حب يموت مرتين
The Sicilan’s Virgin Bride

الكاتبة : ساره مورغان
روايات احلام
الملخص
كل ما أراده ريكو هو زوجة لطيفة غير معقدة تنجب له العديد من الأطفال. لكن فرانسيسكا هربت منه يوم زفافهما وقبل الرقصة الاولى. الآن لم يعد ريكو مضطرا إلى ملاحقتها والبحث عنها. فقد عادت بنفسها إلى حيث يجب أن تكون الزوجة الصالحة. إلى احضان زوجها. تعرض ريكو للخيانة ليلة زفافه. والآن لا شيء سيمنعه من الحصول على عروسه العذراء...

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الفصل الأول
هربت يوم زفافها
تمكنت جيسي من استئجار طائرة خاصة صغيرة بما تبقى لديها من نقود. شدت حاشية قبعتها لتغطي عينيها، وتخفي معظم ملامحها، أما شعرها فجمعته في عقدة، وأخفته عن الأنظار. ارتدت معطفا عاديا أسود اللون فوق سروال أسود، ولم تضع أي مساحيق زينة أو مجوهرات، فهي لا تريد أن تجذب الانتباه إليها.
لو نظر إليها ربان الطائرة عن كثب، للاحظ لون بشرتها الشاحب وارتجاف يديها، وهي تمسك بحقيبتها الوحيدة الصغيرة. لو أنه فعل، للاحظ أيضا النيران المشتعلة في عينيها الزرقاوين والتصميم الشديد الواضح في ذقنها المرفوع، لكنه لم يكن ينظر باتجاهها. ألقى نظرة واحدة مختصرة عليها ما إن صعدت إلى الطائرة، ثم فقد أي اهتمام بها.
دفعت جيسي مبلغا كبيرا من المال من أجل ذلك بالتحديد. مع ذلك جلست بتوتر في مقعدها، غير قادرة على الإحساس بالارتياح وهي تحدق من خلال النافذة الصغيرة في الظلام. رفضت أن يقدم لها أي شراب منعش بهزة مختصرة من رأسها، فهي غير قادرة على إضافة المزيد من الانزعاج إلى معدتها المتوترة المهتاجة. بعد قليل ستهبط الطائرة في صقلية. مجرد التفكير بذلك يجعلها تشعر بالمرض والغثيان. حاولت أن تهدئ من تسارع نبضها. أغمضت عينيها، ومالت إلى الوراء، على مقعدها، وراحت تتنفس بعمق. لا شيء سيوقفها، فلا أحد يتوقع حضورها، مرّت ستة أشهر... ستة أشهر تعلمت خلالها أن تعيش بمفردها.. لا أسماء ولا هوية ولا ارتباطات... عاشت مجهولة الهوية كي تحمي نفسها، أما الآن فها هي تعود إلى صقلية. هذه الجزيرة السابحة في البحر المتوسط أشبه بالجنة، لكنها بالنسبة إلى جيسي مجرد سجن! فكرت وهي تتحرك بقلق على مقعدها، قريبا.. قريبا جدا ستقوم بما يجب عليها القيام به، أما الآن فكل ما تريده هو أن ترى أمها. مرّت ستة أشهر على غيابها... سار مساعد الطيار إلى مؤخرة الطائرة، وقال: " سنهبط في غضون خمس دقائق، آنسة بركلي! ثبتي حزام الأمان جيدا. ستكون السيارة بانتظارك، كما طلبت ". تحدث باللغة الإنكليزية بنبرة ثقيلة، فأجابت جيسي باللغة ذاتها، متجنبة أن تفضح حقيقة طلاقة لسانها باللغة الإيطالية. للحظة قصيرة فكرت بما سيقوله الربان لو أنه عرف هويتها، ثم رفعت كتفيها بلا اهتمام، مؤكدة لنفسها أن لا مجال لذلك أبدا. لا شيء في أوراقها الثبوتية سيكشف عنها. هز مساعد الطيار رأسه قائلا: " فايين! أتمنى لك رحلة آمنة " رحلة آمنة؟! اكتشفت جيسي أن فمها اصبح جافا بسبب الخوف. ازداد توترها ما إن هبطت الطائرة محدثة سلسلة من الارتجاجات. أخيرا، وضعت يديها على حزام الأمان، أزالته، ثم رفعت الحقيبة الصغيرة، وأجبرت نفسها على السير إلى الجهة الأمامية للطائرة.
ستسير الأمور على ما يرام! قالت ذلك لنفسها بحزم، وهي تنزل الدرج لتسير على درج الطائرة. تنفست لتتنشق عطر صقلية، وتشعر بدفء هوا الليل الذي يطبق عليها. توفي والدها وانتهت مراسم الجنازة، ولا أحد يتوقع قدومها إلى المنزل. ستدخل خلسة لترى أمها، ثم تغادر. بعد ذلك ستعمل على إنهاء زواجها. لن تهرب بعد اليوم، ولن تختبئ. أعلمتها الأشهر الستة الأخيرة أنها تملك قوة كافية.. أكثر مما يمكنها أن تتخيل. ذكرتها أضواء السيارة التي تقترب منها بأضواء السيارات التي تطارد الهاربين. حاولت السيطرة على ذهنها المضطرب وعلى دقات قلبها المتسارعة. ازداد توترها ما إن اقتربت السيارة منها، وتوقفت بهدوء قربها. بالكاد انتظرت أن يفتح الباب الخلفي قبل أن تصعد إلى الداخل. فقط عندما اغلق الباب وراءها، واقفل عليها، ادركت أن هناك شخصا آخر في المقعد الخلفي للسيارة. شعرت على الفور بانقباض في معدتها، وبتوتر لا يمكن وصفه لشدة الرعب. آه.. لا، لا! تجمدت مكانها من الصدمة، ولم تعد قادرة على الحركة أو على الالتفات. لا داعي لأن تلتفت، فهي تعرف من هو، فقد شعرت بحضوره بكل عصب وكل نبض في جسدها. ريكو كاستيلاني البليونير الوغد.. زوجها! راقبها ريكو وهي تمد يدها إلى مقبض الباب، وراقبها عندما استسلمت لحقيقة أن أبواب السيارة مقفلة، وهكذا لم يعد لديها أي وسيلة للهرب. من تحت حافة القبعة، تمكن من رؤية عينيها اللتين ظهر فيهما الرعب، كذلك الرعب الذي يتملك حيوانا جريحا. فكر بضيق أنه قلل من شأنها، وشعر على الفور بومضة من السخرية. من بين كل النساء اللواتي تعرف عليهن، فرانسيسكا هي الوحيدة التي تمكنت من مفاجأته. - بوناسيرا، تسورو! أهلا بعودتك.
رأى كيف شحب وجهها، واختفى اللون منه. من الواضح أنها لم تتوقع وجوده هنا. أهي حقا بهذه السذاجة؟ هل اعتقدت حقا أنها تستطيع العودة إلى صقلية، من دون أن يعلم بذلك؟ انتظر أن تقول شيئا ما، لكنها لم تتحدث. بدلا من ذلك جلست جيسي بهدوء، وهي تمسك بحافة المقعد. راح صدرها يعلو ويهبط بسرعة. لو أنها امرأة أخرى، لشعر ريكو بالاسف حيالها، لكنه بعيد جدا عن الشعور بالأسف على زوجته. لماذا عليه أن يتعاطف معها بعد ما فعلته؟ إنها محظوظة جدا لانه مستعد للجلوس معها في السيارة ذاتها. - تبدين متفاجئة لرؤيتي. بمجهود كبير تمكن من الاحتفاظ بنبرة صوت هادئة، خشية أن يبوح بما يشعر به بالفعل. تابع قائلا: " لماذا؟ نحن متزجان تسورو. لم لا أكون هنا للقاء زوجتي أثناء عودتها إلى الديار؟ " أخيرا استدارت جيسي لتنظر إليه، فرأى الدهشة في عينيها وهي تقول بنبرة مختنقة: " كيف علمت بعودتي؟". اضطر إلى التركيز بشدة ليتمكن من سماع كلماته. رفع كتفيه بدون اهتمام وقال: " هل اعتقدت حقا أنني لن أعرف؟ أنت زوجتي فرانسيسكا! ،انا أهتم بأي أمر يحدث لك. أوصاني والدك بك، وهذه مهمة أتحملها بمنتهى الجدية ".
استعادت نبرة صوتها بعض القوة، وهي تقول: " احقا؟ أنت لا تهتم لي أبدا، ريكو. أنت لا تهتم سوى بنفسك ". مال ريكو إلى الأمام، ونزع القبعة عن رأسها. انفلت شعرها من عقدته، وانسدل فوق كتفيها بتموجاته الناعمة. بدت يافعة بشكل لا يصدق، وصغيرة جدا لتقوم بتلك المكائد كلها. تمتم ريكو بتعجب: " كم تفاجئينني! أنت مليئة بالاندفاع والحياة، لكن ذلك لا يظهر عليك مطلقا. عندما التقينا بالكاد كنت تتكلمين. رحت أتملق كي أتمكن من انتزاع الكلمات من فمك. اعتقد أنك خجولك، لكن.." حدقت بي جسي للحظات، قبل أن تقول: " انت لا تعرفني مطلقا، ريكو! " - هذا أمر واضح جدا. تساءل إن كانت قد لاحظت نبرة السخرية في صوته، وهو يتابع: " لكنني أرغب بالتعويض عن ذلك. في الواقع، سوف أضحي بوقتي كله لتعزيز تعارفنا ". ظهرت نبرة من الرعب في صوتها، فيما أخذت تهز رأسها بسرعة:
" لا! أنت لست بحاجة إلى ذلك.. انا لا أريد أن أعرفك.. ما أعرفه أكثر من كاف لي " إنها كتلة من التناقض! فكر بذلك وهو يحدق بها. الانطباع الأول لدى رؤيتها يظهر أنها لطيفة وجبانة، مع ذلك برهنت أنها طائشة وماكرة. - شعرك الأسود يشير إلى أنك تحملين دماء إيطالية. مال إلى الأمام، وبرقة لف خصلة من الشعر الحريري على اصبعه، ثم تابع: " لكن هاتين العينين الزرقاوين تظهران صلتك بالعرق الإنكليزي ". تملك جيسي عينين كبريتين بلون الزمرد وبشرة ناعمة حريرية. في الواقع إنها صورة مثالية للأنثى الشابة البريئة. مع ذلك يعرف ريكو أنها فقدت براءتها إلى الأبد.. أضاعتها مع رجل آخر. اندفع الغضب بقوة في عروقه، مع عاطفة أخرى أكثر بشاعة وخطرا: إنها الغيرة!
هذا ما يشعر به المرء عندما يواجه الخيانة الزوجية. شيء ما من ماضيه، شيء مظلم وخطير، انبعث حيا، فحاول بقسوة قهره والسيطرة عليه، مذكرا نفسه بالقاعدة الذهبية التي تتحكم بحياته: تحرك إلى الأمام.. دائما إلى الأمام.. ولا ترجع إلى الماضي أبدا. بالرغم من أنها فقدت براءتها، لكنها لا تزال له. تسارعت أنفاس جيسي وهي تقول: " لا تلمسني! لا أريدك أن تلمسني ". وبحركة سريعة من رأسها، أفلتت شعرها من بين أصابعه، وانزلقت إلى أقصى زاوية في المقعد. راحت تحدق إلى الأمام مباشرة، وكأنها بعدم النظر إليه تستطيع، بطريقة ما ن أن تنكر وجوده. قالت: " أريد الذهاب إلى منزل والدي ". أخذ ريكو يقاوم رغبة بأن يديرها باتجاهه على المقعد، ليجعل نفسه مركز اهتمامها. بقي صامتا للحظة، وعيناه مركزتان على وجهها الجانبي وهو يفكر بطلبها. - ألم تتأخري قليلا؟ توفي والدك، وأقيمت الجنازة منذ أسبوعين. قال ذلك بنبرة ناعمة، مع ذلك لم تبدر منها أي ردة فعل. لا شيء. هذا أمر غريب! فكر بذلك وهو يراقبها. ما يحدث أمامه لا يطابق ما يعرفه عنها. تابع قائلا: " بما أنك طفلته الوحيدة، ألم تعتقدي أن من الأفضل أن تحضري وتقدمي التعازي قبل الآن؟" أدارت وجهها نحوه، فرأى شيئا ما في عينيها لم يستطع أن يفسره. قالت بهدوء: " لا! لم أفكر بذلك " - لم لا؟ ساد صمت طويل.. صمت طويل عملت خلاله على التحديق به ببساطة، فيما لفّ الغموض عينيها. بعدئذ أدارت رأسها قائلة: " علاقتي بأبي ليست من شأنك ريكو، فأنا لا أدين لك بأي شي أو باي تفسير. انا لست هنا لأراك. أتيت لرؤية أمي "
- أمك رحلت. سمعت جيسي نبرة دهشة في صوتها، ولمعت عيناها بالخوف وهي تقول: " رحلت؟! إلى أين؟ ". - لا فكرة لدي مطلقا. ما إن قال ذلك حتى مدّت يدها عبر المقعد، وأمسكت بذراعه بأصابع متوترة. - هل حضرت الجنازة؟ أريد أن أعلم. - أجل، وغادرت بعد فترة قصيرة من ذلك. راقبها كيف غاصت في مقعدها. ثم أغمضت عينيها، فيما بدا الارتياح واضحا على ملامح وجهها. همست. - في هذه الحالة يمكنك إيقاف السيارة. ساعود إلى الطائرة مجددا، ولن أزعجك بعد الآن. يمكنك المضي بحياتك كيفما تشاء.
- هذا ما أرغب بالقيام به، لكنني بالتأكيد لن أعيدك إلى تلك الطائرة. تابع ريكو بصوت خافت: " لدينا الكثير لنتحدث عنه. أهلا بعودتك،تسوروا!" هي ما زالت زوجته! ذكر نفسه بذلك بتصميم وعناد. كل أمر آخر أصبح من الماضي، وهو خبير في كيفية إبقاء عينيه مركزتين بحزم على المستقبل. حاولت جيسي أن تفكر بسرعة. لِم لم تتوقع ذلك؟ كيف أمكنها أن تكون بمثل هذا الغباء، فتتخيل أنها تستطيع الوصول إلى صقلية من دون أن يلاحظها احد؟ في أي لحظة بالتحديد نسيت من هو زوجها؟ ألم تتذكر أن الجميع هنا يدعونه الثعلب؟ حقق ريكو مليونه الأول قبل أن يتخطى سنوات المراهقة، وتابع تكديس المال بتصميم قوي لا يرحم، وقد عرف عنه أنه قاس متطرف ووسيم جدا. إنه محور أحلام النساء، وقربه منها يؤثر على سرعة بديهتها وعلى قدراتها العقلية. قطب ريكو جبينه، وراقبها وهو متكئ على مقعده، فيما بدا هادئا، ما جعل جيسي تجد سيطرته على نفسه أمرا مخقيفا حقا. كل ما فيه غامض، عيناه، شعره وطبعه الناري. ارتجفت من دون قصد منها، فهو يمثل السلطة والقوة، وهي تعلم أن هذا الرجل يملك قوة وتأثيرا أكثر مما كان والدها يملك. إنه الشريك اللبق الى اقصى الحدود، لكنها لست حمقاء لتنخدع بهذه الشخصية المتحضرة التي يقدمها للعالم. البذلة الأنيقة التي يرتديها والحذاء المصنوع يدويا الذي ينتعله مع كل ما يمثله من جاذبية ووسامة ليست إلا مظهرا زائفا لخداع الآخرين. إنه مظهر تنكري يخدع به معارضيه، لكي يشعروا بإحساس زائف من الأمان. أما هي فتعلم أن تلك الابتسامة الساحرة التي تجذب الكثير من النساء تخفي شخصية باردة، قاسية، تثير حسد أي صياد ماكر ماهر. مهما تأنق هذا الرجل، وكيفما ظهر للناس، فهي تعلم الحقيقة بكل وضوح، ريكو كاستيلاني صقلي مئة بالمئة، وجيسي واحدة من القلائل الذين يعرفون ذلك. - لا يمكن أن تكون جديا برغبتك في استمرار زواجنا؟ لا شك أنها أساءت فهم ما قاله. امتد الصمت بينهما، وحدقت به جيسي بصمت ورعب. بدا من المستحيل عليها أن تقرأ تعابير وجهه، كما أنها غير قادرة على النظر بعيدا عن عينيه السوداوين اللامعتين. - لماذا؟ - لان زواجنا انتهى. لانها تخلت عنه، والرجل الصقلي لا يغفر عملا كهذا! ابتسم ريكو ببرودة قائلا: " زواجنا لم يبدأ بعد، تسورو! والفضل يعود لك بذلك. لدينا الكثير من المشاكل التي علينا تخطيها، وهذا ما اسعى للقيام به ". شعرت جيسي بقلبها يدق في صدرها كالمطرقة، أما جسدها فراح ينتفض بقوة، فيما سيطرت عليها موجة من الغضب، لدرجة أنها خشيت أن تغيب عن الوعي.
- ما الذي تفعله هنا؟ لماذا أنت هنا؟ قالت الصحف إنك في نيويورك. هذا بالتحديد ما شجعها على المجيء إلى صقلية. - يجب الاّ تصدقي ما تقراينه في الصحف، لكنني أشعر بالإطراء لمعرفتي أنك كنت تهتمين بتحركاتي خلال عطلتك الطويلة. قال ذلك بصوت ناعم، وهو لا يزال يحدق بها. أعطى بعض التعليمات للسائق قبل أن يجلس بارتياح، وهو يتابع: " من الواضح أنك اشتقت إلي. لا تشعري بالخجل، فهذا أمر طبيعي جدا. أليس من الطبيعي أن تشتاق الزوجة لزوجها؟ أشعر بالارتياح الآن لأن شملنا اجتمع من جديد " بدت نبرة صوته ناعمة ومتحضرة، لكن جيسي شعرت أن راحتي يديها أصبحتها رطبتين، فهي لا تنخدع بمظهره الهادئ. ريكو خصم خطير، وهي تعلم أن تصرفاتها وضعتها في موقع الخصم له. لا بد أنه غاضب. هي تعلم أنه غاضب، مع ذلك لم يرفع صوته حتى الآن. - كيف.. كيف عرفت أنني على متن تلك الطائرة؟ عادت لتتلعثم من جديد، رغبت في الصراخ من شدة الإحباط. لماذا الآن؟ إنها بحاجة إلى كل ما لديها نم ثقة بنفسها. لماذا هجرها وتخلى عنها فجأة كل ما تعلمته خلال الأشهر الستة الماضية؟ - من الطبيعي أن أعرف. تكور فمه عن ابتسامة باهتة، وهو يتابع: " بعد موت والدك، عودتك إلى صقلية أمر محتوم. كل ما يحتاجه الأمر بعض الوقت. صحيح أن الصبر ليس من صفاتي، لكنني قاومت كثيرا للحصول على شيء منه " - اعتقدت أنك لا.... - ما دمت لم تعودي إلى البلاد لحضور الجنازة، أفترض أنك عدت الآن بشكل نهائي، لأنك سئمت من حبيبك. - اي حبيب؟ ما زال تشعر بصدمة وجوده، وهي لا تستطيع إبعاد نظراتها عن عينيه. - أنت زوجتي. منذ اللحظة التي تبادلنا فيها عهود الزواج، أصدرت الأوامر لحراس الأمن لدي بمراقبتك. لذا إن كنت تحاولين أن تنكري أنك غادرت زفافنا مع كارلو مانسيني... رفع كتفيه بلا مبالاة، وكأن الأمر الذي يتحدث عنه بلا أهمية، قبل أن يتابع: -..... فأنت إذن تضيعين وقتك. اتمنى أ، تكوني قد وجدت السعادة معه. الطريقة التي تفوه بها بتلك الكلمات زادت من توترها. تذكرت أن إحدى أهم مميزات ريكو هي قدرته على التفكير ببرودة وبعقل صاف حتى وهو يغلي من الغضب. وهو الآن كذلك. إنها تشعر بالصراع الدائر في أعماقه. على العكس من والدها، تعلم ريكو أن يسيطر على طبعه الصقلي النزق، واستعمله لمصلحته. بدلا من مواجهة العدو، هو يراقب نقاط ضعفه ثم يتحين الفرصة المناسبة ليهجم عليه. قرأت مرة مقالا عنه في صفحة اقتصادية من جريدة عالمية، حيث تم وصفه بالمعلم في التخطيط والدقة والمهارة، كما أنه عدو شرس لا يرحم. أما هي فقد تم دمغها كسجينة لديه من خلال فاعلية عقد زواجهما، وهذا أحد الأسباب التي دفعتها إلى الهرب. رحلت مع كارلو، البستاني الذي كان يعمل لدى والدها، ولم تفكر للحظة أن ريكو سيعتقد أنهما حبيبان. في الواقع، ذلك الافتراض من قبله هو سبب آخر يثبت اتساع الهوة بينهما. تلفظت بالكلمات قبل أن تتمكن من منع نفسها: "كيف عرفت أنني على متن الطائرة؟ دفعت ثمن التذكرة نقدا ".
- وأنا دفعت لهم مبلغا أكبر. ظهر السأم على ملامح وجهه. نظر إلى ساعته، وتابع: " سذاجتك مؤثرة بالفعل. هل تعتقدين حقا أنني سأسمح لزوجتي بالعودة إلى صقلية من دون الحماية الكافية؟ انا مسرور بالفعل لأنك عدت إلى البلاد من دون صديقك. لأن ذلك كان سيحرجني بالرغم من المجهود الذي سأبذله " ضغطت جيسي باصابعها على المقعد، فبدت أصابعها بيضاء من شدة الضغط. هل يعتقد حقا أن كارلو حبيبها؟ في تلك اللحظة أدركت أن غضبه ليس نابعا من حبه لها بل من كبريائه الجريحة. اعتقد أنها أقامت علاقة غرامية مع رجل آخر. للحظة بقيت جيسي صامتة، ثم تذكرت أي نوع من الرجال هو ريكو، فشعرت بالشجاعة تنبعث من داخلها. إن كان عليها أن تواجهه فلتبدأ الآن. تنفست بعمق، وبدأت بالقول: " لن أعود إليك، ريكو. لا أريد أن أبقى زوجة لك. أنا أريد الطلاق! " كررت تلك الكلمات مرات عدة، لدرجة انها انزلقت من شفتيها بسهولة واضحة، وعلى لافور شعرت بارتياح كبير. لقد انتهى الأمر! لن تستيقظ بعد الآن في الليل، وهي تخطط لأفضل وسيلة لمواجهته. أجاب ريكو بنعومة: " كيف يمكنك قول ذلك؟ ليس هذا ما قلته حين وقفت أمام الكاهن وقلت نعم أريد الزواج بريكو " - حدث ذلك لأنني اعتقدت أنك شخص لطيف. لمع المرح في عينيه وهو قول:" فرانسيسكا.. تسورو! أنا شخص لطيف ". اخفض جفنيه قليلا ليخفي ما يفكر به: " كيف يمكن أن تفكري بطريقة أخرى؟ أنا دائما لطيف مع العجائز والأطفال ". - أنت لا تعرف أي امراة عجوز أو أي طفل. رفع ريكو كتفيه، وحرك يده كأنهي صرفها عن التكلم بهذا الأمر: " لو كنت أعرف، لكنت لطيفا معهم ". - بعد ذلك ربما ستسرقهم. فأنت لا تفكر إلا بنفسك. كادت جيسي تختنق. استدارت للتخلص من نظراته الحارقة، التي تمزق أعماقها إلى شظايا. - على العكس تماما. أنا لم أفكر بأي شخص غيرك منذ رحلت يوم زفافنا. هل أحتاج إلى تذكيرك بأنك ما كنت تطيقين الانتظار للزواج بي؟ تلألأت النجوم في عينك منذ اللحظة التي تقدمت بها لأطلب يدك، فقد كنت مغرمة بي بجنون.
شعرت جيسي بموجة حارة من الإذلال تحيط بها. فتحت فمها لتنكر ما قاله، لكن الكلمات لم تسعفها. كيف يمكنها أن تتلفظ بكذبة من هذا النوع؟ بالطبع كانت مغرمة به. كل ما في الأمر أن ذلك الحب لم يكن جزءا من مخططها. بدا لها الزواج من ريكو طريق الهروب المثالي من والدها. وأتتها الفرصة لتحظى أخيرا بالحرية التي تمنتها، وانتظرتها طويلا. بعد أن أمضيا بعض الأوقات معا، حصل لها ما يحصل لأي امرأة عندما تلتقي بريكو، وقعت أسيرة جاذبيته ووسامته، وهذا أمر لم تخبره به أبدا. حقيقة أنه علم بما كانت تشعر به نحوه، تجعلها ترغب في أن تختفي تحت أقرب صخرة من شدة اإحراج. نظرت إلى خارج النافذة، لتتمكن من إخفاء بؤسها وضيقها. ريكو رجل تتناقس العارضات والممثلات على جذب انتباهه، فكيف يمكن لفتاة خرقاء، لم يسمح لها يوما بالابتعاد عن قريتها، أن تحظى بفرصة للحصول على انتباهه؟ - اعتقدت أنني مغرمة بك. أجل، هذا صحيح. لكن حدث ذلك قبل أن أفهم أي نوع من الرجال أنت. لا يمكنني مطلقا أن أحب شخصا مثلك. قالت ذلك وهي تشعر بألم يكاد يخنقها، فهي لا تريده أن يدرك مدى اهتمامها به. حبست عواطفها لمدة طويلة، لدرجة أن جسدها ودماغها يكادان ينفجران. - قمت بما عليك القيام به لتجعلني أقول نعم، لكن الامر كان بالنسبة إليك مجرد إتفاق عمل. هذا ليس هو الزواج الذي أريده. أنا أريد زواجا حقيقيا. - زواج حقيقي؟ أنت تضيعين خاتمي في إصبعك. فماذا تريدين أكثر من ذلك؟ أظهرت السخرية في نبرة صوته رأيه بما قالته. - أنت لا تفهم ما أقوله. اليس كذلك؟ أدارت جيسي رأسها، وأجبرت نفسها على النظر إلى زوجها. قالت متابعة: " لا يتعلق الأمر بالخواتم والعهود، ريكو! هذه الامور لا قيمة لها. الزواج الحقيقي يتحدد بما تشعر به. إنه العناية والاهتمام والحب، هذه الأمور التي لا تعرف عنها أي شيء ". - وهل هذا ما قدمه لك كارلو.. الاهتمام والحب؟ السخرية في صوته كانت القشة الأخيرة. - أنت منافق حقيقي! لماذا رحلت يوم زفافنا، ريكو؟ هل أزعجت نفسك مرة بطرح هذا السؤال؟ رأت كيف ضاقت نظرة عينيه قليلا، لكنها لم تعد قادرة على كبح غضبها. فالغضب يتصاعد في أعماقها، ويمد أوصالها المرتجفة وثقتها المهتزة بالقوة. تابعت قائلة:" كيف تجرؤ أن تجلس أمامي، وتتهمني بأن لدي حبيبا، وتسخر مني، في حين أنك دعوت صديقتك إلى زفافنا؟ أي نوع من الرجال انت، ريكو؟ أي نوع من الرجال ذاك الذي يتوقع من صديقته أن تسر حين تراه يتزوج امراة أخرى، ويتوقع من زوجته أن تستقبل عشيقته؟ ألا تملك اي أحاسيس؟ " توقفت عن الكلام متفاجئة من ثورتها، إذ أصبحت فجأة سريعة الإدراك والفهم. أمضت طوال حياتها مع والدها، وهي تعض على لسانها، مطأطئة رأسها إلى الأرض، ولم تحاول أن ترد عليه يوما.لم يحدث معها أبدا قبل هذه اللحظة أن قالت ما تفكر به. بطريقة لا إرادية، انكمشت جيسي على نفسها في مقعدها، لكن ريكو لم يتحرك. استمر في مراقبتها فقط، وقد رفع حاجبه بسخرية وإعجاب معا. قال بنبرة متكاسلة: " هذا اطول حديث سمعته منك يوما. عندما كنا نمضي بعض الوقت معا قبل الزفاف، بالكاد كنت تتفوهين بكلمة. كنت خجولة جدا، وكنت أعمل جاهدا للحصول على أي نوع من الإجابة منك. كنت تحدقين بالأرض، بالجدار أو الطاولة، أواي مكان بعيد عني. إنه لأمر مذهل بالفعل أن ألاحظ أن لديك رأيا حاسما " تورد وجهها بقوة، فما قاله هو الحقيقة بعينها. كانت لقاءاتهما تتم بحضور والدها، وجيسي تعلمت من التجارب المرة أن من الأفضل لها أن تبقى صامتة كي لا تتعرض لغضبه. - حسنا! أنا أنظر إليك الآن، وأتكلم معك. قالت ذلك، وهي تحاول أن تحافظ على نبرة صوت ثابتة. لا مجال لتدعه يعلم بما تشعر به من توتر. تابعت قائلة: " ورأيي بك لا مجال لتغييره، ريكو! أنت تقيس كل شيء على أسا الربح، ولا تقوم بأي عمل إن لم تحظ بشيء ما منه. كما أنك لا تهتم لمشاعر الناس؟ أمضيت ستة أشهر وأنا أفكر بما حصل. تزوجت بي للحصول على شركة والدي، وهذا أمر سيء بما فيه الكفاية، إلاّ أنني اعتقدت أنك على الأقل تكن بعض الاحترام لي، لكنك قمت بدعوة عشيقتك إلى حفلة زفافنا ".
سيطر الألم والإذلال عليها، وكأن هناك جرحا في أعماقها ما زال ينزف. - أنت ما زلت يافعا حقا. كان هناك أكثر من مئتي مدعو إلى الزفاف. - أنا لست مهتمة بذلك العدد كله. فقط اهتم لواحدة، تلك الشقراء التي لم تستطع الابتعاد عنك.. عشيقتك! صحح لها وهو يقطب جبينه: " صديقتي السابقة، ولا أعلم لماذا تهتمين لأمرها. انتهت علاقتي بها منذ وقت طويل جدا " - إذا لماذا كنت تعانقها على الشرفة؟ وضع يده على فمه ليخفي تثاؤبه. من الواضح أنه سئم من هذا الشجار. قال: " انا فعلا لا أستطيع أن أتذكر. بعض النساء عاطفيات بطبعهن. ربما كانت تعانقني عناق الوداع " عاطفيات بطبعهن! تذكرت جيسي ذلك العناق الملتهب. تذكرت الحسد الذي كاد يسمرها مكانها، فريكو لم يعانقها مرة هكذا. - لماذا دعوتها إلى الزفاف؟ أصبحت عيناه فجأة باردتين، وهو يقول: " وضعك لا يعطيك الحق بأن تسألي عن تصرفاتي. بصراحة، أنا لا أفهم سبب تذمرك، فقد تزوجت بك أنت، وأنت صاحبة الحظ السعيد ". احتاجت جيسي إلى بضع لحظات للتمكن من فهم ما قاله. - صاحبة الحظ السعيد؟ اي حظ؟ حدقت به غير مصدقة. بحثت في وجهه الوسيم الامسر البرونزي عن اثر للندم أو الأسف العميق، لكنها لم تجد غير الثقة بالنفس والتسلط. هذا الرجل لا يرضى بأن تسأله عن أفعاله. قال بنعومة: " أجل، أنت محظوظة. قدمت لك ما لم أقدمه لأي امرأة أخرى "
- وما الذي يفترض بي أن أشعر به بالتحديد؟ - الامتنان. قالت وهي تكاد تختنق من الغضب: " الامتنان؟ الامتنان لإعطائي فرصة أن أتشارك بزوجي مع عشرات النساء؟ حسنا! اعذرني إن لم أشاركك بهذا المستوى من الامتنان!" - لم أتصور أبدا أنك تملكين مثل هذه الثورة في دخلك. كم يبدو ذلك مثيرا! هذا يشرح الكثير من الأمور. تابع التحديق بها، وهو يفكر مليا، ثم قال: " عليك أن تدركي أنني أعتبر الغيرة صفة مزعجة في المرأة، وغيرتك هذه سخيفة، ما دمت المرأة التي تضع خاتمي في إصبعها " - أنا لا أشعر بالغيرة. كي يراودك مثل هذا العشور يجب أن تكون مهتما بالشخص الآخر، وأنا لا أهتم بك مطلقا. في السابق كانت تفعل. جعلتها فكرة الزواج به تشعر بسعادة لا توصف، حتى إنها لم تكن قادرة على نزع الابتسامة عن وجهها. كان ذلك مجرد حلم طفولي، فالواقع أثبت لها أمورا مختلفة تماما. - لم أشعر بالغيرة، بل بالإذلال. ماذا توقعت مني أن أفعل، ريكو؟ هل افترضت أنني سأنظر إلى أولئك النساء المتعلقات بك، وأشعر أنني محظوظة؟ أهذا ما تقوله؟ هل افترضت أنني ساحتفل مع أولئك النساء، وابتسم لأنك اخترتني أنا؟ أهذا ما تريده؟ حدق ريكو بها من خلال جفون شبه مطبقة، وقال: " أنت تتصرفين بشكل هستيري ". - لا، ريكو! لست هستيرية. أنا أفكر بوضوح ولأول مرة منذ سنوات. في الواقع، لم تعد جيسي تهتم لنتائج ما سيحدث إن قالت ما تفكر به. ما الذي جنته من الصمت؟ - أجبني عن سؤال واحد. إن أردت أن تكون مع تلك الشقراء، فلّم لم تتزوج بها، وتقضي عمرك معها؟ - لوينا أميركية، وهي لست زوجة مناسبة لي. لديها عمل خاص بها، وهي مستقلة جدا.
شهقت جيسي وهي تحدق به غير مصدقة: " أي نوع من الأجوبة هذا؟ أتقصد أن لديها من النمطق ما يكفي كي لا تتزوجك؟ آه! بدلا من ذلك اخترت فتاة حمقاء من صقلية لا تعرف أي شيء. أهذا ما تحاول قوله؟ حسنا! علي أن اذكرك أن امي إنكليزية الأصل. لذا فإن دمي الصقلي ليس صافيا. ارتكبت غلطة بالزواج بي، ريكو.. غلطة كبرى ". لم ترمش عيناه، وهو يحدق بها قائلا: " انا لأ أرتكب الأخطاء، أما أنت فارتكبت غلطة فادحة بالتخلي عن زواجنا، لكنك عدت الآن، لذا يمكنك البدء بإصلاح الأمر. قررت أن أتخطى حقيقة أنه كانت لديك علاقة سابقة، فقومي بدورك بطريقة صحيحة، وقد أتمكن من مسامحتك ". مسامحتها؟! حدقت به جيسي بيأس مطلق. ريكو كاستيلاني معتاد على معاملة النساء بطريقة سيئة، لدرجة أنه لا يدرك أن هناك طريقة أخرى. إنه تماما كوالدها. الزوجة هي المرأة التي تترك في المنزل، بينما يذهب هو للاحتفال مع نساء أخريات. - أنا متأكدة أنك وجدت العديد من النساء الراغبات في مواساتك. شعرت جيسي بالرعب بسبب الغصة التي تشكلت في حلقها. لماذا تهتم لذلك؟ لماذا تشعر بالانزعاج لأن زفافهما لم يعن إلا القليل له؟ لقد انتهى الأمر. زواجهما انتهى، وهي لا تشعر نحوه إلا بالكراهية. حدق بها ريكو ببرودة، وقال: " وافقت على الزفاف، وهذا ما كنت تريدينه " - كان ذلك قبل أن أعرف حقيقتك. - واي حقيقة تلك؟ شعرت كأن الهواء حبس في صدرها، فترددت للحظة. هي تشعربالإحراج من الاعتراف بسذاجتها، لكن هناك أوقات هامة جدا للصدق والاعتراف بالحقيقة. - أنت وأبي اوقعتما بي. كلاكما عاملتماني كأنني جزء من اتفاقية على سلعة ما. تلعثمت بالكلمات، فرفعت يدها إلى عنقها لتحاول التخفيف من تسارع أنفاسها. - اتفقتما وقايضتما، حتى حصلتما على ما تريدانه. جعلتني أعتقد أنك تريد الزواج بي لم أكن أكثر من مقايضة على سلعة ما. لم يتوقف أي منكما للحظة ليفكر بي. لم تفكرا بما أحتاج إليه، وبما أريده. فكرتما فقط بما يريده كل منكما. شعرت جيسي بالتمزق بسبب جشعهما وعدم اهتمامها بها.
- معظم الزيجات تتم على هذا النحو، ونحن لم نكن غريبين عن بعضنا. يبدو أنك نسيت الوقت الذي أمضيناه معا. قال كلماته بنبرة حازمة، فعلمت بالتحديد ماذا يقصد بقوله. في تلك المناسبة الوحيدة دفعها الفضول لمواجهة الخجل والمنطق، وأقدمت على معانقته. تلك التجربة أقلقت نومها منذ تلك اللحظة. العناق الدافئ وهو يضمها غليه، ويمرر يده على ظهرها... الإحساس المفاجئ الذي تملكها جعلها تتمنى لو أن عناقهما يستمر أكثر، لكنه توقف بغته. أدركت أن ريكو لا يشعر بأي انجذاب نحوها، وقد تزوج بها لأسباب مختلفة تماما. لكنها لم تستطع نسيان ذلك العناق، ما زال جسدها حتى الآن يتلوى لمجرد الذكرى. أصابها الرعب من ردة فعلها، فرفعت بصرها نحوه، ورأت اللمعان في عينيه. لا بد أنه يعرف مدى جاذبيته. حدق بها بسخرية جعلتها تشيح ببصرها عنه بسرعة. شعرت جيسي بالإحراج من ردة فعلها، لكنها قالت: " لم أتمكن من معرفتك أبدا، فأنت لم تبح لي بأي شيء عن نفسك، ريكو. أما بالنسبة إليك، فتلك اللقاءات لم تكن أكثر من مقابلة من أجل وظيفة " - وظيفة...! وما هي الوظيفة؟ لاحظت أثر للمرح في نبرة صوته وهو يكرر ما قالته. - زوجة لك. الأجر غير محدود. المكافأة الإضافية والتحفيزات: مذهلة. المطلوب: فتاة مطيعة لا علاقات سابقة لها، خنوعة، تعمل ما يطلب منها، ولا تتكلم أبدا... لم تتمكن من منع نفسها من التحديق به. تذكرت عناقه لها، ثم تذكرت أنه كان يعانق عشيقته يوم زفافهما. - ... فتاة مستعدة لتتحمل علاقاتك العاطفية العديدة. حسنا! اخترت المرأة غير المناسبة لهذا العمل. أنا أستقيل. في المرة الثانية عندما ترغب في الزواج، عليك أن تمدد فترة المقابلة ريكو! - لِم قد أرغب بأن أتزوج ثانية، ولدي زوجة رائعة تجلس الآن أمامي؟
نظرته سببت رجفة في جسدها، فحدقت جيسي به، محاولة أن تخفي ما تشعر به. إنه يمزح.. لا بد أنه يمزح! لا يمكن لرجل متفاخر مثل ريكو أن يسامح زوجته التي تركته يوم زفافهما. لا بد أنه سيطلقها... لا بد أنه سيفعل. سيصعب الأمر عليها ن لكنه سيطلقها في النهاية، وستصبح حرة. - أنت فقط تقول ذلك لتعاقبني، لأن صورتك الاجتماعية اهتزت. - أظهرت ابتسامته أن جملتها جعلته يشعر بالتسلية:" صورتيالاجتماعية لم تتغير أبدا". - لا اصدق أنك لا تزال متمسكا بوزاجنا. كلانا نعلم أنك تزوجتني فقط لأن ذلك الزواج كان جزءا من الاتفاق الذي ابرمته مع والدي. شعرت جيسي بالإهانة لاعترافها بتلك الحقيقة. لا بد أن ريكو لم يجدها جذابة على الإطلاق، ومن الواضح أن هذا هو السبب الذي دفعه إلى الابتعاد عنها بعد أن عانقها. فقد كان يؤجل مسألة التقرب منها ومعانقتها قدر ما يستطيع. - احتاج والدي إلى شخص يدير أعماله، فاختارك أنت، لأنك الرجل الوحيد العديم الرحمة مثله. أنا أهنئك على ذلك. رفع ريكو حاجبه، وقال: " عديم الرحمة؟! أعتقد أنك تقصدين أنني أملك القدرة على اتخاذ القرارات بدون التأثر بالنواحي العاطفية، وهذا مفهوم تجده معظم النساء أمرا مزعجا " أما هي، فكانت غبية إلى درجة جعلتها تغرم به! - شركة والدك كانت على وشك الإفلاس، لذا من الصعب جدا أن أتهم بالجشع.
شعرت جيسي بالصدمة، ولم تستطع التفوه بأي كلمة. حدقت به مليا، ثم سألته: - أتقول إن شركة والدي كانت على وشك الإفلاس؟ - لِم أنت متفاجئة؟ تجارة زيت الزيتون هي مجرد تجارة محلية. لمتكن لدى والدك أي فكرة عن كيفية توسيع أعماله أو الدخول في منافسة حقيقية. - عمل والدي كان أكثر من ناجح. فكرت بأولئك الأشخاص الذين كانوا يتوافدون إلى الفيلا، وبالفرق الواضح بينهم وبين والدها. فجأة قال ريكو بنبرة قاسية: " والدك كان يدير الشركة بطريقة سيئة ن فطريقة عمله تعود إلى العصور الوسطى، لكنني أعمل على تصحيح ذلك " هزت جيسي راسها، محاولة أن تفهم ما يقوله: " أتعني أن عمل والدي كان فاشلا؟ " - ألم تعرفي بذلك من قبل؟ - كيف لي أن اعلم؟ أبي لم يتحدث مطلقا معي عن الأعمال. كنت أقطف الزيتون، وأقوم ببعض أعمال السكرتيريا له، لكنه لم يخبرني أي تفاصيل عن العمل. لو كنت صبيا لاختلف الأمر. استقرت عينا ريكو على وجهها، وكأن فكرة ما لمعت بذهنه فجأة. حدقت به جيسي بانزعاج، وقالت: " أنا لا أفهم... إن كانت شركة والدي فاشلة، فلماذا أردتها؟".
- يمكنك أن تسمي ذلك نزوة... ابتسم ريكو ابتسامة لم تبح بشيء من أفكاره، قبل أن يتابع: ".. أو رغبة عاطفية بأن تكون لي شركة في صقلية بين مجموعة شركاتي ". - أنت عاطفي تماما كأسد يلتهم رجلا. اتسعت ابتسامته، وقال: " أهذا ما تعتقدينه؟ حسنا! في هذه الحالة، علي أن اعترف أن للأمر علاقة بالأرباح أكثر مما هو أمر عاطفي. فأنا أملك موهبة في معرفة الفرص التجارية الرابحة التي لا يهتم بها الآخرون ". لمعت عيناه فجأة بالحماس وأصبحت نبرة صوته أكثر ثقة وفرحا وهو يتابع: " كان والدك يخسر في تجارته بسبب وجود خلل في توزيع عمله، وليس بسبب الإنتاج، فالزيت من أفضل الأنواع. تناولت الطعام في أفضل المطاعم عبر العالم كله، ولم أتذوق يوما افضل منه. ساعمل على تسويق الزيت بأفضل طريقة ممكنة " حدقت جيسي به. لقد نشأت بين أشجار الزيتون، لكنها لم تشعر يوما بالحماس لها، فجمع الزيتون من بين الأشواك والحصى من أصعب الأعمال. - لكن الأسواق مليئة بزيت الزيتون. حدق ريكو بها، وقال بلطف مؤكدا: " ليس زيت الزيتون الذي أملكه أنا، فهنالك دائما أسواق للافضل، وزيت الزيتون الأخضر هو الأفضل ".
تمنت جيسي لو أنه يتوقف عن النظر إليها بهذه الطريقة التقييمية، شعرت بوجهها يتورد خجلا، فتمتمت:" هذه ملاحظة نموذجية من شخص صقلي ". تحرك ريكو بسرعة قصوى، لدرجة أنها لم تره يقترب. في لحظة كان يجلس على مسافة آمنة منها، وفي لحظة أخرى أصبح وجهه الوسيم قريبا جدا. رفع يده ومرر أصابعه على خدها، مجبرا إياها على النظر إليه، وقال: " لو أنني صقلي نموذجي، لوضعت حدا لذلك المراهق الذي هربت معه يوم زفافنا. أنا أحاول أن أكون متحضرا بشأن الأمر كله. لكن، من أجل إيضاح الأمور، من الأفضل ألا تذكريني بأنك كنت غير مخلصة لي. من الآن وصاعدا أمنعك من بحث هذا الموضوع بشكل مطلق " حدقت جيسي به غير قادرة على التحرك. شعرت كأنها تسمرت في مكانها بسبب عمق نظرته وجمال عينيه السوداوين وكثافة رموشه. إنه وسيم جدا، حتى إنها تكاد تشعر بالأمل لمجرد النظر إليه. راح قلبها يدق بسرعة، فقاومت بشدة للتخلص من إحساس لا يقاوم بالاقتراب منه. - لماذا تزوجت بي؟ يبدو كأن والدي دفع لك مالا لتأخذ شركته.. وابنته معا. للحظة حدق بها ريكو بصمت معبر، ثم تراجع على المقعد، ليضع مسافة كافية بينهما. قال: " كنت مستعدا للزواج. لو لم أكن كذلك لما وافقت مطلقا على طلبات والدك، بغض النظر عن رغبتي في الحصول على شركة تصدير زيت الزيتون التي يملكها ". كان مستعدا للزواج؟ فتحت جيسي فمها، وفكرت في كل ما قرأته عنه يوما. سمعته مع النساء كانت دائما مصدرا للاقاويل والملاحقة. لم يعرف عنه يوما أنه راغب في الزواج، وإن كان فعلا كذلك، فقد أخفى ذلك بطريقة جيدة. - لِم لم تتزوج واحدة من عشيقاتك الكثيرات؟ - ما هذا التعبير الجذاب. إنه إنكليزي عتيق. ابتسم ريكو ابتسامة باهتة وهو يعترف بما قالته، ثم تابع: " العشيقة لها دور معروف، تسورو! أما وضع الزوجة فيحمل مسؤوليات مختلفة. لهذا السبب أردت امراة من نوع آخر. أردت فتاة من صقلية " - أنا نصف إنكليزية.
- والدك صقلي، وأنت نشأتِ في صقلية. رفع كتفيه، وتابع: " هذا أمر جيد بالنسبة لي ". - أتقصد أنه يفترض بي أن أعرف ما هو المطلوب من زوجة رجل صقلي؟ جلست جيسي مستقيمة الظهر، ورفعت ذقنها عاليا، متذكرة تلك الأوقات التي عملت فيها جاهدة على تكرار هذه الجمل في ذهنها. قالت متابعة: " حسنا! لدي أخبار هامة لك. أنا زوجة سيئة جدا. من الأفضل لك أن تعمل على الطلاق بسرعة ريكو، قبل أن أبدأ بإظهار التصرفات التي تؤكد على دمي البريطاني ". جمدت ملامح وجه ريكو للحظة، ثم قال بنبرة هادئة وحازمة: " لآخر مرة أقول لك: لا رغبة لدي في الطلاق، ابدا! فأنا لا أؤمن بالطلاق. أنت زوجتي، وستبقين كذلك. كلما اعتدت على هذه الفكرة بسرعة أكبر، كلما شعرنا كلانا بارتياح أكبر ".

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة