تلك المدينة


هأنذا أمشي في ذلك الممر الطويل الذي غطته أوراق خريفية مصفرة أوراق حياتنا تتساقط كهذه يومًا لندرك حقيقة أننا استحلنا أشجارًا جرداء .. ثمة قط يرمقني في رعب قبل أن يتوارى خلف جذع شجرة .. طفل نصف عارٍ يركض وراء طوق دراجة وهو يصدر صوت بيب بيب ثم يراني فيتمهل .. فلاحاتٌ جالساتٌ عند مدخل دار يتوقفن عن الكلام، وينظرن لي في فضول.. فضول أقرب للعدائية جريمة كبرى أن تكون غريبًا هنا .. أعبر ذلك الممر بين البيوت ، وأتنهد الصعداء عندما أخرج إلى تلك الساحة الواسعة وهنا أرى السيارة . سيارة (بيجو) بيضاء تقف جوار جدار ، وفيها سائقٌ غاف قد أرجع المقعد للخلف . شأن من ينتظر أحدهم هؤلاء السائقون ينتظرون.. دائمًا ينتظرون
***
أعبر المساحة الخالية حتى أبلغ جدار المقبرة ، وأسمع صوت أحدهم يتلو آياتِ قرآنية .. الريح تصفر في أذني ، فتتطاير الأوراق . للمقابر جو كئيب ، لكنه مهدئ للأعصاب كأنه يذكرك بالاستقرار الأخير للمادة القلقة فينا .. السلام النهائي .. هذه هي الكلمة المثلى .. أمشي بين شواهد القبور البدائية.. حتى القبور تتباين في الثراء، بين قبور بدائية بائسة كأنها من طين، وقبور مغرورة فاخرة فيها بذخ هائل.. هؤلاء الذين طلبوا التميز الطبقي حتى وهم موتى .. أرى من بعيد المقبرة التي أقصدها .. كما توقعت .. هناك امرأة تلبس الأسود، وتضع على شعرها إيشاربًا وتحمل أزهارًا تضعها على شاهد القبر، وقد وقفت تنظر لقدميها، كأنها في دقيقة حداد .. بينما وقف على مترين رجل نحيل اسمر .. يمكنك بسهولة أن تدرك أن المرأة أجنبية.. هناك بقايا شعر أشقر مختلط بالشيب، تطل من تحت الإيشارب ماجي ماكيلوب .. (ماجي) الباسلة تقف هناك أمام قبر رفعت إسماعيل تحاول تذكر كل اللحظات التي عاشاها معًا الحب .. الرعب .. الغضب .. الغيرة يصعب عليها أن تتخيل أنه صار هيكلًا عظميًا ، كالذي اعتاد أن يقابلهم في كوابيسه يصعب عليها أن تتخيل أن كل هذه الذكريات هنا، تحت هذه التربة بالذات تكلفت البكتيريا بتحويل كل هذا إلى كربون ونيتروجين.. تأملت وجهها.. الحق أنها شاخت كثيرًا. لقد أضاف عامان فقدان رفعت بضعة قرون على ملامحها

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا