أومأ قائلا:" على ما يبدو" لم تكن جين تحب الموسامة، لا سيما مع شخص يجب أن يكون التعامل معه سهلا، لقد أساءت الحكم على هذا الضخم ظنت انه سينحني ويتوسلها أن تسامحه، لكن يبدو انه يأخذ برنامجه على محمل الجد بقدر ما تأخد هي برنامجها ربما إرجاء هذا العمل إلى وقت لاحق إلى إلغاء عمل آخر الأمر الذي قد يقف في طريق رزقه. يمكنها أن تفهم عناده فإذا سمح لها بإبعاده عن المنزل قد تمنعه ربما من شراء الطعام لعائلته هزت جين كتفيها وتملكها الارتياب ولكن من المحتمل أن تصل ثرثارات عامل الصيانة من تكساس إلى شركة محاسبة في دالاس ثم يبدو انه ليس من النوع الذي يثرثر ـ حسنا، أظن وماتت الكلمات على شفتيها لقلة حماسها، لكنها جاهدت لكي تتابع كلامها إذ لم يكن أمامها خيار آخر:" أظن يمكنك البقاء لكنني أسألك ألا تصدر ضجة في المنزل بينما أنا .. أجري المقابلات" والتقت بنضرته القاسية:" ستبقى بعيدا، اتفقنا؟" على الرغم من الحيوية التي تنضح بها عيناه اللامعتان، بدتا مخيفتين، وبعد برهة من الصمت بدت دهرا، أحنى رأسه بشبه إيماءة بطيئة حملق 'كول' بالمرأة الواقفة أمامه، ذاهلا لموافقته على أول تنازل قامت به. كان ينوي أن يمسك المستأجر، أيا كان، بعنقه ويجره بعيدا عن هذا المكان، ما الذي في تلك المرأة جعله يغير رأيه؟ أو الأصح من ذلك، يفقد عقله؟ وفيما كان ينظر إليها، استوقفه مظهر بذلتها التبنية اللون وقد بدت فيها وكأنها ترتدي علبتين من الكرتون تخفيان كل أثر للأنوثة فيها، أما شعرها فكان مفروقا في الوسط ومربوطا من الخلف. كل ما كان ينقصها هو أن تعلق في عنقها لافتة تقول: أنا عذراء عجوز. اقترب على مسؤوليتك الخاصة! من سوء حظه، كانت عيناها المتلألئتان تقولان شيئا آخر.كانتا كبيرتين براقتان. وكان جفناها يعلوان أجمل لون أخضر رآه يوما. أما أهدابها الطويلة فتنطق بالإثارة الخجولة لكنه لم يستطع أن يتجاهل ذلك الإحساس الذي غمره وعلى الرغم من أن شفتيها كانتا وسط ذلك القماش التبني وذاك الشعر المسرّح إلى الخلف، إلاّ أنهما بدتا مثيرتين. و انتابه شعور قوي بان الإثارة التي تنضح من تلك المرأة لم تكن متعمدة، على عكس معظم النساء اللواتي سعين وراءه لمصلحة شخصية. ولكن ليس هذه! هي لم تعرض نفسها عليه، بل كانت أبعد ما يمكن عن ذلك. تلك الإثارة الكامنة فيها شوشت ذهنه لدرجة أنه قبل بتلك التسوية.. فجأة بدا له أن شهر حزيران الهادئ الذي طالما ينتظره بفارغ الصبر ليمضي إجازته في منزل العائلة الصيفي على الخليج، لن يكون هادئا كما ظن. أطلق شتيمة خافتة ثم استدار بعيدا وأمسك فرشاة الدهان غاضبا من نفسه لأنه ضعف أمامها، كان يتطلع بشوق إلى هذه الإجازة ليبلسم جراحه ويهدئ ألمه إثر موت والده، ناهيك عن حاجته للابتعاد عن ضغط العمل. كان مرهقا ومستنزف القوى بعد كل تلك الأيام التي عمل فيها أكثر من ثماني عشرة ساعة في اليوم. وأحس بحاجة إلى للهروب والاسترخاء والاستمتاع إلى صوت البحر أو القيام ببعض التمارين الجسدية. كان يحب هذا المنزل والذكريات التي يحملها في طياته عن الطفولة واللحظات السعيدة مع والده الحبيب الرجل الذي في سن الخامسة والخمسين، استقبل طفلا رضيعا وأعطاه اسما ورباه وأطعمه. وبحرصه على صيانة هذا المكان، كان كول يسعد أباه فكان يعتني سنة بعد سنة بهذا المكان ويهتم بنظافته وتألقه. وحيث أنه كان يعمل بمفرده قرب الشاطئ، كان بإمكان كول أن يفكر بهدوء ويمضي الوقت بالتأمل والتخيل. كانت تلك الإجازات المنعزلة تنشطه فكرا وروحا وجسدا وكل سنة كان يتطلع شوقا إلى شهر حزيران وإلى هذا المكان الذي يرحل منه نشيطا، حيويا ومستعدا للعمل مجددا. عاد يدهن السياج باللون الأبيض، منزعجا لعجزه عن التعامل مع تلك المتطفلة كما كان قد خطط مسبقا. ما خطبه؟ وماذا في تلك المرأة يعيق مخططاته؟ ـ ربما علينا أن نتعارف. أليس كذلك؟ رمقها بنظرة مضطربة بينما كانت هي تحدق إليه. بدا انزعاجها جليا نظرا لخديها الأحمرين وعينايها اللامعتين فشعر بوخزه إعجاب مفاجئة. اللعنة! إنها عنيدة جدا. راح يتساءل عن موضوع وعن الوظيفة التي يتقدم لأجلها قراء الإعلان! لم يشك بشيء مثير للريبة فهي بريئة ومتحفظة جدا لتقوم بأي خدع لا أخلاقية. تمتم قائلا: " يمكنك أن تناديني كول...كول لا أحد على الرغم من أن أصدقاءه ينادونه كول، إلا أنه ابتسم في سره لاسم الشهرة الذي اخترعه بسرعة. لقد ظنته عامل الصيانة وسيدعها تظن ذلك سيكون من المثير للاهتمام أن يراقب رد فعل امرأة لا تعرف أنه ج.س بارينجر، الرأسمالي الثري. فالنساء عادة يتوددن إليه ويتدللن عليه ويرفرفن بأهدابهن لكنه لم يلحظ حتى الآن أي تودد أو تقرب من قبل هذه المرأة. فأجابته عندما مدت يدها لتصافحه: "أنا جينيفر سانكروفت اسمها استرعى انتباهه. جينيفر سانكروفت! لم يبدو هذا الاسم مألوفا؟ أغمض عينيه لحظة وقد أزعجه أن يقلق لهذا. سيتذكر من تلقاء نفسه، بما أنها تستأجر منزلا يخص الشركة فلا بد أنها تعمل في إحدى شركاته أو شركات والده التي أصبحت الآن ملكه. لسبب يجهله، وربما بتأثير من تلك الشفتين المغريتين، أمسك بيدها كانت بشرتها باردة، كما توقع، صافحته بحزم. سألها بلهجة باردة لا تمت للترحيب بصلة:"كيف حالك، آنسة سانكروفت؟ ـ كيف عرفت أنني آنسة؟ كانت تعابيرها تنم عن السخرية وهي تسأله ذلك. لم يستطع كبح التسلية التي شعر بها هل كانت تمزح؟ فأجابها:" افترضت ذلك غزا الاحمرار خديها عندما استشفت سخريته سحبت أصابعها من يده ورفعت كتفيها ثم تراجعت خطوة إلى الوراء وقالت: " حسنا... سأذهب لأحضر حقائبي ثم استدارت وعادت عبر الحديقة عندما بلغت السيارة، فتحت الصندوق وسحبت منه حقيبتها فتحت روثي الباب الأمامي عندما رأت رئيستها تقترب ـ إذا؟ سيرحل يوم الأحد؟ سألت روثي ذلك وقد بدت قلقة أكثر منها متأملة ثم أسرعت نحو جين وأخذت عنها بعض الأكياس. أطلقت جين تنهيدة طويلة وهي تسعد الدرجتين المؤديتين إلى شرفة المنزل " لن يرحل" وما أن أصبحت في الداخل حتى وضعت أغراضها أرضا وراحت تنظر حولها ذاهلة ـ يبدو أنه يعارض فكرة تغيير مخططاته، ومن المحتمل جدا أن يبقى. ـ أشرقت تعابير روثي فهتفت قائلة: "" ممتاز! نحتاج إلى منظر جميل هنا" ـ لديك خليج المكسيك في الخلف. لوحت روثي بيدها، معتبرة اقتراح جين تافها:"لا أقصد الإهانة، لكن نظرا للسبب الذي جئت من أجله إلى هنا، يجدر بك أن تهتمي أكثر بالنظر إلى الرجال" تجاهلت جين تعبير مساعدتها:"نعم، في الواقع...إنها مسألة شراكة أكثر منها علاقة ... انجذاب" لم يعجبها التعبير المرتسم على وجه روثي، فتابعت قائلة:" ما من سبب منطقي يحول دون عثوري على زوج محترم بهذه الطريقة. الانسجام والمصالح المشتركة أمران مهمان جدا. لماذا والداي.." قاطعتها روثي بنبرة مفكرة تكاد تكون مشفقة:"أعلم ذلك، والداك ثنائي رائع.. ولديهما أهداف مشتركة. إنهما مثال رائع عن الزواج العقلاني" ـ لا تنسي.. أعرف جيدا ما يؤدي إليه الحب الأعمى. قالت جين ذلك بطريقة دفاعية فأومأت روثي حزينة:"طوني" والتقت نظراتها بنظرات رئيستها:" لا تنسي أنني كنت مساعدتك يوم فطر قلبك، ولكن أظن أن من الخطأ أن تتخلي عن الحب بسبب نذل مثله" ـ أنا لست أتخلى عن الحب قالت جين ذلك محاولة أن تجعل روثي تفهم قصدها. فتمتمت روثي: "طبعا. أنت تؤمنين أن الحب ينمو إذا عمل شخصان منسجمان على ذلك" لم تستطع تبسيط الأمر أكثر من ذلك فهي لم تكن مطلعة تماما على نظرية جين. شدت جين على أسنانها، رافضة الدفاع مجددا عن أسبابها. لقد سبق وأوضحت تماما لما قررت البحث عن زوج بهذه الطريقة غير التقليدية شعرت جين أنها محظوظة لأن مساعدتها معتادة على إبقاء الأمور طي الكتمان. الجميع في شركة المحاسبة يظن أن جين ستتزوج بهدوء وأن إجازتها هذه هي لتمضية شهر العسل. الجميع باستثناء روثي ـ على الأقل، هذا المكان جميل تعليق روثي أعاد جين من أفكارها إلى عالم الواقع أشارت المساعدة إلى درج في آخر الردهة الواسعة وتوجهت إلى هناك ـ هذا الدرج يؤدي إلى غرف النوم بالطبع ستأخذين الغرفة الرئيسية. هناك غرفة للضيوف ستكون لي ألقت جين نظرة على الدرج، فلفت انتباهها فسحة في وسطه وخلفها نافذة طويلة تبرز منها السماء الخلية من الغيوم ـ أظن أن بإمكاننا إجراء المقابلات الرسمية إلى يسار الردهة رأت خزانة صينية مزخرفة تحتل الحائط القائم خلف المائدة التي يعلوها لوح من الزجاج. لم تكن الطاولة كبيرة ولكنها واسعة بما يكفي وفي كل جهة منها كرسي أنيق من الخشب ـ إلا إذا كنت تفضلين إجراءها هناك وأشارت روثي إلى مكان خلف جين، فاستدارت لتجد غرفة جلوس شاسعة في آخرها موقدة يحيط بها إطار من الرخام الأبيض. ورغم أن هذه الغرفة تقع في الجهة الشمالية من المنزل، إلا أن النور يغمرها وكانت الألوان الفاتحة المستعملة في تزيين الغرفة تضفي طابعا مشرقا على المكان. أما النباتات الخضراء المزروعة في أحواض من السيراميك فتزين الغرفة ومفعمة بالحياة. هذا التدرج في الألوان والإشراق الناعم ذكر جين بعينين جميلتين رأتهما. تمتمت روثي وهي تقترب من رئيستها:"جميل" ـ نعم إنه وسيم ـ ماذا؟ سؤال روثي انتزع جين من أفكارها:" كنت أتكلم عن المنزل وليس عن ذاك الرجل" أحست جين أنها قالت شيئا لم تقصد قوله وقررت أن تنفي ما أفلت منها، فقالت بلهجة وتعبير لا يدعان مجالا للجدال:" وأنا أيضا.. كنت أتكلم عن المنزل" 2_صعبة الإرضاء لاحظ كول أن مقتحمة المنازل الصعبة المراس تلك بقيت متوارية عن الأنظار طيلة العطلة الأسبوعية في حين أن الأخرى التي تضحك بصوت عال كانت اجتماعية أكثر، حيث أنها تحييه كلما صادف والتقته بينما بقيت الآنسة الباردة في الداخل، للأسف! هذا لا يعني أنه كان متشوقا لرؤيتها، لا مطلقا كل ما في الأمر أنها شاحبة اللون وسيفيدها أن تتنزه قليلا على الشاطئ تحت الشمس صباح الاثنين، وبينما كان كول يخرج من الماء بعد ساعة من السباحة المنشطة، لاحظ سيارة غريبة في الطريق الخاص المؤدي إلى المنزل. فراح يتساءل وهو ينشف شعره، عن نوع المقابلات التي تجريها هاتان المرأتان ولكن ما همه هو؟ ولم يبالي؟ لديه أمور يقوم بها. وعلى الرغم من أنه جاهد ليحافظ على لا مبالاته، لم يستطع إلا أن يلاحظ أن كل نصف ساعة تأتي سيارة وترحل أخرى. وعند الساعة الثانية بعد الظهر قرر أن يشذب الأغصان اليابسة من شجرة السنديان العالية القائمة أمام المنزل كانت الرؤية ممتازة من فوق. وسمع صوت إطارات سيارة على الحجارة المرصوفة في الطريق الخاص، فالتفت ورأى سيارة أخرى تركن أمام الباب الأمامي ليترجل منها رجل نحيل أصلع يرتدي بذلة بنية اللون. وما استرعى انتباه كول هو أن كل الزائرين من الرجال الأنيقين وليس من الإناث وأن امرأة واحدة لم تأت إلى المكان وكان معظم الرجال يحملون حقائب أوراق. تملك الفضول كول رغم أنه ليس من النوع المتطفل. انتهى عند الساعة الرابعة من تشذيب الشجرة فنزل منها وأمسك صندوق العدة غاضبا من نفسه لهذا القلق الذي ينتابه بسبب ما يجري في المنزل. كان يود أن يعرف ما تقدم عليه هاتان المرأتان. لقد أوضحت الآنسة الصعبة الإرضاء أنها لا تريده أن يصدر ضجة في المنزل. ولكن الحنفية التي تسرب الماء في المطبخ لا يتطلب إصلاحها سوى جلدة مطاطية وذلك لا يسبب أي ضجة، وبالتالي يمكنه إصلاحها من دون أن يزعج أحدا. استدار حول المنزل وصعد الدرجات الخشبية الثماني بأقل ضجة ممكنة ثم انسل إلى الداخل من الباب الخلفي الذي يؤدي إلى مطبخ قديم الطراز كان هذا المكان هو المفضل لديه في المنزل الكبير، حيث أنه أكثر حميمية من الغرف الأمامية وكان يعجبه الأثاث الجلدي والديكور الهندي الذي يطبعه. وعلى الرغم من أنه يستمتع بالبقاء في الكوخ في زياراته المنفردة، إلا أن المنزل الكبير يعيده إلى الماضي وإلى الذكريات. استدار بهدوء حول المائدة الرخامية المرقطة باللونين الأخضر والذهبي، التي تفصل المطبخ عن الغرفة لتي تتم فيها المقابلات، ووضع صندوق العدة على الطاولة، فصدر صوت قوي عن احتكاك الحديد بالرخام أتت على إثره تلك السيدة ذات الوجه الضحوك. وعندما رأته تحولت تعابير القلق على وجهها إلى ابتسامة عريضة وهمست قائلة"ظننت أنك لص" ألقى عليها نظرة مشككة، وسألها:"وماذا كنت لتفعلي لو أني لص فعلا؟" ـ كنت لأبرحك ضربا أيها الوسيم قالت ذلك وهي تدخل المطبخ وتستند إلى الطاولة بالبرب من الباب ـ كنت ملازما في البحرية ولو أردت ذلك، لأوقعتك أرضا تماما حيث تقف ـ وهل هذا نوع من الغزل غير الإعتيادي؟ ضحكت ورفعت له يدها اليسرى لتريه محبس الزواج:"لا ولكن... خطرت لي الفكرة" وفجأة سمعا صوت الآنسة الصعبة الإرضاء تنده من غرفة الجلوس ."روثي؟ لقد رحل المرشح الأخير" ـ إذا، اسمك روثي؟ سأل كول ذلك بصوت خافت بما يكفي لئلا يسمعه من هو خارج المطبخ ـ روثي توتل ثم توجهت نحوه ومدت يدها وهي تتابع:" وتقول رئيستي إنك تدعى كول لا أحد، تشرفت بلقائك لا أحد أمسك يدها مصافحا ودنا منها وهو يهمس:"أظن أن من الأفضل ألا تذكري أنني هنا غمزت بشكل تآمري:"فهمت. لكن رئيستي ستقطع رقبتي لو عرفت. ثم إنني أريد فعلا لهذا الهراء أن ينتهي. في الليلتين الماضيتين، كدت أجن" قرع جرس الباب:"روثي ماذا تفعلين في الداخل؟ أرجوك افتحي الباب" فبدت التكشيرة على وجه المساعدة الحمراء الشعر ـ الواجب يناديني وأسرعت نحو الباب:"أنا قادمة" عاد كول إلى عمله وأمضى ربع الساعة التالية وهو يصلح الحنفية بهدوء وكان انتباهه مركزا على المقابلة الجارية في غرفة الجلوس أكثر منه على عمل التصليح الذي يقوم به. لم يستطع سماع الحديث بأكمله ولكن ما سمعه كان صعب التصديق. بدا له أن الآنسة سانكروفت تجري المقابلات بحثا عن زوج. انتهى كول من عمله وبسط راحتيه على الرخام البارد وهو يهز رأسه خائب الأمل. لم يكن أي شيء يفاجئه ولكن ما سمعه أدهشه فكان من الصعب عليه أن يكبح انزعاجه. لم بحق الله، تلجأ هذه المرأة إلى مخطط سخيف عقيم كهذا؟. ـ حسنا... شكرا على وقتك، سيد روبرتسون ألقى كول نظرة من فوق كتفه. يبدو أن الآنسة ذات الشفتين المثيرتين أصبحت قريبة منه أجاب الرجل ضاحكا:"كان ذلك...مثيرا للاهتمام. إلى اللقاء آنسة سانكروفت وحظا سعيدا" ـ شكرا على مجيئك سمع كول صوت الباب ينغلق ثم ساد الصمت. ـ متى يحين الموعد التالي، روثي؟ ـ ليس قبل خمس عشرة أو عشرين دقيقة اتصل ليبلغنا أنه سيتأخر قليلا ـ الحمد لله أحتاج لقليل من الراحة وإلى كوب من.. وإذ دخلت المطبخ ورأته، ماتت الكلمات على شفتيها وانشلت فيها كل حركة وتغيرت تعابير وجهها:"أنت !" استدار ليواجهها تماما واستند إلى الطاولة، شابكا ذراعيه على صدره العاري. كانت ترتدي قميصا أبيض طويل الكمين، محتشما للغاية وتنوره رمادية تصل إلى ركبتيها ولا تظهر شيئا من شكل جسمها. أما شعرها فكان مسرحا إلى الخلف تماما مثلما رآه يوم السبت، مجردا من كل جاذبية. ومع ذلك، لم تستطع تلك الطريقة التي اتبعتها في لباسها وتسريح شعرها أن تخفي جاذبيتها إذ كان من الصعب إخفاء تينك العينين الخضراوين والشفتين الممتلئتين وذلك القوام الجميل مهما حاولت جاهدة، وراح يتساءل عما يدفعها للقيام بذلك كان الصمت مشبعا بالتوتر. لم يكن كول معتادا على أن تحدق إليه امرأة. لكنه تجاهل الوخزة التي تملكته ونظر إليها من دون أن يبتسم"مرحبا" بدا وكأن تحيته الباردة أيقظتها من الشلل الذي أصبها، فقالت له بلهجة حادة:أنت، لا يفترض بك أن تكون هنا أمر آخر لم يكن معتادا عليه هو أن يقول له أحدهم إنه لا يفترض به أن يكون في مكان ما. ازداد انزعاجه أضعافا، لكنه لم يظهر على وجهه ـ لم أصدر أي ضجة أجابته لاهثة " هذا... هذا ليس مقصدي. المسألة هي أنه لا يفترض بك أن تدخل المنزل خلال المقابلات! لقد أمرتك بألا تفعل ذلك"! حدق إليها لحظات وكانت خلال هذا الصمت تلهث غضبة لتأخره عن الانحناء أمامها والاعتذار. إذ كان هذا ما تريده، فعليها ذا أن تنتظر طويلا ـ أنا لا أتلقى الأوامر قال ذلك واستدار حول الطاولة ليأخذ صندوق العدة ويخرج من الباب الخلفي. وبينما كانت يده على مقبض الباب، استدار ونظر إليها مستفسرا:"لم بحق الله تبحثين عن زوج بهذه الطريقة؟" فتحت فمها مشدوهة لفظاظته وقالت له بصوت بالكاد يشبه صوتها:"اخرج من هنا" *** شعرت جين بأنها مصدومة. وبعد مرور حوالي ثلاثة أيام على حبس نفسها داخل ذلك المنزل، أحست بحاجة تدفعها للخروج والتنفيس عن كبتها. حتى لو كان ذلك يعني أن تلتقي ذاك العامل الوقح. لم عليها أن تختبئ؟ هي المستأجرة الشرعية لهذا المكان ومن حقها أن تستمتع بالشاطئ. وبعد هذا اليوم الرهيب الذي شهدته، يحتمل جدا أن تصاب بالجنون لو بقيت في المنزل تحدق إلى الجدران. مي عادة متفائلة وواثقة من نفسها ولكن تفاؤلها وثقتها بنفسها خضعا اليوم لامتحان أليم وثبت عن الكنبة حيث أجرت العديد من المقابلات العقيمة وقالت:'"أنا ذاهبة لأتمشى روثي كانت مساعدتها جالسة على كرسي عند زاوية الأريكة، فنظرت إليها وأغلقت دفتر ملاحظاتها ـ حان الوقت لتخرجي وتستمتعي قليلا بالطقس الجميل ثم وقفت وتابعت قائلة:" سأصعد لأتصل برايموند وأرى كيف تسير أموره وأمور الأولاد وكيف يتعاملون مع زيارة أهله. أنا فعلا متشوقة لكي أعرف ـ حسنا تمتمت جين بذلك مشغولة الفكر بمقابلات اليوم التافهة. كانت قد خرجت من غرفة الجلوس وأصبحت في المطبخ تقريبا عندما نادتها روثي ـ هل أطلب العشاء من الخارج؟ كشرت جين إذ لم تكن ترغب كثيرا في تناول الطعام، لكنها قالت:"طبعا" ـ بعد ساعة.. الآن؟ ـ نعم ألقت نظرة على ساعة يدها، فوجدتها الخمسة والنصف، ورأت أن لديها متسعا من الوقت لتروح عن نفسها خرجت من الباب الخلفي ووقفت لحظة على الشرفة المكسوة بالخشب. كان الأثاث المصنوع من الخيزران المجدول والمكسو بالوسادات المخططة باللونين الأزرق والأحمر يضيء المكان بإشراقه. وكانت شتول الغار دينيا بأوراقها اللامعة وأزهارها المتفتحة البيضاء تتدلى من الأحواض، ليمتزج أريجها مع رائحة البحر الساحرة. صوت الريح الذي ينفخ في الأعشاب البحرية خلف السياج المطل حديثا وتمايل الأمواج بددا توترها نسبيا. إنها فعلا معجزة أن يكون للحظة واحدة من سحر الطبيعة هذه كل هذا التأثير. تنشقت ملء رئتيها وأحست بأنه كان عليها القيام بهذه النزهة منذ أيام. كانت بحاجة إلى ذلك، إلى الشمس والأمواج لتهدئ القلق الذي استحوذ عليها نزلت الدرجات المؤدية إلى الحديقة، مركزة نظرتها على الشاطئ. مشت بخطوات واسعة حتى السياج الحديدي وفتحت البوابة ثم اتجهت نحو الشاطئ الرملي. كان كل شيء هادئا، مريحا لدرجة أنها شعرت بضغط ذلك اليوم تتبدد وتتبخر كالسحر حاولت بعض الأفكار المقلقة أن تراودها: لماذا هي في هذا المنزل؟ وماذا سيحصل في الأسبوعيين التاليين؟...لكنها جاهدت لئلا تدع غضبها وإحساسها بالظلم يطفوان فقد أمضت مؤخرا الكثير من الوقت وهي في هذه الحالة لقد تمكنت بعملها الشق و الدءوب وتكريسها نفسها لمهنتها أن تصبح إحدى نواب الرئيس الثلاثة في الشركة. وهي المرأة الوحيدة بينهم والأصغر سنا. وفي الأسبوع لفائت، عندما أعلن الرئيس الحالي فجأة أنه سيغادر الولاية من أجل عمل ما، عرفت جين أنها هي من تستحق الرئاسة. لكن من سوء حظها أن مالك الشركة ومديرها التنفيذي الغائب يستبعد دائما النساء من منصب رئاسة الشركة، ويفضل الرجال المتزوجين ورغم أن المالك العجوز توفي حديثا وانتقلت السلطة إلى يد ابنه، إلا أن جين خشيت أن تكون معتقدات الوريث وأفكاره حول السلطة نسخة عن أفكار أبيه ومعتقداته. ما هم المالك الجديد إن كان المسؤول عن الشركة متزوجا أم لا؟ كونها امرأة عازبة في الواحدة والثلاثين من العمر يجب ألا يكون مهما إلى هذا الحد كان المدير التنفيذي الجديد ، الرجعي والمتسلط، قد أرسل كتابا إلى كل من نواب الرئيس الثلاثة يطلب فيها مقابلتهم خلال الأسابيع الثلاثة التالية. وكان اكتشاف جين بأن مقابلتها هي الأخيرة، أشبه بصفعة على وجهها ووجدت هذه العلامة غير مشجعة نظرا لمنصبها كنائب رئيس الضرائب، والذي يُعتبر الأفضل. ورأت في ذلك نذير شؤم بمستقبل لا يعد بشيء ربما جُنّت بعض الشيء، لأن طموحها تضاعف خلال السنة الماضية وما بدأ مجرد فكرة أصبح هاجسا في الحياة أكثر منه في العمل بالإضافة إلى رغبتها في تربية الأطفال كانت تريد حياة مهنية وعائلة. ومنصب رئاسة الشركة يجمع الاثنين معا. أما مشاريعها فتتضمن برامج تدعم المرأة العاملة والموظفات الراغبات بالعمل بدوام جزئي، ليتمكنّ من إمضاء بعض الوقت مع أولادهنّ. كما خططت جين لإعطاء ثمانية أسابيع مدفوعة كإجازة للنساء الحوامل، وبوسع الأمهات إحضار أطفالهنّ إلى العمل حيث تقوم حاضنة مختصة بالاهتمام بهم هي لم تخطط للزواج بهذه السرعة أو بالأحرى بهذه الطريقة ولكن إذا أرادت الحصول على منصب رئاسة الشركة، فعليها أن تكون متزوجة ومستقرة وعلى جينيفر سانكروفت أن تصل إلى الاجتماع، والمحبس في يده ليس أمامها خيار سوى التصرف، والآن عليها أن تصحح وضعها العائلي بأسرع ما يمكن فبالكاد أمامها ثمانية عشر يوما قبل المواجهة المصيرية مع المدير التنفيذي، ما يعني أن عليها التركيز كما لم تركّز يوما م ن قبل. يجب أن تحصل على زوج يدعمها ويجب أن تستقر بإذن الله سوف تنجح مطت جين ذراعيها ثم أخفضتهما وهي تستنشق بملء رئتيها. ثم رفعتهما مجددا وأخذت نفسا عميقا تستعيد به ثقتها بنفسها. وراحت تحدث نفسها:"لا تقلقي، جين! غدا سيكون أفضل. لن يكونوا جميعهم غير ملائمين.وماذا في الأمر لو نظر ليك بعضهم وكأنك مجنونة؟" ربما كان عليها أن تذكر كلمة "زواج" في الإعلان الذي وضعته في صحيفة "وال ستريت". حيث أن أقرب ما يشير إلى الزواج كان مجرد تلميحات مثل:"رجل أعمال ناجح يبحث عن تحديات جديدة" بالإضافة إلى شروط أخرى قد توحي بأي وظيفة، مثل"مهارات في التواصل مع الناس" و "الإخلاص شرط إضافي" ماذا كانت تنتظر؟ أن يدخل الرجل المناسب فجأة ويلقي عليها نظرة ليركع بعد ذلك عند قدميها ويتوسّلها أن تتزوجه؟ لم تقدر حتى أن تضع إعلاناً شخصياً حيث بدا لها ذلك فظيعاً بالنسبة إلى ما تنوي القيام به. ونظراً لتربيتها المتحفّظة، بدت لها فكرة نشر إعلان مهني في صحيفة "وال ستريت" الاقتصادية، طريقة متحضرة ومحترمة. كما أن بحثها على الصعيد المهني سيبعد احتمال إصابتها بخيبة الأمل. لكنها قالت في سرّها إن هذا الصعيد المهني لسوء الحظ لم يمنع نظرات الرعب على بعض الوجوه التي قابلتها أخفضت ذراعيها على جنبيها، منكمشة. فمقابلات اليوم كانت محبطة جداً. شعرت بالبلل، فخفضت ناظريها لتجد أن ماء البحر تسلّل إلى حذائها، تراجعت إلى الوراء لكن الأوان كان قد فات. خلعت أحد خفيها ثم الآخر وأفرغتهما من الماء وقالت:"هذا ما كان ينقصني" ـ ماذا تتوقعين غير ذلك وقد جئت إلى هنا بهذا الحذاء؟. أتى هذا الصوت من خلفها، فأجفلت جين لقرب هذا الصوت ألذكوري ورغبت لو يختفي ـ لِم لا تخلعين جاربيك، آنسة سانكروفت؟ فأجمل ما في رمل البحر هو أنه ينسل بين الأصابع حاولت أن تُخفي انزعاجها، فلم تُجب أو تستدر نحوه إنما تابعت تفرغ الماء من حذائها. ـ تفضلي! ولمس ذراعها مسترعياً ا انتباهها لم تشأ الاعتراف بذلك لكنه كان يصعّب الأمر عليها بدا وكأنها لا تستطيع منع نفسها، فنظرت باتجاهه. وإذا بها تتفاجأ برؤيته يمسك كوبا من الشاي المثلج حدقت إلى الكوب ثم حولت نظراتها إلى وجهه:"ما هذا؟" التوت شفتاه وكأنه وجد سؤالها سخيفا"احزري" واجهته، حاملة حذاءً في كل يد:"كيف أمسكه؟" وحدّقت إلى يديها المحمّلتين. ومن دون أن يتلفظ بكلمة، أخذ منها الفردة الأولى ثم الثانية ورماهما من فوق كتفه. شهقت جين عندما رأت حذائها يحلّق فوق السياج الحديدي ويغط في حديقة المنزل. ـ والآن، بإمكانك أن تمسكيه! حدّقت إليه غير مصدّقة:"لقد رميت حذائي!" كانت ضحكته عميقة وفيها شيء من السخرية، فشعرت بوخزه خفيفة في ظهرها. ـ خذي الشاي، آنسة سانكروفت لا بدّ أنك تختنقين حرّا في هذه الثياب. لم تكد تصدّق جرأته:"لا أريد الشاي، كما أنّني لا أشعر بالحر مطلقاً" التوت شفتاه مجدداً كما لو أنه يسخر منها"لن أناقش ذلك" نظرت إليه بعينين متشككتين هل أذعن لكلامها أم أنه أهانها؟ رفع الكوب وكأنه يشرب نخبها وأخذ منه رشفة ـ أنت تسخرين لكني أعدّ شايا لذيذا جداً لم تشأ أن تقرّ بذلك ولكنها فعلا تشعر بالحرّ والانزعاج كما أنها أفسدت جاربيها. استدارت مبتعدة قليلا عنه، ثم رفعت تنورتها الطويلة بعض الشيء إلى أن استطاعت الإمساك بطرف الجاربين المطاطي وبدأت تخلعهما ـ ماذا تفعلين؟. ـ اذهب من هنا ـ آه تخلعين جاربيك رمقته بنظرة متجهمة:"آمل أنك تستمتع بالعرض" مال برأسه ليراقبها بشكل أفضل وهي تخلع جاربيها بطريقة مثيرة. وعندما تلاقت نظراتهما. رفع كوبه ناحيتها فاشتعلت النار في خدّيها و أخفضت تنورتها بسرعة أشر إليها بكوبه "أدين لك برشفة الآن ـ أنا لا أخلع جاربي لإرضائك، سيد لا أحد!. قالت هذا قبل أن تستدير مجدداً لتكمل خلع جرابيها لم يكن توازنها جيداً على الرمل، لكنها تدبرت أمرها بشكل حسن ـ ينقص العرض بعض الموسيقى تجاهلت جين كلامه لكن وجهها اشتعل ناراً حارقة. استقامت في وقفتها بعد أن خلعت جاربيها، وفكّت زر كمّها ورفعته حتى مرفقها وفعلت الأمر عينه بكمّها الآخر لم تسمع منه أن تعليق مزعج خلال الدقيقة التالية، فأملت أن يكون قد رحل بهدوء تماماً كما أتى حدّقت حولها فوجدته جالساً على الرمل، شابكا ساقيه عند مستوى الكاحلين، وهو يراقبها ـ لا تتوقفي الآن!. واجهته متضايقة لكنها قررت ألاّ تدع ذاك الرجل يربكها، فتحكمت بصوتها "لقد انتهى العرض" ـ ياللأسف! قال ذلك بسخرية واضحة، ثم رفع كوبه مجدداً وسألها: " هل تشعرين بالعطش؟" هزت رأسها نفيا، رافضة الإقرار بأنها تشعر فعلا بالظمأ:"أنا ذاهبة لأتمشى" أومأ لها قائلاً:"إنها فكرة جيدة" ثم أشار إلى الموجة المقبلة نحوهما" تمشي في المياه، فيُخفف ذلك من شعورك بالحرّ" أجابته خانقة وقد بدا ذلك جليّاً في صوتها:"أنا من دالاس وأعرف كل شيء عن المشي على شواطئ خليج مكسيكو" ألقى نظرة ثاقبة إلى الجاربين اللذين وضعتهما على كتفها وتابع قائلاً: "تعرفين كل شيء عدا أن الناس يخلعون جواربهم قبل التمشي على الرمل" تنهدت بقوة، آملة أن يبرّد الهواء الذي خرج من فمها بشرتها المتصببة عرقا ـ نحن في بلد حرّ ومن حق المرء أن يغض الطرف عن نصيحة لم تعجبه قالت هذا ثم استدارت مبتعدة عنه، ومتجهة نحو المياه كان محقاً بالطبع، فالمياه التي تداعب كاحليها أشعرتها بالبرودة وعندما جاء الموج ليقبّل قدميها، شعرت بانتعاش غريب ولو كانت بمفردها، لابتسمت بكل تأكيد. ـ لم تقولي لي لما تجرين المقابلات بحثا عن زوج؟. قال ذلك وقد بدا أنه نهض من مكانه وتبعها ـ هل أنت حامل؟ انزعجت جين لقربه منها وللمواضيع التي يختارها للتحدث، فرمقته بنظرة حادة كطعنة الخنجر:"لا تتبعني! ولا طبعا لست حاملاً" بقي يزعجها بأسئلته فقال:"أقرّ بأنك لست أكثر النساء جاذبية ولكنك لست بشعة جداً. فلم الإعلان؟" توقفت وحدّقت إليه" هل أنت عديم الإحساس أو أنك غبي؟" توقف بجانبها وأخذ رشفة أخرى من الشاي، وهو ينظر إليها من فوق حافة الكوب. تشابكت نظراتهما لوقت بدا وكأنه لن ينتهي وبدأت جين تشعر بطنين غريب في رأسها. كان لعينيه تأثير قويي عليها لكنها جاهدت لتتحمل هذه النظرات. فإن كان يظن أنها ستبرر تصرفها، فهو مخطئ تماماً أخفض كوب الشاي وقال ببرودة:" أنا فضولي ليس إلاّ" فانفجرت غاضبة:"اسمع...لديك عمل تقوم به، لذا قم بما عليك فعله وابق بعيداً عن حياتي الخاصة" تراقصت خصلات شعره الداكن عندما تلاعب بها نسيم البحر العليل حدّق إليها كول عدة ثوانٍ وقال بملامح قاسية:"لو أقدمت إحدى الموظفات عندي على أمر غبي مثل وضع إعلان للزواج، لطردتها في الحال" كانت نظراته ثاقبة مباشرة لدرجة أنها شعرت بالانزعاج واضطرت للإشحة بنظرها عنه. كيف يجرؤ على التكلم معها بهذه الطريقة؟ ثم حدّقت إليه غضبة لدرجة أنها بالكاد استطاعت أن تتنفس:" الطريقة التي أختار بها عريسي ليست من شأن رب عملي. لذا نظرا للدعوى التي سأرفعها ضدّه، اعتبر نفسك محظوظا لأنني لا أعمل لحسابك" راقبها كول وهي تبتعد متشامخة، وقد شعر بسخرية تهديدها البارد تحوم حوله. بما أن منزله هذا مخصص فقط لموظفي الشركات التي يملكها، فإن هذه الآنسة تعمل لحسابه، وإن لم يكن بطريقة مباشرة لكنها محقة بشأن الدعوى، فاختيارها لزوجها المستقبلي ليس من شأنه طلما أنها تقوم بعملها خير قيام. لن يخبرها أنها تعمل فعلا لحسابه، أقله ليس في الوقت الحاضر. فهي تعتقد حتى الآن أنه ليس سوى عامل الصيانة، ولهذا السبب وحده سيبقى صامتا، ليرى كيف تعامله امرأة تجهل كل شيء عن ثروته وسلطته. كان الفضول يقوده نحو الجنون. عليه أن يعرف لما عليها اللجوء إلى مخطط غريب للحصول على زوج بالطريقة التي يتبعها معظم الناس لشراء تلفزيون مستعمل. كان متحمسا لمعرفة نتائج هذا المشروع، ناهيك عن أسبابه، إلاّ أنّ مجرد التفكير بما هي مقدمة عليه، يغيظه أشدّ غيظ. ازداد غضبه حدّة، فتمتم قائلا:"يا لها من غبية عنيدة". ثم هزّ رأسه وحدّق إليها:"كيد اشتهرت النساء بأنهنّ الجنس الأكثر رومانسية؟" لقد عرف كول في حياته نساءً كثيرات لا يأخذن الحب بعين الاعتبار عند اختير شريك حياتهنّ وكان له حصة لا بأس بها من النساء الانتهازيات اللواتي يسعين لتحقيق دوافع أنانية كالمال والسلطة والجاه والشهرة وإلى ما هنالك. لكن ما هو دافع الآنسة الصعبة الإرضاء هذه؟ وماذا لديها ضد الوقوع في الحب؟ عرف كول كم يمكن للحب أن يكون قويّاً. فوالده ألبير بارينجر، لم يتخطّ يوماً حبّه لأدريان بورن، عارضة الأزياء ابنة العشرين عاماً التي أقام معها علاقة لم تدم طويلاً. كان الرجل المسنّ حكيما بما يكفي ليفهم أن الشابة الجميلة تستغله لتحصل على ثروته. لكن ألبير كان واقعاً في الحب حتى أذنيه فاكتفى بما قدمته له. خلال السنوات التي تلت رحيل أدريان، لم يتكلم ألبير يوماً بالسوء عنها، رغم أنها تخلّت عن ابنهما المولود حديثا مقابل الحصول على عناوين أصدقاء ألبير في هوليوود. وكان من الصعب على كول خلال كل تلك السنوات أن يتكيف مع حقيقة أن أمّه قايضته بالنجومية. لكن تفاني أبيه وتضحيته عوّضا له حنان الأم. لقد علّمه والده كل شيء عن عالم الأعمال بالإضافة إلى أمر آخر حزين قرأه كول دائما في عيني ألبير وهو أن الحب يمكن أن يكون مأساوياً أحياناً ومنذ زمن بعيد، قرر كول ألاّ يخسر قلبه، إلاّ إذا كان الحب حقيقياً من جهته ومن جهة المرأة المميزة التي يختارها، لن ينتهي به الأمر مثل والده الذي لم يتبق له سوى ذكريات الحب البعيد الأليمة نظر إلى المرأة الواقفة عند الشاطئ وقد انحنت لتلتقط صدفة، ثم استقامت لتنفض الرمال عنها تمتم قائلا:" الحب خطير لا يمكن العبث به، آنسة سانكروفت. فماذا تخططين بحق الله؟" 3_شبه امرأة حظي كول بكثير من الوقت ليفكر بالآنسة سانكروفت المذهلة والمثيرة للإحباط بينما كان يقطّع الأغصان اليابسة التي شذّبها في اليوم السابق من شجرة السنديان ويجمعها خلف المنزل. ومع ذلك، استطاع أن يسمع السيارات تأتي وترحل طيلة النهار ومع توقف كل سيارة أمام باب المنزل، كان غضبه يزداد والذكريات القديمة عن صباه عندما كان يرى أمه في الأفلام السينمائية تصبّ الزيت على النار .أدريان بورن، ملكة الجشعات، أصبحت النجمة الهوليودية التي حلمت أن تكونها والآن في منتصف الخمسين من العمر، لا تزال جميلة وتلعب أدواراً رئيسية ولعل أدريان المتزوّجة الآن من ضحيتها الخامسة، معبودة الجماهير، لكنها بالنسبة لكول، تبقى الأم المتحجرة القلب التي لم تسأل يوما عن ابنها الوحيد. عندما دقت الساعة السادسة كان كول يشعر بالحرّ والتعب كما كان ساخطاً من نفسه بشكل خاص لأنه ترك تلك المرأة تجري مقابلات دنيئة في منزله. ما دخله هو؟ ولكن لتفعل ما تشاء خرجت جين من الباب الخلفي إلى الشرفة وراحت تتأمل البحر، فتوقف عن العمل واستند إلى الجدار وأخذ يراقبها من خلف كومة الحطب التي قطّعها. تقدمت نحو كرسي وجلست عليه، وتفاجأ برؤيتها تخلع حذاءها الجلدي وتضعه جانباً ومن ثم تمدّ يدها من تحت تنورتها لتخلع جاربيها يبدو أنها مستغرقة في أفكارها لدرجة أنها لم تحسب أن أحدهم يمكن أن يتواجد في الجوار. بعد أن خلعت فردة من جاربيها، ثنتها ووضعتها داخل حذائها ثم شرعت تخلع الأخرى. عندئذ، شعر بأن عليه أن يظهر لها نفسه أو أن يرحل، لكنه لم يفعل أيّاً منهما. وضعت الفردة الأخرى في حذائها ثم وقفت وسوّت تنورتها قبل أن تعود إلى مراقبة البحر مجددا. بدت في تنورتها الزرقاء التي لا شكل لها وفي قميصها القصير الكمّين الذي يليق برجل أكثر منه بامرأة، أشبه بناظرة مدرسة مكبوتة. بعد لحظة أخرى من التحديق الصامت، استدارت ناحيته واتجهت نحو الدرجتين المؤديتين إلى الحديقة. كان التفكير بادياً على تعابيرها وكان جبينها مغضناً وكأن أفكاراً سوداء تراودها. ولكن لسوء حظ كول، لم يخفف تعبيرها المتجهم من تأثير شفتيها الممتلئتين عليه وقد استحوذتا على كل تفكيره وانتباهه. كانت جميلة رغم تسريحة شعرها القديمة الطراز، وهذه الحقيقة لم تعجبه كانت تنزل الدرج عندما أوقع قطعة حطب عمداً على الأرض. أجفلت العينان الخضراوان واتجهتا ناحيته أومأ من دون أن يبتسم:"مساء الخير" ـ كنت هنا طيلة الوقت؟. خلع قفّازي العمل اللذين كان يرتديهما وألقى بهما على كومة الحطب ـ معظم الوقت انكمشت تعابير وجهها وهي تقول. "كان بإمكانك أن تقول إنك هنا وسمح لنفسه بضحكة هازئة: - إذا كنت تتكلمين عن عرض خلع الجاربين يا عزيزتي، فقد رأيت أفلاماً أكثر إثارة منه ـ ربما كان عليك أن تبقي عينيك على الشاشة ! أطلق ضحكة رنّانة كانت سريعة البديهة، وعليه أن يقرّ بذلك ـ هل كان نهارك سيئاً؟ طرفت بعينيها ثم حوّلت نظرها ناحية الخلي:"كان نهاراً ممتازاً" اجتازت الحديقة واتجهت نحو الماء:"إلى اللقاء" ابتسم كول لقولها أتظن أن التخلص منه سيكون بمثل هذه السهولة؟. ـ ممتاز! أعتقد أنك عثرت على أزواج محتملين اليوم، أليس كذلك؟ لحق بها إلى أن بلغت البوابة الحديدية حيث أرخى المزلاج وأشار إليها بالخروج قبله ففعلت ذلك شامخة الرأس وتمتمت شاكرة سبقته بعدة أمتار فيما كان يغلق البوابة، فسار بخطوات واسعة حتى يستطيع اللحاق بها ـ لا تقولي لي! بهذا العدد؟ دسّ يديه في جيبه الخلفيين، محاولاً أن يبدو فضولياً أكثر منه حاقداً. رمقته بنظرة مظلمة لكنها لم تقل شيئاً، فتابع الضغط عليها، رغم أنه يعرف أنها تكره ذلك! ـ لِم قلت لي إنك تجرين مقابلات بحثاً عن زوج؟ لقد نسيت حوّلت نظرها ليه ليبدو تماماً من تعابيرها أنها لا تحتمل إزعاجه لها ـ اسمع .أريد فقط أن أمشي على الشاطئ انه لي وقد دفعت المال لقاء استخدامه. نظراتها القاتلة كانت لتقضي على أي رجل، حتى أن كول شعر بطعنتها ابتعدت عنه مسرعة، فقرر أن يتكهّن بنفسه بسبب وجودها هنا:"لهذا علاقة بالعمل، أليس كذلك؟" ارتبكت وكادت تترنّح لهول ما سمعته، لكنها تمالكت نفسها وحاولت مواجهته: " أنا لم أخبرك عن الترقية هل فعلت روثي ذلك؟" تباً! لِمَ عليه أن يكون محقاً؟ أخفى غضبه خلف قناع من اللامبالاة وسار نحوها لينضمّ إليها "روثي لم تقل كلمة واحدة أنت قلت الآن". تنهّدت بقوة وغزا الاحمرار وجهها :"كانت هذه خدعة قذرة" هزّ رأسه قائلا "لكنها أقل قذارة من تلك التي تنوين أن تلعبيها على أحدهم " اتّسعت عيناها عندما سمعته" عمّا تتكلم ؟" لم يستطع كول كبح غضبه مدّة أطول. فاقترب منها، متفوّقاً عليها بطول قامته، مركّزاً عينيه عليها كقنبلتين من النّار الحارقة: " أنا أتكلم عن المسكين الذي ستتزوّجينه. ماذا سيحصل بعد أن تنتهي من استغلاله؟" قال ذلك من دون أن يمنحها فرصة لتجيب وتابع سائلاً إيّاها: "أي وظيفة هي على هذا القدر من الأهمية لتقومي بهذا العمل الجنوني؟ وأي من نوع من الأعمال يشترط وجود زوج؟" تراجعت جين خطوة إلى الوراء وقد أخافها طول قامته، لكنها تحدته بالطريقة نفسها: " الوظيفة ليست من شأنك وليكن واضحاً عندك أن الرجل الذي سأنوي الزواج به، سأتزوّجه إلى الأبد!" لم يستطع أن يصدّق هذه السخرية فأجابها بضحكة فارغة "نعم، طبعاً ثم ترسلين له ورقة فسخ الزواج في البريد" ـ هل تتهمني بالكذب؟ ماتت الضحكة على شفتيه وكذلك الابتسامة "قد لا تكونين كاذبة ولكنك مخادعة" ـ أنت وقح حقاً! ودلّكت صدغيها وكأنها تحاول التخفيف من صداعها ـ أنت لا تعرفني ولا يحقّ لك أن تفترض أي شيء عني ـ أعرف كثيرات أمثالك شدّت على شفتيها وأصدرت صوتا خافتا أشبه بالشتيمة، فتحضر كول للهجوم الذي كان يعرف أنها ستشنّه عليه رفعت يدها لتصفعه ولكنه أمسك بها قبل أن تتمكن من ملامسة وجهه قالت من بين أسنانها ويدها مسمرة في قبضته -لا أعلم أي نوع من النساء تعرف وأؤكد لك أنني لا أود أن أعرف مطلقا ثم حاولت إفلات يدها من قبضته "دعني" ـ لكي تحاولي صفعي مرة أخرى؟ أتضنينني غبياً؟ حدّقت إليه من دون أن تنبس ببنت شفة. لم تكن مضطرة لذلك فعيناها كانتا تقولان: طبعا، أظنك غبياً. أفلتها وهو يطلق شتيمة خافتة، وإذ لم تكن تتوقع ذلك، كادت تتعثر وتسقط أرضا. ـ ربما لا يجدر بك أن تتفوهي بالحماقات، عزيزتي وحده رجل عديم الفكر يوافق على زواج كهذا ـ أنت إذا ممتاز لهذا العمل! قالت هذا وهي على شفير البكاء ـ أين أقف في الصف؟ هذا السؤال الجنوني سبب لها صدمة بدت جلية على وجهها ولكنها لم تكن أقوى من الصدمة التي أصابته هو عند سماع هذا السؤال يصدر عنه. أغلقت فمها وابتلعت ريقها ثم همست بصوت أبح :"ماذا؟" مرر يده في شعره وحاول أن يستعيد رباطة جأشه. سخريته هزّتها وقد نجح في ذلك. قال بضحكة ملتوية:"أنا بنظرك غبي بما يكفي لذا أين تريدينني أن أصطف؟" تحولت تعابيرها الذاهلة إلى نظرات قاتلة :"لا تكن سخيفا! على زوجي أن يكون حائزا أقلّه على إجازة جامعية، ومن الأفضل أن يكون حائزاً على دراسات عليا" مررت لسانها على شفتيها الجافتين وقد بدا أنها تتعلق بأي شيء يقنع هذا العامل الوضيع بأن فرصه معدومة معها، مهما بلغ بها اليأس ـثم عليه أن يعرف كيف يتحدث إلى رجل أعمال ذكي ومثقف يملك المال والسلطة.. نظر إلى السماء بشكل مسرحي وقد وجد أن الكلام لن يجدي للتعبير عن احتقاره وازدرائه ـ لا يهمني ما تفكر فيه ثمة رجال منطقيون يتمتعون بمستوى معين، يفهمون أن بإمكان شخصين منسجمين لديهما أهداف متشابهة، أن يتوصلا إلى زواج جيد ـ هراء ! بدا العداء في عينيها قبل أن تجيب:"لم أتوقع منك أساسا أن تفهم أتخيل أنه يصعب عليك أن تفهم شيئا أكثر تعقيدا من تقشير الموز بقدميك أو القفز من شجرة إلى أخرى!" ـ هل تقولين إنّني قرد؟ أجفلت لسؤاله، فأدركت أنها ليست معتادة على إهانة الناس ـ إنس الأمر! ثم أشاحت بنظرها عنه وراحت تحدق إلى البحر "أريد أن أبقى بمفردي حتى قرد غبي يمكنه أن يلحظ ذلك" شعر بشيء من التعاطف غير المتوقع معها، لكنه سرعان ما تخلى عنه. إنها تخطط لاستغلال رجل مسكين لتتقدم في مهنتها، لذا فهي لا تستحق تعاطفه ـ بالمناسبة، كم رجلاً منطقياً مثقّفاً أُعجب حتى الآن بعرضك؟ سألها هذا فعضت على شفتيها وكانت هذه ردّة فعلها الوحيدة ـ أبهذا القدر؟ ألقت عليه نظرة سريعة متهرّبة :"لدي معايير عالية وأنا متطلبة بعض الشيء" بدا من ارتباكها أن الأمور لم تكن لصالحها، فراح يدور حولها ويتفحصها من كل الجهات من رأسها حتى أخمص قدميها. وعندما انتهى من مراقبتها، حدّقت إليه مستفهمة: "ماذا يُفترض بهذا أن يعني؟" ـ هذا يعني أن الرجال أيضاً لديهم معايير، آنسة سانكروفت ومضة انزعاج في عينيها قالت له إنه ضرب وتراً حساساً ـ ماذا.. ماذا تقول؟ أشار بيديه إليها :"قد لا أكون أكثر الرجال أهلاً للزواج، ولكنني أعرف تماماً ما يريده الرجال" ترك كول الصمت يطول بينهما قبل أن يقول لها مباشرة ومن دون أي مراوغة" الرجال حتماً لا يريدون فتاة باردة" ـ متزمتة؟ باردة؟ كيف تجرأ؟ أنت لا تعرف عما تتكلم قالت ذلك بنبرة بدت الصدمة فيها، ثم استدارت على عاقبيها وهمّت بالرحيل، لكنه لحق بها وأمسكها من ذراعها ـ لا، لا أعرف! ولكن إذا احتجت إلى نصيحة، آنسة سانكروفت، فعليك أن تسمعيها من خبير. واجهته مضطربة :"وهل أنت خبير في النساء؟" ابتسامته كانت أشبه بإجابة، فحاولت الإفلات من قبضته وهي تقول" حسناً، أنا لا أحول اجتذاب الرجال من نوعك" ـ عزيزتي، عندما يتعلق الأمر بما يريده الرجال من النساء، فأنا هو النوع الوحيد أفلت ذراعها واستدار حولها ثم مدّ يده إلى شعرها ونزع منه بعض الدبابيس، فبدت خصلاته تتحرر من قيودها ـ ماذا تظن نفسك....؟ ـ اسكتي وأعيريني انتباهك شد برفق على شعرها إلى أن انسدل كالشلال على ظهرها:"انفضيه" حدّقت إليه وكأنه يتكلم لغة غريبة، فعرف أنها لم تفهم ما يقوله لها. عندئذٍ أمسكها من كتفها وأدار ظهرها ناحيته ثم راح يمشّط شعرها بأصابعه. كانت خصلاته حريرية الملمس وأطول مما كان يظن، إذ تخطت كتفيها بعدة سنتمترات تمايل شعرها مع ا لنسيم بينما كان يديرها لتواجهه، فتركز انتباهه عليه وهو يتراقص في الهواء فبعد أن رآه بنيّاً مجردا من الحيوية، ها هو الآن يلمع تحت الشمس مشرقاً، متموجا، فشعر كول بالاضطراب. كان ينوي أن يسخر منها، لكن خطته تلك انقلبت ضده وزعزعت أحاسيسه. فتراجع خطوة إلى الوراء لا ليفسح لها المجال، إنما ليبعدها عن متناوله. حاول أن يستعيد صوابه ويزيل هذه الأفكار من رأسه، فقال لها ملوّحاً بيده: "لن تحصلي على رجل يقبل بمنصب الزوج ذاك إن لم تبيعي نفسك" بدا فظا حتى لنفسه وأسف لكونه ابتدأ بمزحة الخبير تلك. في الواقع لم يعد يعرف من يتألم أكثر من الآخر، هي أم هو ـ المرأة الذكية تُظهر شيئا من جاذبيتها ليعرف الرجل ما سيحصل عليه هزت جين رأسها فتمايل معه شعرها اللامع المخملي. هل عرفت ما فعلت به هذه الحركة؟. سألته وعيناها تتوهجان:"أتظن أنه يجب أن أبيع نفسي؟ هل تعتقد أن كل الرجال يفكرون بشهواتهم وغرائزهم؟" ـ لا تضحكي على نفسك حبيبتي حبيبتي؟ لم يقل هذه الكلمة يوماً لامرأة. أجلى حنجرته وتابع حديثه الذي فقد كل أثر للهزل والتسلية ـ الرجال يولون أهمية كبرى لما يرونه يمكنك أن تقدمي له كل العناية الصحية والتقاعدية التي يحلم بها ولكن إن لم تعطي شيئا من نفسك، قد تنفجرين صرخت به: _ما أدراك أنت؟ الزيجات القائمة على التحسين والإصلاح المتبادل تتم كل يوم. والداي مثلاً يشكلان ثنائيا منسجما لديهما الأهداف والقيم نفسها, هما ثنائي مستقر وليس دائما ملتصقين يبعضهما البعض ـ لا أشك بذلك انكمش وجهها ولمع الألم في عينيها. ورغم أنها هي الملامة لانزعاجه وإحباطه، شعر كول بالذنب لما قاله أخيراً، لكن برودتها إزاء علاقة مفعمة بالعاطفة والحميمية تغيظه طرفت بعينيها محاولة حبس دموعها ثم قالت بعناد" لا أعرف لماذا أزعج نفسي وأخبرك هذا، لكن إذا كنت مصرّاً على دور الحب، فإن قصة جدّيّ تثبت صحة نظريتي، كانت جدتي أرملة ترك لها زوجها الأول صبيين ولم يكن لديهم أي مدخول، وكان جدي أرمل أيضا لديه مزرعة يديرها. تزوجا بسبب حاجة أحدهما للآخر ولكي لا أطيل عليك الحديث، رُزقا بأربعة أطفال آخرين، والدي كان أحدهم. وفي مرحلة ما من حياتهما، أحبا بعضهما بجنون" أزاحت خصلة شعر عن عينيها وبدت تعابيرها متمرّدة ـ لمعلوماتك، سيدي، يمكن للحب إذاً أن ينمو بين شخصين لديهما أفكار وأهداف مشتركة، إن عملا على ذلك. وأظن أن هذا النوع من الحب أكثر... صدقا وعقلانية من ذلك الإحساس الهستيري الأعمى،ثم... ترددت قليلا ثم هزت رأسها" هذا كل ما كنت أنوي قوله" تساءل عما كانت على وشك أن تقوله ولم تقله، لكنه تجاهل الأمر ـ يبدو أنك خططت لكل شيء نظرت إليه متشككة وكأنها لا تصدق أنه اقتنع :" أنا لا أقوم بأي شيء من دون أن أفكر" ـ وهل تنوين الإنجاب من هذا الرجل؟ كان هذا سؤالاً لم يتوقع أن يطرحه. ولكن الآن وقد فعل، تملكه الفضول ليعرف الجواب انفرجت شفتاها وقد أذهلتها فظاظته لكنها تمالكت نفسها وهزت رأسها ـ هذا ليس من شأنك ونعم أريد أولادا لم يستطع أن يصدق ذلك. لقد وضعت إعلانا تطلب فيه زوجا لكي تترقى في عملها وكانت من الوقحة بحيث تقول إنها تنوي إنجاب الأولاد لتورطهم في مخططا الدنيء هذا. ـ كم أنت مخادعة من غير المحتمل أن يتخلى رجل مثقف وذكي عن مهنته ليصبح زوجك ومربية أولادك.! ربما من الأفضل لك أن تبحثي عن رجل في عمر التقاعد يخطط للبقاء في المنزل مع الأولاد، أو ربما عن رجل لا يستطيع الاستمرار في وظيفة جيدة واحدة ـ مثلك، مثلا؟ قالت ذاك وقبل أن يتمكن من الإجابة، استدارت وابتعدت عنه راقبها كول تبتعد، وهو يفكر على مضض بنفسيتها. فهو لم يجد الآنسة سانكروفت مفعمة بالحيوية وحسب، وإنما مثيرة وبشكل كبير، رغم مخططاتها ومكائدها الأنانية استدار بدوره واتجه إلى كوخه، ناشدا السلام والهدوء والانفراد. لم تستطع جين أن تحتمل وجود ذاك العامل المزعج في الخارج يشوي اللحم على الفحم خلف كوخه لم تستطع أن تتحمل أيّاً من هذا. كانت بحاجة إلى الخروج ممّا بدأت تسمّيه"منزل الرفض". ولكي تستعيد تفاؤلها ونظرتها الإيجابية إلى الأمور، كان لا بد لها أن تخرج إلى حيث المياه المهدّئة والنسيم المشبّع بمياه البحر المالحة وأن تتأمل مغيب الشمس البرتقالية. أخذت نفساً عميقاً وخرجت من الباب الخلفي، مصممة على ألاّ تعير أي انتباه لهذا الرجل وأن تبلغ الشاطئ بأسرع ما يمكن. أغلقت الباب بهدوء راجية أن يكون كول منهمكا بالشيّ بحيث لا يلاحظها. اتجهت بسرعة نحو الدرجات ونزلتها مهرولة ثم اجتازت السياج. وما أن أصبحت في الجهة الأخرى حتى رمت نفسها على الرمال ولم تلتقط أنفاسها إلاّ عندما داست قدماها الحافيتان الرمل الدافئ. فكّرت بصوت عال: "كان ذلك أسهل مما ظننت " وقبل أن تدرك ما تفعله، استدارت لتنظر إلى كول. فأجفلت لرؤيته غافلاً عن الطعام الذي يعده، إذ كان ينظر إليها وعندما التقت عيونهما، رفع شوكة الطعام التي كان يحملها في تحية صامتة مجرّدة من كل ابتسامة. ابتعدت عنه من دون أن تبادله التحية وسارت على الشاطئ في الاتجاه المعاكس. تنفست بعمق، فلم تمتلئ رئتاها بالهواء النقي فحسب إنما أيضا برائحة ما كان كول يطهوه. تلك الرائحة الشهية جعلتها تدرك مدى الجوع الذي تشعر به. فبسبب اختلاط المواعيد الذي حصل، اضطرت لإجراء مقابلة عند وقت الغداء أمّا فطورها فكان عبارة عن فنجان من القهوة وفطيرة صغيرة. من المؤسف أن روثي ليست أفضل من جين في الطهي. فكانتا تطلبان العشاء كل مساء وقد أصبح الأمر مملاً، لذا شعرت بأنها قد تعطي أي شيء مقابل وجبة منزلية. حاولت وهي تتمشى أن تنسى كم كان نهارها سيئاً. وبدأت تخشى ألا يكون هناك أي رجال منطقيين، كما افترضت. رنّت كلمات كول التحذيرية في أذنيها. ربما استعجلت في التفكير بأن رجلا ناجحا سيوافق على أن يتزوجها ويكون "ربة منزلها" وينتقل إلى دالاس ليساهم في تربية أولادها ويكون شريكاً في وظيفتها. عديد من الرجال تزوّجوا نساءً كرّسن أنفسهنّ لمساعدة أزواجهنّ في عملهم. فأمّها كانت الذراع اليمنى لأبيها، وشريكة في مهنته، تنظم الأعمال الكثيرة التي عليه القيام بها بصفته رئيس إحدى مدارس تكساس. رفست الرمل بقدميها منزعجة لأن كول محق نوعا ما. وقالت هامسة: "أنا فعلا بحاجة إلى"زوجة " لِمَ عالم الأعمال ظالم إلى هذا الحد؟" وبعد ساعة، شعرت جين بتحسن طفيف بعد الأيام الثلاثة المحبطة التي عاشتها على صعيد المقابلات، لكنها كانت تشعر بجوع شديد. وهذا الأمر بدا واضحا بشكل أليم عندما اقتربت بما يكفي لتشم رائحة المشاوي التي يعدّها كول اختلست نظرة ناحية الكوخ ووقفت مجفلة. لم يكن كول وحده هناك، فروثي برفقته!. لقد وضعا طاولة عليها شرشف أحمر وأبيض وحولها ثلاثة كراسي، أحدها شاغر فأحسّت بأنها الشخص الذي حجزا له هذا الكرسي، من المؤسف أنها تشعر بالجوع وتحب المشاوي، فهي لن تفكر حتى في الانضمام إليهما. لكن قوتها وعزمها كانا ضعيفين وحتى لو وجدت الشجاعة لترفض الانضمام إليهما فأي عذر سوف تتحجّج به؟ هزت رأسها متمتمة" روثي، عليك أن تشرحي لي أمورا كثيرة" ماذا ستفعل الآن؟ أتكذب وتقول إن عليها إجراء مكالمة هاتفية أو تأكل المزيد من فطائر الفطور تلك وتشرب كوبا من القهوة وتسمّي ذلك عشاءً؟ أو تقصد أحد المقاهي وتأكل وحدها؟ أو في أسوأ الحالات تستسلم لحبّها للمشاوي وتنضمّ إليهما؟ انحسم القرار بسرعة عندما رأتها روثي وراحت تقفز وتلوّح لها وتنادي باسمها. لم يكن بوسع جين أن تتجاهله ولم يكن لديها أي عذر مقنع. اجتازت البوابة بقلب مثقل وساقين متردّدتين ودخلت الحديقة. قادتها رائحة الدجاج المشوي مباشرة إلى المائدة. ونظراً للأصناف الموضوعة عليها، لن تبق معدة جين تتعذب مدّة طويلة ـ أخيراً! قالت روثي هذا بضحكة عريضة ثم أضافت:" خفنا أن يكون البحر قد ابتلعك" أجفلت جين وأملت ألاّ تكون روثي قد أخبرت كول عن هذا اليوم المريع. نهضت المساعدة ذات الشعر المجعد ونفضت فتات الخبز عن بنطلونها. ـ حان الوقت لأتصل برايموند. ومدّت يدها إلى كول:"لقد أنقذتني، كول.. أقسم بأنني لو أكلت مجدّداً من الطعام الجاهز، لكنت أُصبت بانهيار عصبي" نظرت إليها جين مجفلة وكادت تفقد صوابها:" ماذا...ماذا؟ روثي لن ترحلي الآن" ابتسمت لها روثي بمكر:"لقد استغرقت وقتا طويلا في التنزه وأنا كنت أتضوّر جوعا، فأكلت ثم أنت تعرفين أن رايموند ينتظر اتصالي عند الساعة السابعة" ـ أليس لديك هاتف خليوي؟ لم تأبه لكونها بدت متلهفة جدّا لكي تبقى روثي، فكول يعرف أساسا أنها لا تحب البقاء معه بمفردها، لا سيما بعد ليلة البارحة عندما قام بكل وقاحة بفكّ شعرها و... حسناً لنقل إنها لا تشعر بالراحة معه خاصة وأنّها اتبعت نصيحته على مضض في ما يخص ثيابها. ارتدت اليوم تنوره قطنية رمادية اللون وقميصا يكشف عنقها ثم ربطت حول عنقها وأعلى صدرها منديلا زهريا أضفى على ملابسها لمسة من الألوان، وخفف قليلا من المساحة المكشوفة من جسمها كما أنها أبقت شعرها منسدلا على كتفيها. وبعد أن انتهت من المقابلات، استعملت المنديل الزهري لتربط به شعرها إلى الخلف لئلا ينفخه الهواء في وجهها وهي تمشي على الشاطئ كان المنديل على رأسها وليس حول عنقها ! تذكرت جين ذلك وأدركت أن ياقة قميصها منخفضة، فسارعت إلى فك المنديل ولفه حول عنقها لتغطي ما كان مكشوفا من بشرتها، آملة ألاّ يكون كول قد لاحظ ذلك، أو انتبه إلى أن تنورتها تعلو ركبتيها بعدة سنتيمترات. على الرغم من هذه الجهود الأنثوية كان يومها عقيما, الفرق الوحيد الذي لاحظته هو أنه صعب عليها النظر طيلة الوقت في عيني المتقدمين للعمل، ذلك أنهم كانوا منشغلين باستراق النظر إلى ساقيها المشبوكتين عند ركبتيها المكشوفتين ولم تستطع أن تصدق بأن كل الرجال مثل كول عندما يتعلق الأمر بما"يريده الرجل من المرأة", إلاّ أن من رأتهم اليوم أثبتوا نظريته على ما يبدو لقد تركت هاتفي في المنزل قالت روثي هذا، معيدة جين إلى دنيا الواقع والحاضر، ثم تابعت كلامها قائلة" كما أنك لن ترغبي بسماعي أتكلم مع راي فعندما نفترق لأكثر من ليلتين، نتغزل كثيرا ببضعنا على الهاتف" شعرت جين بخديها تشتعلان لكنها لم تستطع أن تفكر في شيء تقوله. كانت ضحكة كول مثيرة للغاية لكن جين حاولت أن تبقى نظراتها على مساعدتها. غمزت روثي رئيستها ثم أشارت إلى المائدة الوافرة بالطعام" كان العشاء لذيذا. وقلت لكول إنه يستطيع أن يحضّر لي المشاوي متى شاء" ثم أرسلت لمضيفها قبلة لعوب:"إلى اللقاء يا من أنقذت حياتي" أومأ إليها بتحية دافئة وهو يضحك لها. بعد لحظة، تحوّل انتباهه إلى جين ، فأجفلت إذ جعلها ذلك تدرك أنها كانت تراقبه. عندما نظر إليها، اختفت الابتسامة عن ثغره" تبدين… شبه امرأة اليوم" .لم تعرف لما كانت نبضات قلبها تتسارع لا يمكن أن يكون مردّ ذلك إلى أنها تقف أمام شاب وسيم للغاية. وأملت ألا يكون هذا هو السبب، طالما أنه ينظر إليها وكأنها"شبه امرأة". مند رحيل طوني, لم ينتبها يوماً شعور كهذا نحو أي رجل فما بالها الآن تقف أمام رجل يهينها فيستمر نبضها بالتسارع وكأنه حصان سباق؟ ـ شبه امرأة. كررت هذه العبارة محاولة أن تبدي ردة فعل عنيفة، لكنه استرخى في كرسيه وشبك ذراعيه على صدره العاري كالعادة, أتراه لا يملك قميصاً؟ - تفضلي بالجلوس. تبدين مرهقة. ابتلعت ريقها، متمنية لو بإمكانها أن تختفي. ولكنها تشعر بجوع شديد والطعام أمامها بدا لذيذا جدا أحسّت بأنها خسرت المعركة معه، فغاصت في الكرسي الذي أشار إليه ثم استندت إلى الخلف لتحدّق إلى الأغصان المتدلية فوقهما ـ حسنا. أنا مرهقة جداً لكي أجادل وجائعة جدا لكي أتحلّى بأي كبرياء لم تعرف ما الذي حصل في الثانيتين التاليتين لأنه لم يتكلم كما لم تسمع أي حركة. ـ لحم مشوي؟ سألها ذلك ثم سمعت صوتا مكتوما، فعرفت أنه رفع طبق الدجاج. ألقت عليه نظرة وأجابته" أي شيء" أمسك لها الطبق لتسكب، فاختارت فخذا. وقبل أن يتمكن من إعادة الطبق إلى مكانه، أخذت فخذ دجاج آخر. ثم قدم لها الأطباق الأخرى لتختار ما يلذّ لها من دون أن يعلق بكلمة واحدة. بدأت تأكل بينما سكب لها كأسا من العصير. مرّت دقيقة طويلة لم تستطع خلالها أن تحتمل الصمت المطبق، فحوّلت انتباهها من الطعام إليه. كان جالسا، شابكا ذراعيه ينظر إليها ـ آه... إنه لذيذ جداً قالت ذلك لتكسر الصمت ولكن ما قالته كان الحقيقة المجرّدة، فحتى ما يطهوه والدها لا يضاهي هذا الطعام لذة.فهو ربما متطفل ولكنه طاه ماهر كان عليها أن تعترف له بذلك رفع ذقنه ليعبّر عن شكره لكنه لم يُجب. فشعرت بشيء من الخوف والترقب وهي تتساءل عما يفكر فيه خلال هذا الصمت كله وهو يراقبها. ومع كل لقمة تأكلها وكل لحظة تمر، كانت جين تجد صعوبة أكبر أن تبتلع طعامها، وبدأ القلق ينتابها. وعندما لم تعد تحتمل هذا التوتر، وضعت الشوكة من يدها وواجهته: "لا يمكنني أن آكل وأنت تحدق بي على هذا النحو. أيّاً كان ما تفكر فيه أفصح عنه" استمر يراقبها لبرهة وهو لا يزال يفكر ثم هز رأسه:"أنا حائر! أي وظيفة تبرر نشر إعلان في الصحيفة تطلبين فيه زوجا؟ لم عليك أن تتزوجي لتحصلي على ترقيتك؟" هز كتفيه، فبرزت عضلات صدره وكتفيه القوية:"ألا تثقين بقدراتك الشخصية؟" لقد شهدت يوما مرهقا جدا وكانت هذه القشة التي قسمت ظهر البعير ضربت بقبضتيها على الطاولة ونهضت بعنف، فوقع الكرسي أرضا. ـ بالطبع أثق بقدراتي الشخصية ثم بسطت راحتيها على الطاولة، ومالت نحوه إلى الأمام. تطاير شعرها مع الهواء فاختفى وجهها للحظة خلف ستارة الشعر البنية المتموجة. رفعت رأسها لتزيح شعرها وتراه بشكل أفضل. ـ مشكلتي ليست قدراتي ومؤهلاتي. لكنني أعمل لحساب شركة متحفظة ورب عمل متزمت. وهو السبب في هذا كله فلكي أحصل على الترقية عليّ أن أرضيه! نظر كول إليها والشك في عينيه" فهمت ولكن ما دخل الزواج في هذا الموضوع؟" ـ إنه الموضوع بحد ذاته! قالت ذلك بحرقة. لقد كبتت مشاعرها الحقيقية الدفينة لمدة طويلة وها هي مرارتها تتدفق انتقاما، ما أشعرها بالارتياح نوعا ما. ـ رب عملي وغد قديم الطراز من العصور القديمة، لا يرقّي أشخاصا عاز بين لمنصب الرئاسة ـ الرئاسة؟ رفع حاجبيه فأغاظها تفاجئه وعدم تصديقه ـ نعم، الرئاسة لِمَ تبدو مصدوما؟ قد أكون امرأة، وامرأة شابة نسبيا لكنني بارعة في عملي وأستحق منصب الرئاسة. نظرت إليه من دون أن تطرف عيناها وقد أحست بهدوء مميت:" عندما أضع هدفا نصب عيني، لا أتراجع عنه ولا أنظر إلى الخلف. صحيح أن ما أفعله مخاطرة، ولكن كل شيء في الحياة هكذا" قالت هذا واستقامت في وقفتها، شاعرة بأنها أفضل حالا مما كانت عليه منذ أيام. ـ لقد نعتّني بالغبية بأكثر من طريقة وأكثر من مرة. ولكن أحد الفلاسفة الحكماء قال مرة" إذا كنت تريد التقدم، لا تحزن إن ظنك الناس غبيا" ثم ألقت عليه نظرة تنضح بالعزم والتصميم." لكي أحصل على ما أريد أو بالأحرى على ما أستحقه، سأفعل أي شيء" أخفضت نظرها مستفهمة" مزيد من الأسئلة؟" بدا متشككا ولكنها لم تأبه البتة ليفكر بأنها أكتر الناس جنونا!. إنها تعرف ما تريد ولا يهم إن كان غيرها يوافقها الرأي أو لا... لا سيّما هذا العامل الوقح!! ـ لديّ سؤال أخير قال هذا وهو ينحني ليضع الكرسي الذي أوقعته في مكانه ـ هلا قلت لي اسم ذلك الوغد العديم الفهم؟ ـ آه.. إنه عجوز يدعى ج س بارينجر. بقي كول جاثيا على ركبة واحدة أمام الكرسي وهو ينظر إليها. كانت نظراته باردة أثلجت قلبها ولمعت عيناه بشكل أثر في أعماقها لكنها لم تستطع أن تفهم ردة فعله الغريزية. 4ـ من يحميها منه؟ انتهى كول من تسوية كرسيها، مستعملا هذا الوقت لاستيعاب ما قالته. عندما أعلنت أن الترقية هي لمنصب الرئاسة، أدرك الحقيقة وهي أن رب العمل لذي ما انفكت تشتمه منذ أيام لم يكن أحدا سوى الرجل الذي قدّم لها العشاء لتوّه: هو! الآن عرف لماذا تذكر اسمها، فهي أحد نواب الرئيس في شركة المحاسبة الصغيرة يملكها والده. وتذكر أن سكرتيرته قالت له إنها أرسلت كتبا للموظفين الثلاثة تعيّن لهم فيها المقابلات مع مالك الشركة في شهر حزيران وبالكاد بدأ يدرس السير الذاتية لهؤلاء قبل أن تظهر المناقصة، مما اضطره لإرجاء التفكير في رئاسة شركة دالاس للمحاسبة حتى وقت لاحق.فهي شركة صغيرة لكنها كانت مميزة بالنسبة لأبيه، واختيار الرئيس المناسب أمر يسحق اهتمامه. نهض وأشار إلى الكرسي" اهدئي آنسة سانكروفت، وأنهي عشائك" عاد إلى مكانه ونظر ناحيتها. كانت لا تزال واقفة ولونها أحمر. زمّت شفتيها، محاولة على الأرجح أن تلجم انفعالها وبالحديث عن الانفعال، راحت الصور تتوالى في ذهنه وتظهر بشرتها الفاتحة وعينيها المشتعلتين وشعرها المنسدل على كتفيها وشفتيها المثيرتين. فرك عينيه، محاولا إبعاد تلك الصور عن ذهنه واستقام في جلسته وعندما نظر إليها مجددا، كانت لا تزال واقفة مكانها" اجلسي بحق الله لقد تشنجت رقبتي" كان قوله هذا صحيحا نوعا ما. طرفت بعينيها إزاء هذا الأمر لكنها لم تجلس على الفور، بل هزت كتفيها وأخذت نفسا عميقا ثم سوت تنورتها قبل أن تعود إلى مقعدها بهدوء. رفع كأسه وحوّل نظره إلى عينيها الجميلتين" ما اسم الشركة؟" ـ شركة دالاس للمحاسبة وضع الكأس من يده وواجهها، مبقيا عينيه شاخصتين على ملامحها الرزينة. لقد فهم الآن تقريبا سبب انزعاجها، فشركة دالاس للمحاسبة شهيرة بسمعتها الممتازة وتحفظها الشديد. منصب الرئاسة أعطي دائما لرجال متزوجين مستقرين كان هذا صحيحا. وعرف كول سبب غضبها وشعورها بالإهانة. حتى أنه فهم لما استنتجت أن شابة عازبة مثلها ليس لديها أي فرصة للحصول على هذا المنصب الرفيع. ما لم تفهمه و أن ألبير بارينجر لم يكن عجوزا مغفلا. صحيح أن خياراته لمنصب الرئاسة كانت دائما حكرا على الرجال المتزوجين لكن السبب في ذلك يعود ربما إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا أفضل في حينها. ـ شركة محاسبة؟ قال هذا أخيرا وقد قرر عدم تكرار اسم الشركة الرسمي قرر أن يمنح نفسه بعض الوقت ليستوعب الوضع بأسره قبل أن يكشف لها عن هويته. كان لا يزال مقتنعا بأنه من الخطأ أن تبحث عن عريس بالطريقة التي تتبعها وللسبب الذي قالته لكنه تمكن على الأقل من أن يفهم سبب محاولاتها الجاهدة. أيا يكن الدافع ومهم استطاع أن يفهم يأسها، لا تزال بنظره امرأة تحاول استغلال رجل لكي تبني عشّها المهني. فقال بجفاء" ما زلت مقتنعا بأن الزواج من أجل الترقية أمر خاطئ" أشاحت نظرها عنه وأمسكت الشوكة وراحت تطعن بها قطع الخضار في طبق السلطة. ثم قالت بوجه شاحب وعينين يلمع الغضب فيهما" لا يمكنني التكلم معك، فأنت لن تفهم" ـ حقا؟ استند إلى الخلف ونظر إليها بسخرية" وماذا لو قلت لك إن أمي استغلت والدي لتحقيق طموحها المهني؟" نظرت إليه متشككة ثم وضعت الشوكة جانبا لكي تركز بكل قوتها عليه" أشك بذلك" بقي يراقبها سامحا لعدائه أن يظهر على ملامحه:" عندما وَلدَت ابنه، قايضته بما يسمح لها التقدم في عملها .أخذني أبي ورباني وأحبني واعتنى بي، لكنه لم ينسها يوما" رأى وميضا يشتعل في أعماق عينيها قبل أن يغشيهما الحزن كما لو أن كلامه أحيى فيها ذكرى أليمة، ابتلعت ريقها واستدارت قليلا وهي تومئ برأسها، وكأن ألما قديما عاودها:" أنا ... أنا آسفة لما حصل لأبيك" مال كول في كرسيّه إلى الأمام وقد تملّكه نوع من القلق على جين:" ما الخطب؟" _ لا شيء! رفضت أن تواجهه واكتفت بهزّ رأسها أما هو فعلت التكشيرة وجهه وراح يتساءل عن ذاك التغيير الذي طرأ عليها إذ ل م تبد من قبل بمثل هذه الهشاشة، أثر فيه ذلك وخفف من حدة غضبه:" لقد رأيت أبي يتألم بصمت طيلة حياته بسبب امرأة أنانية" قال ذلك هامسا وإذ لم يستطع أن يتحمل أكثر منظر ياقتها المنخفضة، تقدم منها وأمسك المنديل بإصبعه، مسدلا إياه على صدرها. ـ لذا لا تقولي لي إنني لن أفهم، آنسة سانكروفت أنا أفهم جيداً. نظرت إليه بعينين واسعتين ولم تستطع أن تعرف ما الذي سبب لها هذا الشعور بالانزعاج، أهو كلامه أو إدراكها بأن صدرها كان مكشوفا أمامه؟ أشاحت بنظرها بعيدا عنه"أنا .. آسفة بشأن أبيك، وآسفة لأن أمك كانت.." ـ مجرمة باردة الأعصاب؟ أنهى الجملة عنها، فتجنبت عينيه وأمسكت الشوكة بيد مرتجفة. راح يراقبها وهي تأكل ثم تابع بصوت أجش:" عندما ... أو في حال تزوجت، فلن يكون ذلك إلاّ لسبب واحد وهو الحب العميق الصادق والمتبادل" طرفت بعينيها عدة مرات وكأنها تحاول السيطرة على عواطفها ـ أتمنى لك التوفيق ألقت عليه نظرة سريعة قبل أن تنظر مجددا في صحنها"أنا لن أستغل أحدا دوافعي شريفة حقا" راقبها وقد اختلطت عليه الأمور، كان منزعجا لإصرارها العنيد على الخطة التي رسمتها للإيقاع برجل يتزوجها ولكنه في الوقت ذاته، شعر برغبة في ضمها إلى صدره والتخفيف عنها بسبب تلك التعاسة التي لمعت في عينيها *** تلك الليلة، بقي كول وحيدا في غرفته، يدرس أعمال جنيفر سانكروفت ودوافعها من كل زاوية وفتح الرسائل الاليكترونية التي وصلته عن نواب الرئيس الثلاثة في تلك الشركة، أمضى عدة ساعات يدقق في السير الذاتية لكل واحد منهم. وكان عليه أن يقر بأن مؤهلاتها عالية جدا، فهي امرأة أعمال لامعة ولم ترتكب أي خطأ في تدقيق الحسابات. كما أنها استقطبت زبائن أثرياء للشركة وكرست نفسها لمهنتها على ما يبدو. حتى أن الرؤساء السابقين أطلقوا عليها اسم الدينامو المبدع. وقد لاحظ كول شيئا من هذا في عزمها وتصميمها خلال الأيام الثلاثة الماضية حيث أنها كانت مصرة على استغلال رجل لكي تحصل على الترقية وبدت مشغولة ومستعجلة جدا لإنهاء هذه العملية بحيث لم تلحظ فداحة الأمر. فبالنسبة إليه كان ذلك خطأ جسيما. بقي يتصارع مع أفكاره. ماذا عليه أن يفعل؟ وكيف يتعامل مه هذا الوضع؟ كان مخططها دنيئا وقد رأى الشيء نفسه مرات عديدة لدى نساء عرفهن ولدى أم لم يعرفها يوما. مع ذلك، كان سجلّ الآنسة سانكروفت جيدا جدا ويستوفي لشروط اللازمة لمنصب رئاسة مجلس الإدارة. فهل يسمح لرأيه بالنساء أمثالها أن يؤثر على قراره؟ وهل يسمح لانجذابه نحوها بأن يستولي على تفكيره؟ هل بإمكانه ألا يكون متحيرا؟ قرابة منتصف الليل، أدرك أنه اتخذ قرارا منذ ساعات، عندما لم يقل لها من يكون بعدما عرف أنها ترمي إلى ترئس شركة المحاسبة. في الوقت الحاضر على الأقل، سيبقى متنكرا بدور عامل الصيانة. فهذه بنظره طريقة جيدة ليراقبها ويتخطى أحكامه المسبقة ويدرسها بموضوعية.. من أجل العمل طبعا، هذا ما أقنع نفسه به، راجيا ألا يكو بذلك يكذب على نفسه ـ ماذا تعنين بأنك راحلة؟ ولشدة الصدمة وعدم التصدي اللذين تملكاها، أوقعت جين الخبز المحمص على أرض المطبخ، وحدقت بدهشة إلى روثي التي كانت واقفة في الممر المؤدي إلى المطبخ وفي يدها حقيبة: ـ لقد... لقد تلقيت مكالمة هذا الصباح، وفرض علي عمل براتب يفوق ما أتقاضاه مرتين هزت روثي كتفيها وقد بدت خجلى من نفسها ثم تابعت قائلة:" قالوا إنهم يحتاجونني فورا وإلا وظفوا شخصا آخر" استندت جين بوهن إلى جدار المطبخ:" عملنا معا مدة خمس سنوات. لم أكن أعلم أنك تعيسة معي" ـ لا، لست تعيسة ولم أكن يوما كذلك، لقد أحببت العمل معك ـ لم إذا تقدمت بطلب لوظيفة أخرى؟ هزت صاحبة الشعر الأحمر رأسها وقد بدا الارتباك عليها ـ لم أفعل، لا أعرف من طرح اسمي ولكنني لن أرفض هذا العرض لم تستغرب جين أن يطلب أحدهم روثي للعمل، فهي موظفة مذهلة ولم تدرك جين حتى تلك اللحظة كم تقدمت في العمل بفضل اعتمادها على روثي. لقد أخبرت مساعدتها أشياء لم تسربها إلى أحد، وخبر رحيلها وقع عليها وقع الصاعقة فهي ستفتقدها ليس فقط كمساعدة إنما أيضا كصديقة. وشعرت بنفسها تختنق لكنها تمكنت من الكلام ـ بالطبع يريدونك، فأنت رائعة لكن.. لكن ماذا سأفعل من دونك؟ وراحت تنظر حولها، محاولة التفكير ـ أنا أثق بك روثي وأنا بحاجة إليك، لا يمكنني أن أقابل زمرة من الرجال بمفردي! بدا الأسف على وجه روثي، لكن فقط بقدر ما يبدو على شخص تضاعف راتبه للتوّ:"أنا حقا آسفة، أنت تعرفين أن راي واجه بعض العقبات في عمله ونحن بحاجة إلى المال" ثم أشارت بيدها إلى الخارج:" يمكنك أن تطلبي من ذاك الشاب أن يبقى في الجوار في حال صرخت" أغمضت جين عينيها ، غير قادرة على تصديق اقتراح مساعدتها.. أو بالأحرى مساعدتها السابقة. ـ سيساعدني ذلك كثيرا ـ فكري بالأمر،إنه ضخم وهو طاه ماهر كما أنه ليس منجذبا نحوك ما عساك تطلبين أكثر؟ كشرت جين، وفضلت عدم التفكير في دقة ما قالته روثي:" كيف يمكنك أن تتركيني هكذا؟" احمر وجه روثي التي أجابت بصدق:" أنت تعرفين أنني ما كنت لأفعل هدا لو لم أكن بحاجة إلى المال" تنهدت جين بأسى:" لا يمكنني تأمين مثل هذا الراتب لك ولكن كملازم سابق في البحرية، لا بد أنك تفهمين معنى الولاء" بدت روثي على وشك البكاء وهي تقول:" طبعا راي والأولاد يأتون في الدرجة الأولى وولائي هو لهم قبل أي أحد" ودت جين لو تناقشها لكنها لم تستطع. فإذا كانت الشركة بالنسبة لها عائلتها وولاءها ومحور حياتها، فهي لا تعني بالضرورة الشيء نفسه لروثي واجهت جين هذه الحقيقة المرة وانخفضت نظراتها إلى الأرض سمعت بوق سيارة في الخارج، فعرفت أن سيارة الأجرة التي أتت تقل روثي إلى المطار قد وصلت وهذا الصوت أعادها إلى الواقع الأليم: روثي راحلة فعلا، والآن بالذات. في تلك اللحظة أحست بمدى أنانيتها، فروثي تستحق تلك الفرصة ونظرا لما كانت جين تفعله للحصول على منصب أرقى، لا يحق لها مطلقا أن تغضب من مساعدتها لأنها تركت عملها لتقبل بمنصب أفضل، وإن يكن الأمر قد حصل فجأة. أرغمت جين نفسها على الابتسام قائلة:" اسمعي روثي، لا تعيريني اهتماما أنت تفعلين الصواب وستكونين مجنونة لو لم تقبلي العمل" أخذت صاحبة الشعر الأحمر نفسا عميقا، محاولة حبس دموعها، ثم اجتازت المطبخ ورمت ذراعيها حول عنق جين وقد قهرها منظر الأسى البادي على صديقتها ـ أنا آسفة حقا! وشدتها أكثر إلى صدرها ـ لا تقلقي سأكون بخير تعالى صوت الزمور مجددا، فتمتمت جين ، شاكرة لأن صوتها لم يتقطع:" من الأفضل أن تذهبي" تبادلتا نظرة سريعة ولمعت في عيني روثي لمحة ندم لاضطرارها إلى ترك جين:"اعتني بنفسك!" قالت روثي ذلك بكلمات ترتجف من العاطفة قبل أن تضيف أخيرا:" عديني بأن تكلمي كول" لم تجب جين بشيء خوفا من أن يظهر يأسها، كان مجرد التفكير بطلب المساعدة من كول يخفها ولكن الوقت ليس مناسبا لمناقشة هذا الموضوع، فاكتفت بإيماءة خفيفة من رأسها وبابتسامة من شفتيها المرتجفتين أشاحت روثي بنظرها واستدارت، وبعد لحظة كانت قد رحلت. أما جين فبقيت بلا حراك تصغي إلى الصمت، إذ لم تستطع أن تسمع صوت المياه وطيور النورس لشدة صدمتها. وعندما أفاقت من هول ما جرى. ألقت نظرة على ساعة يدها. كانت الساعة السابعة والنصف وأول موعد لليوم هو في الثامنة. مرت خمس دقائق أخرى بينما بقيت جين واقفة مكانها تحدق إلى الفراغ ودهنها معطل عن التفكير وعندما أيقظت نفسها أخيرا، عرفت أن عليها أن تواجه كول ففي عالم اليوم، من الجنون أن يدعو المرء أشخاصا غرباء إلى منزله، لا سيما للتكلم معهم عن مسألة حميمة مثل الزواج. سارت نحو مائدة المطبخ وألقت بثقل جسدها على راحتيها. كانت مترددة ، كول يعرف كل شيء، هو ضخم ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منها في حضوره وكما قالت روثي، هو غير منجذب إليها. لقد أوضح ذلك أكثر من مرة، لكن فكرة وجوده طيلة الوقت على مقربة منها، تقلقها فمنذ رأته للمرة الأولى وهو يطلي السياج، وهي دائمة التيقظ، لم يؤثر فيها أحد بمثل تلك القوة بعد طوني وهذا الأمر أخافها. إنه ليس طبعا ما تبحث عنه في شريك المستقبل فالزوج المناسب لن تجده إلا في بيئة حسنة وضمن إطار المنطق والتفكير ومن العار أن تراه في رجل مثير فقط. أمام هذا الواقع التعيس، عزمت جين على مقاومة تلك الرعشة الخطرة التي تتملكها عندما تغوص في عينيه، وأقسمت أن تحارب كل موجة إثارة تسري في جسدها عند رؤيته. وكم كان من حسن حظها أن يجدها غير جذابة، فبهذا يمكنها أن تطمئن على نفسها. نظرت مجددا إلى ساعتها، كان أمامها عشرون دقيقة قبل الموعد الأول، لذا لا بد أن تستفيق من حالة الخذر هذه وتعالج الوضع، تنهدت محولة أن تقوي نفسها ثم اتجهت نحو الباب الخلفي. لم يكن أمامها سوى أن تطلب المساعدة من كول. وصلت بسرعة إلى الكوخ وصعدت الدرج مهرولة، وبعد أن اجتازت الشرفة ذات الأرضية المكسوة بالخشب المطلي باللون الأزرق الفاتح، قرعت الباب المطلي باللون نفسه. لم يتسن للنفس المهدئ لذي أخذته أن يعطي مفعوله، فقد انفتح الباب أمامها بسرعة. كان كول واقفا هناك بطوله الفارع وصدره العاري مرة أخرى. كان مظهره مثيرا جدا لدرجة أنه شل تفكيرها، فجاهدت لتقاوم تأثيره عليها. لم تستطع جين فهم تعابيره أو قراءتها. اعتقدت بأنه سيتفاجأ لرؤيتها عند بابه، لكن ذلك لم يبد عليه. تجهمت تعابيره في هذا الصمت الثقيل الذي خرقه بقوله:"لا أظنك هنا لتبيعيني كتابا للطهو" عضت شفتيها، في محاولة للحفاظ على توازنها. كان صباحها سيئا ومن الصعب عليها مواجهة جاذبيته المثيرة للاضطراب. قالت بعد ثوان طويلة:"غادرت روثي، لقد حصلت على عرض عمل لم تستطع رفضه" لم يجب بشيء، فنظرت إليه على مضض وتابعت كلامها مترددة:" اسمع سوف أكون بمفردي هناك... مع رجال غرباء... وأظنني سوف..". ماتت الكلمات على شفتيها، فحاولت التكلم مجددا ـ أعني، قد أواجه بعض المتاعب إذا.. ابتلعت ريقها ثم هزت رأسها، محاولة إيجاد الكلمات المناسبة ـ ما أحاول قوله هو أنني أعرف أنك لا تجدني جذابة على الإطلاق ولكن إذا واجهت رجلا يخالفك في هذه النقطة... قد أحتاج للمساعدة حاولت أن تبقي نظراتها مشتبكة بعينيه، لكن الأمر لم يكن سهلا حاولت التفكير في طريقة أخرى للتعبير عن ذلك، راجية أن يكون صوتها هادئا قدر الإمكان ـ أنا.. أنا في الواقع.. ومررت يدها في شعرها الذي أبقته منسدلا مرة أخرى، محاولة أن تبدو أكثر أنوثة"اسمع كول.." خافت من أن يسمع الرجفة في صوتها قبل أن يسمع ما تريده منه ـ من دون روثي، سوف.. قاطعها فجأة:"فهمت آنسة سانكروفت، تريدين أن أجول حول المنزل وأتدخل في حال حاول أحدهم الاقتراب منك" تناول قطعة من الخبز وهو يراقبها ثم سألها أخيرا:"أتريدين فنجانا من القهوة؟" كانت رائحة القهوة العابقة على الشرفة أشهى بكثير من تلك التي حصرتها لكن إذا كانت عاجزة عن النظر في عينيه الآن والمحافظة على أعصابها، فكيف عساها تجلس معه لتحتسي القهوة؟ هزت رأسها، عازمة على الرحيل ما أن تحصل على إجابة منه ـ لا... فالموعد الأول لليوم في غضون دقائق أومأ برأسه لكنه بقي صامتا ولم تمنحها تعابير وجهه أي أمل بأن يوافق على طلبها شعرت بالدوار ولم يستطع صوت الماء المهدئ أن يمحو انزعاجها ويبدد قلقها كما كان يفعل عادة. ولكن عليها أن تعرف رده ـ ماذا ؟هل تقبل أم لا؟ بدت الثواني ساعات قبل أن ينطق:" ظننت أن النساء المتحررات اليوم لا يعتمدن على الرجال" إذا، كان رده "لا"!. كان عليها أن تعرف. ها هو مجددا يذكرها بالفم الملآن بأنه غير مرحب بها وغير مرغوب فيها. وما كان رده سوى طريقة هازئة ليقول لها إنه مستعد لأي شيء لكي ترحل إذا كانت خائفة إلى هذا الحد من البقاء بمفردها شعرت جين بالغيظ يتملكها:"الاعتماد عليك هو آخر ما كنت أفكر فيه. ولكن المسألة أن الرذاذ المؤذي للعيون نفد مني" رفع حاجبيه متسائلا:" هل أعتبر هذه دعوة؟" ـ عفوا؟ ـ هل قولك إن الرذاذ نفد حجة لتدعيني إلى المنزل؟ لسعتها سخريته، فبحثت عن طريقة لاذعة ترد بها عليه. لم يخطر لها أي كلام بليغ إلا أن وجهها اشتعل نارا:" أنا لن أدعوك مطلقا ولن أقبل رأسك حتى ولو قُدم لي على طبق من فضة!" شبك ذراعيه على صدره، فتحركت عضلاته بشكل عصر قلبها. كيف تجرؤ على الانجذاب نحو هذا الفظ الوقح؟. شعرت بالغضب من نفسها فانفجرت فيه:"إذا كنت تريد رأيي، فأنا أعتبرك فظا، ساخرا وبربريا عديم الإحساس" لم يمنحها لذة رؤيته منزعجا من إهانتها، حتى أن تعابيره المتحفظة لم تتغير كانت جين على شفير البكاء عندما همت بالرحيل لكنه أمسك معصمها بقبضته الحديدية:" خبرتي قليلة في الحراسة الشخصية، آنسة سانكروفت" ثم نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها قبل أن يضيف قائلا:" ولكن في حالتك، يمكنني تدبر الأمر" فغرت فاها وكأن طعنة اخترقت صدرها. فقد عرض عليها المساعدة لأنها برأيه غير جذابة ولن يكون عليه أن يرد عنها أي معجب أرادت أن ترفض عرضه وتقول له أن بإمكانها تدبر الأمر بنفسها، صحيح أن الرذاذ المؤدي للعيون نفد منها، ولكن يمكنها أن تضع رذاذا مبيدا للحشرات بين وسائد الأريكة. رشة واحدة كفيلة بأن تعيقه ريثما تهرب تغلبت كبرياؤها على المنطق، فسحبت يدها من قبضته:" أفضل السير حافية القدمين على الجمر، بدلا من أن أقبل مساعدتك" فأجاب هازلا:" حسنا، لقد أقنعتني" كانت قد ابتعدت مسرعة عندما سمعته، ماذا قال؟ جمدت في مكانها واستدارت نحوه وهي تحدق إليه:"ماذا؟" هز كتفيه، مبرزا عضلاته المفتولة:" هناك أشياء تحتاج للصيانة في المنزل وأنت أعقتِ عملي". حدق إليها بعينين قاسيتين"لم أقصد الإهانة" عرفت أنه كان يقصد ذلك. ورغم أنها ترغب في أن يرحل، إلا أن قدرتها على التفكير عادت إليها، ففضلت أن تكون آمنة على أن تندم لاحقا. استدارت وهي تتمتم:" نعم... طبعا" مر النهار ببطء شديد، وصدق كول في كلامه، فبعد أن بدأ الموعد الأول بقليل، دخل من الباب الأمامي لكي يراه "العريس المحتمل"، فرأت جين على وجه هذا الأخير تعبير الخوف لدى رؤية كول بجثته الضخمة وصدره العاري وهو يحمل في يده العدّة. أعلن كول حضوره وقال إنه سيكون هناك طيلة النهار ثم رمق الرجل بنظرة شرسة وكأنه يقول:سأسمّرك أرضا إذا اقتربت من السيدة وكلما أتى مرشح جديد، كان ينصرف ليقوم ببعض الإصلاحات. وكانت الضجة التي يصدرها من الداخل خلال المقابلات تذكرها دائما بأن هناك من يحرسها كانت مشاعر جين إزاء قرب كول منها تتأرجح بين الامتنان والاضطراب. فمن جهة، كانت ممتنة للحماية التي يؤمنها لها. ومن جهة أخرى، كانت تفقد تسلسل أفكارها في كل مرة يظهر فيها أمامها. فمجرد النظر إلى عضلاته المفتولة والرجولة التي تنضح منه ومقارنتها مع الرجل المتقدم للوظيفة المزعومة، كان ينسف مشروعها من أساسه. شعرت بوخزه في معدتها لكنها سرعان ما ذكرت نفسها بغباء ما تفكر فيه. فركت عينيها، محاولة تبديد تلك الصورة المثيرة التي راودتها وتمتمت:"لا... لا جنيفر هذا جنون!" ـ عفوا؟ سأل المتقدم الأخير للعمل هذا وقد بدا منزعجا ـ إذا سألتني رأيي آ نستي، فأنت هي المجنونة عندما عادت بأفكارها إلى الواقع، كان الرجل قد هبّ واقفا:" أنا خارج من هنا" وقفت بدورها:" سيد..." غاب اسمه عن ذهنها، فنظرت إلى دفترها:" سيد باول، لم أكن أتكلم معك... اعذرني أرجوك لأنني..." ـ إنسي الأمر آنستي! قال هذا ثم استدار حول الأريكة واتجه مسرعا نحو الباب. كان الرجل القصير والسمين كتلة من اللون البني. شعره بني وبذلته بنية وحذاؤه بنّي، حتى ربطة عنقه بنيّة ارتاحت لرحيله أكثر مما استاءت منه، لكنها رافقته إلى الخارج لتودعه بشكل لائق سمعت وقع خطوات تقترب في الردهة، فأغمضت عينيها بقوة. لم تكن تريد رؤيته الآن ـ لم يستغرق ذلك طويلا قال كول ذلك وقد بدا قريبا منها. فانتظرت لحظات لتستعيد رباطة جأشها قبل أن تقول له:" إياك" استدارت نحوه لتريه بأنها ليست مهزومة. ولكن عندما رأته، وبخت نفسه للمرة الألف لأنها وجدته جذابا. للأسف، كان ذلك واقعا عليه التعامل معه. فوجهه وجسده أشبه بمنحوتة رخامية جميلة. كان واقفا هناك بطوله الفارع وبنيته القوية ونظراته الشاخصة إليها. أبعدت عينيها عن تأثيره المغناطيسي المنوّم وتحققت من الساعة ـ إنها قرابة الخامسة. كان السيد باول الموعد الأخير لليوم. يمكنك أن تنصرف. شد كول على شفتيه وكأنه يضحك لمحاولتها تمثيل دور الرئيس والمرؤوس، فتبدد كل شعور بالسيطرة لديها لكنها حاولت أن تتمالك نفسها أحنى كول رأسه في تحية مسرحية:" نعم سيدتي" وتابع بلطف:" سأحضر العدة" بقيت مستقيمة في وقفتها وأومأت له بشكل يوحي بالسلطة:"تفضل" توجه إلى المطبخ وسرعان ما خرج، فاستندت على جدار الردهة، منهارة. كانت قد فقدت الأمل بإيجاد زوج مناسب يرضى هو أيضا بالزواج بها بعد لحظة، سمعت الباب الخلفي ينفتح ثم يغلق مجددا. فأغمضت عينيها بارتياح. لقد غادر كول المنزل، لكنه سيعود غدا. *** 5ـ احذري يا جنيفر كانت جين قد سئمت البقاء في المنزل، فأخذت سندويش الزبدة والمربى الذي حضّرته وسارت به على الشاطئ، حافية القدمين، محاولة ألا تسأل نفسها أين عساه كول يكون لم تلمحه عندما استرقت النظر إلى كوخه، فقالت في سرّها إن هذا جيد، إذ لم تكن ترغب مطلقا في أن تراه يحدق إليها مكشرا وهي تتناول طعامها، فقد يسبب لها ذلك حرقة في المعدة! سارت على الرمال حزينة واهنة وهي تأكل طعامها الحلو المذاق. لفت انتباهها حركة على الرمل على بعد أمتار منها وعندما ركزت انتباهها، رأت بطة تصفق بجناحيها ابتسمت جين عند رؤيتها ولكن سرعان ما تلاشت الابتسامة عن شفتيها. إذ بدا لها أن البطة في مأزق نظرا للطريقة التي تحرك بها رأسها. صاحت البطة وبدا لجين أنها لا تقوى على إغلاق منقارها ـ يا إلهي! قالت جين ذلك حين أدركت ما خطب البطة. فقد علقت صنارة صيد في منقار المسكينة. لم تعرف جين ماذا تفعل، فهي لم تملك يوما في منزلها حيوانا أليفا لتعرف كيف تتصرف في مثل هذا الوضع. قطعت بعض الفتات من الخبز الذي كانت تأكله ورمته للبطة ـ كلي، لا تخافي. تهادت البطة إلى فتات الخبز وجاهدت لتأكلها ولكن ذلك كان صعبا عليها نظرا لوجود الصنارة في منقارها فتملّك الذعر جين. المسكينة قد تموت جوعا، وإذ لم تستطع التفكير في أي شيء آخر، رمت للبطة قطعة خبز أخرى، أملا منها في أن تستطيع تلك المسكينة أن تأكلها رغم وجود الصنارة ذهلت عندما اقتربت البطة أكثر وحاولت أن تلتقط الفتات. دنت منها جين على مهل والتقطتها، فزعت البطة مرتعبة ـ لن أؤذيك يا صغيرتي ولكن عليّ أن أمسكك جيدا كي أتمكن من انتزاع الصنارة ولكن لكي تمسك بالبطة، كانت بحاجة إلى يديها الاثنتين، فماذا عساها تفعل الآن؟ رفرفت البطة بين يديها، فذعرت جين ولكنها كانت مصممة على الإمساك بها:" اهدئي...اهدئي، سأفكر في شيء" وضمت البطة إلى صدرها محاولة تهدئتها بصوتها الرقيق:" لا تخافي، فأنا خائفة عن كلينا" ـ ماذا تفعلين؟ جاء هذا الصوت الذكوري في الوقت المناسب. وللمرة الأولى تبتهج جين لسماع صوت كول. فهتفت:" آه.. الحمد لله" ثم أشارت إلى البطة:" صنارة صيد علقت في منقارها وليس لدي ثلاث أيدٍ لأمسكها وأنزع الصنارة في الوقت نفسه" بقي كول واقفا هناك من دون كلام، ينظر إلى طائر خائف وإلى بطلة غريبة، عديمة الخبرة مع الحيوانات بقدر ما هي مع الرجال أخفض كول نظره إلى حزام العدة الذي يلف خصره، وسحب منه قطّعة صغيرة واقترب منها ـ ماذا ستفعل؟ ـ امسكي البطة جيدا بينما أسحب الصنارة من منقارها ـ حسنا! عضت جين على شفتيها وأمسكت البطة البنية اللون بقدر ما أمكنها، راجية ألا يؤذيها وهو يسحب الصنارة. وأخيرا تمكن كول من تحرير البطة ثم وضع الصنارة التي سحبها في حزام العدة. كانت جين لا تزال تمسك البطة فابتسم كول وهو يقول لها:" يمكنك أن تفلتيها الآن. لقد انتهت العملية" ـ آه .. حسنا بدّد كلامه قلقها، فأنزلت البطة إلى الرمل حيث راحت في الحال تأكل فتات الخبز بقي كول يراقبها لحظة طويلة قال في نهايتها"لم تحظي أبدا بحيوان أليف، أليس كذلك؟" هزت رأسها نفيا:"لا" نظر إلى البطة ثم إلى جين مجددا:" هذا ما جعل تصرفك مع هذه المسكينة لطيفا للغاية" نظرت إليه وقد تملكتها السعادة. برأيه، فعلت شيئا رائعا ولطيفا. وأحست برغبة تدفعها للابتسام فسألته:" أكان لديك حيوانات؟" ـ من كل الأنواع: كلاب، عصافير، قطط وحتى أفعى ـ أمي لديها حساسية على الوبر والريش ثم هزت رأسها مستغربة:" لم أفكر يوما باقتناء أفعى" أبعد نظره عنها ليراقب البطة التي كانت ترشف الماء من الوعاء. وعندما نظر إليها مجددا، ابتسم وكأنه راض عن معافاة البطة ـ ألا تخيفكِ فكرة تربية أفعى؟ ـ ليس تماما لم تتبدد ابتسامته بل امتدت إلى عينيه اللتين أشرقتا:"أنت تفاجئينني،آنسة سانكروفت ثم أشار إلى الشاطئ:" كنت ذاهبا لأتمشى، يمكنك أن ترافقيني إذا أردتِ أذهلتها دعوته ولم تعرف بماذا تفكر. ربما هو متسامح مع من يرفقون بالحيوانات. تملكها صراع داخلي وتنازعتها رغبتان: فهي من جهة تود أن تتمشى معه لكن أترى ذلك حكيم؟ يبدو أنها معجبة بكول أكثر منه بأي رجل. ألم تتعلم بعد تلك الأمثولة؟ لقد أحست بأن كول ليس مخادعا مثل طوني، لكن حتى لو كان لطيفا، فهو ليس الرجل الذي تبحث عنه. هزت رأسها على مضض:" لدي..لدي ما أفعله. لكن شكرا" شدّ على شفتيه ثم أومأ برأسه:"حسنا" استدار وسار على الشاطئ بعد عدة ثوان، راح الطائر البني يتهادى في مشيته فتبعته جين بعينيها ولاحظت أنه يتبع كول. وكلما اجتاز ثلاث خطوات أو أربع، كان يزعق وكأنه يناديه. حولت انتباهها من البطة إلى كول. كانت مشيته ممتازة تنضح رجولة فصعب عليها أن تسلخ عينيها عنه. خطر لها فجأة أنها لم تشكره على الخدمة التي أسداها إياها اليوم فوجدت أنها مدينة له. اتجهت ناحيته وعندما وصلت إلى جانب البطة التي كانت تتبعه، نظرت إليها مطولا:"كم أنت مغفلة! ألا تخجلين؟ كيف تسمحين لنفسك بأن تنجذبي إلى عينين زرقاوين وجسم جميل؟" ـ ماذا؟ أجفلت ونظرت إليه. توقف واستدار نحوها بتعبير متسائل أتراه سمعها؟ أملت ألا يكون قد سمعها ثم تمتمت كاذبة" كنت... أقول للبطة إن كلينا مدين لك" لم يجبها لأنه إما لم يصدقها إما لم يشأ أن يتهمها بالكذب في وجهها سبقت جين البطة ووصلت إلى جانب كول:"اسمع كول.." وضعت يدها على معصمه وهي تتكلم، فحدق إليها بتعبير مستغرب ـ شكرا على ما فعلته اليوم حاولت أن تبتسم ولدهشتها بدت ابتسامتها طبيعية غير مفتعلة. لم تتصور أن بإمكانها أن تبتسم بشكل طبيعي خلال الاضطراب الذي تعيشه ـ هل لي أن أدعوك على العشاء؟ من أين جاءتها تلك الفكرة؟ لم يخطر لها من قبل أن تطهو له.. أقله ليس في وعيها. لقد فكرت في أن تدفع له خمسين دولارا مقابل كل يوم حراسة، ولكن العشاء؟ ماذا لديها أصلا لتحضر الطعام؟ نظرت في عينيه ورأت الشك فيهما ـ أتريدين أن تحضري لي العشاء؟ شعرت بشيء من الخوف والترقب. ماذا لو قبل دعوتها؟ ماذا ستقدم له؟ سندويشا بزبده الفستق؟ سيكون ذلك إهانة له ـ أنا... حسنا.. ـ ظننت أنك لا تجيدين الطهو لسعها تعليقه هذا، سواء أكان يقصد أن يؤذيها أم لا. وفركت يديها محاولة أن تزيل عنهما تأثير بشرته ـ أقرّ بأنني لست ماهرة ولكن أود أن أشكرك عن اليوم أبعدت نظرها عنه وقد شعرت بالإحراج ثم أرغمت نفسها على متابعة كلامها:"... وعن يوم غد كذلك عندما تعود" ـ أنا واثق من حسن نيتك قال ذلك لكن جين كانت تنتظر أن يعتذر عن المجيء. كان جزء منها يأمل بأن يعتذر بينما الجزء الآخرالمتمرّد لم يشأ ذلك ـ لا يمكنني ! لدي موعد شعرت بوقع اعتذاره في معدتها وكأن ثورا ركلها للتو. فرغم أنها كانت تتوقع اعتذاره، إلا أنه لم يخطر له أن يكون السبب موعدا. لكنها أنبت نفسها: لم لا أيتها المرأة الغبية؟ لم لا يكون لهذا الرجل الوسيم حبيبة؟ أو صديقة؟ إذا كانت حياتك أنت عقيمة، فليس من الضروري أن تكون حياته كذلك شبكت ذراعيها وحاولت أن تبدو طبيعية وواثقة من نفسها:"لا يهم. ربما في وقت آخر" ـ ليس الأمر ضروريا آنسة سانكروفت غمرها شعور بالانزعاج، ولم تشأ أن يرفض اقتراحها، فقد سمعت ما يكفي من رفض هذا الأسبوع ولم تستطع سماع المزيد ـ بل أظنه ضروريا. ما رأيك بمساء الغد؟ حدق إليها لحظة طويلة قبل أن يمنحها ابتسامة مثيرة:" حسنا، إذا كان هذا ضروريا، فأنا أقبل الدعوة" لم انخطفت أنفاسها؟ شعرت بالارتباك والاضطراب، فأشاحت بنظرها ناحية البحر:" جيد" ـ طابت ليلتك إذا لم تستطع الحراك أو النظر إليه وتخدرت كل أحاسيسها وهو يبتعد على الرمل، لكنها انتبهت إلى أن صوت البطة راح يخفت شيئا فشيئا إذ كانت تتبع بطلها. استمرت جين تنظر إلى البحر، وهي لا تكاد تصدق ما حصل للتو. لقد ضربت موعد عشاء مع كول. ما الذي جرى لها؟ هل الكبت وخيبة الأمل المتكررة خلال هذا الأسبوع أثرا على صحتها النفسية؟ أم أن ذلك الإطراء غير المتوقع أفسد تفكيرها؟ يا الله! لقد قال إنها لطيفة جدا فتحولت إلى غبية حمقاء. كم من مرة حذرت نفسها بألا تمضي معه أكثر مما هو ضروري؟ وجدت نفسها تحدق إليه وهو يجتاز البوابة الحديدية. انتظر قليلا ريثما تدخل البطة قبل أن يقفلها مجددا. كم هذا جميل! ابتعدت قليلا واتجهت إلى المياه الضحلة. كانت بحاجة إلى المشي والتفكير. غدا يوم الجمعة أي نهاية أول أسبوع من المقابلات وكانت تظن أن في مثل هذا الوقت، لا بد أن تجد مرشحا مقبولا يمكنها أن تدرس أمره. دست يديها في جيبي تنورتها وهي تمشي في الماء. تراءى لها وجه كول فحبست أنفاسها. لم هو أفضل رجل وطئ أرض هذا المنزل منذ أسبوع؟ وهو ليس فقط أكثر الرجال الذي التقتهم إثارة للاهتمام، إنما أخبرها أيضا بما يحبه الرجال حقا لدى النساء. ومهما تكن نصيحته مهينة والحقيقة جارحة، فهو كان يساعدها. واليوم ساعدها لتنزيل الصنارة من منقار تلك البطة الغبية التي أغرمت به. أو يمكنها أن تلوم طائرا فضله عليها؟ بدا لها كول مكتفيا وسعيدا بحياته وتمنت جين لو بإمكانها أن تكون مكتفية مثله. فهي دائما تكافح من أجل طموحها وهذا أمر مرهق. كانت جين تبحث عن زوج بثقافة جيدة وأهداف مهنية تشبه أهدافها، فلماذا هي إذا منجذبة إلى كول؟ ومع من موعد كول هذا المساء؟ هل سيعود في الليلة نفسها؟ مجرد التفكير في أن هذه الأسئلة تعذبها كان يغظها. لن تفكر بالأمر! ستحضّر له العشاء مساء الغد لأنها مدينة له لا أكثر ولا أقل. فسيكون العشاء مقتضبا، أشبه بعشاء عمل. وإذا حالفها لاحظ، فسيكون قابلا للأكل. مرّ اليوم التالي كالذي سبقه، أي بشكل مريع. صدق كول في كلامه وأتى في تمام الساعة الثامنة صباحا، بصدره العاري ومظهره الرجولي وصندوق العدة. عند الظهر، دخلت المطبخ لتشرب فنجانا من القهوة قبل أن يحين الموعد التالي فسألها إن كانت تشعر بالجوع. في الواقع، كانت تتضور جوعا فأومأت بالإيجاب وما كان منه إلا أن قدم لها صحنا يحتوي على نصف طعامه. ثم خرج من المطبخ وصعد إلى الطابق العلوي ليكمل ما بدأه من عمل. رائع! الآن تدين له بغداء أيضا. لكن عشاء اليوم سيسدد الحساب بأكمله. ليلة أمس ذهبت إلى متجر يقع على بعد نصف ساعة من الشاطئ واشترت كل ما تحتاجه من أغراض.. وقررت أن تحضر للعشاء وجبة من بين الصنفين اللذين تجيد تحضيرهما الروستو والبطاطا المشوية مع أصابع الخضار. وضعت الروستو في الفرن، فعبقت الرائحة اللذيذة في أرجاء المنزل، يبدو أن الرجال الذين أتوا في فترة بعد الظهر فيما الطعام في الفرن، كانوا أكثر إيجابية إزاء فكرة الزواج. فقد ظنوا على الأرجح أنها من النوع الذي يحب تحضير الطعام لشريكه. ولكن ذلك لم يكن ضمن اللعبة التي تخطط لها. فهي إن كانت تريد شيئا من عريس المستقبل فهو أن يجيد الطهو أيضا. خطر لها وهي تخرج اللحم من الفرن أن كول يجيد الطهو. لا جين، لا تفكري حتى بهذا! ذكّرت نفسها بأن كول لا يناسبها من ناحية المهنة والثقافة كما أنه لا يشعر بأي انجذاب نحوها. ورغم أنها لم تسأله شيئا عن مستواه العلمي، إلا أنها كانت واثقة من أنه لم يكمل تعليمه وإلا لما اكتفى بعمله في الصيانة. وجين تنوي أن تتزوج رجلا طموحا، مثقفا يمكنها أن تشير إليه بفخر. كول لا يرتدي حتى قميصا! أيمكنها أن تخرج معه إلى حفلات العشاء في العمل؟ أيمكنه أن يجاري رجال الأعمال في حديث اقتصادي؟ بدا لها ذلك مستحيلا لا يمكن تصوره، فأغمضت عينها وكأنها تعتصرهما. إذا، كفّي عن التفكير فيه. مرّ العشاء وسط جو من عدم الارتياح، أقله من ناحية جين. فكول بدا مرتاحا كالعادة، إن لم نقل إنه كان سعيدا حتى إنه قال إن الطعام جيد، محاولا ألا يبدو متفاجئا بشكل يهينها. بينما كان يشرب، بدأت جين تشعر بوطأة الصمت المطبق، ليس لأنهما كانا يتكلمان كثيرا قبل ذلك، إنما لأنه ركّز نظراته عليها وهو يشرب. ـ إذا...لِم لمْ تحقق أشياء كثيرة في حياتك؟ سألت ذلك ثم أجفلت فجأة. هل قالت ذلك بصوت عال؟ حبست أنفاسها وركزت على طعامها الذي بالكاد لمسته. إن لم يجب على سؤالها فهذا يعني أنها لم تطرحه وإن أجاب، فهي لن تستغرب ردة فعله. غرزت جين قطعة من اللحم في شوكتها ووضعتها في فمها. لكنها أحست بكتلة في حلقها وخشيت أن تبتلع الطعام فتختنق به وضعت الشوكة من يدها وهي تنتظر. بعد لحظات سيزول شكّها وضع الكوب من يده، وسألها:" هل هذه مقابلة رسمية، آنسة سانكروفت؟" يا إلهي! لقد سألته بصوت عال! ما الذي انتابها لتطرح سؤالا كهذا؟ هزت رأسها نفيا ورمقته بأبرإ نظراتها:" لا.. كنت أحاول أن أفتح حديثا عاديا" ـ لا، ليس الأمر كذلك. الحديث العادي هو: كيف كان يومك؟ وليس لِم لم تحقق أشياء أكثر في حياتك؟ كان مصيبا في كلامه، وهذا ما أزعجها. لكنها استمرت في كذبتها. ـ أنت حرّ، يمكنك أن تعتقد ما تريده غرزت قطعة لحم أخرى في شوكتها محاولة أن تبدو هادئة، لكنها تمنت أن تتمكن من ابتلاعها عندما يحين وقت ذلك. وبينما كانت تمضغ، خيم الصمت مجددا ولكي تعزز موقفه وكبرياءها أخبرته عما حصل معها. ـ لقد توصلت إلى نتائج مذهلة. وكانت تقصد بذلك أنها قابلت رجلين اليوم يتمتعان بالمواصفات المناسبة وقد بديا متحمسين لعرضها ـ بعض الأشخاص متحمسون للغاية لعرضي وأنا واثقة جدا من أنني سأحصل على نتيجة مرضية كانت هذه كذبة، لا بل قصة خرافية ولكنها لم تستطع فعل شيء سوى ذلك، إذ كان عليها أن تمحو تلك التكشيرة المتشككة عن وجهه. ـ حقاً؟ كانت نظرته ثابتة، متفحصة. أومأت جين برأسها لكنها لم تستطع أن تتكلم. كان من الخطأ أن تنظر مباشرة في تلك العينين البراقتين. فقد أحست بإثارة جعلت أنفاسها تنخطف ودقات قلبها تتسارع. غير أن حسّها المنطقي صاح بها يؤنبها: احذري جنيفر! إنهما تينك العينين الآسرتين مجددا. لا تضعفي بسببهما! جاهدت كثيرا لتتمكن من إبعاد نظرها عنه، التحديق إلى عينيه لمدة طويلة خطر، فمن الممكن جدا أن ينوّماها ويؤثرا على تفكيرها لم لا تتعلم هذا؟ جالت بنظرها على المائدة وشعرت بشيء من الضبابية أن كول قال شيئا، فنظرت إليه على مضض:" ماذا؟" وضع شوكة طعامه بجانب صحنه فلاحظت جين أنه فارغ وتساءلت أين عساها سبحت بأفكارها وهو يأكل؟ ـ قلت ما رأيك لو نسبح قليلا؟ ـ تماما هل هو جاد؟ فسألت، علّها تجد الخدعة التي ينوي تنفيذها "أنت وأنا؟" كانت نظراته شاخصة إلى وجهها وكأنه يتحقق من وجود علامات الصدمة"إنه مجرد اقتراح" ـ لكننا... أكلنا لتوّنا ابتسم قليلا كاشفا عن أسنان ناصعة رائعة. ورغم أن الابتسامة كانت ساخرة أكثر منها ودودة، إلا أن تأثيرها عليها وعلى قدرتها على التفكير كان ساحقا ـ لو اقترحت عليك مسابقة في السباحة، لكان من حقك أن تخشي الإصابة بتشنجات في المعدة استند إلى الخلف في كرسيه وتابع كلامه بنظرة متحدية:" أنا أقصد اللهو في الماء ليس إلا" ـ اللهو؟ ـ هل أنت خائفة؟ تساءلت عما إذا كان يقرأ الأفكار فهذا تماما حالها، خائفة حتى الموت رفع حاجبيه متسائلا" هيا آنسة سانكروفت.إن كنت لا تثقين بحارسك الشخصي، فبمن تثقين؟" تذكيره لها وأنه وجدها غير جذابة أثار جنونها. لكنها استعادت قدرتها على الكلام:"لست خائفة وأشعر برغبة في اللهو" لكنها تذكرت متأخرة أنها لم تحضر معها ثوبا للسباحة:"آه...!" ـ ماذا؟ هزت رأسها وأجابته."لم أحضر ثوب السباحة" ـ جئت لتسكني في بيت صيفي على الشاطئ من دون أي نية في السباحة؟ فاكتفت بهزة من كتفيها" أنت تعرف سبب مجيئي إلى هنا وهو حتما ليس اللعب في الماء" - آه، نعم وقف وقال لها" أظنني رأيت ثيابا للسباحة للضيوف في إحدى خزائن الطابق العلوي، بينما كنت أصلح أحد الرفوف" ألقى عليها نظرة شاملة ولكن تعابيره لم تكن مقروءة ـ لا بدّ أن تجدي فيها ما يناسبك لم تستطع قراءة نظراته، ولكن نظرا لسوابقه، فهمتها على أنها إهانة" حسنا، سأبحث في القسم الخاص بالمحتشمين المتزمتين" زمّ شفتيه فأحست بأنه ربما يخفي التسلية التي شعر بها ولكن لما تهتم بما يفكر فيه؟ ـ حظا موفقا! قال ذلك ثم أمسك صحنه فخُيّل لها إليها أنه سيساعدها في رفع المائدة. ـ إيّاك! نظر إليها وقد بدا واضحا أن عنفها أربكه فنهضت بدورها واستدارت حول الطاولة لتأخذ الصحن منه"كان هذا العشاء عربون شكر لمساعدتك لي. والآن اذهب وابدأ...باللهو من دون أن يجيب، تراجع قليلا إلى الخلف لكي تتمكن من المرور أمامه، حاملة الأطباق والملاعق. لمَ تتأثر هكذا بقربه منها؟ ـ في الواقع، كنت أفكر بتناول المزيد قال هذا فأجفلت لدرجة أنها كادت توقع الصحن من يدها ـ كنت ماذا؟ أخذ صحنه وشوكته من يدها ووضعهما مجددا على المائدة ـ أريد المزيد إن كنت لا تمانعين، فاللحم شهي ـ طبعا. لا أمانع.. لا أظن ذلك ـ شكرا مرّ بجانبها وتوجه إلى المطبخ، بينما كانت تحدق في شوكة طعامه ذاهلة: هل قال حقا إن اللحم شهي؟ وحدقت بدهشة إلى باب غرفة الطعام التي خرج منها لتوّه. شعرت بوهن يتملكها فوضعت يديها على سطح المائدة البارد. وبعد لحظات، سمعت غناءً يصدر عن آلة التسجيل. لم تتعرف إلى الموسيقى في الحال. كانت أوبرا مغناة بلغة أجنبية. ظهر كول مجددا حاملا صحنه المملوء باللحم وبما تبقى من خضار مسلوقة ثم وضع طعامه على المائدة ونظر إليها:" هل أعيق طريقك؟" طرفت بعينيها وقد لاحظت أنه يستند إلى الطاولة بالقرب من كرسيه، فاستقامت في وقفتها:" لا...لا" عادت إلى مكانها مرتبكة وزاد ارتباكها عندما أمسك لها الكرسي لتجلس عليه ـ آمل ألا تزعجك الموسيقى، فأنا أحب الألحان الفرنسية قال ذلك وهو يأخذ مكانه، فحدقت إليه، مذهولة بما قاله:" هل هذا لحن فرنسي؟" ـ وهو الأفضل برأيي ـ آه! لم تعد تعرف بما تجيب، إذ لم يكن لديها خبرة في الموسيقى، فرنسية كانت أو سوى ذلك ـ هل هذا قرص؟ ـ نعم إنه لي أحضرت بعض الأقراص قبل مجيئك إلى هنا، لكي أستمع إليها أثناء عملي، ولكن مع المقابلات التي تجرينها... لم يكمل كلامه لكن هزة كتفيه أوضحت قصده ـ آه! وماذا عساها تقول غير ذلك؟ ـ حسنا إنها موسيقى مثيرة للاهتمام ـ ألم تعجبك؟ استندت إلى الخلف وأخذت نفسا عميقا، محاولة أن تبدو طبيعية قدر الإمكان وأن تخفي تسارع نبضاتها:"لم تقول ذلك؟" ـ لأنك استخدمت كلمة "مثيرة للاهتمام" وهي ليست إيجابية تماما بنظري. شحب لونها إزاء فرضيته تلك، فهي لم تفكر بما قالته بقدر ما فكّر هو ـ لم أقصد ذلك. أظنها موسيقى جميلة ـ هل أنت معتادة على سماع هذا النوع؟ قالت:" حسنا... أعرف أن الفرنسية لغة تحكى في فرنسا وأن هذه الموسيقى أوبرالية" بدت ابتسامته صادقة تقريبا، يشوبها بعض الهزء عند الأطراف ـ جيدا جدا، آنسة سانكروفت رغم أنها لم تكن بحاجة للإقرار بجهلها من هذه الناحية، إلا أنها لم تستطع أن تصمت:" معرفتي بهذا اللحن بالذات قد يشوبها بعض الثغرات الصغيرة" ـ حسنا لنسدّ الثغرات، عليك أن تعلمي بأنها مستندة إلى قصة لزولا. وفي هذا المشهد، يقع جندي في أيدي الألمان ويحكمون عليه بالإعدام لأنه ساعد أعداءهم الفرنسيين. وبينما هو ينتظر في رواق الموت تنفيذ الحكم، ينشد أغنية الوداع للأشجار والسماء. والمغني بصوته، يجعل من الأغنية مشهدا استثنائيا. اسمعي! ركزت جين على الأغنية بكل ذرة من كيانها وراحت تتخيل ذلك الجندي يغني من قلبه عشية إعدامه. كم كان ذلك جميلا ومثيرا للعواطف، لا سيما بعدما عرفت القصة ـ أعجبتني الأغنية قالت ذلك وقد علمت أن تعليقها لم يكن على قدر تلك المعزوفة الجميلة كانت جين تعلم الكثير عن الاقتصاد والسياسة والقضايا المعاصرة ولكن لا شيء عن الموسيقى. شعرت بشيء من الضعف، فحولت انتباهها إلى كول وسألته:"كيف.. كيف تطور اهتمامك بالأوبرا الفرنسية؟" تشابكت نظراتهما فأسرها بعينيه، وضع شوكته جانبا وسألها بدلا من الإجابة:" تقصدين كيف بإمكان عامل صيانة أن يعرف هذا القدر عن الأوبرا والموسيقى؟" شعرت بوخزه ألم عند سماع تعليقه اللاذع:" أنت تظن أنني متكبرة، أليس كذلك؟" شدّ على شفتيه وفي صمته توبيخ عنيف ـ أظن بالأحرى أن لدينا وجهتي نظر مختلفتين تمتمت وهي تخفض نظرها إلى صحنها ـ لا جدل حول ذلك رمقته بنظرة قاسية. شعره الأسود اللامع الذي نفخ به الهواء، أضفى عليه لمسة سحر رجولية، وقميصه الأبيض أبرز كتفيه العريضتين، لقد أثبت لها أنه فعلا يملك قميصا وأنه مثير بالقميص بقدر ما هو مثير من دونه ومن تحت زجاج المائدة، استطاعت أن ترى سرواله النظيف والمكوي الذي لا يخفي شيئا من قوة ساقيه الطويلتين رفعت عينيها مجددا إلى وجهه، فصدمتها مرة أخرى عيناه الزرقاوين المركزتان عليها ووجدتهما آسرتين جدا لا يمكن التحديق إليهما طويلا إن كانت تريد المحافظة على سلامة تفكيرها أشاحت بنظرها بعيدا كان عليها أن ترتب أفكارها وتنظمها. حسنا، ربما يمكنه أن يلبس قميصا مرتبا عند الضرورة وربما يعرف عن الموسيقى الفرنسية أكثر منها ولكنه ليس من نوع الرجال الذين تبحث عنهم. وهذا ليس تكبرا إنما هو المنطق ليس إلا انتهت الأغنية واستند كول إلى الخلف في كرسيه:" كان ذلك رائعا، شكرا" فأومأت محاولة أن يبدو تعبيرها ودودا. كان ضيفا مهذبا تماما، حتى ولو أحاطت بإطرائه بعض التعليقات التي جعلتها تشعر بأنها غبية ومذنبة ـ لم يكن ذلك شيئا كنت أدين لك بعشاء قالت ذلك، محاولة أن تبدو مثله ـ سأذهب لأغير ملابسي حدقت إليه من فوق حافة كوبها. يغير ملابسه؟ عم يتكلم؟ كان اضطرابها على الأرجح باديا على وجهها، فقد أضاف مستفهما:" أنسيت؟ اقترحت عليك أن تسبحي؟" وضعت الكوب مكانه"آه صحيح"! بعد التفكير وجدت أنه ما كان عليها الموافقة:" في الواقع ،كول..." ـ سأغير ملابسي قاطعها بحزم وقد مال إلى الأمام ناحيتها، سائلا إياها:" أكنت تفكرين بالتراجع؟" لم يعجبها تلميحه إلى أنها جبانة، فقررت أن تكذب:" لا، ليس الأمر هكذا..." ـ جيد، إذا نلتقي بعد نصف ساعة عند الشاطئ أرادت أن تنهض وتستمر بمناقشته حتى يصلا إلى الباب لكنه أشار إليها بأن تبقى جالسة:" يمكنني أن أخرج بنفسي" ـ ولكن.. وصل إلى الباب في ثلاث خطوات، وبعد لحظة، كان الباب قد أغلق وكول قد اختفى. العشاء معه سبب لها الاضطراب أكثر مم سببه لها أي تدقيق حسابات قامت به يوما وفي خضم اضطرابها هذا، وافقته على "اللهو" في الماء. فألت نفسها هامسة:" هل أنا مجنونة؟" بعد ربع ساعة، كانت جين تحدق إلى المرآة. من بين كل أثواب السباحة الجديدة المتوفرة في الخزانة، اختارت ثوبا زهريا من قطعتين ولكنها فكرت في سرها" واجهي الأمر جين، هذا ليس مجرد ثوب سباحة، إنه ثوب سباحة فاضح جدا" ما الذي يجري لها؟ ما الذي حدث لمنطقها وقناعتها منذ رأت عيني كول الآسرتين؟ خشيت جين أن تكون على علم بما يجري لها . لقد أوضح لها كول أنه لا يهتم لأمرها وقد جرح ذلك كبرياءها. أخذت منشفة وخرجت من الحمام لتنزل الدرج وهي تفكر في أن الثوب الأسود ذا القطعة الواحدة أكثر حشمة لكنها لا تريد الآن أن تفكر في ذلك فكبرياؤها مجروحة تماما. *** 6ـ تعطلت لغة الكلام عند الباب الخلفي، وضعت جين منشفة حول عنقها كالشال، وكان التفكير بتسرعها يزعجها كثيرا ماذا تظن نفسها فاعلة؟ استدارت واثقة من أن عليها أن ترتدي ذلك الثوب الأسود المحتشم وبعد خطوات معدودة، أرغمت نفسها على التوقف والتفكير مجددا لقد ارتدت ثوب السباحة الزهري هذا لسبب ما. فعامل الصيانة ذك، الذي يعرف كل شيء والذي دفعها بسخريته للسباحة معه، سخر منها طيلة الأسبوع وقال لها إنها باردة متزمتة. وأوضح لها تماما بأنها لا تتمتع بأي إثارة أو جاذبية حسنا، قد لا تكون قنبلة مثيرة ولكنها امرأة، تبحث عن زوج. وسخرية كول من أنوثتها زعزعت ثقتها بنفسها. لقد سئمت نظراته المتعجرفة المشمئزة وتعليقاته المستمرة حول أنانيتها وحماقة جهودها دوافعها ليست أنانية قدر ما يظن. كانت حقا تبحث عن شريك مدى الحياة، شخص تبني معه منزلا وتؤسس أسرة لم يكن بإمكانها أن تغير شيئا في رأيه بمشروعها ذاك لكن الليلة فرصتها لتغير موقفه منها ومن أنوثتها لم تكن تنوي الإيقاع بكول، إنما أرادت فقط أن تزعزعه، وتغير رأيه. إنه اختبار وستثبت لكول من خلاله أنها امرأة بكل ما للكلمة من معنى. تنوي الليلة بثوب السباحة الزهري هذا أن تثير كول وتبتعد عنه منتصرة بعد ذلك أخذت نفسا عميقا وسحبت المنشفة عن كتفيها:" حسنا كول" تمتمت بذلك وهي تفتح الباب الخلفي "هيا بنا نلهو! " وقف كول في الماء، يتأمل الليل الخالي من الغيوم والمرصع بالنجوم اللامعة التي بدت وكأنها تنافس القمر بضوئها وجمالها، تنشق الهواء النقي، منزعجا من نفسه، ماذا دهاه ليدعو الآنسة المتزمتة للهو معه في الماء؟ أغمض عينيه وكشر عندما استعاد في ذكرته ما قاله لها :إن كنت لا تثقين بحارسك الشخصي، فبمن تثقين؟ سؤال جيد بمن تثق؟ وقال في سره إن الإجابة عن ذلك السؤال يجب أن تكون هو خلال نصف الساعة الماضية، فكر في أنه بدلا من إجراء ذلك الاجتماع مع المرشح الأول لرئاسة شركة دالاس للمحاسبة وزوجته الليلة الماضية، كان عليه أن يخرج. كان بإمكانه أن يأخذ يخته إلى مكان أكثر رومانسية من دالاس ويتناول العشاء برفقة امرأة مختلفة عن تلك التي ندم على دعوتها منذ قليل كان بحاجة إلى امرأة وإلا كيف يفسر الدعوة التي قدمها الآن؟ ـ لن تأتي تمتم بذلك ولم يكن يعرف ماذا سيكون شعوره إذا لم تأت فعلا، الارتياح؟ السخط، تناهى إلى سمعه صوت الباب ينغلق لقد أخطأ في التصور فيبدو أنها ستأتي في النهاية، ومرة أخرى تسال لماذا تقدم بتلك الدعوة السخيفة؟ راح يتساءل إن كانت قد ارتدت ثوب السباحة أم أنها جبنت وقررت أن تأتي لتقول له إنها لن تشاركه اللهو نظر ناحية المنزل فرأى حركة وهي تخرج من ظلمة الشرفة إلى الدرجات الأمامية المؤدية الى الحديقة. ضوء القمر وتلك الليلة الصافية جعلا من السهل عليه رؤيتها. أمر واحد كان أكيدا: لم يتملكها الجبن رؤيتها وهي تجتاز الحديقة بكتفيها المرتفعتين أرسلت في كيانه رعشة امتدت إلى جسمه كله ـ تبا! تمتم بذلك وهو يتساءل إن كان بإمكانه أن يبقى بعيدا عنها فمما رآه حتى الآن، كانت الأنوثة تنضح منها. ولو أجرت مقابلاتها هكذا، لوقف الآن أمام عتبة المنزل صف طويل من الرجال المستعدين للزواج بها سمع صريرا فعرف أنها أقفلت بوابة الحديقة وأنها تقترب من الرمال. وعندما وصلت على بعد حوالي عشرين خطوة منه، رأى أنها ترتدي ثوبا كاشفا أكثر مما تصور أنها ستنتقي اقتربت أكثر وذقنها مرفوعة وكانت تجر المنشفة على الرمل خلفها فبدا المشهد مثيرا للغاية توقفت على بعد خطوات منه، وكان ذلك قرارا حكيما، ثم رفعت ذقنها قليلا بشيء من التحدي. لم يستطع أن دون الإعجاب بها، لكنه أخفى ذلك بنظرة ساخرة:" لم تتمكني من العثور على قسم الألبسة المحتشمة؟" ـ بل وجدته وتركت المنشفة تسقط على الرمل ووضعت يديها على وركيها وتابعت:" لكنني تجاهلته" ـ هذا واضح شعر برغبة في الابتسام إزاء ما تظهره من تحدي، لكنه قاوم ذلك. ولو علمت بما يدور في فكره من أفكار وصور مثيرة، لهربت إلى المنزل وهي تصرخ. ولكن لسوء الحظ لا يمكنه أن يبادرها بأي شيء مما يفكر فيه، لأنه حارسها الشخصي ـ ما الذي جعلك تفعلين هذا؟ هزت رأسها وعلت ثغرها ابتسامة متحدية" أنا أعمل في شركة محاسبة ولا أسبح فيها" ـ طبعا ـ حسنا أنت ملك اللهو. مذا سيجري الآن؟ سألته هذا ثم شبكت يديها خلف ظهرها فما كانت من هذه الحركة إلا أن أبرزت صدرها الناهد أكثر فأكثر طال الصمت دهرا، فكررت سؤالها وقالت:" إذا، أنا هنا جاهزة للهو" حدق إليها، فتملكته الرغبة في معانقتها. وقبل أن يفقد صوابه تماما، شعر بحاجة للابتعاد عن تلك الحورية ـ لقد غيرت رأيي آنسة سانكروفت. بدا صوته أشج أكثر مما أراده أن يكون" أظنني سأسبح... بمفردي" ما معناه: حارسك الشخصي منجذب إليك على ما يبدو، لذا قبل أن أندم، دعيني أضع مسافة بيننا. كان غاضبا من نفسه، فأدار ظهره وتوجه إلى الماء حيث اختفى بين الأمواج بكل ما أوتي من عزم وقوة لم تعرف جين كم مضى من وقت لتستوعب أن كول تركها عند الشاطئ هي وثوب السباحة الزهري. خيم الصمت مجددا ولم يكن يخرقه سوى صوت الأمواج التي تأتي لتعانق الرمال وتذوب فيها. في لحظة ما، وجدت نفسها جالسة، تدفن أصابعها في الرمال. هل يمكن أن تضعف معنوياتها أكثر من ذلك؟ كان عليها أن تجد زوجا، لطيفا وناجحا يمكنها أن تعتاد على حبه. فكيف لها أن تكمل بحثها إذا سمحت لنفسها بأن تعتقد أن لامبالاة كول تجاهها ليست سوى نسخة من شعور الرجال جميعا؟ هل خدعت نفسها بالتفكير في أنها جذابة ومثيرة؟ أغمضت عينيها وشدت قبضتي يديها في الرمل. لا! هذه الفكرة مريعة وكانت على وشك أن تبكي. بعد لحظات، بدأت تلوح أمامها فكرة أخرى. لم تسمح لعامل الصيانة ذك بأن يكون له تأثير قوي على ثقتها بنفسها؟ فهو لا يتحلى بأي طموح أو منصب. وقالت لنفسها أن تكف عن التفكير في ذلك الرجل الذي لم يكن مناسبا لها أكثر من... تلك البطة التي تبعته إلى شق الماء بجسمه الضخم ـ طائر غبي! كانت غاضبة من نفسها لأنها سمحت لكول بأن يجعلها تشك في نفسها، فرفعت نفسها عن الرمل واستدارت ناحية المنزل لكنها سرعان ما اصطدمت برجل ضخم كبير. صرخت وهي تتراجع إلى الخلف. وقبل أن تسقط أرضا، أمسك بها أحدهم من ذراعيها، مثبتا إياها في مكانها تملكتها غريزة الدفاع عن النفس فجاهدت لتحرر نفسها من قبضة الرجل وتنجو بروحها لكنها لم تستطع أن تفلت منه. فتحت فمها لتصرخ لكنها رأت تلك اللحظة أن من يأسرها هو الشخص الذي أسر أفكارها منذ لحظات. ـ أنت! كيف... كيف تجرأت.. هزت رأسها محاولة أن تستوعب أن كول لم يعد يسبح بعيدا. إنما هو واقف أمامها. يأسرها بيديه الحديديتين. كان الماء يقطر من وجهه وصدره وشعره، مبرزا تقاسيمه وبنيته العضلية. وصرخ صوت في داخلها: كيف تجرأت أن تخطف أنفاسي بهذا الشكل؟ شد على فكه منزعجا، فقررت أن تهاجمه أولا:"ماذا تظن نفسك فاعلا؟" ـ اصطدمت بك ـ ظننتك تسبح ـ كنت أسبح راقبها بعينين ثابتتين وغامضتين:" ولكن الآن انتهيت" وشعرت بكلماته تلسعها فراحت نبضات قلبها تتسارع حتى كادت تسمعها تدوي في أذنيها. أرادت أن تبدو قاسية عديمة الصبر مثله، فقررت أن تتحول لى صخر:"حسنا.. هذا وا..." وقبل أن تتمكن من إكمال جملتها، دنا منها على حين غرة وسحق جسدها بجسده المبلل ضاع الكلام بينهما وابتدأت لغة الجسد والإحساس. كانت أحاسيس جديدة عليها لم تختبرها من قبل. أخذت نفسا عميقا وتنشقت رائحته الممزوجة بشذا البحر، فأحست بالدوار يتملكها تراجع قليلا عنها وهمس في أذنها لكنها لم تستطع أن تفهم ما كان يقول لها ـ همم؟ سألت ذلك بصوت حالم وهي تتشبث به، مستسلمة. فتمتم:" قلت إن عناقك بحاجة لتمرني قبل أن تجري التصفيات بحثا عن عريس المستقبل" *** 7ـ من يطفئ النار؟ جلس كول إلى مائدة المطبخ في بيته الصغير المؤلف من غرفتين وراح يحدق إلى فنجان القهوة وقد فرغ نصفه. لم يستطع أن يبعد تفكيره عن الليلة الفائتة وتصرفه الجنوني. ما الذي دفعه للعودة إلى ذلك الشاطئ؟ لماذا اقترب من جين وعانقها؟ جددت الذكرى تلك المشاعر فيه، فوضع الفنجان بعنف على الطاولة كابحا الأحاسيس التي تملكته جافاه النوم طيلة الليل وراح يشتم نفسه ويتساءل عما دهاه ليقول لجين إن عناقها بحاجة إلى التمرين، فقد كان من الروعة بحيث يمكنها أن تعطي محاضرات في هذا المجال. أحس بالذنب وأمضى ساعات يتصارع مع عقله ويتكهن بالسبب الذي جعله ينطق بكذبة كهذه. ولم يعثر على الجواب إلا قرابة الفجر...، كان ذلك مجرد محاولة لوضع مسافة بينه وبين امرأة مخططة، شعر بانجذاب غريب وقوي نحوها لقد عانقها، فأرسل عناقها نارا آكلة في كل عصب من جسمه، لكنه سرعان ما تذكر حب والده لأمه، ذلك الحب الذي لا أمل منه، فشعر بالانكماش والرفض. شعر وكأنه بحار غرقت سفينته. لم يؤثر فيه عناق أي امرأة كما حدث معه اليوم... أو بالأحرى لم يؤثر فيه أي عناق إطلاقا. لم لا تزال ذكرى جنيفر سانكروفت في ذهنه؟ ولماذا ترفض تلك المشاعر التي أحسها معها أن تتلاشى؟ كان ذلك لغزا مربكا ولكي يبعد تفكيره عن عناق امرأة ما كان يجدر به أن ينجذب إليها، فتح الكمبيوتر المحمول وقرر أن يعمل على تحليل الجداول الخاصة بنواب الرئيس الثلاثة في شركة دالاس للمحاسبة. كان قد أنهى الجدول الأول العائد لملفين سيلز، نائب الرئيس الذي تناول العشاء معه ومع زوجته ليلة الخميس، وهو رجل ذكي وهادئ وجاد. ثم انتقل إلى جدول جنيفر سانكروفت. وكان قد دون في قائمة " المشاكل المحتملة" أنها عملية جدا، لا تثق بغرائزها ومجردة من العاطفة مجردة من العاطفة؟ بعد ذلك العناق؟ أطلق شتيمة خافتة ما باله لا ينسى ذلك العناق! أخذ رشفة من قهوته الباردة ثم كتب" مهووسة بمهنتها" هل ذلك سيء؟ ما كان ليكتب ذلك عن ميلفين لو كان عازبا؟ فملفين لديه زوجة تهتم بأولاده الثلاثة بينما يعمل هو أربعين إلى ستين ساعة في الأسبوع ويسافر لحضور الاجتماعات والمؤتمرات. محا ما كتبه ودون في الخانة:" تهتم كثيرا للحيوانات" لم يكن لذلك علاقة بالعمل ولم يدونه حتى في الخانة المناسبة ولكن منظرها على الشاطئ وهي تحمل تلك البطة المرتبكة، جعله يبتسم. لقد كانت خائفة جدا ولكنها مصممة تماما على المساعدة وهذا دليل شجاعة، وهو أمر ضروري لأي قائد صالح. ثم كتب "تطهو الروستو بشكل ممتاز" ربما لم تقر بأنها ماهرة في الطهو وربما لم تكن تطهو كثيرا ولكن ما حضرته كان جيدا فقد بدا من الواضح أنها تنشد الكمال في ما تفعله ولا تدعي شيئا تجهله هل هذا نقص؟ وهل عليه أن يدونه في خانة الحسنات أو خانة السيئار؟ الم يكن هو مثلها من نواح كثيرة؟ "فتاة ظريفة" استند إلى الخلف في كرسيه وراح يحدق في الكلمتين اللتين طبعهما مذا دهاه؟ وإذ غضب من نفسه لهذا التعليق الغريب غير المحترف، محاه في الحال هل فقد صوابه؟ عليه أن يعود إلى العمل: عليه أن يقيم الإيجابيات والسلبيات، لا أن يفكر في الحب أكمل الطبع على الكمبيوتر "ابتسامة لطيفة". تبا! ما خطبه اليوم؟ هل ابتعاده عن النساء في الفترة الأخيرة وتفاجؤه برقة عناقها قضيا على سلامة تفكيره؟ من الأفضل ألا يكون ذلك حبا. حب؟ من أين جاءته هذه الفكرة؟ ما يشعر به لا يمكن أن يكون حبا. هو لا ينوي إطلاقا أن يهب قلبه لامرأة أنانية لا تهتم سوى بمصلحتها الشخصية لو كانت الآنسة سانكروفت تعلم أنه ج.س بارينجر العجوز، لارتمت في أحضانه في الحال، فهو يعرف كيف تتصرف أمثلها من النساء، ورغم أن فكرة وجودها في حضنه أطلقت في كيانه رعشة لم يكن يرغب فيها، الا أنه لم يكن ينوي أن يمشي على خطى والده ويقترف الخطأ الذي ارتكبه قبله قرع على الباب سرقه من أفكاره، فنظر مجفلا إلى ساعة يده. إنها الثامنة صباحا، واليوم نهار السبت ـ مهلا لحظة! هتف بذلك وقد بدا انزعاجه من أفكاره المشوشة واضحا جدا. هز رأسه، محاولا تبديد مزاجه السيء، ففي النهاية لا تستحق جنيفر سانكروفت منه كل ذلك التفكير ـ من الطارق؟ -هذه أنا! عبس وهو يحدق إلى الباب، وبعد لحظة من التردد، أغلق جهاز الكمبيوتر وغطاه بالصحيفة ثم نهض من مكانه واجتاز الغرفة ليفتح الباب كانت تقف هناك قلقة وقد سرحت شعرها بيدها وأقفلت الزر الأعلى من قميصها باليد الأخرى ـ أنا في ورطة قالت ذلك وقد بدت مضطربة ـ يبدو أن روثي أعطت أحدهم موعدا اليوم. أتى رجل للتو وكنت لا أزال في ثياب النوم. استأذنت منه لآتي إلى هنا و...علي أن أجري المقابلة، لكن..لكن أفضل ألا أكون بمفردي مررت يدها بعنف في شعرها، فسقط منه المشبك وعندما انحنت لتلتقطه، كان كول قد سبقها إليه، واستقاما سويا في وقفتهما ليعيد إليها المشبك بعد ذلك ـ شكرا! تمتمت بذلك محاولة ألا تلتقي بنظراته. فعرف أنها تتجنب عينيه، ذلك أنها حتى تلك اللحظة لم تنظر مرة إلى وجهه. ولكن هل يمكنه أن يلومها؟ فبقدر ما عذبته ملاحظاته المزعجة عن عناقها، بقدر ما طعنتها في الصميم. وهو بذلك يدين لها باعتذار ـ علي العودة. هل ستساعدني أم لا؟ شعر بأنه نذل حقير، فأومأ موافقا:" بالطبع! سأحضر العدة لمحة الارتياح التي غيرت ملامحها أثرت فيه أكثر مما يجب ـ شكرا قالت ذلك وقد نظرت أخيرا في عينيه لكن تلك اللحظة كانت سريعة فما لبثت أن استدارت وتوجهت إلى الشرفة عائدة من حيث أتت، لكنها سرعان ما نظرت مجددا إلى الخلف مترددة:" ما كنت لأطلب منك ذلك لو وجدت أمامي حلا آخر دس يديه في جيبي بنطلونه الأماميتين وقال:" اسمعي جين.. أنا آسف وشأن التعليق الذي قلته بشأن..." ـ من حقك أن تبدي رأيك قاطعته لتقول ذلك بعينين قلقتين جعلتاه يشعر بأنه ابتلع زجاجا مسحوقا ـ نعم لكن.. انغلاق الباب ورؤيتها تبتعد جعلاه يدرك بأنها لا تنوي مناقشة الموضوع. جنيفر سانكروفت امرأة فريدة ومحبطة أطلق شتيمة خافتة، واستدار ليبحث عن عدته. دخلت جين غرفة الجلوس لتوافي ذلك الرجل الذي زارها في وقت غير متوقع. ـ سيد ماك دوموت. أنا آسفة، فمساعدتي اضطرت للرحيل فجأة ولم أكن أعرف أنها أعطت مواعيد خلال العطلة الأسبوعية أدعى ماك دونيت، كيفين ماك دونيت! صحح لها الاسم وهو ينظر من فوق كتفه إليها لم يكن يبتسم شأنه شأن كل من سبقه، وانزعاجه زاد من ثقتها بنفسها ـ نعم سيد ماك دونيت بالطبع جلست على الكرسي، محاولة أن تبعد تفكيرها عن كول. فالتأمل في بتصرفها الوضيع في الأمس معه كان يقضي على تماسكها بدأت تدرك على مضض بأن ما تحبه في الرجل ليس الشيء نفسه الذي تحتاجه، وكان كول مصيبا عندما نبهها إلى أن الرجال الناجحين لن يقبلوا بمشروعها هذا ولن يوافق معها سوى أقلهم حظا ونجاحا، وهم أشخاص لم تكن لهم أي احترام مع ذلك، كانت تأمل بأن تجد شخصا، أو ثلاثة أشخاص مناسبين وموافقين قبل مساء الثلاثاء، وهو الموعد الأخير الذي حددته للجولة الأولى من المقابلات أما أيام الأربعاء والخميس والجمعة من الأسبوع التالي، فكانت مخصصة لإجراء مقابلات معمقة مع الرجال الثلاثة الدين بلغوا التصفيات ـ نعم، أظنني مهتم بالأمر. فأنا في الواقع أفكر في الاستقرار. أجفلت جين عند سماع ذلك وقد كانت مستغرقة في أفكارها:" عفوا؟". رفعت جين نظرها إلى المتحدث. في البداية، شعرت بفراغ في ذهنها رافضة أن تستوعب ما قاله. بدا لها أنها لمحت في عينيه شيئا من الاهتمام، لم تره لدى الآخرين. فأحست باضطراب شديد وغثيان لم تستطع وصفه، فابتلعت ريقها بصعوبة. انفتح الباب الأمامي فتحول نظر جين تلقائيا نحو كول الذي دخل وغلق الباب خلفه. كان عاري الصدر وعلى خصره حزام العدة. وكانت كل حركة منه تسبب باحتكاك الأدوات التي يحملها، فبدا لها رجلا قويا ينضح رجولة. شخصت نظراته لحظة إليها، فشعرت بالحرارة تغزو جسمها، ثم حول بصره إلى الرجل الجالس برفقتها ـ آسف على التطفل! حدق السيد ماك دونيت بكول من فوق كتفه، وأجلى صوته وبدا واضحا أنه تشنج فجأة كانت جين منزعجة ومتألمة لما حصل في الأمس، لدرجة أنها أرادت أن تكره كول. ولكن ما أن دخل حتى وجدت صعوبة في التقاط أنفاسها. كما أن الجو المتوتر الذي ساد في الغرفة أصابها بالدوار، وكل ما أمكنها فعله هو الجلوس هناك، مشتتة الأفكار، منزعجة لضيق نفسها ـ من.. من هذا؟ سألها ماك دونيت ذلك بصوت يشوبه القلق، فأجابته بلهجة مرتجفة:" لا تقلق كيفن! إنه فقط عامل الصيانة" وبنظرة مكرهة نحو كول، قالت له :"تفضل لن يزعجنا" تمنت فقط لو كان ذلك صحيحا فهو فعلا يزعجها حتى أن ملاحظته القاسية في الليلة الفائتة لم تقلل شيئا من سحره وجاذبيته ـ نعم سيدتي وعندما استدار كيفن مجددا نحو كول، هدده بصمت كما لو أنه يقول له حذار أن تقترب منها ـ مرحبا! ألقى كيفن التحية على كول الذي أومأ له مكشرا قبل أن يتجه إلى مؤخرة المنزل. وقبل أن يختفي، أضاف بوضوح:" نادني إذا احتجت لأي شيء آنسة سانكروفت" عندما نظر كيفن مجددا إلى جين، بدا متوترا ويبدو أن اقتباس كول دور طرازان قد فعل فعله شعرت بالأمان بفضل تمثيلية كول، فشبكت ساقيها وركزت على الرجل الجاد الجالس إزاءها ـ اعذرني على المقاطعة ولكنني امرأة تهتم كثيرا بحسن إدارة الوقت. ولو أن رأيت شيئا يجب أن ينفذ، فإنني لا أؤجله بأي شكل، حتى ولو سبب ذلك بعض الإزعاج أومأ ماك دونيت وقد بدا أقل توترا بعد رحيل كول:" أنت محقة" قال ذلك ثم مال إلى الأمام ووضع يديه على ركبتيه وراح تخبرها عن عمله كمدير في مركز دالاس التجاري. سمعت جين بعض النتف من الحديث وكلمات مثل "تسويق" و "حاجات موسمية". فخشيت أن تكون قد سهت عن الموضوع، لذلك اكتفت بالابتسام ـ هذا مثير للاهتمام! قالت ذلك فأزعجها أن تتذكر ما قاله كول على هذه العبارة. غير أنها نبذت تلك الذكرى من ذهنها وحاولت التركيز ـ أخبرني عن نفسك، كيفن، عن هواياتك واهتماماتك بادرته بهذا الطلب وهي تجاهد لكي تبقي أفكارها مركزة مع هذا الرجل فهو في النهاية لا يزال في ضيافتها ويبدو مهتما لم يكن سيء الشكل.. طويل القامة، نحيل الجسم، وبني الشعر. أنفه رفيع وابتسامته لطيفة رغم أنها ليست مرحة، ربما بسبب اضطرابه. أشفقت جين عليه وحاولت أن تجده جذابا كان لا يزال يتكلم عندما دق جرس الباب عريس آخر؟ تنهدت جين مكتئبة، إذ خشيت أن تكون روثي قد أعطت مواعيد طيلة النهار مدت يدها لكيفن وسألته ن كان مهتما بالعودة مجددا من أجل مقابلة أكثر تفصيلا نهار الأربعاء القادم. وعندما وافق على اقتراحها، رافقته إلى الباب، شارحة له أن اللقاء الأخير سيستغرق وقتا أطول. وعندما غادر، استقبلت جين الرجل الثاني، محاولة أن تبدو سعيدة. فعلى الأقل، انتقل رجل إلى مرحلة التصفيات، رغم أنها لم تكن فرحة تماما، إنه ذكي وحسن الشكل، يود الاستقرار والإنجاب ولم يكن لديه أي مشكلة في أن تكون المرأة هي المعيل الأساسي في المنزل وكل تلك النقاط كانت تعمل لصالحه. ولكن من المؤسف أنها لم تشعر بأي انجذاب نحوه عند الساعة الخامسة من بعد الظهر، انتهت المقابلات. ونظرا لاقتراب انتهاء المهلة، شعرت جين بالاضطراب والتعب وعدم التركيز. كان كيفن ماك دونيت، أول الذين قابلتهم اليوم، أفضل مرشح حتى الآن. ولكنها لسبب ما، لم تكن سعيدة كثيرا بوصول أحد إلى مرحلة التصفيات عند رحيل آخر رجل لليوم، غادر كول المنزل. فراقبته جين يبتعد وهي تشعر بمزيج من الارتياح والكآبة، لكنها لم تشأ أن تحلل ذلك. كان الإرهاق يتملكها، فأعدت سندويشا من فضلات الروستو الذي حضرته في اليوم السابق ووقفت أمام مائدة المطبخ، تأكل بغير شهية. لاحظت أن شريط الأوبرا الفرنسية لا يزال أمام آلة التسجيل، فوضعته في الجهاز. وعندما أنهت طعامها، ملأ الصوت الأوبرا لي سكون المكان. بعد ذلك وضعت كوبها وصحنها في الجلاية الكهربائية وصعدت إلى الطبق العلوي لتستحم وتخلد إلى النوم لكن أملها في الحصول على ليلة هانئة حالمة كان ضئيلا جدا. انتهت أغاني الشريط، فبدأ مجددا وبدا أنها ضغطت على زر التكرار من دون انتباه. وتماما كما خشيت، لم تجد إلى النوم سبيلا، لا سيما وأن تلك الموسيقى الفرنسية راحت تتكرر وتتكرر، مذكرة إياها بصوت كول. لماذا لم تستطع النزول إلى المطبخ لتطفئها؟ يوم الأحد بعد الفطور، كانت مرهقة والسواد باديا تحت عينيها. أخذت دفتر الملاحظات وراحت تراجعه، راجية أن تكون قد أغفلت عن رجل يرضى بعرضها واستوفى شروطها وبعد ساعتين من التدقيق والتمحيص في تلك المعلومات المفصلة التي دونتها، اعترفت بأنها لم تمر مرور الكرام على أي من المتقدمين "للوظيفة" ولم تغفل عن أي منهم أعادت الأوراق المخيبة للآمال إلى حقيبتها وقررت أن تأخذ قسطا من الراحة كانت بحاجة إلى الراحة وللقيام بنشاطات تعيد إليها حيويتها، فلا يزال أمامها يومان كاملان من المقابلات وعليها أن تكون واعية ومرتاحة ومركزة ـ يا رب امنحني بعض الخيارات! تمتمت بذلك وهي تنظر إلى السماء، في الأمس، بدا لها كيفن ماك دونيت خيارا جيدا. ولكن الآن، فكرة الزواج منه ترعبها جدا، فأملت أن تكون ردة فعلها هذه نتيجة طبيعية للإرهاق الذي تعانيه وإذ اتخذت قرارها ارتدت البكيني الزهري اللون، ولو كان كول على الشاطئ، فإنه لن يستطيع أن يتجاهل تلك الآنسة الزهرية ـ لن أدعه يسيطر على عواطفي وانفعالاتي! خرجت من المنزل ونزلت الدرج شامخة الرأس، لم تشأ أن يرى كول في وقفتها أي لمحة خوف أو ارتباك حاولت أن تحدد مكانه بطرف عينها لكنها لم تجده. أفضل! واتجهت ناحية البوابة الحديدية وهي تفكر بالاسترخاء والسباحة تحت أشعة الشمس بعد لحظات، كانت جين متمددة على بطنها تلتقط أشعة الشمس خيوطا ذهبية دافئة. أغمضت عينيها واسترسلت في الإصغاء إلى صوت الأمواج وقد تملكها النعاس، وهل هذا غريب؟ فهي لم تنم إلا لحظات متقطعة منذ جاءت إلى هذا المكان منذ أسبوع تقريبا وذنب من هذا؟ دفنت وجهها في ذراعها، محاولة إبعاد تفكيرها عن كول وتركيزه على الشمس الدافئة وصوت المياه المنعشة سمعت جين صوت بطة فأجفلت وتفاجأت لأنها غطت في النوم ـ أنا آسف! عرفت على الفور هذا الصوت الذكوري وأدركت من مصدره أن كول يقف فوقها تماما. اعتذاره الهادئ أربكها "على ماذا؟" واستدارت لتحدق إليه ـ لقد أيقظتك البطة. رأيتك تقفزين من مكانك. كان يرتدي ثيابا أقل من العادة، اقتصرت على سروال أسود قصير وكانت بشرته تلمع بللا، وهذا المظهر كان فعلا مثيرا للارتباك. تسارعت خفقات قلبها، فغضبت من نفسها لتجاوبها، وفي خطوة منها للدفاع عن النفس، أغمضت عينيها واستدارت ناحية البحر. ـ إذا رحلت أنت وبطتك، فيمكنني النوم مجددا. ـ هل وضعت على جسمك كريما واقيا من الشمس؟ ـ بالطبع، فبغض النظر عما تظنه، أنا لست غبية ـ بشرتك فاتحة اللون. احترسي. ـ شكرا أمي تعالى زعيق البطة مجددا في الهواء، فقالت جين:" أنا لا أتكلم معك أيتها البطة، بل مع تلك الإوزة الكبيرة المزعجة" ـ إذ كنت تقصدينني أنا، فعليك أن تغيري الكلمة، لأن الإوزة أنثى وليست ذكرا. قال ذلك بضحكة ساخرة خافتة، فلم تستطع جين كبح نفسها واستدارت ناحيته رافعة حاجبها. لقد طفح الكيل! ـ ارحل، هيا ارحل الآن اختفى تعبير التسلية عن وجهه:" كان عليك أن تدعيني أدهن المزيد من الكريم الواقي على ظهرك أطلقت تنهيدة عنيفة متذمرة:" حتى لو احترق ظهري، لن أدعك تقترب وتطفئ ناره. مفهوم؟" ـ مفهوم تماما! قال ذلك، لكنه لم يتزحزح من مكانه ـ أليس لديك عمل تقوم به؟ ـ إنه يوم إجازة ـ خذ إجازتك في مكان آخر علا صوتها طبقة كاملة وذعرت عندما اكتشفت أنها تركته يؤثر فيها مجددا. لم لا تستطيع أن تتمالك نفسها أمام هذا الرجل؟ هز كتفيه مسمرا نظراته عليها" كان من المفترض أن يكون أمس يوم إجازة أيضا" شعرت جين بطعنة من الذنب:" كم تتقاضى في اليوم؟ سأعوض عليك يوم البارحة" ـ لا أريد مالك آنسة سانكروفت فصرخت في داخلها: ماذا تريد إذا؟ أن تثير جنوني؟ لكنها عندما سألته، اكتفت بالجزء الأول من السؤال ـ ماذا تريد إذا؟ عندما سألته هذا شعرت بشيء من الانزعاج لما يتضمنه ذلك من تلميح ومعنى لمع شيء في عينيه، لكن ذلك حصل بسرعة كبيرة لم تعرف ما معناه ـ لا أريد شيئا منك، ولا شيء ـ بل أظنك تريد شيئا. أنت تريد أن تقضي على ثقتي بنفسي علت التكشيرة وجهه وبدا مذهولا فعلا. بينما تابعت كلامها متحدية إياه:" لن تقضي عليها أؤكد لك، ولمعلوماتك انتقل أحدهم إلى مرحلة التصفيات. وهو رجل مذهل! وهذا ليس بكل شيء فأنا أتوقع أن أعثر على رجلين آخرين قبل يوم الأربعاء جلست منتصبة وتابعت معركة التحدي: " ما رأيك بهذا؟" حدق إليها وكأنه يفكر في كلامها. وبعد لحظة طويلة قال:" بما أن غبيا واحدا يولد كل دقيقة، فإنني لا أستبعد عثورك على ثلاثة" وعندما أنهى كلامه سار نحو الماء. صدمت جين بكلامه وهدوئه وشدت على قبضتيها وهي تحدق إليه. وصرخت به وهو يغطس في المياه:" إهاناتك لا تزعجني! لا ترحل عندما أتكلم معك" أمرته بذلك ولكنه كان قد أصبح تحت الماء، بعيدا عنها. تهادت البطة حتى وصلت إلى طرف الماء وراحت ترفرف بجناحيها راغبة في اللحاق به. ـ بطة غبية، كيف تحتملين البقاء بجانب نذل متعجرف كهذا؟ مررت يدها المرتبكة في شعرها ثم نهضت وأمسكت منشفتها. لقد حان الوقت لكي ترتدي ثيابها على أي حال، فآخر ما تحتاجه هو أن تحرقها الشمس فيهزأ منها أكثر. خلال النهار، بدا لها كول في كل مكان، يقطع حبل أفكارها بينما كانت تجلس على الشرفة تراجع بعض استراتيجيات المساعدة في إجراء المقابلات. لماذا تعذبها ذكرى عناقه إلى هذه الدرجة بينما وجده هو ناقصا ويحتاج للتمارين؟ كانت مقابلات يوم الثلاثاء على وشك أن تنتهي ومنذ غطس كول في الماء يوم الأحد، رفضت التكلم معه. ورغم أنه ظهر عدة مرات عند الباب يومي الاثنين والثلاثاء، متقمصا دور الحارس الشخصي الشرس، إلا أنها بقيت غاضبة وممتعضة كان أداؤه مقنعا جدا بالنسبة إلى الزبائن وقد عرفت جين ذلك من شحوبهم عندما يدخل كول كأنه يدافع عن ممتلكاته الشخصية. غير أنها كانت ترى أن تحت قناع التمثيل ذلك، لم يكن حارسها الشخصي المزعوم يهتم مثقال ذرة لأمرها يوم الاثنين، انتقل رجل آخر إلى المرحلة النهائية. كان مصور الأعراس جيم ويمر في سن جين ويحب لعبة كرة المضرب. لم تكن جين تعلم شيئا عن هذه اللعبة ولكن ربما تصبح كرة المضرب من الهوايات المحببة إليها في يوم ما كان جيم بهي الطلعة، أشقر الشعر، بني العينين. أما ابتسامته فبدت ساخرة ولعلها مربكة بعض الشيء لكنها واثقة من أنها ستعتاد عليها كان جيم ويمر رجلا ضخم الجثة ولكنه لا يفوقها طولا بكثير. ونظرا لعمله مع الناس، يتمتع بقدرات تواصل مذهلة وبشخصية محببة. ورغم أنه لم يتأنق في ملبسه لهذه المقابلة، إلا أنه كان مرتبا ونظيفا إذاً في الإجمال، كان يتحلى بالمواصفات اللازمة يوم الثلاثاء لم يكن جيدا تماما. عند الساعة الرابعة، شعرت جين بألم في رأسها، فقد شهدت يوما سيئا التقت فيه رجالا سيئين. وبدأت تفقد الأمل بالعثور على الرجل الثالث الذي كانت بحاجة ماسة إليه عندما غدر الرجل الذي أتى عند الثالثة والنصف، أطلقت تنهيدة يائسة سمعت هدير سيارة جديدة فعرفت أن آخر رجل لليوم وصل. أغمضت عينيها متوسلة الله أن يكون مناسبا ثم ضبطت تعابيرها لكي تبدو واثقة ومتفائلة وعندما فتحت الباب، ابتسم لها رجل طويل القامة وقوي البنية للمرة الأولى في هذا اليوم، لم تشعر برغبة في صفق الباب في وجه الواقف أمامه. عرّفت عن نفسها واتجهت إلى الأريكة، فعرّف بدوره عن نفسه: فان أليسون، دكتور فان أليسون. طبيب تخدير في أواخر الثلاثينات من العمر وقال لجين إنه سئم تخدير الناس ويريد أن يجرب تأليف القصص قل ممازحا:" أريد أن أبقي الناس يقظين، من باب التغيير فقط" فوجدت جين نفسها تبتسم من كل قلبها وفي سياق المقابلة، أخبرها الدكتورأليسون أنه يهوى الطهو ويحب الأولاد ولا يمانع في أن يهتم بهم طالما أنه سيكتب قصته في المنزل. وهذا ليس كل شيء، فهو أيضا يملك ما يكفي من مال ليتقاعد باكرا ويفعل ما يحلو له حتى أنه كان متحمسا لفكرة االزواج! بالكاد استطاعت جين أن تصدق الحظ الذي حالفها لقد عثرت أخيرا على المرشح الثالث لمرحلة التصفيات النهائية وهو رجل وسيم، أنيق ومتحضر، يتمتع بنفس الرؤية التحليلية التي تتحلى هي بها في ما تخص العلاقات وعندما غدر عند الخامسة والنصف، شعرت جين بالارتياح وقد اطمأنت على فلسفتها ونظريتها التي تدافع عن الزواج بين أصحاب الأهداف والمصالح المشتركة. استندت إلى الباب وهي تبتسم" إذا كول؟ لا يمكنك أن تنعت دكتور أليسون بالغبي!" 8ـ التصفيات النهائية ابتلعت جين قرص أسبرين، محاولة بذلك القضاء على الصداع الذي بدأ يؤلمها كثيرا وقد بدأت تكتشف أن إجراء مقابلة لعريس انتقل إلى مرحلة النهائيات أمر مثير للتوتر كان كيفن ينتظر في الخارج على الشرفة، بعد أن وصل على الموعد بالضبط، عند الساعة العاشرة تماما.كان يرتدي سروالا قصيرا وقميصا رياضي فبدا في مظهره هذا ظريفا وأقل تحفظا مما كان عليه يوم السبت اقترحت عليه أن يتمشيا قليلا على الشاطئ ويتحدثا. وبينما دخلت هي إلى المنزل لتأخذ الدواء، بدأ هو ينزع جاربيه وحذاءه أملت أن يكون اليوم عفويا ومسليا لكنه لم يكن كذلك، فهي وكيفن ليسا منسجمين كثنائي. أرادت فعلا أن تشعر بالانجذاب نحوه. لقد حاولت ولا تزال تحاول فما المشكلة إذا؟ نظرت إلى ساعة يدها فوجدتها الثانية والنصف. تنشقت الهواء العليل لتقوي عزيمتها ثم خرجت إلى الشرفة أجبرت نفسها على الابتسام وقررت أن تمنح كيفن ساعة إضافية. سيكون التنزه على الشاطئ والتحدث عن أي شيء يخطر لهما، أشبه بامتحان نهائي له. ولم تكن تعلق آمالا كبيرة على مرشح الزواج هذا ولكنها رفضت أن تكون متشائمة، فمن يدري ما قد يفعله كيفن ليذهلها... على الصعيد الفكري طبعا تأبطت ذراع كيفن ليذهلها واتجها نحو الدرجات المؤدية إلى الحديقة. لاحظت بطرف عينها أن كول على مقربة منهما. وبعد لحظة، لفت سمع كيفن صوت مطرقة، فرأى كول بجانب كوخه ـ ماذا يفعل؟ سأل كيفن ذلك وقد بدا عدم الارتياح على وجهه. لكن جين لم تلمه، فظهر كول العريض وعضلات ذراعيه المفتولة كانت دليلا دامغا على قوته الجسدية. ورغم أن كيفن طويل القامة، إلا أن كول كان أقوى منه وأضخم. ناهيك عن المطرقة التي في يده. ـ إنه عامل الصيانة ليس إلا نظرت جين بقسوة إلى كول، منزعجة للرعشة التي سرت في جسمها عندما رأته سأل كيفن، من دون أن يبعد نظره عن كول:" إنه رجل غريب، ألا تظنين هذا؟" ـ تجاهله! ـ هذا صعب كان عليها أن توافقه الرأي، لكنها أمسكت لسانها ـ ذلك اليوم، رمقني بنظرة وكأنه يود لو يقتلني ـ آه، إنه ينظر هكذا إلى الجميع وشدت جين على ذراعه، محاولة توجيه انتباهه إلى البوابة التي كان على وشك بلوغها:" ها نحن" تمكن كيفن من سلخ نظره عن كول في الوقت المناسب قبل أن يصطدم بالبوابة الحديدية. وعندما مد يده ليفتحها، التقت نظرات جين بعيني كول، فحول بصره إلى صندوق العدة. لقد رآهما لأنه توقف عن العمل ونظر ناحيتهما. فجأة خطر لجين فكرة، فوضعت يدها على يد كيفن لتمنعه من فتح البوابة" أظن أن علينا أن نعانق بعضنا" ـ ماذا؟ حدق إليها وكأنه واثق من أنه أساء الفهم ـ علينا أن نعانق بعضنا، لنرى إن كنا منسجمين من هذه الناحية. قالت ذلك ثم رفعت ذقنها وهي تبتسم:" ألا ترغب بذلك؟" ـ بلى... بالطبع! وأفلت يده عن الباب وأمسكها بكتفيها، مقتربا منها. استدارت جين لترى ما كان كول يفعله فوجدته لا يزال ينظر إليهما. جيد! رفعت ذراعيها لتطوق عنق كيفن وأغمضت عينيها. الطريقة التي جذبها بها كيفن إليه وهو يعانقها جعلتها تشعر بأنه أكثر من راغب في التجاوب معها، بقدر ما تسمح له هي بذلك. وطبعا لم يجد كيفن عناقها عديم الخبرة كما وجده كول. ولكن لسوء الحظ لم يؤثر فيها عناق كيفن إطلاقا. واللذة الوحيدة التي شعرت بها أثناء معانقته، كانت لذة الإنتقام من كول. قررت أن تضع حدا لعناق الثأر هذا قبل أن تفلت الأمور من يدها وتضطر لطلب النجدة من الرجل الذي تنتقم منه، فأنزلت ذراعيها عن كتفيه. وإذ ضغطها قليلا إلى صدره، همست له:" هذا يكفي... شكرا" حافظت على ابتسامتها وتأبطت ذراعه. لكن كيفن لم يتحرك أو يتكلم، بدا مخدرا بعض الشيء، ففتحت البوابة بنفسها. تشبثت بمرفقه بكلتي يديها، ثم حثته على اجتياز السياج الحديدي. هل يبدوان كثنائي عاشق؟ وما الفرق في هذا؟ ولماذا تمثل هذا المشهد الغريب أمام رجل، أصرت على أنه لا يؤثر فيها مطلقا؟ لم تحبذ السؤال الذي راودها وفضلت أن تتجاهله وغاصت في عيني كيفن وهي تبتسم ـ ألا تحب التنزه على الشاطئ؟ ـ لدي حساسية ضد قناديل البحر، لذا... ـ فهمت قالت ذلك بسرعة، محاولة أن تبعد كول عن ذهنها. لما لا تستطيع رؤية كيفن، رغم أنها تحدق إليه، في حين أن صورة كول واضحة جدا في رأسها؟ ـ أخبرني كيفن، ما رأيك في الموسيقى الفرنسية? سألته ذلك، محاولة التركيز على الرجل الذي بجانبها، لكنه حدق إليها ذاهلا. هل يمكنها أن تلومه؟ ما الذي جعلها تطرح هذا السؤال بحق الله؟ وضع كول المطرقة في صندوق العدة وأغلق الغطاء بعنف وهو يتمتم" يا لهذا التهريج!" هل جنيفر سانكروفت هي المرأة نفسها التي قرأ في سيرتها الذاتية تلك الملاحظات التي دونها أهم رجال تكساس بعد أن استقطبتهم إلى الشركة؟ قالوا عنها إنها لامعة ومتزنة وواثقة من نفسها وجديرة بالثقة. هز رأسه حائرا واتجه إلى كوخه حيث فتح الباب ووضع صندوق العدة في الداخل وهو يتمتم:" عليهم أن يروها الآن" متزنة! وأي اتزان! أن تختار زوجا من خلال إعلان كان أكثر الأمور التي سمعها حماقة وكم كنت أنت لامعا عندما جذبتها ليك وعانقتها وقلت لها إن عناقها بحاجة لبعض التمارين؟ كان ذلك لامعا بارينجر قال هذا في سره، موبخا نفسه على تصرفه. هل أضافت العناق إلى الامتحان النهائي بسبب استخفافه بها؟ أم أنه يعظم كثيرا مسألة تأثيره عليها؟ عندما وقفت هي وذلك الطويل المغفل يتعانقان عند البوابة، وجد نفسه يحدق إليهما. عاجزا عن الحراك، وعن تصديق عينيه لكنه لم يقدم طلبا للحصول على الوظيفة رؤيتها وهي تعانق ذلك النحيل أثارت غيظه. وحالما استعاد قدرته على الحراك، استدار وضرب بالمطرقة، لكنه ضرب إصبعه، تبا لها! اتجه إلى الشاطئ وقفز من فوق السياج. وعندما سار إلى الرمل، التقى بالبطة" مرحبا صغيرتي" قال لها هذا، فتهادت البطة ناحيته" لم رحلت؟ هل أزعجك صوت المطرقة؟" زعقت البطة كأنها تجيبه، فوجد نفسه يبتسم ثم جلس القرفصاء بجانب البطة وأطرق برأسه." هذه المرأة تفقدني صوابي" زعقت البطة مرة أخرى ونفشت ريشها، فضحك كول في سره" نعم، إنها تؤثر في أيضا بهذا الشكل" نهض عن الرمل واقترب من الماء خلع حذاءه وجاربيه، وبعد أن شتم الآنسة سانكروفت بسبب تأثيرها عليه، نزع سرواله أيضا وغطس في الماء عاريا، وراح يسابق الأمواج. وبينما كان يسبح، واجه حقيقة مؤلمة، ألا وهي أنه قد يضطر للسباحة حتى البرازيل لكي يتخلص من تأثيرها عليه. بعد نصف ساعة، عاد نحو الشاطئ ولاحظ شخصا هناك. كانت هي من دون شك، واقفة بجانب بطة وكومة ثيب. وقف في الماء الذي كان يغمره حتى وسطه وأزاح شعره عن وجهه كانت تحدق إليه بعينين ظللتهما بيدها كانت ترتدي قميصا حريريا أبيض وتنورة مشمشية اللون، وفي ضوء المغيب، بدا شعرها أشبه بنار مشتعلة، فأحس بانقباض في معدته نادته قبل أن يصل:" ظننتك قد غرقت. مؤسف حقا!" آخر ما ينقصه الآن هو السخرية. لكنه حاول أن يبدو بمظهر الرجل الواثق والمصمم لئلا يظهر لها كم أربكته رؤيتها ـ هل تريدين شيئا؟ ـ لا، كنت أتمشى فقط مال برأسه ونظر إليها لحظات من دون أن يتمكن من سلخ نظره عنها:" هيا، تابعي نزهتك. لا تدعي نجاتي من الغرق تعكر سعادتك" شبكت ذراعيها أمام صدرها وسألته:" هل أنت عار؟" سؤالها المفاجئ أربكه:" لماذا؟ هل أنت من شرطة الآداب؟" ـ هل هذا يعني نعم؟ ـ أظن ذلك! فغرت فاها لحظة قبل أن تتمالك نفسها مجددا:" ألا تخجل؟" وجد سؤالها مثيرا للسخرية:" أنا؟ لست أنا من يجري المقابلات بحثا عن زوج" حتى من بعيد، استطاع أن يرى تعبيرها الذي قارب العبوس ـ للمرة الأخيرة أقول لك إن دوافعي نزيهة تماما. ولا تغير الموضوع رد عليها وهو يتقدم نحوها بينها كانت المياه تنخفض على بطنه ـ ماذا؟ لم أسمع ما قلته ـ قلت إنني سأخرج من الماء وتقدم بضع خطوات أخرى نحوها، فانخفض مستوى الماء مجددا. اتسعت عيناها وكأنها صدمت:" لا لن تخرج" ـ ولم لا؟ أتتوقعين مني أن أبقى طيلة الوقت هنا؟ انحنت بسرعة على الرمل والتقطت بنطلونه ورمته إليه لكنه لم يقع إلا على بعد بضع خطوات منه. فأكمل طريقه نحوها، وعندما اقترب من بنطلونه المكوم على الرمل، سمعها تصرخ فنظر إليها، لكنها كانت قد أشاحت بوجهها. قال لها وهو يرتدي الجينز" حقا آنسة سانكروفت.. بالنسبة إلى امرأة تبحث عن عريس في الإعلانات، تبدين خجولة من الرجال بعض الشيء" ـ لم لا تتحلى بشيء من الحشمة؟ ـ ولم لا تنحلين بشيء من المنطق؟ وبعد أن أغلق سحاب سرواله، استأنف طريقه نحوها ـ هل أصبحت محتشما؟ ـ تماما. وأنت هل أصبحت منطقية؟ استدارت ناحيته وقالت له" أنت متحيز في هذا الموضوع بسبب ما جرى لوالدك، لذا لا تتدخل في شؤوني!" ـ حسنا حسنا ولكن لدي سؤال ابتلعت ريقها فأحس كول أنها ليست واثقة من نفسها كما تريده أن يظن ـ كيف تحترمين رجلا يقبل الزواج بك لدوافع مخزية كهذه؟ ترددت وبدت مصعوقة، مهانة، فأثارت أعصابه لمحة الأسى التي ومضت في عينيها ـ أين الخزي في اختيار شريك منطقي ورزين؟ قالت هذا وقد بدا وجهها شاحبا ثم تابعت فكرتها" يمكنك أن تثق بالوقائع. أما العواطف فسرعان ما تزول! لذا هذه الطريقة أسلم وآمن بكثير من الانجراف وراء الغرائز" صمت كول فجأة لهول ما سمعه ثم قال:" أسلم؟ صيد الأزواج المنطقي هذا ورثته عن جدك وجدتك اللذين وجدا الحب بعد الزواج أن عن أبيك وأمك اللذين يتفقان من بعضهما من دون أن يحبا بعضهما. أليس كذلك؟" ترقرقت الدموع في عينيها وهددت بالانهمار:" أنت لا تعرف عما تتكلم" وكيف لا يعلم؟ لا بد أنها جرحت في الماضي وقررت ألا تثق بقلبها مجددا. شعر بألم ورغبة في التعاطف معها، لكنه سرعان ما تخلص منهما. إذا كان قلبها قد تحطم في الماضي، فهذا لا يبرر تصرفها الأحمق الآن قال بصوت أقل خشونة:" مبدأ "السلامة أفضل من الندامة" ليس دائما الأفضل" ـ لكنه في معظم الأحيان أفضل فعلا هز رأسه مشفقا أكثر منه غضبا:" من المستحيل أن تأسري قلبك. قد تتزوجين بأحد هؤلاء الرجال لأسباب منطقية لا علاقة لها بالعاطفة، ولكن ماذا سيحدث يوم تغرمين بشخص آخر؟" ـ لن أغرم بأحد ـ لا يمكنك أن تسيطري على الحب عضت على شفتيها وبدت منزعجة. أما هو فخطرت له فكرة، فسألها:" كيف كان يومك؟ ممتازا؟" أشاحت بنظرها إلى البعيد، وقد عجزت عن تحمل نظراته مدة أطول ـ ليس ممتازا مئة بالمائة ولكن ما من شيء كامل ـ هذا ما أقصده بالضبط فنظرت إليه مجددا وهو يقول لها:" حتى في أفضل الزيجات وأسعدها ليست كاملة، لذا من يقدم على زواج مستند إلى تسوية، فهو مغفل" انهمرت الدموع على خديها، لكنها استطاعت أن ترفع ذقنها متحدية، فأعجب بشجاعتها. ـ لم لا تلقي محاضرة عن الزواج السعيد؟ يبدو أنك خبير في هذا المجال كان اليوم المخصص لجيم ويمر، المرشح الثاني، يوشك على نهايته. وإن كان يومها مع كيفن ماك دونيت قد خيب أملها، فإنها الآن نادمة على كل لحظة أمضتها مع جيم. فعلى الرغم من أنه ذكي وحسن المظهر، إلا أن تلك الابتسامة الساخرة الملتوية أزعجتها كان عطره ذكيا يذكر بأيام الخريف وبدا حسن المظهر، حلو الكلام، ويجيد الطهو. كما أنهما متفقان في المسائل الوطنية والاجتماعية. فما هي إذا مشكلتها معه؟ ـ لا شيء. ليس لدي مشكلة تمتمت بذلك، فسألها جيم، محاولا لفت انتباهها اليه وهو يجلس بجانبها على الشرفة:" هل قلت شيئا؟" شعرت بالغباء للتكلم بصوت عال. وهزت رأسها وجرته بيده:" لنتمش قليلا على الشاطئ" جاهدت لتحافظ على ابتسامتها وهي تقوده نحو الحديقة، ومرة أخرى رأت كول. كان ينشر قطعة خشب ليصلح إطار النافذة. لكنها هذه المرة لم تقترح مشهد عناق أمامه فهذا تصرف طفولي جدا وكانت خجلى من نفسها. ما قله في الليلة الفائتة لا يزال ودوي في أذنيها: " قد تتزوجين بأحد هؤلاء الرجال لأسباب منطقية لا علاقة لها بالعاطفة، ولكن ماذا سيحدث يوم تغرمين بشخص آخر؟" توصلت على مر السنين إلى أن تصبح خبيرة في تجنب الظروف التي قد تفقد فيه السيطرة على عواطفها. تعلمت درسا لن تنساه من طوني، ولهذا بدأت هذه الأسابيع بالقرب من كول ترعبها. فهي لم تستطع أن تنظر إلى كيفن أو جيم أو حتى فان بالانفتاح الذهني الذي توقعته. إذ أنها في كل مرة تحاول فيها ذلك، كان وجه كول يتراءى لها، فيبدو كل شيء آخر سخيفا جدا. سألت نفسها: هل سبق ووقعت في حب أحد؟ هل هذه هي المشكلة الأساسية مع من تقابلينهم! ـ الشاطئ هنا جميل جدا قال جيم هذا مختطفا اياها من أفكارها. طرفت بعينيها ونظرت حولها وقد أجفلت للمسافة التي اجتازاها من دون أن تلاحظ ذلك. ابتسمت له بصعوبة بالغة:" نعم إنه رائع!" ـ مثلك تماما وأشرقت ابتسامته الساخرة الملتوية، مرسلة في عمودها الفقري وخزه اشمئزاز. كفي عن ذلك جين! إنها ابتسامة مميزة ونساء كثيرات يجدنها مثيرة على الأرجح ـ أنت امرأة جميلة ـ شكرا جيم! قالت ذلك ونظرت إلى البعيد، خائفة مما قد يحصل. لكنها قالت في سرها إن العناق لا بد منه فهو قد يقلب المقاييس ويبدل رأيها تماما. أخذت نفسا عميقا لتواجهه ورفعت ذقنها فاشتبكت عيناها بعينيه لم يكن بحاجة لمزيد من التشجيع، فاقترب منها وجذبها إلى صدره بعنف. أمسكته بذراعه محاولة الدفاع عن نفسها وأبعدته عنها، لكنه أمسكها مجددا ومددها على الرمل. وعندما لمست الرمال الساخنة، أدركت مذهولة أن هذا الرجل يظن العبث جزأ من الامتحان النهائي ضغطت على صدره محاولة إبعاده عنها والتخلص منه. ـ توقف، دعني! كانت تنوي أن تصرخ ولكن بما أنه يسحقها بجسده، بدا صراخها أشبه بهمس. تجاهل مقاومتها وأمسكها من معصميها ثم سمرها على الرمل. ـ عزيزتي، لست بحاجة لأن تلعبي دور الصعبة المنال معي. أزاحت رأسها جانبا وصرخت بكل قوتها:" ابتعد عني. ابتعد وإلا صرخت" أطلق ضحكة ساخرة شريرة:" ومن سيسمعك؟" حدقت إليه مصعوقة. لم يأبه لأنها رفضته فاستشاطت غضبا كما لم تغضب يوما في حياتها. اقترب من وجهها، فعضته بقوة. صرخ متألما فاستفادت من لحظة المفاجأة وحررت يدا من قبضته وأخذت حفنة من الرمل وذرتها في عينيه. ـ تبا! استدار إلى جنبه وأفلت يدها ليضعها على عينيه:" حاولت أن تعميني أيتها الغبية!" أدركت أن أمامها مجرد ثوان قليلة لتهرب قبل أن يستعيد قدرته على النظر، فهبت هاربة نحو المنزل. ركضت عبر الرمل الناعم إلى أن بلغت البوابة أخيرا مقطوعة الأنفاس. اجتازتها واتجهت إلى كول الذي كان يصلح النافذة. غاضبا كان أم لا، عليه أن يحميها، فقد قال إنه سيكون حارسها الشخصي وهي الآن بحاجة إليه. ـ كول! ركضت نحوه وقد أدركت أنها فقدت فردة من حذائها وزرا من قميصها استدار نحوها متجهما في البداية ثم قلقا وأخيرا غاضبا ـ ذلك السافل! اختبأت خلفه وسألته مخطوفة الأنفاس:" هل...هو آت؟" وظهرت الإجابة عن سؤالها عندما دخل جيم من البوابة الحديدية ووجهه أحمر لشدة الغضب. صفق البوابة بعنف فأصدرت صوتا أشبه بإطلاق نار. ـ أنا ...آسفة لإزعاجك، لكن....لكن... ـ نعم مرر كول المطرقة من يد إلى أخرى وقد بدا أن صبره قد نفذ:" سأتولى الأمر". سار خطوات عدة ناحية جيم بينما كان هذا الأخير يتجه بتثاقل ناحيتهما بدا غاضبا وأشار إلى جين بإصبعه. كانت عيناه محتقنتين:" أريد التكلم معها" سأله كول وهو يقف بينها وبين جيم أشبه بحائط ضخم ومثير:" لماذا؟" ـ حاولت أن تعميني. ـ ولم فعلت ذلك؟ كانت المطرقة لا تزال في يد كول ورغم أنه لم يبد عليه التهديد إلا أن نبرته كانت تنم عن خطر وشيك. ـ ماذا؟ سـال جيم هذا وكأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال. ـ إنها مجنونة. تستفزني ثم تتحول فجأة إلى سمكة باردة متجمدة! انكمشت جين مكانها وقد سئمت من سماع هذا التعليق من الرجال. ـ فهمت، وما الذي لم تستوعبه عندما قالت لك" دعني"؟ تفاجأت جين لأنه عرف تماما ما قالته، لا يمكن أن يكون قد سمعها من تلك المسافة. اعتمل الخوف والغضب داخلها وهي تنظر إلى الرجلين. كان جيم يحدق إلى كول غاضبا وعندما تحولت نظراته إلى المطرقة التي يمسكها، تبدلت قسمات وجهه وبدا حذرا أكثر منه غاضبا. لم ينزع كول عينيه عن جيم وانفرجت شفتاه بابتسامة بدت أشبه بتكشير الذئب عن أنيابه. ـ آنسة سانكروفت، هل تودين أن يرحل هذا المغفل؟ التناقض بين موقفه العدائي وتعبيره الغاضب وصوته الهادئ أصابها بالقشعريرة. وتساءلت ما إذا كان جيم قد تأثر بالطريقة نفسها. همست بصوت أجش:" نعم...أود ذلك" أومأ كول:" اعتذر للسيدة يا صاح" حافظ على شراسة ابتسامته وهدوء صوته وأضاف:" عندئذ يمكنك أن ترحل" تبدد الغضب من على وجه جيم وحلت مكانه لمحة خوف فأشاح نظره عن كول وحوله إليها فسرت رعشة خوف في ظهرها، كان تشابك نظراتهما سريعا وانتهى قبل أن يهمس معتذرا لها. استدار بعدئذ واتجه إلى سيارته. بقيت جين مكانها ولم تحرك ساكنا إلى أن انطلقت سيارة جيم بسرعة. ومع رحيله، شعرت بحمل ثقيل ينزل عن كتفيها. أحست بالامتنان فاستدارت ناحية كول. كان لا يزال واقفا مكانه يراقب سحابة الغبار التي خلفها رحيله. لم تفارق الصرامة وجهه المتوتر وتحولت نظراتها إلى كتفيه العريضتين القويتين وعضلاته المفتولة. شعرت برغبة قوية في التعبير عن امتنانها، فسارت نحوه وأمسكت بيده:" شكرا" قالت له ذلك، مسترعية انتباهه:" أنا مدينة لك" لماذا خطر له فجأة أنها يجب أن تشكره بعناق؟ رفعت ذقنها، متسائلة عما إذا كان سيتصرف مثلما فعل جيم، راجية أن يتجاوب معها. كان واقفا هناك، وقد بدا وسيما للغاية. لكنه بقي ينظر إليها من دون كلمة أو حركة. انعكست أشعة على شعره فبدا لماعا وكان المنظر يخطف الأنفاس لدرجة أن قلبها راح يرقص فرحا لأنها بجانبه. وأخذ صوت في داخلها يصرخ:" عانقني كما فعلت الأسبوع الماضي! ظهرت في عينيه نظرة غريبة حارقة وكأنه قرأ أفكارها ولكن سرعان ما تبددت، هذا لو ظهرت أساسا. شد على فكيه وقال لها:" لا تستمري في هذا العمل الغبي" ثم مر من أمامها وعاد إلى عمله كل ما استطاعت جين أن تفعله هو التحديق إليه. وبعد لحظة طويلة وصعبة، تمكنت من الابتعاد وقد شعرت بالسخف والاكتئاب *** 9ـ اختارت... كان الدكتور فان أليسون، المرشح الأخير، رائعا. فهو يتمتع بالعلم والذكاء وكل ما يخوله التصرف مع أي زبون تريد جين محادثته أو التأثير فيه. كما أنه يريد إنجاب الأولاد ويحب الطهو. وهو وسيم المظهر ويملك المال. لماذا إذا شكرته على وقته وصافحته وأرسلته في طريقه؟ فأجابها صوت شرير ساخر في رأسها: لأنه ممتاز وليس مناسبا صدمها أن تسمع هذا الادعاء غير المنطقي يهمس في ذهنها. لا بد أنها مجنونة لتبعد فان أليسون! حتى أنها لم تزعج نفسها وتخضعه لامتحان العناق، ليس بسبب التجربة الرهيبة التي عانتها مع جيم إنما لأنها لم تجد الحماسة لذلك. تسللت أفكارها مجددا إلى كول. لماذا لم تستطع أن ترى "منصب" الزوج سوى في عامل صيانة يجيد تحضير الشاي، ويتمتع بابتسامة ساحرة، تلحق به طيلة الوقت بطة مفتونة؟ ماذا حصل لخطتها؟ استندت إلى الباب الأمامي ودفنت وجهها في يديها كانت تخشى أنها تعلم، لكنها رفضت مواجهة الأمر. ألم يعلمها جنونها بطوني شيئا؟ ألم تكن تعرف أن من الجنون أن يتبع المرء قلبه بدلا من عقله؟ كول لا يتمتع بالمواصفات اللازمة لكي يكون زوجها، ولم يحصل على شهادة علمية. هو على الأرجح لا يملك بذلة رسمية ولم يعقد يوما ربطة عنق جاهدت لكي تستعيد قوتها وتستجمع أفكارها مذا ستفعل الآن؟ كانت بحاجة لإجلاء ذهنها، فقررت أن تتنزه على الشاطئ. ولن تكون بذلك تسعى وراء كول، فبعيد هرب جيم الليلة الماضية، غادر كول المنزل وافترضت جين أن لديه موعدا آخر. لذا فإن نزهتها على الشاطئ ستكون منفردة تماما. شعرت بالعياء لفكرة أن يكون كول مع امرأة جديدة، فحاولت جاهدة أن تبعده عن تفكيرها، هو ورفيقة يومه. " فهو يجد من السهل جدا أن يبعدني عن تفكيره" هذا ما تمتمت به جين بأسى. خرجت إلى الغرفة الخارجية وارتمت على الكرسي لكي تخلع حذاءها. وبعد أن وضعته جانبا، نزلت الدرج واتجهت إلى البوابة الحديدية. كانت تشعر بالإرهاق والتعب والإحباط. قلت لنفسها" أيتها الغبية! حصلت على المرشح المثالي لكنك تركته يرحل" أخذت نفسا عميقا مشبعا بنسيم البحر وحاولت جاهدة ألا تبكي. شتمت نفسها لأنها فقدت التركيز كليا وشتمت كول لأنه زعزع ثقتها بنفسها وتدخل في مشروعها. لو لم يكن هنا، ولو لم تلتق به أبدا، لكانت الآن مع فان أليسون في تلك اللحظة بالذات، تخطط لزفافها. بين فان الرجل الذي تحتاجه، وكول الرجل الذي تريده، وجدت جين نفسها ممزقة مدمّرة. وكانت مرهقة جدا، وغصت في الرمل واحتضنت ركبتيها وهي تحدق إلى البحر. الخميس القادم موعدها مع ج.س بارينجر العظيم. ولكي تقدم له زوجها، عليها أن تجد أحدا في الحال. وسوف يكون عليها أن تجد أحدا قبل صباح الاثنين وإلا فإنها تحتاج إلى معجزة لكي تكون متزوجة بحلول ليلة الخميس سمعت صوتا لم تسمعه من قليل. فرفعت رأسها ونظرت إلى مصدر الصوت، وأجفلت عند رؤيتها أحدا يخرج من الماء وأحست بأنها رأت هذا المشهد من قبل. إنه كول! ولكنه هذه المرة يرتدي ثوب السباحة الأسود، لحسن الحظ. تفاجأت لأنه لم يخرج الليلة وشعرت بموجة من الارتياح. كرهت نفسها لإحساسها هذا، لكنها لم تستطع أن تلجم فرحتها. كانت سعيدة جدا، بل مبتهجة لأنه لم يكن بصحبة امرأة أخرى. كاد يدوسها قبل أن يلحظ وجودها وقد عرفت ذلك من الطريقة التي توقف بها فجأة على بعد خطوتين منها ـ كدت أدوسك! وعندما نظرت إليه، تمنت لو أن ضوء القمر لا يظهر وسامته بهذا الشكل. ـ ماذا تفعلين هنا؟ كانت كتفاه العريضتان تتحركان من كل نفس يأخذه، مظهرتين الجهد الذي بذله خلال السباحة. أخفضت ناظرها إلى الرمل وقالت:" شعرت فقط برغبة..." لم تعرف كيف تنهي جملتها، فهو لا يهتم لمشاكلها وهي لديها ما يكفي من عزة النفس. ـ شعرت فقط برغبة في الجلوس ـ لا بد أن ثمة خطب ما، أليس كذلك؟ لم تحبذ قدرته على الضرب على الوتر الحساس، لكنها اكتفت بالقول:" كل شيء على ما يرام. وإذا كنت جالسة في الظلام فلأنني أرغب بذلك. هل لديك مشكلة؟" لم يجب على الفور لكنه لم يرحل كذلك:" فهمت" أجفلت عندما جلس إلى جانبها وسألها:" إذا؟ ماذا نتج عن هذه المغامرة الطائشة؟ أفترض أنك مخطوبة الآن وهذه طريقتك في الإحتفال" لم يكن مزاجها يسمح لها بتحمل هذه السخرية، فكذبت عليه:" نعم. نحن الباردات نحتفل بخطوبتنا بهذه الطريقة" نظر إليها بتشكك:" ومن هو سعيد الحظ؟ الطويل النحيل أو المهووس أو البشوش؟" نظرت إليه وخدّها لا يزال مستندا إلى ركبتيها:" لمعلوماتك، البشوش كما تسميه، طبيب ساحر وفاتن و...ممتاز" لم تستطع أن تبقي عينيها شاخصتين إليه مدة طويلة، فأشاحت بنظراتها وراحت تحدق إلى البحر ـ إذا البشوش هو سعيد الحظ! لماذا عليه أن يتدخل في كل هذا؟ ـ هذا ليس من شأنك! كان صوت الأمواج المتكسرة وحده المسموع في لحظة الصمت الطويلة تلك، التي تبعت كلامها. ـ لم أنت محبطة هكذا؟ لقد أحرزت نجاحا باهرا ويُفترض أن تهزئي بي وتفرحي لأنك ربحت الرهان رمقته بنظرة سريعة، محاولة إخفاء يأسها عن نظراته المتفحصة كانت تعابيره مظلمة وشعرت بأنها لمحت تعاطفا في عينيه. تملكها فجأة الارتباك العاطفي نفسه الذي شعرت به خلالا الأسبوعين الماضيين، وإذ لم تعد قادرة على الكذب أو الاختباء وراء قناع من القوة، هزت رأسها وقالت بصوت مرتجف:" لم أختر أيا منهم" شعرت بالإهانة، فمسحت بقفا يديها الدموع التي كادت تنسكب من عينيها، وأضافت بسرعة رافضة أن تدعه يسبر أغمار يأسها:" لكنني لم أستسلم بعد" حاولت السيطرة على أعصابها، فأزالت الارتجاف من صوتها، إلا أنها لم تستطع النظر في عينيه. ـ أنا واثقة من نفسي وأكيدة من أنني سأبلغ هدفي ـ لست أفهم. إذا كان الطبيب ممتازا إلى هذا الحد، فما الذي جعلك ترفض'ينه؟ هزت رأسها، عاجزة عن صياغة جملة أو التكلم من دون أن تتلعثم. ـ وجدتِ استغلال شخص آخر لمصالح شخصية أصعب مما توقعتِ؟ ـ لم أكن أنوي استغلال أحد! وطالما أنك ترفض فهم ذلك، فأنا لا أنوي أن أشرح لك شيئا. في الواقع، إنها تفضل الموت على أن تعترف له بأن انجذابها إليه لعب دورا كبيرا في عرقلة مشروعها. ـ إذا كنت تظنين أنه ما زال بإمكانك إيجاد زوج، فماذا تنوين أن تفعلي؟ التسول على الطرقات؟ رغم أن شجاعتها وثقتها بنفسها ممزقتان أشلاء، إلا أن سخريته جعلتها تستشيط غيظا:" إن كان علي أن أفعل ذلك، فسوف أفعله!" راح يحدق إليها بصمت، فوجدت ذلك مخيفا ومثيرا في آن. راقبها من دون أن يرف له جفن، فراعها أن تكون محط انتباهه إلى هذه الدرجة. استحواذها على اهتمام هذا الرجل غمرها بوهج غريب لم تشهده يوما. هذا الاكتشاف أخافها رغم أنها رفضت الاستسلام لهذا الشعور. حدقت إليه، مستدفئة بنظراته التي رأت فيهما مجددا لمحة تعاطف. وشعرت بالارتياح رغم أن ما لمحته قد يكون مجرد خدعة من الضوء الخافت. غريب كم أن رفقته الصامتة استطاعت أن تهدئها رغم أنها مغتاظة منه! لامست فكرة غريبة ذهنها كما يلامس النسيم سطح المياه، وبالكاد استطاعت استيعابها. مرت الثواني والدقائق وعينا كول شاخصتان تماما إليها، فشعرت بفيض من الشجاعة يسري داخلها. ـ هل تتزوج بي كول؟ ذهلت للهدوء الذي طرحت به السؤال. فبدا لها وكأنها فكرت جيدا بالمسألة ووجدتها معقولة تماما. ومع أنها لم تفكر بها مطلقا وتعرف أنها مستحيلة، إلا أن هذه الحقيقة لم تكن كافية لتلجم لسانها. بقي صدى عرض الزواج الذي تقدمت به عالقا في الجو بينهما في وطأة الصمت المطبق. لم تستطع جين حتى أن تسمع صوت المياه، لشدة تركيزها على كول. ورغم أنها تعرف جوابه مسبقا ورأيه بها وبمشروعها الدنيء ذك، إلا أنها كانت مفعمة بالأمل والتوقع، أشبه بفتاة صغيرة تنتظر من أبيها أن يسمح لها بالذهاب إلى السيرك طرفت عيناه، كمن صعق بما سمع لتوه وعلا العبوس جبينه. ـ أنا أؤمن بالحب آنسة سانكروفت، وإن كنت أنت لا تؤمنين به. قالت في سرها" أخشى أنني أحبك" لم تشأ لذلك أن يكون صحيحا ولن تجرؤ على المجاهرة بالأمر، فاكتفت بنظرة سريعة ناحيته، مقاومة تأثير عينيه الساحرتين. مر الوقت بطيئا جدا. انتلعت جين ريقها بصعوبة، وهي تفكر في أن النجاح لا بد أن يمر بالمخاطر. فسألته:" هل تقول إنك موافق؟" هدر البحر من حولهما، فثارت أعصاب جين التي كانت تنتظر، مستعدة لسماع رفضه. ومرت الثواني طويلة لا تنتهي فلم تستطع منع نفسها من إطلاق تلك التنهيدة اليائسة. ـ هل تقولين إنك تحبينني؟ بدا صوته عادي، مجردا من كل حماس، كما لو أنه يظهر لها مدى تفاهة عرضها المجرد بدوره من كل عاطفة. آخر ما كانت تريد الإقرار به، وحتى التفكير فيه، هو حبها لكول. وبقيت يقاوم هذا الاحتمال، فهو لا يشبه بشيء الرجل الذي تريده زوجا لها. إنه مجرد عامل صيانة فظ، لا مستقبل له. الإجابة عن سؤاله يجب أن تكون "لا" مدوية! ولكن للأسف، ما تشعر به في كل مرة يدخل فيها الغرفة أو يخرج من الماء على حين غرة، أقوى بكثير من أي شعور آخر ولا يمكن أن يكون سوى الحب. بيد أن كبرياءها منعتها من كشف هذه الحقيقة المدمرة أمام رجل لا يقدرها، سواء في مهنتها أو كامرأة. جاهدت لكي تبدو مقنعة، محاولة الحفاظ على كبريائها وقلبها، ووضعت يدها برقة على ذراعه:" اسمع كول، أنا... أثق بك وأحترمك" انخفض نظره إلى يدها الموضوعة على ذراعه ثم عاد مجددا إلى وجهها:" تحترمينني؟" ابتسم لها ببرودة لم تكسر الجدار الجليدي بينهما. ـ سامحيني لكنني لا أصدقك. لا تنسي، أنا أعرف موقفك من الإجازات العلمية والشهادات العالية. قد تكونين يائسة ولكن ما تقولينه يصعب حتى على عامل صيانة متخلف أن يصدقه. ـ لا، لا. شدت على ذراعه، محاولة تصحيح ما بدر منها من سوء تفكير. ـ الكثير من الأشخاص لا يملكون شهادات جامعية وهم فقط يهتمون بالشؤون المنزلية ويمكنهم تماما التحدث مع رجال الأعمال بشكل لائق. ارتفع حاجباه بذهول:" أتريدينني أن أكون " ربة منزل"؟" هب الهواء محملا بعطره الرجولي المثير ممتزجا بمياه البحر المالحة التي كانت تقطر من جسمه. واقتران الرائحة بالمشهد جعل التفكير صعبا عليها وكان عليها أن تبقى صافية الذهن لو أرادت أن تقنع كول بوظيفة الزوج التي تعرضها عليه. كانت تدرك تماما احتقاره لها، لكنها لم تشأ التراجع، فسارعت تقول له:" لم أقصد ذلك حرفيا ولكنك بارع في الشؤون المنزلية والطهو" ثم نطقت بفكرة خطرت لها أثناء الحديث:" أنت تريد إنجاب الأولاد، أليس كذلك؟" شد على فكه وكأنه لم يصدق أنها سألت ما سألته أو أنها حتى جادة. وبعد لحظة صمت طويلة، أجاب:" بلى أود إنجاب الأولاد" شعرت بقشعريرة رهيبة، رافضة التعليق على ازدرائه الواضح. ـ أرأيت؟ يمكننا أن نشكل ثنائيا جيدا، مع الاحترام والثقة... قطب جبينه لكنها رفضت أن تسمع منه أي إجابة سلبية ـ لا أنوي أن أتعرض للاستغلال لمجرد أن أساعدك في التقدم في مهنتك. أخيرا نطق بذلك ويا ليته بقي صامتا فقد شعرت جين بصخر يطبق على قلبها. ماذا كانت تظن؟ كول لن يرضى أبدا بالزواج بها. كانت مستنزفة جدا لكي تجادله، فاكتفت بإيماءة بسيطة. وحاولت قدر المستطاع أن تزيل هذه الفكرة من رأسها. وإذ شعرت بألم في صدغيها، أسندت خدها إلى ركبتيها وحدقت إليه:" أنت لا تحترمني، أليس كذلك؟" نظرت جين إلى كول وفي عينيها شيء من الهشاشة، وشعر بانقباض في معدته وأحس بأنه لن ينسى الحزن الذي رآه في تلك العينين، ما دام حيا. لم يستطع سلخ ناظريه عنها، فغضب من نفسه ومنها لأنها كانت تأسره. وقاوم مشاعره الرقيقة حيالها ورغبته القوية في ضمها إلى صدره، فهو عازم على ألا يقع ضحية الحب من طرف واحد، كما حصل مع أبيه. لكن الخوف تملكه عندما رآها تعض شفتها السفلى والدموع في عينيها. تبا! ما الذي يفعله هنا؟ لماذا يصغي إليها؟ ـ أنا لا أحترم ما تقومين به. لكنني أتصور أنك جيدة في عملك ولم يكن ذلك عبثيا. فبعد أن التقى الليلة الماضية بنائب رئيس الشركة الثاني وزوجته وقارن سيرته الذاتية بمؤهلات جنيفر سانكروفت وجدها أهلا لمنصب الرئاسة. أردفت بقوة:" أنا لست جيدة وحسب في عملي، بل أنا بارعة" لم يجب بل اكتفى بالتحديق إليها، متأثرا بالشغف الذي تكنه لعملها. ـ أنت لا تفهم لما أريد زوجا قبل المقابلة مع مالك الشركة ولكنني سأخبرك في مطلق الأحوال. إنه لأمر مهين أن يرى المرء نفسه أفضل من سواه في أمر ما ورغم ذلك يقع الاختيار على شخص آخر بدلا منه، كما حصل معي منذ سنتين عندما عُين رئيس الشركة الأخير. مررت يدها في شعرها بحركة عنيفة وهي تتابع كلامها غضبة:" أكاد أموت عندما أرى أنهم استبعدوني بسبب أمر تافه مثل وضعي العائلي!" لقد قرأ سيرتها الذاتية وفرع أن مؤهلاتها ممتازة، لكنها لا تعرف أنه على علم بذلك. فبصفته عامل صيانة بسيط، لن يعرف شيئا عن مؤهلاتها ولن يهتم. ولكنه ج. س بارينجر وهو مهتم ويريد سماع تفسيرها. ـ ما الذي يجعلك تظنين أنك مؤهلة أكثر من سواك؟ أجابته بتعبير متحجر:" لقد بنت الشركة سمعتها من خلال حل القضايا المالية والضرائبية وأنا في هذا المجال أبرع من أي شخص آخر، إنه اختصاصي. وإذا ما وصلت إلى سدة الرئاسة، فيمكن للشركة أن تنصف زبائنها وتحصّل حقوقهم. إن أيا من المرشحَين الآخرين لا يملك كفاءتي وشغفي ونجاحي في قسم الإرادات الداخلية. وأخيرا، حصولي على هذا المركز سيظهر للجميع أنني حصلت على ما أستحق. من البديهي أن يقدّر المرء على إنجازاته. أليس كذلك؟" استشف من خلال عناقها أن في داخلها شغفا كبيرا، وهو الآن يرى هذا الشغف نسفه في عينيها الواسعتين والبراقتين ويسمعه في صوتها ـ لديك قضية مهمة. لم لا تقولين لذلك االنذل العجوز ما قلته لي الآن، بدلا من اصطياد الأزواج؟ ـ قلت لك لماذا. لقد سبق واستُبعدت من قبل وكان التبرير الوحيد أنني شابة عازبة لا يمكنني أن أغير جنسي، ولكن... ـ هدأ هراء! إذ كنت ممتازة كما تقولين في عملك، فسوف يتم اختيارك وإلا عليك أن تقومي بشيء آخر. ـ بالطبع هذا ما كنت أقوله لك منذ البداية ولكنك رفضت أن تصدقني ـ ماذا؟ الزواج واكتشاف الحب من خلال المصالح والأهداف المتشابهة؟ نظرت إليه بانتصار:" نعم، لقد فهمت أخيرا!" ـ أنا لم أفهم شيئا ولا أؤمن بذلك ـ حسنا هذه مشكلتك وهي لا تهمني. ولكن لمعلوماتك، مهنتي استحوذت على وقتي كله، أنا..أنا أحب ما أقوم به ولكن عملي لا يحول دون رغبتي في نشاء أسرة خاصة بي لذا قررت أن أجد زوجا يساعدني في الحصول على الوظيفة التي أريد ومن ثم نتمكن من أن نؤسس أسرة.. وربما أن نغرم ببعضنا. ـ لذ فكرت في وضع إعلان بحثا عن زوج حدقت إليه ممتعضة:" أكان من الأفضل أن أجوب الشوارع وأترك عملي وأهمل واجباتي، لكي أجد زوجا؟" وجد سؤالها منطقيا وهذا الأمر فاجأه. لكنه كان يلعب دور محامي الشيطان ـ ففكرت أن تستبدلي حلا متطرفا بآخر؟ ـ إن وقتي ضيق ويستلزم هذه التدابير المتطرفة. علي أن أقلب الدنيا رأسا على عقب لكي أتمكن خلال ثلاثة أسابيع من العثور على رجل مناسب والزواج به. ـ ربما تظلمين هذا الرجل والأولاد الذين سترزقين بهم، إذا كنت غارقة إلى هذا الحد في عملك. كيف تتوعين أن تحظي بحياة شخصية؟ قطبت حاجبيها" قلت لك، من خلال تحويل الشركة إلى جو عائلي" ـ بعبارة أخرى، سيكون لديك وقت لعائلتك ولكن ليس لإيجاد زوج بشكل طبيعي؟ ـ ما هو الطبيعي؟ ثم من يهتم إذا لم تنجح هذه الفكرة! ـ لكنها لم تنجح هذا التعليق صعقها وجعلها تنكمش فجأة. فأبعدت عينيها عنه وأراحت ذقنها على ركبتيها وهي تحدق إلى الظلام الدامس وبعد صمت طويل، همست قائلة:" كان بإمكانها أن تنجح" سمع همسها وتساءل عما تقصده:" عفوا؟" هزت رأسها:" لا شيء. لا تهتم!" نظر إليها ولاحظ تغير تعابيرها من التحدي إلى الهزيمة وشعر بأنه المسؤول عن ذلك. ضغطت كلتي يديها على عينيها وكأنهما تحرقانها لشدة التعب. وبعد لحظة استدارت نحوه ـ يمكنك أن تحصل على الطلاق قالت ذلك بهدوء بالغ، فلم يكن واثقا مما سمع ـ ماذا؟ أخذت نفس مرتجفا وكررت:" يمكنك أن تحصل على الطلاق. أعرف أنك تولي الحب أهمية كبيرة لذا.. لن أطلب منك أن تبقى معي للأبد. أسدني فقط هذا المعروف، لفترة وجيزة ليس إلا. لن أسألك حتى أن تكف عن مواعدة نساء أخريات. لست مضطرا لإعلان زواجنا. يمكنه أن يكون فقط حبرا على ورق. وبوسعك إنهاءه متى شئت بعد يوم الخميس القادم" ازداد صوتها إقناعا واتسعت عيناها توسلا وأما فبدتا على وشك ابتلاعه. ـ رافقني إلى المقابلة مع ج.س بارينجر ساعدني لأظهر له أنني امرأة مستقرة ولدي زوج يحميني. دعه يرى أنني تقليدية وجيدة بما يكفي حتى بالنسبة لى عجوز متزمت. عجوز متزمت! ماذا ستفعل عندما تعرف أنها تطلب أن تكون زوجة العجوز المتزمت؟ ـ ظننتك قلت إن هذه فرصتك الأخيرة لتؤسسي عائلة. وزواجي المؤقت بك سيحرمك مما تريدين. أليس كذلك؟ تجهم وجهها يأسا" هذا لم يكن ما خططت له، لكن الجميع يظن أنني في شهر العسل" ثم نظرت إلى السماء:" على الأقل وأحصل على الوظيفة التي أستحق، وسأكون في مركز أفضل يخولني تأمين الظروف اللازمة للعمل وإنصاف الزبائن" وللحظة فكر، لا بل تمنى... لكنه سرعان ما نبذ تلك الحماقة. تمنى ألا تكون من النساء اللواتي ينحدرن إلى هذا المستوى من الدناءة، فاتخذ قرارا هو على الأرجح قرار أحمق. لم يكن ذهن صافيا تماما فتلك العينين الحزينتين تؤثران على سلامة تفكيره. ـ حسنا آنسة سانكروفت! قال ذلك، شاعرا بأنه خارج الموضوع تماما، وكأنه ينظر إلى شخص غريب يشبهه إنما يتصرف بشكل غريب أيضا. ـ سوف أتزوجك... على الورق فقط... ولفترة وجيزة. وسأرافقك لتقابلي ذلك النذل العجوز. حدقت بعينين واسعتين براقتين وشملت بنظراتها ذلك الرجل المصمم على " عدم الاقتراب" منها. جالت نظراته على وجهها وعلى تينك العينين الساحرتين ثم أكملت طريقها لتشمل جسمها كله من رأسها حتى أخمص قدميها. نهض من مكانه وقد أدرك أن من الأفضل ترك مسافة بينهما. ـ لن أكون هنا في نهاية هذا الأسبوع. تمتم بذلك وقد أراد إجلاء أفكاره. ربما عليه الابتعاد قليلا وتغيير الجو. ثم إذا كان ينوي الزواج بجنيفر سانكروفت وصفته "كول" فهو يحتاج إلى هوية مزيفة. صحيح أن لديه معارف كثيرين ولكن ذلك سيتطلب بعض الوقت. ـ وافيني إلى محكمة البلدة يوم الاثنين عند الساعة الحادية عشرة. حدقت إليه بعينيها الواسعتين الآسرتين وفتحت فمها لتتكلم ولكن قبل أن تنبس ببنت شفة، قال:" تبا يا امرأة! إذا شكرتني، فسأغير رأيي" *** 10ـ نعم للألم! منذ مساء الجمعة وجين تحاول السيطرة على أفكارها . وعدها كول بالزواج، لفترة وجيزة وليس للأبد. بقيت جامدة طيلة الوقت تحاول تمالك نفسها لقد جاهدت بكل ما أوتيت من قوة لئلا تقع في حب كول لكنها في نهاية المطاف أُغرمت به. حاولت ألا تفكر في كم تتمنى لو اتخذت الأمور منحى مختلفا. وتمنت من كل قلبها لو لم يظن أنها أنانية استغلالية. ومن المؤسف أن قبولها بالزواج به لفترة وجيزة فقط عزز على الأرجح الانطباع السيئ الذي أخذه عنها، لا سيما أنه يجهل السبب الذي جعلها تفشل في العثور على زوج، وهو أنها وقعت في حبه. نعم، لقد وقعت في حبه، وذلك لن يفيدها على الإطلاق. كررت ذلك لنفسها مرات لا تعد ولا تحصى. لم تفكر يوما بأنها عنيدة بهذا الشكل، لكن حالة الحب هذه أوهنتها ولم تجد للهروب سبيلا، حتى ذكرياتها عن طوني بدت تافهة جدا بالمقارنة عم حالتها هذه. اليوم يوم زفافها. ورغم أنها تعي جنون ما هي مقدمة عليه، لم تستطع كبح جماح حماسها وتوترها. أدركت بأنها أكثر النساء غباوة عندما تكبدت عناء الظهور بأبهى حلتها وكأنها عروس حقيقية، فارتدت بذلة بيضاء كانت قد اشترتها في اليوم السابق. ومررت يدها على القماش الحريري الأبيض. كان ممتازا ومناسبا جدا لفستان الزفاف لكنه غير ملائم للعمل لذلك وجدت من الجنون ابتياع قطعة ثياب لن تلبسها سوى مرة واحدة. لكنها أرادت أن يبدو كل شيء حقيقيا. عادت أفكارها إلى يوم الاثنين عندما التقاها كول في المحكمة، حيث ملأ بعض الأوراق قبل أن يرحل، متمتما بأن لديه عملا طارئا في هيوستن. وكان آخر ما قاله لها هو أنه سيلتقيها في المحكمة صباح الخميس "للمراسم" لم يلفظ حتى كلمة"زفاف". تنهدت، محاولة التخلص من اليأس الذي كاد يسيطر عليها كان من الواضح تماما أن كول يزدري فكرة الزواج بها. وحضوره الصارم والجاد إلى المحكمة أثقل صدرها ولم يفارقها هذا الشعور لحظة واحدة فقد كان طيلة الوقت عابسا وصامتا. تفحصت جين مظهرها في المرآة ولاحظت الحزن في عينيها، فطرفت بهما لتزيل أثر الدموع. مهما كانت نظرته إليها مليئة بالاحتقار، لم تستطع جين أن تسيطر على رغبتها في جعل هذه المناسبة حقيقية قدر المستطاع. كان الطقم الذي اختارته أنيقا فيه لمسة من الرومانسية. وحفاظا على التقاليد، وضعت في أذنيها قرطين قديمين يعودان لجدتها الحبيبة ودست في جيب سترتها منديلا حريريا أزرق. إذ كان على العروس في يوم زفافها أن ترتدي شيئا قديما وآخر أزرق اللون، لجلب الحظ، بالإضافة إلى شيء مستعار. ولكنن من أين لها هذا؟ نظرت حولها قلقة. ما الذي يمكنها أن تستعيره وممن؟ لقد اتصلت بروثي، لكي تحضر زفافها، رغم أن القوانين في تكساس لا تتطلب وجود شهود. ولكن لسوء الحظ لم تكن مساعدتها السابقة قادرة على المجيء، فكلا ولديها مصاب بالجذري وزوجها في عمل خارج المدينة وقد عاد والداه إلى بيتهما حالما عرفا بمرض الطفلين. تذكرت جين الضحكة التي أطلقتها روثي عندما علمت من هو العريس، وعبثا حاولت جين أن تشرح لها سبب اختيارها ومدة العرس، إذ لم تنفك روثي عن الضحك. ويبدو أن روثي أحست بأن جين استسلمت للحب الذي كان في الماضي يرعبها، لكن ما لم تفهمه هو أن كول لم يستسلم لها. ضايقتها الفكرة، فحاولت التغاضي عنها وتثبيت خصلة الشعر التي سقطت على عينيها في التسريحة التي سوتها بتأنٍّ. نظرت إلى صورتها في المرآة وراحت تكلم نفسها:" تبدين عروسا.. لست عروسا سعيدة، ولكن..." وارتجف صوتها مختنقا في حلقها. غضبت من نفسها لأن معنوياتها انحدرت إلى هذا الحد في يوم زفافها، فاستقامت في وقفتها وأرجعت كتفيها إلى الخلف. صحيح أن هذا ليس بالزفاف الذي حلمت به وهي صغيرة وليس الارتباط الذي خططت له عندما قررت أن تصطاد زوجا عن طريق الإعلان، ولكنه يوم زفافها. وهي لم تفشل على الأقل في الخطة التي وضعتها للزواج في الوقت المحدد. وما قد يحصل بعد المراسم، عائد إلى القدر. لقد فعلت كل ما خططت له... ما عدا أنها تتزوج رجلا ما كان يجب أن تتزوجه، وهي تتزوجه عن حب.. والحب أمر لا تثق به إطلاقا. شعرت بالسخرية. كانت تنوي أن تقيم زفافا حقيقيا وتتعلم أن تهتم بالرجل الذي اختارته بسبب اهتماماتهما المشتركة. ولكنها بدلا من ذلك، ها هي تتزوج رجلا أحبته بجنون، رجلا عليها التخلي عنه قريبا. كان على هذه الفكرة أن تهدئ من روعها ولكنها حطمت قلبها. الليلة، بعد المقابلة مع ج.س بارينجر، سوف يخرج كول من هذا الزواج ومن حياتها. دق جرس الباب، فأجفلت جين لدرجة أنها كادت تصرخ. من تراه يكون الهاتف الداعي؟ " الضيوف" الوحيدين الذين زاروها منذ وصيلها كانوا قارئي الإعلان. ألقت نظرة على ساعتها فوجدتها قرابة العاشرة والنصف. وإذا كانت تبغي الوصول في الوقت المناسب إلى المحكمة، فعليها أن تخرج الآن. في طريقها إلى الباب الأمامي، تناولت حقيبة يدها البيضاء وقد قررت أن تسوي مسألة الطارق على الباب بسرعة. فتحت الباب وهي تقول:" عذرا ولكنيي مستع..." لكنها ما لبثت أن أدركت أن الرجل الواقف في ظل الشرفة هو كول. في البداية لم تستوعب الفكرة. فالرجل الماثل أمامها كان يرتدي سترة حريرية وقميصا أبيض وبنطلون جينز. ولم يخطر لها يوما أن كول يملك سترة.. بغض النظر عن أنها حريرية. ولكنها لن تخطئ بالتعرف إلى تلك العينين الفاتحتين. إنه كول! تسارعت نبضات قلبها عند رؤيته وعادت تتأمل ثيابه. بالكاد صدقت عينيها! كان مثيرا ووسيما ورومانسيا وطبعا أنيقا أكتر من العادة. ورغم أنها وجدت مظهره مثيرا ورجوليا، أخافها اختياره لتلك الثياب غير التقليدية بالنسبة ليوم زفافه. وغاص قلبها لفكرة أن هذا الاختيار عائد إلى أن هذا الزواج مجرد خدعة خسيسة ولا تستحق منه تلك الجدية. وقال لها صوت في داخلها. ولِمَ يأخذ الأمر على محمل الجد؟ فهذا الزواج مؤقت فقط، أقله بالنسبة إليه. ـ أنت جاهزة! ظننتني سأنتظر ـ كنت في طريقي إلى هناك ارتجف صوتها فوبخت نفسها لضعفها أمامه. ـ ظننتك قلت إنك ستلاقيني في المحكمة جالت العينان اللامعتان على وجهها وكأنهما تستوعبان كل تفصيل فيه، فشعرت جين بأنها أشبه بلوحة فنية في أحد العارض. ويا لها من فكرة غريبة تراودها! قال لها مفسرا:" إذا كان علينا أن نصل في الوقت المحدد للعشاء، فسيكون علينا الاتجاه إلى دالاس مباشرة من المحكمة. فالمسافة تستغرق ست ساعات على الأقل ومن المستحسن ألا يترك أحدنا سيارته في موقف عام" كان كلامه منطقيا وجدت نفسها غبية لأنها لم تفكر بذلك. في الواقع، هي لا تفكر مؤخرا بمنطق. استجمعت شتات نفسها وأشارت إلى السيارة:" حقيبتي على المقعد الخلفي، هل تمانع إذا ذهبنا في سيارتي؟' هز رأسه:" سيارتك مستأجرة ومن الأفضل ألا تسير مسافات إضافية. سأنقل حقيبتك إلى سيارتي، وبإمكان شركة تأجير السيارات أن تأخذ سيارتك من هنا" كانت على وشك أن تجادله، لكنها لم تفعل لسببين:أولهما مسألة المسافات الإضافية، وثانيهما أن الكعب العالي الذي تنتعله ليس مريحا جدا للقيادة. ومن دون أي تعليق، أخرجت مفتاح البيت من حقيبتها وأغلقت الباب الأمامي. وعندما أمسك كول ذراعها ليساعدها على نزول الدرج، أجفلت هاتفة: " يمكنني السير بمفردي". لم تعرف تماما لماذا قاومت لمسته تلك بمثل هذا العنف. على الأرجح أن كبرياءها المجروحة هي سبب ردة فعلها العنيفة. فإذا كان كول يجد مسألة الزواج بها أمرا مقيتا، عليها هي أيضا أن تجد لمسته مقيتة أيضا..أو أقله أن تجعله يظن ذلك. كانت الرحلة إلى البلدة مثقلة بالصمت وبقيت جين متمسكة طيلة الوقت بباب سيارة كول، محاولة التركيز على المناظر الساحلية وأشجار النخيل والشواطئ الرملية والبحر. ولكن الرجل الجالس إلى جانبها استحوذ على تفكيرها، بوسامته ووجهه الذي لوحته الشمس وعضلاته المفتولة. خلال نصف الساعة التي استغرقتها رحلتهما إلى البلدة، كان أمام جين متسع من الوقت لتجد أمورا تفكر فيها عدا كول بعد أن لاحظت سيارته المترفة، راحت تفكر بأن عامل الصيانة هذا يفضل على ما يبدو تبذير المال الذي يجنيه على أمور ثانوية كهذه السيارة الفاخرة ذات الفرش الجلدي وجهاز الستيريو المميز. من المؤسف أنه لم يشغله، فقد أصبحت مولعة بالأوبرا الفرنسية. وحتى لو لم تكن مولعة بها، كانت الموسيقى على الأقل لتخرق الصمت المطبق. اجتازا جسر هاربور الذي يعلن عن اقتراب وصولهما. فشبكت جين يديها في حجرها، محاولة التمسك بما تبقى لها من رباطة جأش. بلغا آخر الجسر، فعادت جين بنظرها إلى البلدة وبذات نبضات قلبها تتسارع وشعرت بالدوار. هل هي فعلا على وشك الزواج، أو أن هذا كله مجرد حلم؟ بعد لحظات قليلة، ظهر أمامها مبنى البلدية ذو الطوابق العشرة، بلونه الحجري ونوافذه المثمنة الأضلاع. مرا بجانب شلال مرتفع، تحيط به أشجار السنديان والمقعد المظللة، متجهين نحو موقف السيارات. ركن كول سيارته وترجل منها دون أن يتلفظ بأي كلمة. راقبته وهو يستدير حول السيارة ليأتي ناحيتها، وبينما هو يقترب، لمحت سلسلة ساعة متدلية من جيبه. عندما بلغ بابها، كانت من الوقاحة بحيث طلبت منه خدمة أخرى. فتح لها الباب بكل تهذيب ولباقة، فأشارت إلى السلسلة وهي تسأله:" هل تعيرني هذه لأستعملها كسوار؟" انحنى لنحدق إليها إذ لم يفهم قولها:" أتريدين استعمال ساعة جيبي كسوار؟" ـ السلسلة فقط، من أجل الزفاف. شعرت بالسخف لكشفها أمام كول رغبتها باتباع التقاليد، لا سيّما وأنه لا يشعر بشيء حيال هذا الزواج. ولكن كان من المهم بالنسبة إليها أن تجعل من الاحتفال حقيقة، قدر المكان. تابعت كلامها بشجاعة:" لدي غرض قديم وآخر أزرق ولكن ينقصني شيء مستعار" نظر إليها بعينين ضيقتين، فأغاظها أن يستغرق كل هذا الوقت ليفكر بطلبها. ـ أحتاجها لعدة دقائق فقط. لن أحول سرقتها منك ـ حسنا مد لها يده لكي يساعدها على الترجل ـ شكرا! قالت ذلك وهي تمسك بيده، فرافقها بضع خطوات قبل أن يفلت يدها ليفكّ السلسلة من الساعة. ـ عليك أن تلفيها حول معصمك ـ لا بأس! أقدر لك ذلك ـ ما من مشكلة! دس الساعة مجددا في جيبه. وبينما كان كول يمسك السلسلة، لاحظت جين قلادة صغيرة في طرفها. لف كول السلسلة مرتين حول معصمها الأيمن قبل أن يغلقها أدارت القلادة نحوها وقبل أن يتمكن كول من الكلام، عرفت جين أنها تعطى في الجامعات للحائزين على درجات الامتياز والتفوق، فهي نفسها حصلت على واحدة مثلها من جامعة تكساس. ـ من أين حصلت على هذه القلادة؟ ألقى عليها نظرة سريعة حادة ثم حول نظره إلى الحلية التي كانت تتأملها:" ماذا؟" سألها ذلك وقد عادت نظراته إلى وجهها:" آه.. ما هذه؟ لقد ربحت الساعة في رهان وكانت القلادة في السلسلة" شعرت جين بالارتباك:" والرجل الذي ربحتها منه، تركك تأخذها؟" ـ ربما تخيل أنه سوف يستعيدها ـ لكنه لم يستعدها؟ التوت شفتاه بسخرية:" وهل يبدو أنه استعادها؟" هزت كتفيها وهي تقول:" لو كنت مكانه، لما تخليت عنها مقابل أي شيء" ـ بلى، كنت لتتخلين عنها ـ وما الذي يجعلك تقول هذا؟ التوت شفتاه بابتسامة ساخرة:" انظري ما الذي تفعلينه من أجل وظيفة وإذا قلت أنك ما كنت لتتخلي عن قطعة المعدن هذه من أجل الترقية، فأنت كاذبة" لو علمت ما سيسبب لها قربها من كول من اضطراب عاطفي، لتخلت عن القلادة تجنبا لذلك. ولكن حتى في وضعها هذا، لن تترك له الكلمة الأخيرة. ـ أكره أن أفكر في أن قلادتي بحوزة رجل متعجرف لا يعرف حتى معناها ـ لا تقلقي آنسة سانكروفت. أنا لا أسعى وراء قلادتك الثمينة. قال هذا ثم أمسك بمرفقها، حاثا إياها على التقدم. ـ هيا، لننته من هذا عند الساعة الحادية عشرة تماما، كان كول و جين يقفان وحدهما في قاعة المحكمة. لم تستطع جين أن تجد ما تقوله، أما كول فلم يُبدِ أي رغبة في الكلام كذلك. استند إلى مكتب القاضي، شابكا ذراعيه، محدقا بالكراسي بتعبير جدي وقد بدا قلقا. نظر إليها لحظة ثم أشاح بوجهه وهو يشد على فكه. أما هي فاستمرت تحدق إليه رغما عنها. لماذا يبدو رائعا إلى هذا الحد، بطوله ولون شعره وحاجبيه المرسومين وعينيه الساحرتين وبتلك السترة الحريرية والجينز الأزرق؟ يبدو أشبه وعارض أزياء مزاجي، ينتظر بفارغ الصبر أن ينتهي المصور من التقاط الصور. سمعت جين ضجة فاستدارت لترى قاضيا يدخل من الباب وثوبه يرفرف على الجانبين. ابتسم كول، وأخذ مكانه أمام القاضي، شارحا له أنهما قدما للمثول أمامه بهدف الزواج. وتقدمت جين بدورها، وعندما دنت منه، اشتبكت نظراتهما، فحولت جين نظرها فورا إلى القاضي الذي فتح كتابا مجلدا بتعبير جاد وبدأ بتلاوة الكلمات التي تربط جين بكول إلى الأبد. أصغت جين إلى تلك المقاطع المألوفة، المتلوه باحترام ورصانة. في قلبها، كانت جين تصرخ: نعم نعم نعم! سوف تحب كول طيلة حياتها، نعم نعم نعم سوف تلازمه في السراء والضراء. كانت تصرخ في داخلها"نعم" ولكن أمام القاضي وعلى مسمع كول، كانت نَعمُها همسا خجولا صادرا عن عروس خجول. كول أيضا أجاب بنعومة، ووعده بأن يحبها من كل قلبه إلى الأبد! صدر عنه هذا الكلام بنعومة فائقة تكاد تشبه رقة العاشقين. ألقت نظرة على وجهه فبدا لها مركزا جدا على عهوده، ولكنها خشيت أن تكون تعابيره ناجمة عن الاشمئزاز الذي يشعر به بسبب تلك الأكاذيب. لا أن عينيه استوقفتاها، فقد كانتا تشتعلا نارا خطفت أنفاسها. وتمنت أن تكون النيران المشتعلة في أعماق عينيه ناجمة عن الحب لا الغضب. ولكنها أكثر واقعية من أن تؤمن بالعجائب. شعرت بخاتم يدسّ في إصبعها وعندما أخفضت نظرها، رأت كول يمسك يدها بيده ويدس الخاتم في اليد الأخرى. وكانت لمسته عزيزة على قلبها. لمع الخاتم الماسي في إصبعها، مبهرا إياها. لم يخطر لها أن تذكر كول بأن عليه أن يحضر ختما وفاجأها أنه فكر بذلك من تلقاء نفسه. بدا الخاتم الماسي أصليا بالنسبة إلى حلية مزيفة، كما حسبتها. ولكن حتى الماس المزيف بهذا الحجم وتلك النوعية مكلف جدا بالنسبة إلى عامل صيانة عادي. ابتسمت له، ورغم أنها قدرت له أنه تذكر الخاتم، إلا أنها أحبت أكثر قوة يده الدافئة وهي تضغط على يدها. وعندما أفلتها، أحست بأنها فقدت شيئا غاليا عليها، لكنها بقيت تبتسم له، محولة ظهار امتنانها للجهد الذي بذله. عندما حان الوقت لتعطيه خاتمه، دست يدها في جيب سترتها وسحبت الخاتم الذهبي الذي اشترته في اليوم السابق عندما ذهبت لتختار ثيابها. كان خاتما ذهبيا عيار 18 قيراط. كانت تعلم أن هذا الحماقة بعينها، لكن التقاليد هي التقاليد وأرادت حقا أن يكون كول... حسنا، التفكير في هذا الأمر مؤلم لا جدوى منه. وكما هي العادة، أمسكت جين بيده. كانت أصبعه أكثر ثباتا من أصبعها المرتجفة وراحت تدعو لئلا يقع الخاتم منها. دسته في إصبعه من دون أن توقعه ثم أطلقت تنهيدة ارتياح. من حسن حظها أن قياسه كان مناسبا تماما. كما أن ختم كول ليس مزيفا أو غنيمة ربحتها. إنه أصلي وقد اشترته خصيصا للرجل الذي تحب. ولما كانت عاجزة عن النظر في عينيه، أرغمت نفسها على إفلات يده والتركيز مجددا على القاضي. أومأ القاضي وابتسم ثم تابع مراسم الزفاف، غفلا عن أنه شريك في هذه المهزلة. نظرت جين إلى الخاتم في إصبعها وهي تقاوم دموعها وتوبخ نفسها بصمت: كول يفعل ما طلبته منه. هو لا يحبك، واجهي الأمر. احصلي على ترقيتك وتابعي حياتك. ـ يمكنك أن تعانق العروس. لم تستوعب جين كلام القاضي في البداية، إلى أن دنا منها كول وأمسك كتفيها لتواجهه. عندئذ فهمت معنى تلك الكلمات الأربع: يمكنك أن تعانق العروس. كم من مرة حلمت بتلك اللحظة؟ نظرت في عينيه، آملة ألا يظهر شوقها إليه على وجهها. كانت نظرته جريئة والنار التي بدت في عينيه أطلقت رعشة في كيانها. هل كان غاضبا لاضطراره إلى أن يعانقها، أو ما رأته هو الرغبة؟ أغمضت عينيها، ولم تهتم لنوع الانفعال الذي رأته في عينيه. كان هذا جنونا، ولكنها لم تهتم، كان قلبها يخفق بسرعة فرفعت ذقنها قليلا. وأحست بأنه يمسك أعصابه ويتمالك نفسه بسبب حضور الشخص الثالث معهما. لم تتحرك يداه عن كتفيها وهو يعانقها ويحرقها بنار مشاعر لا تنطفئ. هل يكنّ لها شعورا أقوى مما يريد الإفصاح عنه أو أنه يتلاعب بها؟ هل يفصح لها عن إعجابه أو يعبث فقط بعواطفها؟ هل كان غاضبا منها بسبب ذلك المخطط، لدرجة أنه يرفض الاعتراف بأحاسيسه؟ أو أن هذه طريقة يعاقبها بها بسبب الخطة التي أشركته فيها؟ لم تشأ أن تعكر صفو تلك اللحظة بالشكوك، فوضعت ذراعها على خصره، تحت السترة، وضمته إليها، قائلة لنفسها إن أي عروس تتشبث هكذا بعريسها أثناء زفافهما وأيا تكن مشاعر كول المبطنة، لا يمكنه مناقشة ذلك. إذا لم يتسن لها معانقته مجددا، فسيكون لديها على الأقل هذه اللحظة لتتذكرها وتحفظها في قلبها. كان قويا وحيويا وعطره أشبه بغابة صنوبر. ت تنشقت رائحته وهي تضمه إلى صدرها، مستمتعة بخفقات قلبه، المتناغمة مع خفقات قلبها. وأحست بجسمها يتقد وبحرارته تخنقها، لدرجة أنها كادت تسقط أرضا. لم تظن يوما أن لحظة حميمية كهذه قد تغمرها بمثل هذا الإحساس. كانت مغرمة به لدرجة أنها لم تحتمل فكرة رحيله عنها. فشددت من عناقه وهي تتأوه. صُدمت للآهة التي أطلقتها ولا بد أن كول صدم أيضا لأنه ابتعد عنها خطوة إلى الوراء. شعرت بجسمها يحترق وأنفاسها تنقطع عندما التقت نظراتها بنظراته، وقد أذهلها ما رأته. كان الألم باديا في عينيه، الألم! كان واضحا لدرجة أنها شعرت بقلبها يتقطع. *** 11ـ الغضب الساطع آتٍ خيم الصمت على رحلتهما إلى دالاس. الألم الذي بدا في عيني كول استحوذ على أفكار جين وقد أصبحت تلك اللحظة الحدث الأهم في حياتها. كان انتباه كول مركزا طيلة الوقت على القيادة. على الأقل بدا مركزا تماما على هذا الأمر، بينما تمنت هي لو تتمكن من التركيز على أي شيء عدا كول. قرابة الساعة الثالثة، لم تستطع جين تحمل ذلك الصمت المطبق مدة أطول. فتنحنحت:" ماذا حل بالبطة؟" طرف بعينيه وكأنها خطفته من أفكار بعيدة جدا:" ماذا؟' نظر إليها ثم أعاد انتباهه إلى الطريق مجددا ـ البطة! ـ آه.. كيف حالها؟ نظرت جين خارج النافذة، إلى حقل يرعى فيه قطيع من الأغنام. ـ لديها معجب بعد رحيلك مباشرة، بدأ يدور حولها ذكر كعاشق أحمق أجفلت عند سماع عبارة "عاشق أحمق"، لكنها ما لبثت أن تخطت ذلك. ـ علجوم نظرت إليه، متمنية لو أن قلبها لا يقفز هكذا في كل مرة تلمح فيها وجهه الرصين الوسيم، متسائلة عما قاله:" عفوا؟" ـ ذكر البط هو العلجوم شعرت بشيء من الخيبة، فما يدور بينهما ليس محادثة إنما محاضرة عن أسماء طيور الماء. ـ في الواقع..لا يهمني استدارت ناحيته لتواجهه بشكل أفضل:" ربما علمك ذلك كيف أن النساء يتخلين عنك بسهولة" ـ ما معنى ذلك؟ في الواقع ليس لديها أدنى فكرة. لكنها رفضت الاعتراف بذلك، فاستدارت تحدق من النافذة:" فكر فقط في الأمر" لمرة واحدة بدت معتدة بنفسها وسمحت لنفسها بابتسامة صغيرة. ـ هل تريدين أن نتوقف لتناول الطعام؟ في الواقع لم تأكل شيئا منذ الصباح والعشاء مع ج.س بارينجر لا يزال بعيدا، غير أنها لم تحتمل فكرة الطعام، لا سيما وأن معدتها منقبضة وجسمها كله متشنج. فهزت رأسها نفيا وقالت:" إن كنت أنت جائعا فيمكنك أن تتوقف" شد على شفتيه من دون أن يجيب، يبدو أن رحلتهما ستكون امتحانا طويلا وصامتا لإرادة كل منهما. أخفضت ناظريها ولاحظت سلسلة الساعة حول معصمها:"آه..." فكتها وأعطته إياها:" هذه سلسلتك، شكرا" أفلت المقود من يده وأخذها منها:" لا مشكلة" ـ عليك أن تفكر في إعادة هذه القلادة إلى صاحبها رفع نفسه قليلا ودس السلسلة في جيب سرواله، من دون أن ينبس ببنت شفة. لم يعجبها صمته، فقد وجدت ذلك فضا. ولكن هل يمكنها أن تلومه؟ فهو ليس سعيدا بما فعله من أجلها، لأنه لا يحبها. وها هما الآن متزوجان. حتى وسط هذا الخداع والتضليل، شعرت بقليبها الأحمق يقفز فرحا، فهي أقله في الوقت الحاضر زوجة كول. حاولت أن تستعيد رباطة جأشها لتوجهه، مصممة أن تفصح له عن امتنانها. ـ كول... أعرف أنك قلت لي ألا أشكرك، لكن... ـ جنيفر! ـ لا تقاطعني! رفعت يدها وتابعت كلمها رغم أنها لاحظت أنه ناداها باسمها ـ أنا أدين لك بالشكر وسوف أشكرك، شئت أم أبيت قاومت السحر الذي كان ينضح منه رغم عدائيته تجاهها. أما هو فبسط أصابعه وكأنه يزيل التشنج منه، ثم قبض على المقود مجددا. ـ اسمع كول! كل ما أريد قوله هو أنه إذا كان ثمة طريقة أرد بها جميلك، فلا تتردد بإطلاعي عليها. أعني، إذا كنت بحاجة إلى أعمال صيانة، فسيسرني أن أعرفك على أصدقائي. يمكنني أن أشهد على جودة عملك، كما يمكنني أن أفعل أفضل من ذلك: بوسعي إعفاؤك من الضرائب لمدة سنتين إذا شئت. ـ لا تتسرعي بقطع الوعود! ـ لا تكن عنيدا. لم لا؟ ـ عشاؤك المهم مع ج.س بارينجر الليلة. ما الذي يضمن أنني لن أسبب لك الخزي؟ هل كان حقا قلقا من ألا يكون على قدر المستوى المطلوب؟ يا اللسخف! هي لم يساورها أي شك في ذلك! ـ أنا لست قلقة، كول! وابتسمت له بتعبير لم يكن أكثر صدقا من هذه اللحظة وبخت جين نفسها، آملة أن تمحو عن وجهها تلك الابتسامة السخيفة. أيتها الغبية! لقد جاهدت لئلا تقعي في الحب جددا، ولكنك وقعت! حتى أنك ارتبطت به، سواء أكان يصدق ذلك أم لا، وتفكرين بطريقة تقنعينه بها بأن ينسى أمر الطلاق الذي وعدته به. حاولت أن توجد بعض الثقة والاحترام بينهما، فتابعت قائلة له:" أنت ذكي ومثقف أكثر من أي شخص أعرفه". وأضافت في سرها : ثم أنت الرجل الذي أحب. وأخيرا قالت له بصوت عال:" أنا أثق بك" ـ ثقتك تثلج القلب.. عزيزتي! قال ذلك وهو ينظر إليها بعينين آسرتين ركن كول سيارته أمام مطعم" ترينيتي ريفر" وهو غضب من نفسه لدرجة أنه كان ينفث لهبا. كيف سمح لنفسه بأن يقع في حب امرأة تقبل الزواج من أجل منصب فقط؟ حتى أمه لم تكن بهذه الدناءة. كيف حصل ذلك؟ لقد نصح نفسه لسنوات بألا يقع في الفخ نفسه الذي وقع فين والده. ومع ذلك، ها هو ذا متزوج بامرأة تعتبره رجلا دون المستوى، لجأت إليه في اللحظة الأخيرة لتستغله. والأسوأ من هذا كله أنه جاراها في خطتها. لماذا؟ ما الذي دهاه؟ سخر منه صوت داخله: تعلم تماما لماذا وما الذي دهاك. لقد في حبها أيها الغبي! أغضه هذا الصوت الساخر، فكاد يخنق المقود بيديه. كما أنه غضب عندما تركها على الشاطئ، مساء الجمعة الفائت وغضب عندما قدما أوراقهما تحضيرا للزواج، وغضب أيضا عندما وجد نفسه عائدا إلى المنزل ليصطحبها إلى مقر البلدية. لم يكن ذلك ما اتفقا عليه، ولكنه شعر بحاجة لرؤيتها. وعندما رآها... يا إلهي كم بدت جميلة! كانت صورة للعروس الطاهرة. وتعذب كثيرا وهو يحاول أن يبعد يديه عنها. في الواقع لم تستطع ذلك تماما، فقد حاول أن يمسك بذراعها ولكنها صدت، مذكرة إياه كم كان اختيارها سيئا، عندما رسا عليه. أما أثناء انتظار القاضي، فكان يغلي ويعيش صراعا مع نفسه لأنه أصر على التصرف بحماقة. الوقت الوحيد الذي شعر فيه بشيء من التعقل كان أثناء المراسم. كان ذلك جنونا وأمرا مثيرا للسخرية ولكنه قال العهود من كل قلبه وقصد كل كلمة قالها. تبا له! صر على أسنانه ممررا يده بعنف في شعره ـ كول؟ نبرة جين ا لمتسائلة خطفت كول من أفكاره الضبابية، ولفتت نظره إليها. أجفلت للتعبير البادي على وجهه لكنها أشارت إلى صدره قائلة:" لا أعرف إن كانوا سيدعونك تدخل من دون ربطة عنق" نظر إليها لحظة أخرى قبل أن يفتح باب السيارة ويعطي المفاتيح لعامل الموقف الذي يرتدي زيا خاصا ـ سنرى مطعم ترينيتي ريفر ملكية أخرى من ممتلكات كول في ولاية دالاس وهو أمر تجهله عروسه الصعبة الإرضاء. وهي تجهل أيضا أن أي شيء يرتديه ج.س بارينجر يصبح تلقائيا الموضة المتبعة. تمتم عامل الموقف باحترام وانتظر ريثما يستدير كول حول السيارة ليفتح الباب لجين. وأجفل كول عندما سمحت له جين بأن يتأبط ذراعها وهما يصعدان الدرجات الرخامية المؤدية إلى بوابة المطعم الزجاجية.وعندما أصبحا في الداخل، تولت جين زمام الأمور وقالت للنادل الذي كان يتفحص دفتر الحجوزات:" نحن بضيافة السيد ج.س بارينجر" حول النادل نظره إلى كول بإيماءة احترام، فعبس كول وهز رأسه قليلا، مرسلا بذلك إشارة إلى الرجل لئلا يقول شيئا. عاد النادل بنظره إلى جين وابتسم لها بحرارة. ـ نعم طبعا وأشار إلى أحد الموظفين بالاقتراب، ثم همس له بالتعليمات قبل أن يبتسم لكول وجين مجددا ـ اتبعا النادل من فضلكما. سبقت جين كول وكان هو متخلفا عنها بعدة خطوات عندما همس له الرجل:" سررت بلقائك سيدي" نظرت جين إلى الخلف وقد سمعت النادل يتكلم:" ماذا قال؟" هز كول كتفيه وقال كاذبا:" قال استمتعا بالعشاء" اقتنعت جين على ما يبدو بما قاله وأسرعت خلف النادل الآخر. راقبها كول وهي تسير. لقد أصبح يعرفها جيدا لكي يرى توترها. وشعر بشيء من الذنب لم هو على وشك أن يفعله، لكنه قال لنفسه: ليس لديك ما تشعر بالذنب لأجله. لقد توسلتك لكي تتزوجها وأنت فعلت ذلك، ثم ليس لديها ما تخسره. أرشدهما النادل إلى طاولة منعزلة في زاوية رومانسية رومانسية! من أين أتى بهذه الفكرة؟ فعلى الطاولة نفسها قابل نائبي الرئيس السابقين مع زوجتيهما انتظر النادل احتراما، ريثما ساعد كول جين على الجلوس وجلس إلى جانبها ـ ماذا تودان أن تشربا؟ سأل النادل عن طلبهما، فنظرت جين إليه:" قهوة من فضلك" ـ وأنا أيضا أومأ النادل ثم ابتعد. حول كول انتباهه مجددا إلى جين التي كانت تنظر حولها، حائرة. بدا من تعبيرها القلق أنها لم تلحظ الشيء الكثير من فخامة المطعم بأرضيته الرخامية وثرياته المنخفضة وتحفه الفنية الموسيقى الكلاسيكية الناعمة وتهامس الزبائن المتأنقين كان يضفي على الأمسية رونقا خاصا. ولكن كول رأى أن جين لم تكن مهتمة بالجو الموسيقي الذي يستمتع به الجميع. كانت تسعى لرؤية شخص واحد ولا أحد سواه وهو النذل العجوز. وبالطبع لم تكن تعرف شكله، ما صعب الأمور عليها. ـ ظننته سيكون هنا قالت ذلك مؤكدة ظن كول. ثم استدارت لتواجهه، وقد بدت متوترة إنما جميلة في ضوء الشموع. ابتسمت له فشعر بالرغبة تجتاحه. ـ لا تكن متشائما، كول. تبدو في غية... قالت ذلك وقد دنت منه وضغطت على يده. لكنها ما لبثت أن شعرت بالتردد والإحراج، فقالت:" ما أقصده هو أنني متفائلة بشأن الليلة" أبقت يدها على يده وابتسمت له:" لقد قمتُ بالخيار الصائب" بدت خجولا وهي تقول ذلك، فلم يعرف كيف يفسر ملاحظتها، فإطرائها لم يكن متوقعا. وبعد أن قابل كلامها بالصمت، أفلتت يده وأشاحت بنظرها وقد ماتت الابتسامة على شفتيها:" آمل أن يصل قريبا" عاد النادل بإبريق القهوة. ما أن ينتهي من سكبها، حتى تلاحظ أن على المائدة كرسيين فقط. شد قبضته على الطاولة، شاعرا بأن الوقت الحاسم يقترب. تفحصت جين ساعتها:" إنها السابعة إلا دقيقتين، جئنا باكرا" نظرت إليه وابتسمت له مجددا وقد بدا وكأن وجوده يشجعها ـ أرفض أن أقلق. كل شيء سيكون على ما يرام لم شعر بهذا التشنج عندما نظرت إليه بهذه الطريقة؟ لأنها تثق بك أيها الغبي! تظنك هنا لتساعدها، لكنك على وشك أن تسحب البساط من تحت قدميها. ابتعد النادل بهدوء ثم عاد يسكب الماء في كأسيهما البلوريتين. وعندما انتهى، انحنى باحترام لكول وقدم له قائمتي طعام. ـ هل تود أن تتذوق السيدة مقبلات المطعم، سيد بارينجر؟ ها هي الحقيقة، مجردة وبسيطة، وما عليه سوى أن ينتظر أن تستوعبها حتى تتفاعل معها. هز رأسه وأشار إلى النادل أن يرحل، من دون أن تفارق عيناه وجه جين لحظة واحدة. خفتت ابتسامتها ثم اضطربت تعابيرها. حولت انتباهه من النادل إلى كول ومنه إلى المائدة ومقعديها الاثنين ثم أخيرا إلى كول مرة أخرى. بقيت لحظة طويلة صامتة، عاجزة عن الكلام، رغم أنه أحس بأنها بدأت تستوعب هول ما يجري. فقد نظرت إليه بعينين زجاجيتين لا تطرفان. ـ أنت؟ كاد كول يرى ثقتها تتمزق أمامه، لكنه تحدى الرغبة التي اجتاحته في ضمها إليه. فقال بإيماءة خفيفة وكأنه يعرفها عن نفسه:" العجوز النذل بخدمتك" رفعت يدا مرتجفة لتسأله:" أنت ج.س بارينجر؟" بالكاد استطاع سماعه بسبب الموسيقى والأصوات المرتفعة من حولهما. في البداية ستغضب ثم ترتاح عندما تعلم أنها لم تأسر نفسها مع رجل غريب، في زواج لا يرتكز على الحب. ـ صدفة غريبة، أليس كذلك؟ ـ لكن... كيف؟ لماذا؟ سألت ذلك وقد بدت شاحبة جدا رغم الاسمرار الذي اكتسبته حديثا على الشاطئ توقع أن تغضب الآن لكن يبدو أن ردات فعلها أبطأ مما ظنه. ـ منزل الشاطئ هو لي قبل أن يصبح ملاذا خاصا بالشركة وشهر حزيران مخصص دائما لي. وقد تم تأجيره لك عن طريق الخطأ ـ لِمَ لمْ تقل لي؟ كان ذلك سؤالا صعبا. وخشي أن يكون الرد بسبب عينيها الخضراوين الواسعتين وشفتيها المثيرتين. ولكنه بدلا من أن يقول الحقيقة، قال لها الكذبة التي أقنع بها نفسه ـ كان ذلك امتحانا.. لأرى إن كنت مؤهلة لمنصب الرئاسة ـ لقد جعلتني أبدو كالغبية! ها هو الغضب الساطع آت! قالت بشفتين مرتجفتين:" تركتني أبحث عن زوج... هكذا" بدت مصدومة أكثر منها غاضبة، الأمر الذي فاجأه، فقال لها:" أبديت لك رأيي بهذا الموضوع" ـ لا أصدق أنك.. يبدو أن فكرة الزواج تراءت لها فجأة لأن عينيها اتسعتا واغرورقتا بالدموع ـ إذا لماذا... وشدت قبضتيها:" يا إلهي.. لماذا..." وأفلتت دمعة من أهدابه لتنسكب على خدها أجفل كول عند رؤيتها فقد توقع أن تستشيط غضبا لا أن تنفجر بالبكاء. لم يتوقع أن تكون حزينة، ولم ير يوما مشهدا أكثر تأثيرا من تلك الدمعة اليتيمة. الآن فهم شعور والده وفهم أن المرء لا يمكن أن يختبئ من الحب. شغفه بها كان شعورا حيا يتنفس ولن يتحلى أبدا بالقوة ولا الإرادة ليدفن هذا الشعور. كان حزنه شديدا لدرجة أنه حاول أل يبدو كضحية مذبوحة يسيل الدم منها. لو عرفت بكل هذا، لضحكت حتما، نظرا لمدى غبائه ـ تسألين لماذا مضيت قدما في مسألة الزواج تلك؟ أنهى عنها سؤالها العلق، شاتما نفسه لعدم وجود أي إجابة هادئة يقولها لها. والحقيقة أنه إنسان ولديه ضعفه البشري. ولم يكن ذنبها إن وقع في حبها ولا ذنبه هو. الواقع أنه سيحمل نذوب هذا الحب زمنا طويلا.. طويلا ـ تزوجتك... لكي أظهر لك كم كان ذلك غير ضروري كانت هذه كذبة واهية ولكنها كل ما استطاع إيجاده ـ أنا أمنحك منصب رئاسة الشركة، آنسة سانكروفت انفرجت شفتاها ذهولا:" أنت.. أنت...؟" ثم ترددت وراحت تحدق إليه، فبدا الصمت المطبق ثقيلا جدا وبعد محاولتين فا'لتين، تمتمت متسائلة:" أنت تمنحني الرئاسة؟" تنهد بحزن وأومأ لها:" ءنت تتمتعين بأفضل المؤهلات.. بغض النظر عن مسألة صيد الأزواج السخيفة تلك" ـ ولكن إذا أنت... سكتت وقد تراءت لها الحقيقة المرة التي تخيلتها ـ سيظن الجميع أنني حصلت على الوظيفة لأنني تزوجت مالك الشركة وجد صعوبة في النظر إلى تلك العينين الكئيبتين ود تبدد فيهما كل أثر للثقة، لكنه حاول أن يبدو قويا وصارما. ـ لا تقلقي! لديك ما يكفي من مؤهلات لتحولي دون حصول ذلك بدت تعابيرها وكأن أحدهم صفعها على وجهها. بالطبع لم تفهم وهو لم يتوقع منها ذلك. صدر صوت متقطع من حنجرتها فسارعت تضع يدها على فمها وقد بدت وكأنها تشعر بالغثيان تملكته مشاعر مختلفة ومتناقضة وخشي أن تبدو رغبته في معانقتها واضحة جدا، فجاهد ليظهر بمظهر الرجل الفلاذي ـ لقد حصلت على الوظيفة، دونما الحاجة للارتباط برجل لا تحبينه. أظنك ارتحت الآن. ـ أتظن..؟ وماتت الكلمات مختنقة على شفتيها . جلست متصلبة لحظات طويلة بحيث خشي أن تكون قد توقفت عن التنفس وأخيرا همست قائلة:" طبعا هذا ما تظنه" رجع إلى الخلف في كرسيه، متفاجئا لشعوره بالنذالة. صحيح أنه كذب عليها ولكنه منحها الوظيفة التي أرادت من كل قلبها. لمَ ليست فرحة؟ لم لا ترقص ابتهاجا؟ لم تجلس هكذا وتنظر إليه بعينين يائستين؟ أخفى اضطرابه الداخلي خلف قناع اللامبالاة والبرودة وضغط يديه على الطاولة ثم نهض. كان بحاجة لأن يرحل من هنا قبل أن يجذبها إليه ويعانق تلك الكتفين المرتجفتين. ـ تهاني على الترقية قال هذا وتناول محفظته ليسحب منها بعض المال بالإضافة إلى بطاقة الموقف ويعطيها إياها. ـ استعملي السيارة.. عزيزتي، أنا سأستقل سيارة أجرة. استمتعي بالعشاء، فقد عملت جاهدة لتصلي إلى هنا احتضنت جين نفسها وكأنها شعرت فجأة بالبرد، حدقت إلى الفضاء مرتجفة وكأنها تبحث عن شيء يلهيها. ثم ملأت الدموع عينيها وانهمرت ساخنة على وجهها الشاحب لان قلبه لكنه ما لبث أن قاوم تلك الأحاسيس، فهي تستحق أن تتعذب بسبب ما كانت تخطط له لتخدع " النذل العجوز" بزوج مزيف، إلا أنه لم يحتمل رؤيتها تتألم وتتحول من جنيفر ساننكروفت القوية الايجابية والحازمة إلى هذه الفتاة الضعيفة. وكره نفسه للتغيير الذي سببه فيها لكنه قال في سره. اللعنة! ليس لديك ما تعتذر لأجله. لقد توسلتك أن تساعدها! لماذا يشعر إذا بالرغبة في مواساتها؟ كان ينوي أن يدع محاميه يفسر لها كل شيء ولكنه لم يستطع أن يتركها بهذا الشكل، فقال لها وهو غاضب من نفسه لضعفه تجاهها" تمالكي نفسك. ليس لديك ما تخسرينه. على العكس، ستربحين أكثر بكثير مما تظنين" رمقته بنظرة حزينة ولمع خدها بالدموع، فمزق منظرها قلبه ـ بالنسبة إلى الاسم المزيف، تكساس لا تزال غير خاضعة للقانون. قال هذا وهو ينظر إلى عينيها المثيرتين للاضطراب. لم يكن واثقا من أنها تفهم أي شيء ولكنه شعر بأن عليه أن يتابع الشرح ـ حاولي أن تفهمي ذلك، جنيفر، صحيح أنني تزوجتك باسم كول ولكن بحسب قانون ولاية تكساس، هذا لا يغير واقع أننا قانونيا السيد والسيدة ج.س بارينجر وبالتالي فإن نصف ما أملك هو لك من الآن فصاعدا كان صوته غريبا حتى بالنسبة إليه. بدت كلماته مسطحة وآلية وهو يشرح لها الوضع، محاولا الحفاظ على برودته ـ بما أنني أنا من استعمل اسما مستعارا وأنت تزوجتني عن حسن نية.. أقله بقدر ما سمحت به دوافعك، فلديك ملء الحق بأن تبقي زوجتي أو... لا. بعد أن قال ذلك، وضع يديه على صدغيه اللذين بدآ يؤلمانه. فمن الصعب إدعاء اللامبالاة وهو ينظر إلى وجهها الجميل الذاهل. ـ الكرة في ملعبك بدا صوته غريبا وقد بدأت لمحة الإدعاء تبدو فيه ـ لديك ملء الحرية. إما أن تلغي هذا الشيء وإما أن تبقي زوجتي. هذا وقف على مدى جشعك. نظرته الأخيرة إلى مظهرها الحزين وتعابيرها الضائعة اعتصرت قلبه. فابتعد عنها كرجل جرد من كل شيء، خلا الألم والشك بالنفس. 12ـ نضحي لأننا نحب خرج كول من المطعم، وجنيفر غارقة في اليأس. خيانته لها تركتها محطمة، مدمرة، جسدا وروحا. يا للسخرية! لقد تزوجها عندما طلبت منه ذلك ومنحها الوظيفة التي لطالما أرادتها، ومع ذلك شعرت بأنها تعرضت للخيانة والهجر. ـ أما بالنسبة إلى ما قد يفكر فيه الموظفون بأنها حصلت على الرئاسة لأنها تزوجت رب العمل، فإن كول ترك لها حتما طريقة تمنع بها ذلك. لقد قال لها الكرة في ملعبها، يمكنها أن تبقى زوجته أو أن تلغي هذا الشيء بأسره. لقد جعل الأمور تبدو سهلة. فسخ سريع ولن يعرف أحد. وكأن شيئا لم يكن. إذا لماذا بعد أن حصلت على كل ما سعت خلفه، تشعر بأنها يائسة؟ لأنك أحببته وهو لم يفعل سوى الكذب. افرحي لحصولك على الوظيفة! افسخي الزواج! اعملي للشركة ما تريدين وانسي أمره! صباح الاثنين، نهضت جين من سريرها مرهقة وقد جافاها النوم طيلة الليل، وأرغمت نفسها على الذهاب إلى العمل. خشيت أن يظهر كول في الشركة ليعلن تبوّؤها منصب الرئاسة. وبالفعل تحققت مخاوفه، فقد وصل بعدها مباشرة. كان يخطف الأنفاس ببذلته الكحلية وربطة عنقه الرمادية. ولم يعد كول عامل الصيانة العاري الصدر الذي وقعت في حبه، إنما رب العمل التقليدي. وقف أمام الموظفين المحتشدين كرجل أعمال ثري صارم وناجح. هدأ من خوفهم بمزحة لطيفة وضحكة ناعمة أظهرت صفين من الأسنان البيضاء. أظهرت عيناه البراقتان المجفلتان سواد أهدابه واسمرار بشرته. حدقت جين إليه مطولا وهو يعلن فوزها بمنصب الرئاسة ثم أشار إليها بالقتراب لتقبل التهاني.تقدمت الحشد بساقين مرتجفتين وصافحت كول بشكل رسمي، كانت يده دافئة ولكن عينيه لمعتا ازدراءً وحدها استطاعت رؤيته. أرسلت يده في جسدها كله موجات من المشاعر وراح قلبها يتخبط، مصيبا إياها بالدوار. سحبت أصابعها من قبضته الرقيقة، مجاهدة للحفاظ على رباطة جأشها. وتمكنت بأعجوبة من إلقاء خطابها، رغم أنها ما عادت تتذكر ما قالته. بعد ملاحظاتها المختصرة، أضاف كول خبرا مريعا وهو أنه خلال الفترة الانتقالية، سوف يأتي إلى الشركة بصورة يومية. والأسوأ من ذلك هو أنه اختار المكتب الكائن إلى جانب مكتبها، جاعلا مسألة عدم الالتقاء به مئة مرة في اليوم أمرا مستحيلا. تمكنت جين بطبيعتها المتكتمة من أن تتجنب الأسئلة عن زواجها وشهر العسل الذي أمضته. ولم يعرف أحد أنها السيدة ج.س بارينجر. وطبعا لن يفشي كول السر. فقالت للشركاء إنها لا تزال تحمل اسم عائلتها لأسباب مهنية. النصر الذي أرادته بكل ذرة من كيانها والذي قامت بالمستحيل لتحقيقه، بدا لها فارغا. كانت تلتقي دائما بالرجل الذي وقعت في حبه، لترى اللوم في عينيه. لقد ظنته عامل صيانة وأغرمت به. ولكن اكتشافها أنه كل ما أملت أن يكونه زوجها كان قاسيا جدا عليها. مر أسبوع بكامله وكل يوم بالنسبة إلى جين أسوأ من الذي سبقه. كول دائما في الجوار، يترأس اجتماعات عليها حضورها ويمر إلى مكتبها ليعلق على مسألة أو أخرى. فكانت عيناه المثيرتان للاضطراب وعطره المثير يفقدونها تركيزها ويقطعون حبل أفكارها. منذ دخوله الشركة، وهي لا تقوى على تذكر أي جملة كاملة في حضوره. أثناء غيابه عن الشركة، كانت تقوم بعملها على أكمل وجه وقد باشرت بتحسين ظروف العاملات ممن لديهن أطفال. ولكن للأسف، حالما يظهر كول على الساحة، تعود جين إلى تلعثمها السابق. حتى أنها ما كانت لتلومه لو أعاد النظر في قرار منحها منصب الرئاسة. مساء الجمعة، وبعد يوم طويل أمضته تحت نظرات كول المتفحصة، انهارت جين على الأريكة وقد تملكها صداع أليم. وإذ كانت تشعر بالغثيان ولا تستطيع أن تأكل شيئا، تمددت على الأريكة مغطية عينيها بذراعها. لم تكن قد بدأت بعد معاملات فسخ الزواج ولم تستطع حمل نفسها على فعل ذلك، فهذا الأمر قد يدمرها. واحتمال أن يكتشف أحد أمر زواجها بكول يزداد يوما بعد يوم. والأسوأ هو أن كول قد يظن فعلا أنها امرأة جشعة تسعى إلى أكثر من مجرد منصب في الشركة. وهو أمر خاطئ عار من الصحة. وتمتمت وهي تئن حزنا:" أحبك كول. كيف أجعلك تفهم ذلك؟" تحسست محبسها ثم شدت قبضة يدها. لم لا تزال تضعه؟ لِمَ لم تنزعه ببساطة عندما كشف لها عن هويته الحقيقية؟ كان بإمكانها أن تقول لزملائها في العمل إنها فسخت علاقتها بخطيبها المزعوم في اللحظة الأخيرة. لكنها تعرف تماما لما لم تفعل ذلك. إنها تريد أن تكون عروس كول، في علاقة أرادتها أن تكون حقيقية. ويبدو أن غباءها حال دون تخليها عنه. لكن ما لم تفهمه هو لماذا لا يزال كول يضع الخاتم الذي وضعته في إصبعه؟ أليذكرها بسخافة حيلتها أو بعمق خيبته؟ رن جرس الهاتف موقظا إياها من أفكارها. انكمشت مكانها وكان الرنين الحاد يزيد من صداعها. ومن دون أن تجلس، حاولت أن تمسك هاتفها النقال الموضوع على الطاولة بجانبها. عثرت عليه بعد أن رن أربع مرات:" آلو؟" ـ آلو جنيفر، أنا أمك فركت جين عينيها الناعستين:" مرحبا، ما الأمر؟" ـ سأعود إلى الجامعة وفكرت في إبلاغك كشرت جين مرتبكة:" الجامعة؟ لست أفهم" ـ والدك سيتقاعد من منصبه كرئيس بريتشفيلد في شهر أيلول ولن يحتاج إلى خدماتي بعد ذلك، فقررت أن أدرس علم النفس جلست جين على الأريكة ذاهلة:" لماذا؟ ألم تحصلي على حياة مهنية كافية؟" أصدرت والدة جين صوتا قريبا إلى الضحك بقدر ما تسمح به شخصيتها الجادة. ـ أي حياة مهنية؟ كنت أساعد والدك في عمله. والآن أنوي أن أحظى بعمل خاص بي كانت جين مرتبكة ومشوشة الأفكار:" ولكنني.. ظننتك تحبين حفلات الشاي في الكلية ومآدب جمعيات القدامى وعمل اللجان و..." ـ فعلت ذلك من أجل أبيك. أنا أحبه وأردت أن أكون إلى جانبه، ولكن ما أريده أنا هو أن أصبح طبيبة نفسانية بقيت جين لحظة طويلة عاجزة عن الكلام. لم تسمع أمها توما تقول كلمة " حب " وهي تتكلم عن أبيها. ـ حقا؟ ـ ألا تظنين أنني سأنجح في هذا المجال؟ ـ آه.. بلى طبعا، ما أردت قوله هو أنك تحبين والدي؟ ساد صمت طويل قالت الوالدة من بعده:" أي نوع من الأسئلة هذا؟ بالطبع أحب والدك" أغمضت جين عينيها لتحجب الضوء عنهما، آملة أن يخفف ذلك من الصداع الذي يتملكها ـ أعني...طبعا تحبينه الآن. لكن ما كنت تحبينه عندما تزوجتما، أليس كذلك؟ سادت لحظة صمت أخرى، تلاها سؤال مستغرب:" عم تتكلمين بحق الله، جنيفر؟" ـ ما أقصده هو أن بينك وبين أبي قواسم مشتركة كثيرة ولكنني لم أركما يوما... تمسكان يد بعضكما. فظننت أنكما من الأزواج الذي يتزوجون عن اقتناع أكثر منه عن حب ـ ياله من كلام غريب! من أين تظنين أنك أتيت؟ من رف " حديثي الولادة" في محل السمانة؟ ـ بالطبع لا، لكنني فقط... قالت ذلك ثم هزت رأسها. وتبع ذلك لحظة صمت أخرى. ـ جنيفر، أعرف أن مهنتك هي حبك الأول ولكن إن كنت تفكرين بالزواج برجل لا يجمعك به سوى الانتماء إلى الحزب السياسي نفسه أو حب النوع نفسه من الموسيقى، فإن من واجبي كوالدتك أن أحذرك من فكرة مماثلة. قاطعتها جنيفر وقد سمعت المحاضرة نفسها من كول أكثر من مرة ـ لا أمي، أنا لا.. أفكر في هذا لم تشأ جنيفر أن تُعلم والديها بمسألة صيد الأزواج تلك قبل أان تجد شخصا مناسبا وتحدد معه موعد الزفاف. ولكنها سعيدة الآن لأنها لم تفتح الموضوع أمامهما. عادت قليلا بأفكارها إلى الوراء. وعرفت أنها ما كانت لتستمع لى اعتراضاتهما، لشدة عنادها. وحتى بعد أن تبين لها أنها كانت على خطأ بشأن علاقة والديها وأكدت لها أمها الأمر، بقيت تفكر في أن جديها تزوجا بسبب حاجة أحدهما للآخر لا بسبب الحب. وكانت ربما لتستمر في بحثها عن زوج المستقبل وإن سبب لها ذلك خلافا مع والديها. عندما فشلت خطتها في العثور على شريك مناسب وتزوجت كول، لم تشأ مطلقا أن يعلم والداها بالأمر. ماذا ستقول؟" أبي وأمي العزيزان، أدعوكما لرؤيتي أتزوج رجلا لا يحبني، رجلا تزوجني خدمة لوجه الله، لذا لن يدوم زواجنا سوى وقت قليل" ـ هل أنت بخير جنيفر؟ سألتها أمها ذلك فتنهدت جين محاولة شد عزيمتها، إذ لم يكن أي شيء على ما يرام ـ آه... هل أخبرتك أنني حصلت على الترقية في الشركة؟ ـ يا له من خبر سعيد! طبعا تستحقين ذلك. ولكن لم لا تبدين سعيدة جنيفر؟ فكرت جني في أن أمها ستنجح حتما في مجال علم النفس:" حسنا، الأمر معقد قليلا.." أرادت أن تفضي لها بمكنونات قلبها لتروح قليلا عن نفسها ولكنها شعرت بالسخف والغباء. أطلقت جين تنهيدة كئيبة ثم سألت أمها:" أمي، ماذا كنت لتفعلي لو وقعت في حب رجل وتزوجته، علما بأن زواجكما هو فقط حبر على ورق ولن يدوم طويلا..." أخذت نفسا سريعا وتابعت قائلة:" وعلما أيضا أنه لا يحبك. كان فقط يسديك خدمة وحتى لو قلت له إنك تريدين أن تبقي زوجته وإنك تحبينه، فلن يصدقك وسيظن أن كل ما أحببته هو ماله. ماذا تفعلين؟" ساد الصمت على الهاتف طويلا، ما أثار اضطراب جين فسألت أمها:" أمي؟ أما زلت على الخط؟" ـ نعم جنيفر، كنت أحاول أن أفهم ـ حسنا.. لا أظنك ستفهمين ـ هذا لا يحصل معك، أليس كذلك؟ سألت أمها ذلك قلقة، تبا! كانت تعرف انه ما كان عليها أن تقول شيئا إنها مشكلتها هي وليست مشكلة أمها. لطالما كانت متعقلة. ما الذي دهاها لتحشر نفسها في وضع مماثل؟ ـ لا... صديقة لي قامت بعمل غبي وهي الآن عالقة في مشكلة ـ جنيفر دعيني أعرف ما تقره صديقتك تلك. يهمني الموضوع ويا ليتني استطعت مساعدتها! ـ ما من مشكلة! عضت جين على شفتها، كذبة كهذه لن تمر على أمها ولكن لا يمكن لوالدتها أيضا أن تصدق أن ابنتها المنطقية والمتزنة تقوم بأمر غبي كهذا. ـ سأعلمك بما...تقرره صديقتي أقفلت جين الخط وتمددت من جديد على الأريكة. لم تفعل تلك المحادثة شيئا لتهدئ من صداعها، بل ازداد حزنها لأنها أخبرت أمها كل شيء تقريبا وراحت تفكر في ما قالته لها أمها. لقد ضحت بحبها لعلم النفس طيلة تلك السنوات لتساعد والدها.. لأنها تحبه. لعلهما لا يُظهران ذلك الحب علنا، ولكنهما يحبان بعضهما، بعيدا عن أي أهداف أو مصالح مشتركة. وضعت يديها على عينيها تغطيهما. لقد فهمت بعد فوات الأوان أن الحب عنصر أساسي ومهم وهو غائب عن العلاقة التي حاولت إنشاءها. أخيرا، استطاعت أن ترى فداحة خطأها عندما حاولت أن تكيّف حياة الآخرين لتتلاءم مع حياتها ورغباتها وحاجاتها هي. كم كانت أنانية وقصيرة النظر حينها! من الواضح أنها قللت من شأن نفسها بقدرة المدير على رؤية المؤهلات التي تخولها استلام المنصب الجديد. كم كان كول محقا! خيبة أمله منها أفادتها كثيرا فكم كان من المشين لو ارتبطت برجل ل تحبه، معللة نفسها بأن تتعلم حبه مع الوقت. كانت خجلى من سذاجتها، وهي الآن تدين لكول بالشكر لأنه أنقذها من نفسها. ورغم أنه تزوجها، فهو حتما لم يربط نفسه بها. فالكلمات التي تفوه بها في المطعم لا تزال تدوي في ذاكرتها:" يمكنك أن تفسخي هذا الشيء أو أن تبقي زوجتي" أسبوع ونصف من عدم الارتياح مر على كول منذ تزوج جين. استغل فترة بعد الظهر ليبتعد عن شركة المحاسبة ويعود إلى المركز الرئيسي ليقوم ببعض الأعمال وبشكل خاص لكي يبتعد عن عروسه. كانت روثي توتل، مساعدة جين السابقة، في مؤتمر في هيوستن طيلة الأسبوع. ولم تكن تعلم أن رئيسها الجديد ليس سوى عامل الصيانة، كول. كل ما كانت تعرفه هو أن رب عملها في عطلة. الحيلة التي تدبرها كول لاستخدام روثي في شركته وإبعاده عن جين شريرة ولكنه كان غاضبا من جين وكان يبحث عن مساعدة تنفيذية بمستوى روثي... فضلا عن طريقة يدخل بها إلى المنزل حيث تجري مقابلاتها. بدا خياره ممتازا بأكثر من طريقة وقد سعى لرؤية وجه روثي عندما تعلم بأنه ج.س بارينجر، فرآها سعيدة جدا. لسوء الحظ كان هذا الشيء الوحيد الذي يسعى وراءه هذه الأيام ولم يكن حتما متحمسا لما سيسمعه بعد قليل. مر محاميه مايك بيرن بمكتبه بعد إجازة شهر ونصف في أوروبا، فأخبره كول بأمر الزواج وظروفه الغريبة. ثم راح يتأمله وهو يذرع المكتب ذهابا وإيابا شبكا يديه خلف ظهره. في أي لحظة سينفجر كالبركان ولن يكون ذلك جميلا. وبالفعل صرخ به المحامي ووجهه يكاد يغلي لشدة احمراره. ـ ما الذي دهاك بارينجر؟ هل كنت ثملا حتى الجنون أو مغرما حتى الجنون؟ استند كول إلى زاوية المكتب الخشبي المحفور وهو يحدق إلى محاميه الغاضب من دون أن يجيب، فالإجابة ستؤلمه حتما. زفر مايك مرهقا:" يا إلهي لا أصدق. تزوجتها تحت اسم مزيف أيضا!" كان صوته حادا:" يمكنها أن تحاكمك. هل لديك فكرة عن أرباحك الأسبوعية؟" ـ طبعا! ـ ولكنك تقوم بأمور غبية. لِمَ لم تتصل بي وتستشيرني؟ لديك رقم هاتفي في لندن. ـ كنت بحاجة إلى معلومات لا إلى الاستماع إلى محاضرة لذا سألت صديقا لي يعلم القانون في جامعة تكساس، وعرفت نتائج ما كنت بصدد القيام به. ـ أنا ببساطة لا أفهم ذلك. صاح مايك بذلك ووجهه أحمر لشدة الغيظ:" إذا كنت ستفعل شيئا بهذه الغباوة، فلما تكبدت عناء الذهاب إلى القاضي، طلما أن قوانين تكساس متساهلة إلى هذا الحد في مسائل الزواج؟ على الأقل، لما ظهر تعقيد الاسم المزيف" ـ هي أرادت ذلك. أتعرف منزلي هناك؟ لمدة ثلاثة أسابيع قبل الزواج، كنا.. ـ لا تقل هذا! لن أسمع شيئا من ذلك. هل تعي أنك متزوج منذ عشرة أيام وبإمكان زوجتك أن تحصد ثروة من جراء ذلك؟ تنهد كول بنفاذ صبر:" هذه ليست المشكلة مايك. كفّ عن هذا المشهد المسرحي!" ـ ليست المشكلة! إذا أين المشكلة يا رجل؟ استنادا إلى قوانين تكساس، أنت الطرف المخادع لذا من حقها أن تختار ما بين حمل اسمك أو الرحيل عنك. لقد أعطيتها كل الخيارات الممكنة. ـ أعلم ذلك ـ من باب الفضول فقط، ما الذي دفعك لاستعمال اسم مستعار؟ ـ لم أشأ أن تعرف من أنا حقا بدت التنهيدة التي أطلقها مايك أشبه بالشتيمة وقال ولهجة ساخرة:" هذا منطقي تماما. فلماذا على الزوجة أن تعرف من هو زوجها؟ وبالمناسبة، من أين حصلت على هوية مزيفة؟" رفع كول حاجبيه. لم يكن ينوي إفشاء هذه المعلومة فاكتفى بالقول:" لدي بعض الأصدقاء" شد مايك قبضتيه وأصدر صوتا مكبوتا:" أنت مجنون يا رجل! ماذا دهاك لتحفر لنفسك حفرة عميقة كهذه؟ كيف خاطرت إلى هذا الحد؟" حدق كول إلى مايك." تسألني كيف خاطرت إلى هذا الحد، أنت لا تعرف شيئا مايك. أنا مستعد للمخاطرة بكل شيء" ـ تخاطر بكل شيء؟ سأل مايك ذلك، غير مصدق. كان كول يعرف أن الزواج بجين ليس أفضل قرار يتخذه، لكنه الوحيد. وكان لديه كل الأسباب ليظن بأنه للأسف وقع في الفخ نفسه الذي وقع فيه والده. والطريقة الوحيدة لاكتشاف ذلك هي بأن يعطي جنيفر سانكروفت كل ما تريده بالإضافة إلى النفوذ. وكما أشار محاميه، الكرة الآن في ملعبها فأجاب هامسا:" نعم كل شيء" هدر مايك وهو يهز قبضتيه بعنف:" أنت مجنون!" رمق كول محاميه بتصميم بارد قائلا:" ربما، ولكنني بحاجة لأن أعرف ماذا ستفعل جين" 13ـ هل الحب منطقي؟ منذ التقت جين كول في ذلك اليوم المصيري الذي مضى عليه شهر تقريبا، جافاها النوم وأصبحت أحلامها مشحونة بالصور المثيرة عنهما. ومنذ زواجهما، باتت هذه الأحلام أكثر اتقادا وأصبح من الصعب السيطرة عليها. وجوده قربها في العمل كان مؤلما جدا، وحملها لاسمه محفوف بالمخاطر، سواء بالنسبة لمصداقيتها في الشركة، أو بالنسبة لقلبها. إذا لماذا تتردد بفسخ الزواج؟ مساء الجمعة، أي بعد أسبوعين ويوم واحد من زواجهما، استجمعت جين شجاعتها وذهبت إلى شقة كول. لقد أنقذها من الوقوع في فخ زواج مجرد من الحب وعليها أن تشكره لذلك على الأقل. عندما بلغت المكان، فتح لها الباب كبير الخدم وأرشدها إلى غرفة فسيحة مفروشة بشكل جميل تفوح منها رائحة الأرز والجلد. حال التوتر دون جلوس جين. فوقفت بجانب النافذة تنظر إلى ناطحات السحاب التي يتداخل فيها الحديد والحجر والزجاج وكانت شمس المغيب تغمر الطوابق العليا من المباني الشاهقة بنورها الباهر المتألق... مثل عيني كول وشحبت جين لهذه المقارنة التي أفلتت منها من دون أن تتمكن من لجمها. أغمضت عينيها وأسندت جبينها إلى الزجاج البارد، مجاهدة لحماية المكان الذي سكنه كول في قلبها. لم على كل مشهد وكل صوت وكل مكان تقصده وكل أغنية تسمعها أن تذكرها بالرجل الذي تزوجها فقط ليلقنها درسا؟ ـ عجبا! أليست هذه زوجتي... إذا جاز التعبير استدارت جين نحو كول عندما سمعت صوته ورغم أن كلامه كان عاديا إلا أن نبرته ملأت الغرفة ازدراءً رباه! كان يرتدي بذلة رسمية رائعة. ورغم أنها تأنت في ارتداء ملابسها والاهتمام بمظهرها، إلا أنها شعرت فجأة أنها دون مستوى الأناقة بسروالها البيج وقميصها الحريري. يبدو أنه خارج لحضور سهرة مهمة... انزلقت عيناها من تلقاء نفسها إلى يده اليسرى فلمع محبسه الذهبي. ربما نسي أنه يرتديه أو على الأرجح دسه في إصبعه الآن لكي يربكها ويهول عليها تشبكت نظراتها بعينيه العدائيتين، فملأها هذا النفور بحزن جديد. تقدم نحوها بخطوات واسعة وتعابير جامدة ومد لها يده: ـ مساء الخير! لم أتوقع رؤيتك، كيف لي أن أخدمك... الآن؟ يا إلهي! تمكنت جين من المحافظة على هدوئها وهو يشير ضمنيا إلى كل ما فعله من أجلها ولكنها صرخت في سرها: أتريدني أن أعيد إليك خنجرك أم تفضل أن أبقيه مغروزا في صدري؟ كانت تعابيره وتصرفاته مهذبة ورزينة، كما لو أنها امرأة غريبة تماما تجمع التبرعات. وجدت صعوبة في الكلام، فقد كان وسيما للغاية. وعندما اقترب منها، امتلأت رئتاها بالعطر الذي يميزه. ارتجف قلبها بغباء وهي تنظر إليه، مادّاً ذراعه بشكل جدي، متوقعا منها أن تصافحه. لكن يديها كانتا ترتجفان كثيرا بحيث لم تشأ المخاطرة بذلك، فشدت أصابعها في قبضة قاسية وأمرت نفسها بأن تهدأ. عليها أن تبدو متماسكة بقدره. ـ كول... بدأت تتكلم لكنها ما لبثت أن توقفت لتجلي حنجرتها وتسيطر على صوتها قبل أن تتابع:" أنا... أنا أميل في طبعي إلى العزم والإصرار عندما يتعلق الأمر بالسير نحو هدف ما" قطب كول حاجبيه. في الواقع لم ينتظر منها أن ترفض لمسته أو حتى أن تبدأ الكلام بهذه الطريقة. شبك ذراعيه وحدق إليها:" فهمت" بدا في تعابيره شيء من الهزء:" هل هذا كل خطابك؟" هزت رأسها نفيا:" لا. أنا.. ما أحاول قوله هو أن العزم والإصرار كانا في الماضي من الاستراتيجيات الناجحة في عملي. ولكن هذه المرة، أقر بأنني تماديت كثيرا وأردت أن أعتذر منك" جالت نظراته على وجهها للحظة طويلة مثقلة بالتوتر قبل أن يتكلم ـ العثور على زوج ليس من الاستراتيجيات المهنية، آنسة سنكروفت عفوا، سيدة بارينجر تشديده على اسم عائلته أظهر لها قصده بشكل واضح، وهو أنها لم تبدأ بعد بإجراءات فسخ الزواج كان هذا موضوعا آخر تماما، موضوعا أرادت التطرق إليه ولكنها لم تجرؤ. فهي تعرف تماما إجابته: ضحكة ساخرة. شعرت بموجة حزن تجتاحها، ما اضطرها إلى إغماض عينيها لتحبس دموعها ـ اعتذارك مقبول قال هذا ثم ألقى نظرة خاطفة إلى سعة يده، مؤكدا شكوكها بأنه يريد التخلص منها ـ استمتعي بالرئاسة. لقد استحققتها عن جدارة شعرت بوخزه ذلك الإطراء الزائف، ولم تستطع فعل شيء سوى التحديق إلى عينيه اللتين كانتا تلمعان شجبا قال لها أخيرا:" علي أن أرحل. هل من شيء آخر تريدين قوله؟" كادت تقول له: نعم، نعم أحبك. ألا يمكننا إصلاح الوضع؟ أما من شيء يعجبك في؟ ولكن صوتا في عقلها الباطني حذرها هامسا: ألم تتعلمي شيئا من هذا جنيفر؟ الحب غير منطقي. لا يمكنك أن ترغمي أحدا على حبك كما لا يمكنك أن تمنعي نفسك من حب رجل يكره دوافعك للزواج بقدر ما يكره رؤية وجهك ارتجفت لهذه الحقيقة لمريعة وهزت رأسها قائلة:" لا، لا شيء" واجتاز وجهه طيف حساس غريب، ولم تعرف ما إذا كان ذلك انزعاجا أو ندما ندم؟ أزالت من ذهنها هذه السخافة بسرعة، إ نه الانزعاج بالطبع ـ حسنا، سأذهب إذا. ريتشارد سيرافقك إلى الخارج قال هذا ثم استدار مبتعدا لكنه ما لبث أن توقف وكأن فكرة خطرت له، ونظر إليها بابتسامة ساخرة: " بما أنك زوجتي، فأنا بالتالي زوجك، وأتمتع بكافة الحقوق والامتيازات. ابقي زوجتي لمدة أطول حبيبتي وستحضين بشهر عسل" على الرغم من الرقة التي رافقت كلامه.شعرت جين بأن الازدراء لم يفارق عينيه. آه، كم ودت لو تذهب في شهر عسل طويل مع هذا الرجل! لكن الحقد الذي رأته في نظراته أبكمها، لا يمكنها أبدا أن تتجاوز تلك الابتسامة الساخرة. كادت تجن لهزيمتها، وسمعت نفسها تقول من غير وعي منها:" أحببتك أكثر كعامل صيانة" ازداد تقطيبه وبقيت نظراته شاخصة إليها للحظة قبل أن يستدير من دون أي تعليق. وكل ما سمعته كان صفقة الباب. ذهب كول! وقفت هناك مخدرة الإحساس وكان تعليقها يدوي في أذنيها ويتردد صداه مرارا و مرارا. تمنت لو أنها لم تصرخ في وجهه، أوَ لم تأتي لتصلح الوضع بينهما؟ ومع ذلك قالت الحقيقة لم لا يعود ج.س بارينجر، كول الذي عرفته؟ هي مستعدة لأي شيء مقابل أن تعود إلى تلك اللحظات الماضية، عندما فاجأها كول بالشاي المثلج أو عندما أصر على أن تشاركه الطعام. كم تتوق للاستماع إلى أغنية فرنسية معه. أو إلى الجلوس بقربه في ضوء القمر، يستمعان إلى صوت الأمواج المتكسرة على أقدامهما. مسحت جين دمعة أفلتت منها وتبعت الخادم إلى الباب الخارجي، بقدر ما سمحت لها أعصابها من برودة. كانت تلك الليلة من شهر تموز دافئة، لكن جين شعرت بالبرد ينخر كل عظمة من عظامها، فحب رجل يزدريها ترك فراغا مثلجا في نفسها صباح الاثنين سافرت جين في رحلة عمل إلى كاليفورنيا، سعيدة بالابتعاد عن نظرات كول الحارقة. وكان آخر ما فعلته قبل سفرها هو استخدام محام ليباشر بإجراءات فسخ الزواج. إنها لا تريد ثروة كول ولا احتقاره لها. ورغم أن ذلك يحطم قلبها، إلا أنها رأت أن الطريقة الوحيدة لتثبت أنها ليست جشعة، هي بمنح الرجل الذي تحب، حريته. وقبيل عودتها يوم الجمعة، اتصلت بها سكرتيرتها الجديدة لتبلغها " باجتماع تنفيذي" سيعقد خلال عطلة نهاية الأسبوع في المنزل الصيفي على الخليج. خلال عطلة نهاية الأسبوع في المنزل الصيفي على الخليج. خلال رحلتها إلى كاليفورنيا، لم تستطع جين النوم ليلة واحدة وخلُصت إلى أنها يجب أن تبحث عن عمل آخر، بعيدا عن كول بارينجر. هي مولعة بشركة دالاس للمحاسبة ومولعة بكول أكثر مما تستطيع الكلمات أن تعبر لكنها لا تستطيع أن تحتمل وجودها قربه ورؤية العداء والحقد في عينيه، حتى ولو كلفها ذلك منصب حلمت سنوات بالوصول إليه. بعد يوم شاق، أوقفت جين سيارتها المستأجرة أمام منزل الشاطئ. وما لبثت أن عاودتها كل الذكريات عن كول بأدنى تفاصيلها. رأت الأضواء تنبعث من المنزل وعندما قرعت الباب لم يفتح لها أحد. في البداية شعرت بالارتباك. هل هناك أي سيارة أخرى أمام المنزل؟ " لا لقد خرجوا لتناول العشاء، أيتها الغبية!" تمتمت بذلك وهي تبحث في حقيبتها عن المفتاح. كانت مسألة قلقها بشأن كول مفيدة لها في أمر واحد على الأقل وهو أنها أنستها أن تعيد المفتاح إلى الشركة. فتحت الباب، شاكرة لحصولها على بعض الوقت لوحدها لكي تستطيع السيطرة على انفعالاتها قبل أن يصل الآخرون. لسوء الحظ، سيكون كول حاضرا، فهو الوحيد الذي بوسعه أن يدعو إلى اجتماع يتطلب حضورها. عليها أن تجد وقتا تكلمه فيه على انفراد وتطمئنه بشأن فسخ زواجهما، وتُعلمه فيه بأنها قررت مغادرة الشركة. وكلا القرارين حطما قلبها ولكن ليس أمامها خيار آخر. أغلقت الباب خلفها ووضعت حقيبة ثيابها أرضا، بقلب مثقل ومشاعر مضطربة. أخذت نفسا عميق تقوي به نفسها، فأجفلت لاستنشاق رائحة عطره. هذا ظلم! أَو ليس قلبها محطما بما يكفي من دون أن يذكرها كل نفس تأخذه بأنها تائهة؟ لاحظت حركة في غرفة الجلوس. وعندما استدارت لى مصدر الصوت، رأت رجلا ينهض عن كرسيه القائم أمام النافذة، ولم تصدق عينيها. إنه كول ـ ألن تدخلي؟ سألها ذلك بتعابيره الرزينة المنحوتة بشكل رائع. فجف حلقها ولم تستطع سوى أن تفغر فاها. رؤيته واقفا هناك بوسامته وجديته حطمت قلبها. كول؟ خشيت أن يكون شوقها إليه قد أوصلها إلى الهلوسة وتصور هذا المشهد ـ نعم! وأشار إلى الأريكة القريبة من كرسيه قائلا بهدوء." تفضلي، اجلسي!" كانت من الارتباك الشديد بحيث لم تستطع أن تجيب على الفور:" أنا ظننت أن الجميع يتناول العشاء في الخارج" ـ تعالي. اجلسي دعاها مجددا للجلوس أما هو فبقي واقفا مكانه وهي تتقدم نحو غرفة الجلوس. جلست بثقل على الكنبة وشعرت بساقيها واهنتين وكأنهما ورق مبلل قد يذوب أو يمزق في أي لحظة. ـ هل أبكرت في المجيء؟ سألت ذلك، محاولة أن تجعل لقاءهما يبدو مهنيا، رغم صعوبة ذلك. فأمام عينيه اللامعتين المثيرتين والمتحديتين، ذابت دفاعاتها كلوح ثلج تحت أشعة الشمس. حاولت أن تتمالك أعصابها، فشبكت يديها على ركبتيها. أخذت نفسا عميقا وغمرها شعور متناقض لرؤيته. ـ أتيت في الموعد المحدد أجابها بذلك وهو يضع مرفقه على ذراع الكرسي ويميل إلى الأمام ـ قولي لي سيدتي الرئيسة، ما هي برأيك النقطة الأهم في الشريك؟ سؤاله غير المتوقع أربكها، فهذا هو السؤال نفسه الذي طرحته هي في المقابلات التي كانت تجريها بحثا عن زوج. ـ أعني، هل تظنين أن على زوجك أن يحب الأطفال؟ أتفضلين أن يقوم هو بالطهو؟ ما رأيك بالحيوانات الأليفة؟ هل لديك أي هوايات؟ رفع حاجبه تشديدا على أهمية أسئلته، فغاص قلب جين. ها هو يتهكم مجددا! ألن ينتهي من هذا أبدا؟ ـ لِمَ تفعل هذا؟ سألته ذلك بصوت مرتجف لشدة شعورها بالإهانة تحول تعبيره المتسائل إلى الجدية:" ظننت أن هذه هي الطريقة التي تبحثين فيها عن زوج" كان أمرا مهينا أن تشعر بغبائها، لا سيما أن كول هو من يظهر لها ذلك. فقالت لو بصوت ملؤه القلق:" أعرف أن ما فعلته كان سخيفا. ولكن ألم تقل لي ذلك ألف مرة من دون أن تهينني بهذه الطريقة؟" ـ لو عرفت بأنني ج.س بارينجر، ماذا كنت لتفعلي؟ أربكها سؤاله، فنظرت إليه ضائعة، كان من الصعب عليها أن تتمالك نفسها وهي قريبة منه إلى هذا الحد ـ أظنني... كنت رحلت دام صمته طويلا فلم تستطع سوى أن تنظر إليه وتنجذب رغما عنها إلى الطريقة التي يعكس فيها الضوء أهدابه الطويلة على خديه ـ أما كنت لتحاولي الإيقاع بي؟ ظنه أنها منحطة إلى هذا الحد أثر سخطها. لقد تصرفت بغباء وظنت أن بإمكانها إيجاد زوج عن طريق الإعلان، إلا أن هذا لا يعني إطلاقا أنها فاسدة ومخادعة. ـ لقد سلمك محامي أوراق الطلاق، أليس كذلك؟ بالإضافة إلى الوثيقة التي تعفيك من أي موجب مادي؟ كانت إيماءته بطيئة وقاتمة:" ومحبس الزواج أيضا" عندما ذكّرها بذلك، غطت إصبعها العاري بيدها الأخرى وكاد الأسى يقضي على قدرتها على تمالك نفسها ـ حسنا.. لديك الإجابة الآن ابتلعت ريقها بصعوبة ومسحت عن وجهها دمعة كادت تنهمر. لم تشأ أن يلمح أو يلاحظ شيئا من اضطرابها ـ حقا؟ كانت تحدق إلى يديها المشبوكتين على حجرها ولكن سؤاله أعاد انتباهها إليه. سحب مغلفا من تحت كرسيه، وبينما كانت تنظر إليه مشوشة، سحب من المغلف أوراق عدة وضعها على ركبتيه قبل أن ينظر إليها. ـ لماذا بالضبط تريدين الطلاق؟ كان هذا السؤال أشبه بصفعة على وجهها. فآخر ما تريده هو هذا الطلاق بالذات. حدقت إليه بينما كانت عيناه شاخصتين إليها، تستفزانها وتثيرانها وتنتزعان منها أمورا لم تشأ الاعتراف بها. ـ لماذا بالضبط تريدين الطلاق جنيفر؟ كرر السؤال بنبرة ألطف. وفي مكان ما من دماغها، راحت الإجابة تتكون رغما عنها، فبدأت تخشى أن تفقد السيطرة على نفسها وتجهر بالحقيقة الرهيبة، وأن تقوم تينك العينين المغريتين المقنعتين بتحطيم عزيمتها ودفاعاتها. كانت جامدة في مقعدها، بالكاد تستطيع أن تتنفس. وراحت تجاهد لئلا تفصح له عن المشاعر المعتملة فيها. وفجأة، انهارت كل مقاومتها وتناثرت كحبيبات الزجاج المتكسر. فلم تقو أكثر على حبس الحقيقة المريعة، فخرجت من فمها بهمس وصوت متقطع: " أنا لا أريد الطلاق. أنا أحبك كول، أعرف الآن أن الزواج لكي ينجح إنما هو بحاجة لشخصين متحابين. وأنت لا تحبني، حتى أنني لا أعجبك" وضغطت أصابعها على صدغيها وقد أصابها صداع أليم بسبب الصوت الذي يصرخ في رأسها: اصمتي، اصمتي، أيتها العاشقة الحمقاء! شعرت بالعياء والعار لكنها لم تستطع كبت نفسها ولجم لسانها. ـ أنت لا تثق بي بسبب ما جرى لك ولا يمكنني أن ألومك! لهذا أجري معاملات الطلاق... لأن هذا ما تريده أنت. ووثبت من مكانها وقد بلغ منها الأسى والخزي مبلغا. ـ أنا أنذرك، سأستقيل من العمل. لا يمكنني احتمال البقاء قربك ورؤيتك كل يوم. هذا... هذا يحطم فؤادي استدارت لتهرب لكنه أمسك بمعصمها" لن تذهبي، ليس بعد" عندما أرغمها على مواجهته، حاولت جاهدة أن تمسح دموعها بقفا يدها ولكنها لم تستطع أن توقف سيل الدمع المنهمر على خديها. ـ لماذا؟ ماذا تريد مني بعد؟ ألم تكتفي من إهانتي؟ ـ أرجوك! اجلسي قال ذلك من دون أن يفلت يدها، مشيرا إلى الأريكة وكان كلامه واضحا لا يقبل الجدل. ـ أريد أمرا واحدا بعد. شعرت بالفراغ والإحباط بعد ما كشفت له عما تحس به. ماذا يريد منها بعد؟ أطلقت تنهيدة يائسة من بين شفتيها، ثم جلست محطمة منهارة. انزلقت يده القوية وأمسكت بيدها:" هذه هي الإجابة التي أردت سماعها" جلست هناك غارقة في دوامة من الحزن واليأس. لم تفهم ما قاله فحدقت إلى يده التي احتضنت يدها برقة اعتصر أصابعها بلطف قائلا" جنيفر انظري إلي" كانت مسلوبة الرادة عندما سألها ذلك، ففعلت ما طلبه منها وما رأته صعقها. كان يبتسم! لم تكن ابتسامة ساخرة أو متهكمة إنما ابتسامة خطفت أنفاسه ـ أتذكرين أني قلت لك إن أمي استغلت أبي للتقدم في مهنتها؟ أومأت جين، هي تشعر بالتشوش والاضطراب. ـ أمي هي الممثلة أدريان بورن. لقد تخلت عني واستغلت نفوذ أبي ومعارفه لتحصل على مبتغاها، الشهرة في هوليود. هذا الخبر أذهل جين وصدمها لقد سمعت بأدريان بورن، حتى أنها شهدت بعضا من أفلامها. إنها والدة كول التي جرحته بجشعها وأنانيتها. أفلت يدها وأمسك بالأوراق التي وضعها على ركبتيه. ـ عندما وصلتني أوراق الزواج، اعترفت لنفسي أخيرا بأنني مغرم بك. ورفضك المساس بثروتي يثبت أنك لست من النساء اللواتي ظننتك منهن. ثم مزق الأوراق فسقطت إربا على الأرض. ومال إلى الأمام وأمسك يدها مجددا، ثم رفعها إلى شفتيه وقبلها برقة. ـ آخر ما قد أسمح به هو أن أدعك ترحلين سيدة بارينجر. وفاجأها بنهوضه عن الكرسي والركوع أمامها ـ كنت مجنونا بحبك عندما تزوجتك جنيفر. لم أشأ ذلك ولم أرد أن أمضي قدما بذلك الزواج ولكنني لم أستطع. أظن أنني أغرمت بك من اللحظة الأولى التي رأيتك فيها. دس يده في جيبه وسحب منه محبسا، كان محبسها! ـ أرجوك أن تستعيديه شعلة الإحساس التي رأتها في عينيه استحوذت على اهتمامها ـ لو لم أشأ أن يبقى هذا المحبس في إصبعك، لما أعطيتك إياه أبدا. هل يمكنها أن تصدق روعة ما قاله؟ جالت نظرته على وجهها، باحثة عن عينيها. ـ جميعنا يرتكب الحماقات حبيبتي ولكن يوم زفافنا لم يكن حماقة على الإطلاق. أغمضت عينيها ووثب قلبها فرحا. ـ ما زلت أضع المحبس أجفلت جين لكلامه وانخفض نظرها فورا إلى يده اليسرى . بالفعل! كان يضعه ـ لا تتركيني! جمال ما رأته جعل قلبها يقفز بين أضلعها. ابتسمت له ولامست خده:" أنا أعشقك ولن أتركك أبدا، أبدا!" البريق المشرق الذي اشتعل في عينيه أثر فيها في العمق وغمرها ببهجة فياضة وعرفت أن هذا المشهد لن يفارقها أبدا. دس المحبس في إصبعها المرتجف، ثم قبل راحة يدها برقة وحرارة. فلم تستطع أن تسمع سوى دقات قلبها المتسارعة. كول بارينجر يحبها فعلا. إنها أعجوبة الأعاجيب! رمت جين نفسها بين ذراعيه، مطلقة ضحكة أقرب إلى البكاء: "آه، حبيبي، أنا لا أصدق!" ـ بل صدقي حبيبتي وأغفلت جين عن الدنيا بأسرها ولم تلحظ شيئا مما حولها سوى قوة ودفء ذلك الحب الذي يلمع في عينيه ـ جين حبيبتي لستِ بحاجة للاستقالة. لن أستلم إدارة الشركة بعد اليوم فأنت تتدبرين أمورك جيدا من دوني ـ أنا .. لا يمكنني البقاء في هذا المنصب. إذا قمنا بإعلان زواجنا، لن يصدق أحد أنني حصلت عليه عن جدارة ابتسم وجذبها إليه يحتضنها:" بل سيصدقون. عندما عادت روثي من هيوستن وعرفت من أكون فعلا، ضحكت طويلا وعاليا لدرجة أن القصة لم تستطع البقاء مكتومة. الجميع يعرف أنك كنت تجهلين هويتي عندما تزوجتني" قبل جبينها ثم التقى بنظراتها بتعابير جدية:" حتى لو كان عدم انحيازي مشكوكا به، فلا أحد يمكن أن ينكر ما فعلته منذ استلمت رئاسة الشركة. سمعت الكثير من المديح من موظفيك، فهم يرون فيك الخيار الصائب، سواء أكنت زوجتي أم لا" عانقها مجددا بكل العاطفة والشغف اللذين حلمت بهما، فاجتاحتها قشعريرة وشعور بالبهجة ـ كول حبيبي، أنا سعيدة لأنك تظن أن بإمكاني تدبر أمور الشركة بنفسي ولكن أؤكد لك بأنني لا أستطيع فعل شيء خارج الشركة من دونك. الحب الذي كان يشع من عينيه أفصح عن الكثير. وفهمت مما قاله لها عن أبيه ومن مشاعره الخاصة حيال الزواج أنه لم يرتبط بأي امرأة بشكل عرضي وأنه بقي ينتظر الحب الحقيقي. هذا الأمر جعل الدموع تترقرق في عينيها، فعانقته برقة وهدوء هامسة في أذنه:" أحبك.. وسأحبك إلى الأبد" كان وعدها هذا عير مشروط وخاليا من أي تردد. وشغفها هذا دفعهما إلى عناق محموم كان بداية رائعة لشهر العسل الذي كادت جين تفقد الأمل في حصوله. راودتها فكرة أخافتها فقالت وهي بين ذراعيه:" لكن.. لكن كول، ماذا لو وصل الآخرون ونحن..ونحن..." ـ نعيش حبنا؟ دفن وجهه في شعرها المنسدل, باعثا الدفء في كل ذرة من جسمها ـ لن يأتي أحد حبيبتي، فالأزواج الجدد لا يحتاجون إلى أي رفقة ورفع إليها عينين مليئتين بالحب الذي لطالما تاقت لرؤيته ـ ضمني إليك كول! وضمها إليه، دافنا وجهه في شعرها الحريري، فتنشقت عطره الرجولي المثير، وأصدرت آهة مختنقة وشعرت بنار تسري في عروقها كما النار في الهشيم. أمضى كول وزوجته السعيدة عطلة أسبوعية رائعة، احتفلا فيها بحبهما وشعرا بأنهما يعيشان في قطعة من الجنة.
تمت

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة