بكم ضحى

عشرون عاما مروا من عمر (صابر) في السجن لينال العقوبة بدلا من اخيه كبير الدار لقد ظلت امه ، نعم امه طوال ليلة مقتل جارهم- وقاتله اخيه الكبير شاكر- تنوح وتقول له: اخوك يا ولدي، اخوك الكبير، من يرعي البيت والغيط وينفق عليك وعلى اخوتك الصغار وعلى ابناءه الخمسة! افدي اخيك الكبير يا بني، انت غالي عليّ يا ولدي وكبدي، لكن ما العمل لو اخيك انسجن ، سيضيع الدار ويضيع الاولاد واخوتك وانت ذات نفسك يا ولدي، قم يا ولدي، هذا مقدر ومكتوب. ليستجيب (صابر) لنواح والدته ويملأ كلامها نفسه اصرار على التضحية في سبيل العائلة التي يرعاها (شاكر) الذي قتل جاره؛ لان جاره قتل حمارته لأنها اكلت من غيطه حفنة من برسيم، دم جاره امام الحمار، هكذا هتف (شاكر) متوعدا جاره وقتله. عشرون عاما قضاها صابر في السجن، في ظلام الزنزانة ليلا، وشمس الصيف الحارقة نهارا؛ يعمل في الجبل، ويهوي بفأسه على صخوره الصلبة الملتهبة بدلا من ارضه الرطبة، يأكل السوس مختلطاً بالفول، والخبز القديد، وينام على حشية بالية تخترقها النتوءات ، ويتلقى على مؤخرة رأسه الصفعات. مضت ايام وسنوات القهر والذل وبات الامل في الخروج والعودة للدار بعد ان قام بدوره وقضى العقوبة عن اخيه وحمى الدار. لكن قد دب القلق وساوره الشك حين انقطعت عنه زيارات اخيه (شاكر) واصاب الاعياء امه كما قالوا له، فباتت لا تغادر الدار، وحتى اخوته الصغار بعدما كبروا انقلب حالهم من المودة والحنين إلى الشعور بعبء الزيارات وهمّ ترك اشغالهم وجامعاتهم والسفر والمواصلات صار يعذرهم ويقول حسبي سنوات وانا من يذهب إليهم واصير بينهم واعوّض ما فات. وجاء اليوم الموعود وخرج (صابر) من زنزانته واستلم ملابسه ليبارح اسوار السجن ويرى النور، خرج وقد صار عمره ثمانية واربعون عاماً ، يضاف إليها عشرة آخرين اكتست به ملامحه وحنى ظهره وارتخت كتفاه وشاب شعره قبل الاوان . وبجنيهات معدودات استقل الحافلة للذهاب إلى قريته، واقترب من منزله يحمله الشوق لا قدماه، ليراه، لم يكن ما رآه اخيه ولا احد من اخوته، بل صوان العزاء مقام امام الدار ، لقد مات (شاكر)، مات مريضا بعد ان باع الارض قيراط تلو قيراط حتى لم يتبق سوى الدار، مات (شاكر) ليلحق بوالدته التي اخفوا عليه موتها، فانكسر قلب (صابر) وباتت الايدي تصافحه للعزاء بدلا من الترحاب به وبخروجه من السجن، كان آخر من قام بتعزيته حماه، أو من كان سيصير حماه، وقد جاء ومعه زوج ابنته التي طالما حلم بها (صابر) ان تكون زوجته، ولكن أنى لها ان تنتظر كل تلك الاعوام. خلا الدار إلا من اشقياء صغار هم ابناء اصغر اخوته، لقد كبر اخواته الصغار وتعلموا ومنهم من سافر ومنهم من تزوج خارج الدار وهذا الذي بقى صار الآمر الناهي والمدبر وزوجته سيدة الدار التي تتحكم في شئونه وتتحكم في الطعام. بات (صابر) وحيدا بعد ان ضحى، فلا شباب ولا مال ولا حتى صحة، فقد تركها هناك في محاجر الجبال. لقد مات الاخ الكبير، وبيعت الارض، وتزوجت الحبيبة، وترك الاخوة الذين حرصت والدته المتوفاه على جمعهم ولكنها كما وكانت تضم في يدها قبضة من ماء . كل هذا من اجل ماذا يا صابر!!! :ضحك صابر بأسى فتزاحمت تجاعيد العمر وتجاعيد صنعتها حرارة الشمس وقال في نفسه كله من اجل حمار
........ تمت ........

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا