طال انتظاري

طال انتظاري - آن ميثر - روايات عبير القديمة
الملخص
حين نحب هل يعني هذا أن نضحي من أجل من نحب ؟ ضحت ايما بعاطفتها الصادقة أتجاه دايمون , خوفا عليه ومن أجل مركزه المرموق . انها فقيرة ... وهو غني , لكن الحب لا يفرّق بين القلوب . مرت سنوات عديدة على فراقهما , لكن الزمن يأبى الا أن يلتقى العاشقان , أدراكت ايما أن دأيمون لم ينس او يغفر ... استخدم الأبتزاز , لإرغامها على القبول بوظيقة مرافقة و ممرضه لإبنته العمياء في جزر البهاما , المهمة لم تكن سهلة ,فهو يحاول ان يذلها , و ينتقم منها , فهل تخطئ القلوب في تلمّس طريق الحب ؟
1-أريدك ممرضة
تقع مكاتب شركة ثورن للكيماويات في إحدي ناطحات السحاب الحديثة التي تعتز بنوافدها الزجاجية الضخمة.كان حارس المبنى يتجول بتمهل وهو يراقب المدخل الرئيسي والأشخاص الذين يعبرونه دخولا أو خروجا. وشعرت أيما بأن هذا الرجل ربما يمنعها من دخول ذلك الباب العريض, ولكنها استجمعت كافة قواها وثقتها بالنفس ....ودخلت المبنى. أحست على الفور بأن قدميها غرقتا في سجادة خضراء رائعة ممتدة حتى مكتب الأستقبال,الذي تجلس وراءه صبية شقراء بارعة الجمال .ورفعت الموظفة رأسها نحو أيما وبدت أنها أصيبت بشيء من الدهشة. بلعت أما ريقها بصعوبة وقالت لها: "لدي موعد مع السيد ثورن في الحادية عشرة". تفحّصت الموظفة سجل المواعيد بسرعة وقالت : "هل أنت الآنسة هاردينغ ؟" هزت أيما برأسها علامة الأجاب: (آه من الخوف ! ) بدأ الضعف يعود مرة أخري إلى ركبتيها ,وخافت من الأنهيار !آه منك يا جوني ,لماذا دفعتني الى هذا الوضع المزعج و......الرهيب ؟وسمعت أيما موظفة الأستقبال تتحدث هاتفيا مع سكرتيرة دايمون ثورن ,تبادلت الموظفتان الأسماء وأوقات المواعيد وكلمات الشكر المعتادة, ثم أعادت الشقراء سماعة الهاتف إلى مكانها وتطلعت نحو أيما قائلة بصوت هادئ: "سترسل سكرتيرة السيد ثورن شخصا يصحبك إلى جناحه" ثم أشارت بلا مبالاة إلى عددمن المقاعد والكراسي الوثيرة والمريحة وهي تقول: "إستريحي لحظة,فالموظف سيصل خلال دقائق قليلة". وعادت إلى أوراقها وسجلاتها التي تشتغل فيها قبل قليل, فيما توجهت أيما إلى أحد المقاعد وجلست على حافته بعصبية وترقب ,خائفة من عدم قدرتها على إيجاد الكلمات الصحيحة اثناء المقابلة المرتقبة. آه منك يا جوني, تجلس الآن مرتاحا وبعيداً عن المشاكل بينما تترك لي الأعمال الصعبة والقذرة ! ولكن,هل كان بإمكانه أن يعرف مدى الصعوبة والعذاب اللذين دفعها إليهما ؟ إنها تساعده الآن......ولكن, هل ستحمل عنه عبء ذنوبه ومشاكله ؟ بالنسبةإلى جوني وإلى تحليله العادي البسيط, فإن مجرد إقامتها أكثر من علاقة صداقة مع دايمون ثورن قبل عدة سنوات يكفي لكي تتدخل لمساعدته وإنقاده. ولكن جوني لا يعرف, ولا أحد غيره أيضا يعرف, القصة الكاملة لعلاقتها مع دايمون ثورن. وبالتالي فإنه لم يكن بإمكانه أن يعرف أنها آخر إنسان يمكن ان يحصل على خدمة أو مساعدة من دايمون ثورن. نظرت أيما حولها بعينين فاحصتين , تتأمل المدخل الفخم والعدد الضخم من المصاعد الكهربائية السريعة. وتمنت لو أن الشخص المنوي إرساله لإحضارها يصل خلال لحظات ,لأن الإنتظار يزيد من آلامها وعذابها. لماذا ؟ اوه ! لماذا بلغت السخافة بجوني إلى الحد الذي أوقعه في هذه الورطة ؟ وتطلعت إلى ساعة يدها فلاحظت أن فترة إنتظارها تجاوزت الدقائق العشر.كم سيبقيها علي هذه الحالة قبل أن يستدعيها ؟ ونظرت نحو موظفة الاستقبال علّها تحظى بكلمة مشجعة أو معلومات مفيدة ,ولكن الشقراء الجميلة بدت وكأنها لا تشعر بوجودها. "آنسة هاردينغ ؟ تفضلي معي .......من هذه الناحية ". أوصلها المصعد إلى الطابق العلوي حيث يقع جناح دايمون ثورن, الذي يضم مكاتب فخمة وشقة خاصة يستضيف فيها بين الحين والآخر بعض الاصدقاء أو زملاء العمل . وإبتسمت أيما بطريقة لم يشعر بها مرافقها الشاب . فهي تعرف شقة دايمون في هذا الطابق , مع إنها إستخدمت لدى زيارتها الوحيدة المصعد الخاص الذي يصل إلى قاعتها مباشرة. سار معها الشاب الذي عرّف عن نفسه بأنه جيرمي مارتن إلى آخر ذلك الممر الطويل, حيث دخل وأياها مكتبا مريحا للغاية تستخدمه سكرتيرة دايمون الخاصة جينيفر ولدن . وتذكرت أيما أن جينيفر هي سكرتيرة دايمون منذ أكثر من عشر سنوات في مكاتب الشركة بلندن . وتساءلت عما إذا تذكّرت جينيفر إسمها ، لأنها كانت على علم بعلاقتها مع رئيسها قبل ثماني سنوات . وقال جيرمي وهو يقدمها إلى جينيفر : "الآنسة هاردينغ ". ردت عليه جينيفر بإبتسامة ناعمة : " شكراً يا جيرمي ". ولما غادر المكتب وأغلق الباب وراءه, وقفت جينيفر وتطلعت إلى أيما بدقة وعناية قبل أن تقول لها ببرودة ملحوظة : "صباح الخير يا آنسة هاردينغ . السيد ثورن مستعد لإستقبالك الآن . ولكني مضطرة لتحذيرك بأنه يكون مشغولاًجداً عندما يأتي إلى لندن, وبأن الموعد التالي هو الحادية عشرة والربع ". "عملي مع السيد ثورن يجب ألا يستغرق فترة طويلة. هل أدخل الآن ؟ ". هزت جينيفر ولدن رأسها قليلاً علامة الموافقة, فرفعت أيما يداً مرتجفة ودقت الباب, سمعت صوتا عميقاً يطلب منها الدخول .فتحت الباب بهدوء مصطنع ثم أغلقته بشيء من التحدي في وجه جينيفر . نظرت أيما حولها بسرعة وهي تتفحص تلك الغرفة الضخمة التي توحي بأن الرجل الذي يعمل فيها عملي إلى أبعد الحدود. سجاد ذو لون داكن , وستائر زرقاء ثقيلة تغطي النوافد العريضة التي توفر منظراً رائعاً للمدينة . وكان ثمة مكتب خشبي ضخم يتوسط الغرفة وقد إمتلأت صفحته بالأوراق وأجهزة الهاتف فيما كانت الجدران مغطاة بالرفوف الخشبية التي تغص بالكتب القيمة والجيدة , وخاصة العلمية والتقنية . وتأملت أيما بإهتمام بالغ الرجل الذي قام من وراء مكتبه بتهذيب لدى دخولها. هل من تغييرات كبيرة في منظره ؟ سبع سنوات ونصف السنة فترة طويلة جداً......وكان كل ما شاهدته منه طوال هذه المدة بضع صور في الصحف لم تفه حقه . فدايمون ثورن رجل في مستهل الاربعينات من عمره ولكنه يبدو أصغرسنا ,رجل طويل القامة عريض المنكبين , يغطي رأسه شعر أسود قاتم تزيد من هيبته وجاذبيته خصلات قليلة من الشيب الخفيف. وجهه قوي الملامح ,عيناه خضروان واسعتان , وفمه ممتلئ وشهي. وخلصت أيما في تحليلها الصامت إلى أن دايمون رجل تجده النساء جذاباً.......حتى من دون أن يأخذن بالإعتبار ثروته الطائلة ومكانته في المجتمع. ضاقت عيناه قليلا لدى دخولها وغطت أهدابه السوداء الطويلة تعابير العينين وما تعكسانه من أفكار وآراء . ولكن إبتسامته كانت ساخرة الى حد ما ولهجته تنم عن تهكم واضح : "أيما.......أيما ! لم أرك منذ زمن طويل ". رفعت رأسها وحاولت أن تسير نحوه بشيء من الكبرياء وعزة النفس , فبالنسبة إليها دايمون لم يتغير كثيراً وهو لا يزال الآن......كما كان دائماً......شخصية قوية وساحرة . لم تعرف كيف ستناديه الآن......السيد ثورن أو دايمون, كما كانت تفعل قبل ثماني سنوات ! تجاهلت الأسم كلياً وقالت له بهدوء : " صباح الخير" سار نحوها وهو يبتسم , ثم دعاها إلى الجلوس..... "هل تشربين شيئاً ". هزت برأسها نفياً , فعاد إلى السؤال : "قهوة , ربما ؟". "لا. شكرا. أنا......أنت تعجب بالتأكيد لماذا ......لماذا طلبت مقابلتك !". عادايمون إلى كرسيه , وأخذ سيكارا من صندوق على مكتبه وأشعله بهدوء فيما كان يراقبها بدقة وعناية .أرغمت أيما نفسها على التطلع نحوه وقالت بصراحة متناهية : "سبب الطلب هو جوني . إذ يبدو أنه أوقع نفسه في ورطة مزعجة ". "هكذا أذن ؟ أنت تعنين بالطبع شقيقك جوني ". هزت أيما برأسها قائلة: "طبعا ". " إستمري !". بحثت أيما بسرعة عن الكلمات التي يجب أن تستخدمها . فلو أبلغته القصة والوقائع كتقرير طبي أو تحليل علمي جاف , فإنها ستشكل اعترافا تاما بخطأ اخيها وذنبه, مع أن جوني في الحقيقة لم يكن سوى ضحية لتصرفاته الرعناء المتهورة .ولكن كيف سيمكنها إبلاغ رسالتها كما يجب إلى أحد عمالقة رجال الأعمال الذي يبدو غير متعاطف معها ومع مشكلتها على الاطلاق ؟ كيف ستخبر هذا الشخص الذي تنتشر شركاته وفروعها في دول العالم ، والذي عمل دائما بقسوة وبدون رحمة لتحقيق كل ما يريد ويبتغي؟ إنه لن يتفهم أو يقبل ابدا أن يشعر أحد موظفيه.......أخوها الذي يعمل في دائرة المحاسبة في هذا المبنى بالذات , بأن راتبه الشهري لا يكفي لتغطية خسائره الناجمة عن المقامرة ! ولكن هذه ليست القصة الحزينة بكاملها. فقد أوجد جوني لنفسه طريقة لاستعارة بعض الأموال من الشركة . وإستخدم هذا الأسلوب طوال الأشهر الستة الماضية لزيادة دخله, آملاً دوماً في أن يحقق يوما كسبا كبيرا يمكنه من إعادة هذه الأموال إلى صندوق الشركة. ولم يجرؤ جوني على إطلاع شقيقته على ما يحدث معه . ولم تكن لتعرف بالمشكلة لو لم يقرر بعض المسؤولين فجأة إجراء تدقيق على حسابات نصف السنة ، ويكتشف جوني أنه لم يعد لديه الوقت الكافي للتلاعب بالحسابات لتغطية سرقاته . ناشد أخته أن تساعده, فقبلت مرغمة , لأنها تعرف أن التوسط لدى دايمون ثورن هو الوسيلة الوحيدة لإنقاد جوني من السجن أو دفع غرامة كبيرة ......او الاثنين معا, بالإضافة إلى فقدان وظيفته......شعر دايمون بترددها فأعاد المقعد إلى وضعه الطبيعي وقال لها بهدوء : "أظن ان مصاعب شقيقك ليست لها أي علاقة بعملية تدقيق الحسابات في الاسبوع المقبل! ". نظرت إليه بسرعة وعصبية لتشاهد تلك التعابير الساخرة والهازئة تملأ وجهه وعينيه.حدقت به بضع لحظات وهي تحاول ملاحظة شعوره, لم يكن وجهه ينم عن شعور بالمفاجأة....أو الإستياء....أو الاهتمام.كان يبدو أنه يعرف عن الموضوع أكثر مما تعرفه هي! رفعت يدها إلى شعرها الأسود الكثيف , المتدلي بكبرياء وتحد على كتفيها, وأزاحت بعض خصلاته عن وجهها . ماذا ستقول ؟ ماذا يفكر الآن ؟ من أين تبدأ ؟ وأحست بأنه نهض من مقعده لدي سماعه صوت القهوة تغلي بإغراء في الابريق القريب من مكتبه . صب فنجانا من القهوة وأحضره لها قائلا بلهجة عملية خالية من الشكليات: "الأفضل أن تغيّري رأيك وتشربي فنجاناً من القهوة. تبدين وكأنك بحاجة الى قليل من القهوة الطازجة". أخدت الفنجان من يده وشكرته بكلمة واحدة قبل أن ترفعه على الفور إلى شفتيها وتشرب رشفة من ذلك السائل المنعش والشهي. لم يبتعد دايمون كثيرا بل جلس على حافة مكتبه وهو ينظر إليها بأهتمام وجدية. ثم هز كتفيه وقال : "حسنا يا أيما !سأوفر عليك عناء الشرح والتفصيل , فأنا أعرف كل شيء عن تلاعب شقيقك جوني بدفاتر المحاسبة" . كاد الفنجان يقع من يدها التي إرتجفت, وقالت له بإستغراب: "أنت تعرف ! " . وحلت موجة من الغضب القوي محل توتر الأعصاب, وقالت له بإنفعال : "أنت تعرف.....وتتركني أجلس أمامك أتعدب وأتألم,وأفكر كيف سأكشف لك عن هذه المشكلة العويصة !". إبتسم بهدوء وقال : "إهدأي يا أيما ! لا يمكنك أن تلوميني على ذلك. فإذا كنت أعلم أو لا اعلم لايعني تغيير جوهر القضية بشكل او بآخر". أربكها قربه منها. عندما كان جالسا وراء مكتبه الكبير أقنعت نفسها بأنه ليس إلا صاحب الشركة التي يعمل فيها جوني , وبأنها طلبت مقابلته لمجرد مساعدة شقيقها . أما الآن فهو هنا ......على بعد سنتيمترات منها. وهاجت في نفسها تلك الذكريات المنسية عن العلاقة الحميمة التي قامت بينهما. هل كانت حقا في يوم من الأيام قادرة أن تسيطر على هذا الرجل القوي والنافذ؟ هل هو نفسه الذي كان يضمها إلى صدره؟ إحمرت وجنتاها فأحنت رأسها بسرعة لكي لا يلاحظ ذلك . ولم تعرف ما إذا كان إنتبه ألى هذا التطور المفاجيء في شعورها إتجاهه إذ أنه لم يعلق بشيء على إحمرار خديها بل قال : "أتصور أن وجودك هنا هو بدافع رغبتك في إنقاذ شقيقك من الطرد العلني والملاحقة القانونية !". هبّت أيما واقفة وهي تسأله بلهفة : "لماذا ؟ هل ستساعده بعد هذا كله ؟". كانت متأكدة من أنه سيجيبها نفيا, ولكنها لم تعد مهتمة حقا بما سيقول لها . إنها تريد فقط مغادرة ذلك المبنى بأسرع ما يمكن قبل أن تنهار حصونها الضعيفة أمامه وتبدأ بالبكاء. لقد حاولت جاهدة إنقاد أخيها.....وجوني يعرف ذلك. إستدار دايمون ثورن من وراء مكتبه ووقف أمامها يحدق فيها بقسوة وعنف ,ثم قال بهدوء : "نعم سأساعده.....ولكن بثمن ". إرتجفت ركبتاها ولم تعد رجلاها قادرتين على حملها, فإنهارت في مقعدها. كان إرتياحها عظيما لدرجة إنها لم تسمع الشق الثاني من جوابه.....أم إنها سمعته ولم تعره اهتماما جديا. فتحت حقيبة يدها لتخرج علبة سكائرها لأنها شعرت بحاجة إلى التدخين. أحس بذلك, فأخد علبة مذهبة عن مكتبه وفتحها امامها قائلا : " تفضلي". أخذت سيكارة فأشعلها لها وهي لا تزال تنظر اليه بحيرة وذهول. وبعد أن إرتاحت أعصابها قليلا, هزت رأسها قائلة: "لا.....لا افهم ". ثم تنهدت وأضافت بجدية : "جوني سيعيد المبلغ بكامله, بالإضافة إلى الفوائد التي تترتب عليه" " الزاوية المالية لا تهمني أنا بل تهم قسم المحاسبة ". "اذا ما هو الثمن الذي يجب ان ندفعه ؟". أجابها بهدوء ونعمة : "لا تستخدمي صفة الجمع ! ما يهمني هو المفرد....أنت!" نظرت إليه أيما شزرا ثم هبّت واقفة وإبتعدت عنه بطريقة لا شعوريه. لأى هدف أو غرض يريدها دايمون ثورن ؟ليس من المعقول بالتأكيد إنه لا يزال بعد هذه الفترة الطويلة....... " لا ! ". قالها بصوت قاس وكأنه يقرأ أفكارها وما يدور في رأسها ثم أضاف : "لا تتصوري للحظة واحدة أنني أهتم بك, ولو قليلا, من الناحية الحسية ". "إذن ماذا تريد ؟ أنا ممرضة لا سكرتيرة ". في تلك اللحظه بالذات رنّ جرس خفيف على مكتبه، فرفع سماعة الهاتف وقال: "ثورن. ماذا تريدين؟" تحدث لفترة قصيرة من الزمن وكان الموضوع تقنيا بحتا. وعندما أنهى محادثته المقتضبة، رن الجرس فى جهاز الإتصالات الداخلية. تبسّم بصوت منخفض ثم ضغط زرا صغيرا وقال: "نعم؟" جاء صوت سكرتيرته هادئا وقويا فى آن معا: "مدير مكتب وزير الصحة موجود هنا يا سيدى. موعده معك فى الحادية عشرة والربع ، أي منذ خمس دقائق". نظر دايمون ثورن بسرعة الى ساعة يده الذهبية وقال بلهجة لا تقبل الإعتراض أو المناقشة : "أخبريه بأنني سأقابله خلال ربع ساعة " "ولكن يا سيد ثورن ......". "أخبريه ذلك يا آنسة ولدن". "نعم ياسيدى ". بدأت الصدمة الأولى لقراره بالمساعدة تزول تدريجيا، ولكنه لم يخبرها حتى الآن ماذا يريد منها كثمن لهذا القرار. نظر اليها بوداعة وقال لها بهدوء وكأنه غير مهتم بتأخير مساعد الوزير لأسباب شخصية : "قلت إنك ممرضة.....وأنا أريد منك أن تعملي معي ضمن مجالك هذا ". بلعت ريقها بقوة وهزت رأسها كأنها فهمت قصده.....مع أنها لم تفهم شيئا على الإطلاق. هل هو مريض؟ إنه لا يبدو مريضا.....ولكنه ربما يعاني من أحد تلك الأمراض اللعينة التي لا تكشف في البداية عن عوارض واضحة. وشعرت بأنها على وشك أن تصاب بالغثيان ! عاد دايمون ثورن إلى مقعده وأشعل سيكار آخر ثم طلب من أيما أن تجلس مرة أخرى. ولما رفضت قال لها بهدوء : " لا بأس , أنت تعرفين أنني تزوجت". هزت رأسها علامة الإيجاب.كيف لا تعرف ! ألم يتزوج أليزابيث كينغزفورد بعد أسابيع فقط من إنفصالهما ؟ ألم تشعر بأن خبر زواجه آنذاك مزّقها وكاد يقضي عليها؟ طبعا تعرف! وسمعته يضيف : "رزقنا بإبنة تدعي أنابيل . إنها الآن في السادسة والنصف من عمرها ". هزت أيما رأسها مرة اخرى.إنها تعرف ذلك أيضا.فعلي الرغم من انفصالهما دأبت بعض الوقت على تتبع أخباره وأخبار عائلته. وأضاف دايمون بتأثر بالغ : "هناك أمر لا تعرفينه.....أمرلم نكشف عنه أو نعلنه...وهوأن إبنتي عمياء !". وأخد يراقب رد فعلها...إتسعت عيناها، فتحت فمها ثم عضت شفتها. وقبل أن تتمكن من الإعراب عن أسفها الحقيقي لما جرى،تابع قائلاً : "عندما قتلت أليزابيُث بحادث سير ،كانت أنابيل معها.أصيبت بضربة قوية على رأسها أفقدتها الوعي بعض الوقت . ولما إستعادت وعيها تبين أنها فقدت نظرها . هذه هي القصة بكل بساطة ". "أنا آسفة جداً . هل ستتمكن من إستعادة نظرها ؟". "الأخصائيون يعتقدون أن ذلك ممكن، أما أنا فلست مقتنعاً بما يقولون. في أي حال، إن من المبكر جداً التكهن بشيء . فعمرها لا يسمح بإجراء عملية جراحية كبرى لها .أنا لا أوافق على مثل هذه العملية الأن ". وهز كتفيه العريضتين وقال : "إذن ،هذه المشكلة. الممرضة المربية الموجودة مع أنابيل منذ وقت الحادثة ،أي منذ ثمانية عشر شهراً، ستتركنا الأن لأنها سوف تتزوج . وعليه فأنا بحاجة إلى شابة تهتم بإبنتي وترعاها . أنا لا أحب الغرباء في بيتي، وأنت على الأقل لن تكوني غريبة. إتفقنا ؟". شعرت إيما بحيرة شديدة.....وذهول. إنها تحتاج إلى بعض الوقت لتأخذ قرارا جدّيا وجريئا كهذا.ستعيش في بيت واحد مع دايمون ثورن.....ستراه كثيراً.....ستعتني بإبنته ! آخر شيء تريده في حياتها هو أن تسكن تحت سقف واحد مع هذا الرجل! ولكن هل من خيار ؟ فأما أن تقبل وتنقذ جوني من السجن والفضيحة، وأما أن ترفض وليتحمل جوني مسؤولياته ويحل مشكلته بنفسه , ردت عليه محاولة التملص والمراوغة : "أنا.....أنا لست عاطلة عن العمل.إنني الآن ممرضة رئيسية وسأصبح رئيسة قسم في نهاية السنة. لا أعرف بماذا اجيبك !" . "اوه، اعتقد إنك ستوافقين.....لأن رفضك سيعود على اخيك بضرر كبير ". لم تتمكن من ضبط أعصابها كثيراً فصرخت به في حدة وعصبية : "إنك حقير !". علّق على إتهامها بسخرية هادئة : "أنت تقصدين بلا شك كلمة لعين أو ساخر. وإن كنت فعلا هكذا فما عليك إلا أن تشكري نفسك، أليس كذلك ؟ ". أزاحت وجهها بعيداً عنه، غير قادرة على النظر إليه. إنه لا يعرف ماذا يقول.....ولا يعرف ماذا يطلب ,إستجمعت قوتها وشجاعتها وقالت له بصوت خافت: "يبدو أن لا مجال لي للإعتراض أو للرفض. سأضطر لتقديم إستقالتي في المستشفى . سوف تتوقع الإدارة مهلة لا تقل عن شهر......". قاطعها بسرعة : "أعطهم مهلة أسبوعين، سأدفع راتب الأسبوعين الآخرين، وإذا واجهك أحد بأي مصاعب أو شكاوى.....أحيليه إلى مكتبي ". إستدارت نحوه بغضب صارخة : "هل تعتقد أن المال يشتري كل شيء ؟". هز رأسه وأجابها بجدية وهدوء : "طبعا لا.....وأنا أعرف ذلك . إلا أنني لا اعرف لماذا تتصرفين بمثل هذه الحدة والعصبية. يجب أن تكوني ممتنة لي .....فعوضا عن تمضية بقية فصل الشتاء في هذه البلاد الباردة ، فأنك ستمضينه وانت تتمتعين بشواطىء البهاما وشمسها ". "جزر البهاما !". "طبعا . أنا أعيش هناك في الوقت الحاضر ، ألم تعلمي ذلك ؟ ربما لم تعلمي، فمكان إقامتي......كوضع إبنتي الصحي.....سر أحتفظ به لنفسي.....ولبعض المقربين مني....". 2 - أنقد أخاها...... فقبلت عندما عادت أيما إلى الشقة التي تتقاسمها وشقيقها، كان جوني ينتظرها على أحر من الجمر .إنها شقة صغيرة تقع في إحدى ضواحي لندن، إنتقلا اليها منذ وفاة والديهما قبل أربع سنوات، لأنهما إضطرا لبيع المنزل القديم ولم يبق لديهما مال كاف لشراء شقة أفضل. ولما دخلت الشقة، هبّ شقيقها واقفا وحدّق بها لحظة ثم أمطرها بوابل من الأسئلة: " هل إلتقيته ؟ هل سيغفر لي؟ هل أقنعته بأنني لم أكن مخطئاً ؟ ماذا قال؟ ماذا قال؟". " جوني! ألا تفسح لي المجال كي أتكلم؟ تريد أن تعرف عدة أشياء في وقت واحد. نعم، ألتقيته. لا،لن توجه إليك أي تهمة قضائية.........". قاطعها بفرح وبهجة وهو يرفعها عن الأرض ويدور بها قائلا: " أوه ، أيما ! أيما حبيبتي! كنت أعرف أنك ستنجحين كنت اعرف!". جلست على كرسي وأشعلت سيكارة بيدين مرتجفتين. لم تتمكن من إستيعاب فكرة التحول الجذري الذي سيطرأ على ظروفها وطريقة معيشتها. وبالإضافة إلى جميع مشاكلها ومصاعبها فهناك مشكلة جوني نفسه. فمع أنه في السادسة والعشرين من عمره ويكبرها بعام واحد، فأنه يبدو دائما أصغر منها بكثير .وكانت أيما التي تتحمل على الدوام وطأة المشاكل التي يوقع نفسه بها. وتضايقت كثيرا عندما تخيلت الوقت الذي ستضطر فيه لتركه، والعيش في مكان يبعد آلاف الكيلومترات......حيث لن تتمكن من مراقبة أكله بإنتظام ، وحصوله على كميات كافية من الألبسة، وعدم إسرافه في التدخين ! "انك رائعة يا أختي الحبيبة!رائعة ! " "إنك لم تسمع بعد بقية القصة . فحتى دايمون ثورن يريد شيئا مقابل ماله". توقف جوني فجأة عن القفز والرقص في أرجاء الغرفة الصغيرة وسألها: "وماذا يريد ،بالإضافة إلى ماله بالطبع ؟ " " إنه يريدني أنا . يريد على الأقل خبرتي في التمريض . إبنته أنابيل بحاجة لممرضة مربية .....هذا هو الثمن الذي يريده". هز جوني كتفيه وقال عابسا : " أوه،حسنا، فالأمر ليس سيئا ألى هذا الحد! أعني إن دخلك الشهري كموظفة لدى ثورن لن يكون قليلا، أليس كذلك ؟ أعتقدت في بادئ الأمر أنه.......". وتوقف عن إنهاء جملته، ثم عاد وقال لها: " لماذا هذه النظرات الشاحبة والغاضبة؟ العمل معه كممرضة خاصة أسهل بكثير من دفن نفسك في مستشفاك هذا طوال الليل والنهار". حدّقت به أيما وكأنها تراه لأول مرة في حياتها، وقالت له: " الحقيقة يا جوني إنك ذروة في الإزعاج وإثارة الأعصاب . إنك تعرف حق المعرفة أنني أتمتع بعملي إلى أبعد حد ،وأنني على وشك الحصول على ترقية .وأنا لا أريد التخلي فجأة وكلية عما كافحت سنوات لتحقيقه كي ألعب دور مربية لطفلة صغيرة ، ولكنك لا تهتم بأمري أبداً، أليس كذلك؟ لا تهتم ابدا ما دمت أنقدت جلدك!". بدا الإنزعاج واضحا على وجهه وقال لها بحدة: " لا تكوني هكذا ايتها الصغيرة ! " صرخت به غاضبة: " لا تسميني الصغيرة !لن تكون مسرورا أبدا عندما أخبرك أنني سأغادر البلاد . أنابيل تعيش في جزر البهاما ودايمون ثورن يريدني أن اعيش هناك". ظهر القلق فجأة على محياه وسألها بلهفة وتلعثم: "" ماذا ؟ ماذا تقولين ؟ماذا.....سيكون أمري....والشقة؟ " أنا آسفة ، ولكن هذا هو الثمن الذي يجب أن ندفعه . فأما أن أوافق على طلب دايمون وأذهب إلى سانت دومينيك لأهتم بإبنته أنابيل ، وأما أن تذهب إلى السجن . هذان هما ببساطة الإختياران اللذان أتاحهما لنا دايمون ". لوّح جوني بقبضته غاضبا وهو يقول: " اللعنة ! هذه هي طبيعته وهذا هو أسلوبه ! فرض الشروط القاسية!". "جوني ! لا تنس أنك أنت الذي أوقعتنا في هذه الورطة" لم تقدر على منع نفسها من الدفاع عن دايمون ثورن . فشروط الرجل ليست قاسية أو غير إنسانية إلى هذه الدرجة , وهو أيضا........ " أعرف , أعرف , وليس من الضروري أن تذكريني بما حدث , وأكرر القول أنني لا أستغرب تصرفه هذا , لأن من طبيعته القيام بأمر حقير للغاية يؤلمني ويوجعني كيفما كانت النتيجة". أوه ، جوني !". " أنهاالحقيقة ، أليس كذلك؟رباه ،هناك عدة مكاتب ووكالات متخصصة يمكنه أن يختار بواسطتها ممرضة أو رفيقة لإبنته ويكون لها ضعف مؤهلاتك . كم عمرها؟ لا يمكن أن تكون أكثر من ست سنوات ! إنه لأمر سخيف للغاية. لماذا يريدك أنت بالذات ؟ لماذا لا يقبل بأن أرد له ماله وتنتهي القصة عند هذا الحد؟". هزت أيما رأسها قائلة بهدوء: " لا أعلم أي شيء سوى ما أخبرتك به. لا أعرف لماذا يريدني أنا شخصيا.....فتصرفه معي يوحي بأنه يحتقرني بشكل واضح". " هـا! هذه هي المسألة أذن . أنه يستخدمك لمجرد إغاظتي.....لأنه يحقد علي". تنهدت أيما وقالت: " مهما كانت أسبابه ودوافعه فإن علينا القبول بشروطه..... إنني لا أعتقد إنك على إستعداد للدخول إلى السجن نكاية به ولأغاظته، أليس كذلك ؟". أحنى رأسه خجلا وقال بصوت منخفض وكأنه يرفض الإقرار بصواب كلامها " صحيح . وكم تتوقعين البقاء هناك؟ ماذا سأفعل بعد ذهابك؟". " لا أعرف يا جوني .والأمر يقلقني كما يقلقك أنت تماما.صدقني". " وما هي الترتيبات إذن ؟ لقد إتخذ قراره هذا بسرعة على ما يبدو ، أليس كذلك؟". عضت أيما على شفتها وكأنها تذكرت شيئا هاما ، وقالت: " أوه ،رباه ، نسيت أن أخبرك يا جوني ! كان مطلعا على ما قمت به بالتفصيل.....كان يتوقعني أن أذهب إليه". "! الحقـير " قالها جوني بعصبية بالغة ،ثم مضي إلى القول: " كان علي أن أعرف أن ما من شيء يجري في تلك المكاتب والدوائر بدون معرفته التامة". " لم يعد هاما حقا ماذا يعرف أو لا يعرف. أطّلاعه على الأمر وفر علي الكثير من التوضيح والشرح.....لا أكثر ولا أقل، وعلينا أن نقبل بالواقع". ثم نظرت إلى ساعة يدها وقالت بلهفة: " أوه، إنها الواحدة تقريبا. عملي يبدأ في الثانية، كما إنني مضطرة لكتابة إستقالتي". "متى ستغادرين لندن ؟" " خلال أسبوعين تقريبا, ستتصل بي سكرتيرته وتعطيني كافة التفاصيل. أعتقد أنه يتحتم علي شراء بعض الثياب الصيفية. فمع أننا الآن هنا في منتصف فصل الشتاء، فإن الطقس دافىء جدا طوال فصول السنة في جزر البهاما". تمتم جوني بكلمات غير واضحة ، ثم قال بحدة ظاهرة: " تصوري ! أنا سأظل حبيس هذه المدينة الباردة والشقة الصغيرة، وأنت ستذهبين لتمضية أجمل أوقاتك وأحلاها". هبّت أيما واقفة وإستدارت نحوه بعصبية بالغة، ثم قالت بإنفعال واضح: "أنت حقا أكثر الناس الذين عرفتهم في حياتي أنانية وحبا للذات. أنا لا يهمني بشكل أو بآخر اين أذهب ، ما دمت مرغمة على مغادرة موطني.....والإستقالة من عملي، والأبتعاد عن أصدقائي . هل تتصورحقا أيها الغبي أن جزيرة معزولة، مهما كان طقسها رائعا وموقعها خلابا .....يمكن أن تعوّض جميع الأشياء التي سأضطر للتخلي عنها ؟ وأكثر من ذلك كله، كيف تظن أنني سأشعر بالنسبة إلى العيش مع دايمون ثورن تحت سقف واحد...كأجيرة لديه، أتلقي أوامره وأنفّذ طلباته؟". نظر إليها شقيقها خجلا وقال: " أعتقد أن الوضع سيكون بائسا ألى حد ما ، وخاصة أنك لن تعيشي في ناسو كإحدى....الغنيات ! أنا آسف يا أختي.أعتقد أنني كنت قاسيا إلى حد ما . كل ما في الأمر أنني سأبدأ بتناول طعامي في الخارج وإرسال ثيابي إلى المصبغة". " أرجوك، بحق السماء، ألاّتصبح كالمتشردين والمتسولين لمجرد أنني لست هنا للإعتناء بك والأهتمام بأمورك". " أنا لست غبيا إلى هذه الدرجة ، وأنت تعلمين ذلك أيتها الأخت العزيزة". ثم تنهد بإنفعال وسألها: "وماذا عن وظيفتي؟ هل لا أزال موظفا أم أنني فصلت من عملي ؟". "يقول دايمون ثورن أن بإمكانك البقاء في عملك ، مع أن المبلغ الذي إختلسته سوف يعاد إلى الشركة طبعا بواسطة حسومات معينة من راتبك الأسبوعي". رد بمزيج من السخرية والحدة: " طبعا ، طبعا ! أوه ، حسنا ، هذا يعني أن كل شيء قد أنتهى". نظرت إليه أيما بإنزعاج واضح ثم ذهبت إلى الحمام لإبدال ثيابها والتوجه فورا ألي المستشفى ، حيث لا يزال بإمكانها تناول وجبة خفيفة وسريعة قبل الألتحاق بالقسم الذي تعمل فيه. خلال الأسبوعين التاليين، لم تفسح أيما المجال أمام نفسها ، للتركيز على الأسباب التي دفعت دايمون ثورن إلى إستخدامها .كانت تمضي وقتها بين المستشفى وشراء بعض الحاجيات الضرورية ، وكذلك في الحصول على الوثائق والأوراق الضرورية للإقامة والعمل في ناسو . ودأبت في الليالي التي لم تتمكن فيها من النوم بسرعة ، على تناول إحدى الحبوب المنومة ، رافضة دراسة الموضوع وتحليل الإعتبارات والمضايقايات, وإضطرت في المستشفى إلى إبلاغ الموظفين الذين عرفوا باستقالتها ، أن السبب في ذلك هو قبولها عرضا من دايمون ثورن للعمل لديه في جزر البهاما كمربية لإبنته. وفي إحدى المرات التي كانت تكرر فيها جملتها هذه أمام البعض ، سألتها صديقتها جوانا دنهم بتعجب: " ولكن يا أيما , ألم تكن بينكما في السابق علاقة حميمة إلى حد ما ؟ أعني أن إسمه مألوف جدا ! أليس هو ذلك الثري الاميركي الذي.....؟". وتعمدت جوانا عدم إتمام جملتها خشية إحراج صديقتها: " إنه في الحقيقة نصف أميركي، فوالدته بريطانية ! والجواب على الشق الأول من سؤالك هو نعم .كنت أعرفه.....ولكن ليس ألى الدرجة التي تتصورين". " في أي حال يا حبيبتي ، أعتقد أنك تقومين بخطوة جيدة . العمل في المستشفى رائع من جميع جوانبه ، ولكنني مستعدة للتضحية بالكثير للتمتع بحرارة الشمس ودفئها". تظاهرت أيما أمام الجميع بأن الإستقالة صادرة عنها بمحض إرادتها وبناء على قرار مدروس ، وليس نتيجة إكراه أو إبتزاز كما حدث فعلا . وكان ندمها الوحيد أن رئيسة المستشفى ، التي منحتها ثقتها وساعدتها وأفسحت أمامها مجال الترقية ، قد تشعر الآن بأن أيما تخلت عنها بمثل هذه السرعة واللامبالاة ، ولكنه يستحيل عليها شرح الموضوع للرئيسة بدون أن تتحدث عما جرى لشقيقها.....وهذا أمر غير وارد بالنسبة ‘ليها . بالرغم من أنانيته وإتكاليته وضعف شخصيته ، فإنه لا يزال شقيقها الذي تحبه وتسعي لإنقاذه ومساعدته بشتى الوسائل. في الليلة الأخيرة لوجودها في المستشفى ، أقامت الممرضات حفلة وداع لها . ثم توجهت خمس ممرضات معها الى شقتها ، وإنضم إليهن طالبان من كلية الطب وخطيبا إثنتين من الممرضات ، بالإضافة إلى جوني وصديقه مارتن وبستر ، وأقام الجميع حفلة إتسمت بالمرح والصخب . ولاحظت إيما بإنقباض أن وقتا طويلا جدا سوف يمر قبل أن تتمكن مرة أخرى من التمتع بحفلة كهذه. رقصوا....لعبوا.... مازحوها حول طريقة الحياة التي ستعيشها ، وكان يبدو الجميع أنهم يحسدونها على حياتها الجديدة . حتى أن أيما نفسها بدأت تفكر جديا بأن الأمور لن تكون سيئة إلى الحد الذي تتصوره . فدايمون ثورن لن يمضي وقتا طويلا في ناسو . فأعماله كثيرة جدا ، وإهتمامه البالغ بقوة أمبرطوريته وإتساع رقعة إنتشارها في العالم سيضطره ألى السفر معظم أيام السنة.كما أنه لن يفضّل الجزيرة ، بالرغم من جميع حسناتها ووجود إبنته فيها ، على العواصم والمدن الكبيرة التي تتركز فيها شركاته ومعظم أعماله ونشاطاته. توجهت أيما إلى المطبخ لإعداد القهوة . خلال وجودها هناك ، رن جرس الباب فذهب جوني لفتحه وهو يظن أن أحد الجيران سوف يتذمر من الضجيج . إلا أن الدهشة أصابته وعقدت لسانه عندما وقع نظره على آخر إنسان يتوقع حضوره.....دايمون ثورن. ولما أطلت أيما وشاهدت دايمون ، أحست بأن قلبها توقف عن الخفقان .تراجع جوني خطوة إلى الوراء وهز بكتفيه ثم قال بشيء من السخرية: "هل تريد الدخول، يا سيد ثورن ؟" لم يجبه دايمون بل حتى لم ينظر إليه . تجاهله كلية ، ودخل إلى القاعة فتوقف الجميع عن الرقص . إقتربت منه أيما فسألها وهو يتفحص الفوضى التي تعم الشقة:"هل يمكن أن أتحدث معك قليلا؟". " أجابته بتردد: " أنا....أوه....كما ترى....إننا....ألا يمكن الإنتظار حتى الصباح؟". "لا ، لا يمكن الإنتظار . يمكننا التحدث في المطبخ" وتوجه فورا نحو المطبخ وقفت أيما عابسة ومضطربة في ذلك المطبخ الصغير فيما إستند دايمون إلى الباب كي لا يتمكن أحدمن فتحه . وفور دخولهما ، عاد الهرج والضحك إلى أجواء الغرفة المجاورة فشعرت أايما بشيء من الإرتياح وزال عنها بعض إنقباضها. ." ماذا تريد ؟ تأملها دايمون من رأسها حتى أخمص قدميها ثم عادت نظرته لتتركز على شفتيها مما ضايقها وأثار مشاعرها . فعلى الرغم من سنه، يبدو قويا وحيويا أكثر من الشبان الموجودين في قاعة الجلوس . فهم صغار بالمقارنة معه.....من حيث الشخصية والخبرة .....الجاذبية الحقيقية. " جئت لأتأكد بنفسي أنك ستحافظين على الشق المتعلق بك من الصفقة . أاخبرك جوني طبعا ، أن جميع مشاكله سويت بطريقة نهائية". "لم يذكر لي شيئا من هذا القبيل .في أي حال ،أنا متأكدة من أنك إحتفظت بإثباتات كافية لإدانته فيما لو تجرأت أنا على الأنسحاب في هذه المرحلة". "كم أنت على حق يا أيما" ثم أشار إلى الغرفة المجاورة ومضى إلى القول: ، أليس كذلك؟". " أعتقد أنها حفلة وداعية "نعم .هل هذا كل شيء " " لا، ليس تماما . إني متوجه إلى هونغ كونغ غدا صباحا ، وهذا هو السبب الفعلي لمجيئي الليلة. لن أتمكن من رؤيتك قبل سفرك الآنسة ولدن أبلغتني بأن جميع أوراقك جاهزة . كذلك ستجدين كريس ثورن في إستقبالك هناك". ردت عليه بكلمة واحدة: ." نعم " ." عظيم " ثم هز رأسه وإبتسم قائلا : " لماذا تبدو عليك هذه التعاسة كلها يا أيما؟ أنني أضمن لك بأنك لن تجدي الحياة هناك مملة على الإطلاق . فسانت دومينيك قريبة بما فيه الكفاية من مكان إقامتنا،كي توفر لك جميع أسباب التسلية والترفيه عن النفس التي تجدينها في أي مكان هنا". برقت عيناها غضبا وقالت له بعصبية: " إنك لن ترضى بأن أقول لك أنني أفضّل بلادي الباردة والفاترة ، على أي مكان آخر في العالم . لندن بالنسبة إلي هي موطني ولا أريد الذهاب إلى جزر في المحيط الأطلسي مهما كانت جميلة ورائعة". " هذا يظهر جهلك لمثل هذه الأمور . ففي هذا الموضوع ،كما في غيره ، تظنين أنك أكثر إطّلاعا من غيرك . هل لا زلت تعتقدين ذلك يا أيما ؟". إذهب ، ارجوك !". " ."بكل سرور" هز رأسه محييا وغادر الشقة دون الإلتفات إلى الآخرين . إقتربت منها جوانا وسألتها بتعجب ودهشة: "هل هذا هو رب عملك الجديد ؟" أومأت برأسها علامة الإيجاب ، فشهقت جوانا قائلة: أيتها المحظوظة ! إنه رائع ، أليس كذلك ؟ رباه ، لو كنت في مكانك لرقصت فرحا وابتهاجا !". ."أوه ، جوانا ، إن الأمر ليس كما تتصورين على الاطلاق" بدا التشكك على وجه الصديقة التي قالت: " إسمعي يا عزيزتي ! إذا كان صحيحا ما يقولون من أنكما كنتما على علاقة وثيقة قبل بضع سنوات ، فما عليك إلا أن تحاولي جهدك لإعادة المياه إلى مجاريها". ثم إبتسمت وأضافت: " إنك في الخامسة والعشرين ، ومعظم من هن في سنك متزوجات منذ بعض الوقت ". أرغمت أيما نفسها على الإبتسام وقالت: " أنا إنسانة تهتم بعملها قبل أي شيء آخر ، ألاتعلمين ذلك ؟". ولكنها عندما إستلقت في سريرها تلك الليلة ،لاحظت أيما بحزن وأسي أن الدموع تنهمر من عينيها رغما عنها . فلو أن جوانا تعرف حقا ماذا كانت تقول لها.....لو أنها كانت تدرك ماذا رفضت قبل بضع سنوات ، لما كانت عذّبتها وآلمتها بتوبيخها على عدم زواجها ! آه لو أن صديقتها تعرف كم من فرصة أتيحت لها قبل سبع سنوات لتكون أسعد إمرأة في العالم.....ولكنها لم تتمكن من إنتهاز أي منها..........
3- الرجل الثاني
إكتشفت أيما أن الترتيبات المعدة لرحلتها إلى ناسو لم تكن قاسية ومرهقة كما تصورتها. وعندما حطّت الطائرة الضخمة في مطار نيوبروفيدانس الدولي وأنهت أيما جميع معاملاتها ، ودّعت الأشخاص الذين تعرّفت إليهم أثناء الرحلة ثم توجهت بمفردها إلى خارج المبنى الرئيسي . كان الطقس رائعا والسماء زرقاء صافية ، والإرتياح باديا على وجوه العاملين في المطار الذين يرتدون ثيابا خفيفة بيضاء ، بعكس أيما التي كانت لا تزال مرتدية ثيابا شتوية سميكة لا تناسب الأجواء الدافئة. وقفت تتطلع حولها علّها تشاهد احدا يشبه دايمون ثورن . فإذا كانت هذه الفتاة كريس إحدى قريبات دايمون فإنه سيكون بينهما بعض أوجه الشبه . إلا أنه لم تكن هناك قرب المدخل أي فتاة سوداء الشعر ، بل كان شاب طويل القامة شعره نحاسي اللون ينظر اليها متأملا وفاحصا. خجلت من كثرة تحديقه بها ،فإستدارت إلى الناحية الأخرى ، وهي تتساءل ما إذا كان من الأفضل أن تذهب لشرب فنجان من القهوة بعد إبلاغ مكتب الإستعلامات عن إسمها ومكان وجودها. لم يكن من الحكمة مطلقا أن تستقل سيارة أجرة وتذهب إلى المدينة ، لأنه لم تكن لديها أدنى فكرة عن عنوان البيت الذي ستتوجه إليه. حملت حقيبتها وإستدارت نحو المبنى الرئيسي . تحرك الشاب فجأة وسار نحوها بسرعة . وفيما كان يقترب منها تساءلت أايما من يكون هذا الشاب الوسيم والجذاب الذي لا يتجاوز الثلاثين من عمره. " أنا آسف لأنك بدأت تشعرين بالإزدراء نتيجة تأملي لك. ولكنني قدّرت في نهاية الأمر أنك لابد أن تكوني أيما هاردينغ . هل أنا على حق؟". نظرت إليه أيما بإرتياح ،وقالت: "نعم ، أنا هي بعينها. هل جئت لملاقاتي؟" وعندما أومأ برأسه لامة الإيجاب ، تابعت حديثها قائلة: " أوه، شكرا . كنت قد بدأت أشعر بشيء من الخوف والإرتباك....يبدو أن إبنة عم السيد ثورن نسيتني تماما". " ألم يقل لك دايمون أنني سأكون في إستقبالك ؟ أعني إنني كنت على وشك الإصابة بخيبة أمل كبيرة لأنك لم تنظري ابدا إتجاهي". هل أنت كريس ثورن ؟"." طبعا ". " ضحكت وقالت : " لا تسألني لماذا كنت أتوقع فتاة بإنتظاري ! منذ أن ذكر الإسم أمامي للمرة الأولى إعتبرت أن كريس هو تصغير لإسم كريستين" أخذ حقيبتها وسار نحو سيارة بيضاء رائعة ووضعها في صندوقها ، وفيما كان يفتح الباب لأيما ،قال بهدوء وبإبتسامة رقيقة: " كريس تصغير أيضا لإسم كريستوفر . وبكل صراحة أقول لك أنك لم تكوني كما توقعتك . فأنت أكثر شبابا....وأكثر جاذبية وجمالا ". إحمرّت وجنتاها خجلا وقالت بحياء وسرور: " شكرا لك على هذا الأطراء . لقد عوّضت عن خوفي وترقّبي". كانت رحلة السيارة مع كريستوفر ثورن إلى ناسو ممتعة للغاية ولا تنسى . فقد إختار الطريق الساحلي لتشاهد أكبر قدر من المناظر الطبيعية الخلابة. وقالت أيما لنفسها أنها لن تتمكن ابدا من وصف هذا المكان لشقيقها أو صديقاتها في لندن بدون إستخدام الكلمات الشاعرية الرنانة والتي توجد عادة في الكتيبات السياحية الدعائية . ومع أنها ظلّت تؤكد لنفسها أن جزر البهاما ليست المكان المفضل لإقامتها ، فإنها لم تتمكن ألاّ من إبداء الأعجاب الشديد بالشواطئ التي تبهر الأنظار بجمالها وروعتها . كما أن الأسماء التي أطلقت عليها جذابة وناعمة....شاطئ الحب ، شاطئ العشاق ، شاطئ النعيم....... إلتفت كريس نحوها وأشار إلى أحد ملاعب الغولف الشهيرة إلى يمينها قائلا بتكاسل: " هناك أوجه نشاط متعددة للغاية . سباحة ، تزلّج على الماء ، غطس في الأعماق ، هل تمارسين السباحة؟". "نعم بالتأكيد . ولكني لم أجرب ابدا الرياضتين الاخيرتين" رد مبتسما بمرح وزهو واضحين: "سوف تجربينهما.سأعلمك أنا نفسي" كانت ناسو تعج بالناس في مثل ذلك الوقت ، ولكن كريستوفر تمكن أن يشقّ طريقه بين مئات من راكبي الدراجات وسيارات الأجرة وعربات الخيل ليصل بعدقليل الى باحة فندق ضخم. " هيا ، غرفتك محجوزة سلفا. أعنقد أنك بحاجة إلى حمام بارد وثياب صيفية خفيفة". هزّت برأسها موافقة. تركته في القاعة الرئيسية وصعدت إلى غرفتها يرافقها الحمّال الصغير ، الذي أوصل لها الحقيبتين وقبض بقشيشه ثم حيّاها بإحترام وغادر الغرفة . وإستغربت أيما لماذا أزعج كريستوفر نفسه وحجز لها غرفة مع حمام داخلي فيمثل هذا الفندق الحديث حيث أنهما سيتوجهان بعد الغداء مباشرة الى سانت دومينيك . إستحمت وإرتدت ثيابا خفيفة ثم نزلت إلى القاعة الرئيسية وهي تشعر بأنها مستعدة لمواجهة العالم . كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة وبدأت تشعر بجوع حقيقي , وسرّها جدا أن تجد كريستوفر يهب لملاقاتها بمجرد خروجها من المصعد وهو يقول لها مبتسما: "هيّا ، هيّا ! أنني اتضوّر جوعا! " " وأنا كذللك ! " وسمحت له بإمساك يدها فيما كانا يسيران نحو المطعم. وكانت طاولتهما التي حجزها كريستوفر في وقت سابق تطل على المرفأ. وطلبت أيما أن يقترح عليها ما يجب أن تأكله . فطلب غداء شهيا إختتماه بفنجانين من القهوة لكل منهما "هل أعجبك الغداء؟". إبتسمت وأجابته بإرتياح ظاهر: " أنت تعرف أنه أعجبني" ماذا كنت تفعلين في لندن؟ أعني.....أعرف أنك كنت ممرضة ، ولكن ماذا كانت هواياتك ؟ هل كنت تسهرين كثيرا أو بالأحرى تمضين وقتاً طويلا خارج المنزل؟". هزّت أيما رأسها وقالت: " لا،ليس كثيرا كنت أحضر بعض المحاضرات....وعددا من المسرحيات الجيدة بين الحين والآخر . أحب الحفلات الموسيقية ومعظم أنواع الموسيقى ، كما أنني أهوى المطالعة إلى أقصى الحدود". بدا الإهتمام على وجه كريستوفر وفي عينيه ، وسألها: "ماهي كتبك أو موضوعاتك المفضلة ؟" " إنني أقرأ كل شيء تقريبا , تعجبني القصص البوليسية والعاطفية........." "هل قرات قصص كريسمس هولي؟" " كريسمس هولي؟ أوه ، طبعا ! إنه ذلك المحقق الخاص الذي يكتب عنه مايكل جفريز . إنها قصص لا بأاس بها على الإطلاق . أعتقد أنني قرأت إثنتين أو ثلاثا منها". إبتسم كريستوفر بمكر وقال بتعجب: " قرأت إثنتين او ثلا ثا فقط ! ألم تعرفي أنني كتبت سبعا وعشرين من هذه القصص التي....". قاطعته بدهشة وسرور بالغين: " أنت مايكل جفريز ! ما أروع ذلك! إنني الآن بصحبة الرجل الذي خلق الشخصية الذكية المحببة ،كريسمس هولي إنه أسمر جميل جدا . كيف إخترت هذا الإسم بالذات؟". " كريسمس إسم لا يختلف كثيرا عن كريستوفر وهولي نبات شوكي مما يتفق مع إسم عائلتي ثورن ، أي الشوكة . إنه تلاعب في الأسماء والمعاني . وحتى إسم التأليف المستعار ليس في الحقيقة مستعارا، فإسمي الكامل هو كريستوفر مايكل جفري ثورن". علقت أيما بحماس ظاهر: "أعتقد أن الأمر مثير للغاية . فالكتابة أساس القراءة ، وأنا لم التق كاتبا أو مؤلفا في حياتي . هل تسكن في سانت دومينيك؟". "لا". وهزّ رأسه ثم تابع حديثه عندما لاحظ عليها الإنزعاج وخيبة الأمل: أنني أسكن في سانت كاترين القريبة جدا من مكان إقامتك . إنها في الحقيقة لا تبعد أكثر من أربعة كيلومترات تقريبا ، مما يعني أنك ستصبحين جارتي. وسيكون من دواعي سروري التحدث إلى شخص يعجبه عملي". " عظيم،اوه, بالمناسبة....من يسكن في سانت دومينيك، بالإضافة إلى أنابيل طبعا؟". هزّ كتفيه وقال:. " هناك تانزي المربية العجوز التي أعتقد أنك ستحبينها. كانت مربية دايمون في صغره . وهناك المعلمة لويزا مريديث،وبالطبع بعض الخدم". " يبدو بالتأكيد أن أنابيل ليست بحاجة لي على الإطلاق. فلديهامربية ولديها معلمة وحاضنة!". نظر اليها كريستوفر بجدية وقال وهو يهز رأسه معترضا: "أظن أنك على خطأ . فتانزي طاعنة جدا في السن ولم تعد بالتالي قادرة على الاهتمام كثيرا بطفلة في السادسة من عمرها ، وخاصة في وضع أنابيل . أما لويزا فإنها.....إلى حد ما.....من غير فائدة . أوه ، إنها تعلم أنابيل القراءة مستخدمة أسلوب برايل للأحرف النافرة، كما إنها تتحدث اليها ومعها ، وأعتقد أن أنابيل تتعلم منها الكثير . ولكنها من الناحية الأخرى ليست الرفيقة الصحيحة لها . فالطفل يجب أن يعامل كندّ لا أن تنظر إليه كمخلوق تافه يتعلم كالببغاء وينفّد الأوامر بدون حق في المناقشة أو الإستفسار المنطقي .لويزا لا يمكنها ابدا أن تنسى نفسها بما فيه الكفاية لتلعب مع الطفلة . إنها متزمتة ومتحجرة". تنهدت أيما بعد سماعها هذا الشرح الوافي وسألته بهدوء : " ومن كان يهتم بأنابيل فعليا حتى الآن ؟" "برندا لوسن ، شابة في الثلاثينات من عمرها تزوجت رجل أعمال اميركيا متقاعدا، قرر أن ينقل مكان إقامته إلى منطقة أقل صخبا وضجيجا". ثم وقف وسألها: . "هل أنت مستعدة؟ أومأت أيما برأسها إيجابا وسمحت له بأن يساعدها على النهوض ثم خرجا من المطعم. وفي القاعة الرئيسية توقف لحظة وسألها: " كيف وجدت غرفتك ؟. " جيدة جدا , شكرا لك". ثم إنتبهت إلى أنه يعني شيئا آخر، فعقدت جبينها قليلا وسألته: "هل ستمضي الليلة في هذا الفندق؟". إبتسم كريستوفر وأجابها بدماثة: . "هذه هي الفكرة. هل من إعتراض لديك ؟" دهشت أيما وردّت عليه بإستغراب ظاهر: " من المؤكد أنك تمزح ! أعني أنني فهمت من التعليمات المعطاة لي بأننا سنتوجه إلى سانت دومينيك بعد الغداء مباشرة!". علّق كريستوفر ببرودة قائلا : " تعليمات دايمون! إسمحي، قد يكون دايمون الرجل الكبير وصاحب الكلمة النافذة في بريطانيا والولايات المتحدة ولكنه هنا ليس أكثر من إبن عم لي ، وأنا الذي أقرر كافة الخطوات والتفاصيل .ألا تريدين البقاء؟". تنهّدت أيما وأجابته بهدوء: ."ان المسألة لا تتعلق بالتأكيد بما أشعر به او أريده" " "حسنا ! قرري!. أحنت أيما رأسها قليلا كي تتفادى نظراته وقالت: . "" أرجوك ، لا أريد التسبب بأي مشاكل". "إذن، نبقى.ما من أحد سيحصي عليك تحركاتك هنا...فأنت لست في مستشفى كما تعلمين . الحياة هنا تسير بخطوات معقولة ، إذ لا أحد يرغب في الركض نحو حتفه". ثم إبتسم وأضاف قائلا بهدوء ملحوظ: "كفانا فلسفة ومحاضرات.أريدك أن تبقي كي تشاهدي الجزيرة مع دليل سياحي تعجبك قصصه . نيو بروفيدانس منطقة رائعة". كانت ناسو المحطّ الأول في جولتها .وأخدها كريستوفر إلى سوق القش ، حيت إشترى لها قبعة كبيرة تحمي رأسها وعينيها من حرارة الشمس القوية . ثم إنتقل بها الى شارع مكتظ بالمحال التجارية التي تغص بالسياح من كل حدب وصوب . إلا أنهما لم يبتاعا شيئا ، إذ أنه لم تكن لديها أي رغبة في الوصول إلى سانت دومينيك وهي تحمل كميات ضخمة من الهدايا التي ستعود بها الى لندن بعد فترة طويلة. وتجولا في الميناء حيث شاهدت أيما جميع أنواع الزوارق والمراكب الشراعية واليخوت ، ثم إستأجر كريستوفر عربة تجرها الجياد وتجولا في جميع أنحاء المدينة كسائحين يمضيان عطلة في تلك الجزر الخلابة . وكانت بعض الطرائف التي أخبرها إياها رفيقها ودليلها المثقف ، أقرب ألى الخيال منها ألى الحقيقة. وإهتمت أيما كثيرا بتاريخ الجزيرة لدرجة أنها عزمت على شراء بعض الكتب التي تتحدث عنها ، وذلك في أول مناسبة متاحة لها . بعد فترة من الزمن ذهبا إلى الشاطئ حيث سبحا في مياه دافئة ونظيفة أغرت أيما بالبقاء فيها طوال فترة ما بعد الظهر.وكان كريستوفر يتعمد إغاظتها مازحا بدفعها تحت الماء بإستمرار . ولما خرجت من المياه المنعشة وألقت بنفسها على المنشفة الكبيرة التي أحضرها لها كريستوفر، شعرت بلذة وإرتياح عظيمين . وكادت أن تصدق تصورها بأنها حضرت إلى جزر البهاما بمحض إرادتها وليس لأن دايمون ثورن لم يترك لها مجالا آخر. أثبت كريستوفر أنه رفيق ممتع للغاية. ومعرفته الوثيقة بالمنطقة وسعة أطّلاعه في الحقلين التاريخي والإجتماعي ، كانتا مثار إعجابها وإهتمامها وكانت أيما تصغي إليه بإنتباه بالغ فيما كان يحدثها عن العبيد الذين أحضروا الى جزر الهند الغربية. " المساكين التعساء ! تحرروا من نوع من العبودية ووقعوا في آخر . في الولايات الجنوبية يضمنون لأنفسهم على الأقل الغذاء والمأوى . أما هنا فكان البعض منهم في بادئ الأمر يموت من شدة التعب والأرهاق". وتنهد كريستوفر ثم تابع حديثه قائلا: " كان البيض في تلك الأيام يعتبرون الأفارقة شعبا يحتاج إلى الزعامة والنظام القاسي كي يتمكن من العيش . لم يكونوا يصدقون أن أبناء هذا الشعب قادرون على تأمين الإكتفاء الذاتي والعيش بكرامة بدون حاجة للإستعباد والسيطرة". حركت أيما رأسها تحت قبعة القش الكبيرة وقالت بهدوء: "أنني أعجب لماذا لا تكتب عن الجزر أو تتناول بعض عاداتها وتقاليدها في قصصك ! كتبك تدور حول موضوعات أميركية بحتة". إبتسم كريستوفر ورفع نفسه على مرفقه مقتربا بذلك إلى حد كبير منها ،ثم قال بمرح: "أساليب يا عزيزتي ، أساليب ! كتبي ناجحة جدا في الولايات المتحدة ، وهي مورد رزقي الوحيد . فمن أكون أنا لأخيب آمال قرائي؟". " مرتزق أستغلالي!" قالتها مبيسمة ثم إستلقت مرة أخرى على ظهرها وقد بدأت تشعر بالنعاس بسبب الحر والتعب . إقترب منها كريستوفر وسألها بهدوء ومودة: " ألست مسرورة لأننا لم نذهب إلى سانت دومينيك اليوم؟". فتحت أيما عينيها وأجابته بإرتياح: " إذا كنت تسألني عما إذا كنت أمضي وقتا ممتعا ،فأنت تعرف أن الجواب هو نعم .ولكنني أشعر بالذنب كلما فكّرت بالموضوع". " إذن،لا تفكري ! فما من أحد يتوقع وصولنا, أخبرت أنابيل أنني لن أعود اليوم". شعرت أيما بالإستياء وسألته بشيء من الحدة: "هل فعلت ذلك حقا ؟ هل كنت متأكدا إلى هذا الحد من أن جاذبيتك وسحرك سيحملاني على البقاء مهما كنت وكانت عليه آرائي ومبادئي؟". ضحك كريستوفر بمكر وقال: "يا عزيزتي، لو كنت لويزا مريديث أخرى لكنّا عدنا اليوم بكل تأكيد". إبتسمت أيما وقالت: "أوه،حسنا ! أعتقد أن يوما اضافيا لن يؤثر كثيرا على أحد". عاد إلى الفندق بعد السادسة بقليل ، وأبلغها كريستوفر بأن غرفته تقع في طابق أسفل . وقال لها وهو يهم بمغادرة المصعد أنه سينتظرها على الشرفة الغربية لتناول بعض المرطبات والفاكهة قبل ذهابهما إلى العشاء . تابعت إيما طريقها إلى غرفتها حيث إستحمت وإرتدت فستانا طويلا خاطته بنفسها لحضور حفلة راقصة قبل العيد. وفرحت كثيرا لأنها أحضرت فستان السهرة هذا، إذ أن كريستوفر كان يستقبلها وقد إرتدى سترة بيضاء رسمية فوق قميص حريري جميل وربطة عنق أنيقة . نظر إليها بإعجاب قائلا: "تبدين رائعة ! هل قلت لك أن طريقتك في إختيار الملابس تعجبني كثيرا ؟". "" سيد ثورن ، إنك تغازلني مرة أخرى! إبتسم وردّ عليها بمرح ظاهر: " لا ، أنا لا أغازلك....وأعني ما أقول . ثم....لا تنسي أن الإسم هو كريس !". أجابته بهدوء وهي تقبل منه بإمتنان إحدى سكائره التي أشعلها لها بتهذيب: " لم أنس . وبالمناسبة ،أريد أن أشكرك جدا على كل شيء .كان يوما رائعا". "لا تشكريني ، أنا الذي يجب أن أشكرك" ثم نظر إليها بجدية ومضى إلى القول: "مهما كنت تظنين ، فأنا لا أجد كل إمرأة ألتقي بها جذابة مثلك يا أيما". ."شكراً لك مرة أخرى" بعد العشاء ، توجها إلى قاعة الرقص ورقصا على أنغام فريق من العازفين المحليين الذين برعوا إلى حد كبير في المقطوعات الإيقاعية والتقليدية الهادئة. ورقصت أيما مع كريستوفر عدة مرات كما إنها رقصت مرتين مع رجلين في الخمسينات من عمرهما. أعجبها رقصه كثيراً.....فخطواته خفيفة ومدروسة ,وأسلوبه رفيع وراق، ورائحته عطرة ونظيفة،و.... "إنك تجيدين الرقص إلى حد كبير" ردت عليه باسمة: "لاتعتقد أن الممارسة هي السبب ، فأنا لم أرقص كثيرا في لندن". لم يصدّقها على ما يبدو . ماذا سيقول يا ترى لو أنها قررت إطلاعه على حقيقة علاقتها مع دايمون؟ من الواضح أن أفراد عائلته وأقرباءه نسوا تلك العلاقة ,كيف لا ، وهم لم يلتقوا بها أبدا ! كانت بالنسبة إليهم مجرد إسم....إختفى....منذ عدة سنوات! في الحادية عشرة والنصف ، خرجا إلى الشرفة لتنشق الهواء العليل والتمتع بضوء القمر الساطع . كانت السماء صافية جدا تملأها النجوم المتلا لئة التي تتألق بزهو وإعتزاز . إنها حقا أمسية رائعة و..... "ما رأيك في أن نستأجر عربة ونقوم بجولة ليلية في المدينة؟". تطلّعت نحوه فشاهدته ينظر إليها بحماس وترقب .ترددت قليلا ثم هزت رأسها قائلة: " شكرا على الدعوة ولكنني مضطرة لرفضها . فالوقت متأخر، وغدا سيكون يوما حافلا اليّ , أعتقد أنني سأذهب إلى النوم ، إن لم يكن لديك أي مانع". شعرت بخيبة أمله واضحة وجلية عندما قال لها: "أوه،أيما ! هذا يعني أنك ذاهبة إن قبلت أو إعترضت" ثم هزّ كتفيه مستسلما للواقع وأضاف: "حسناً، سأوصلك الى غرفتك" أجابته بتهذيب وهدوء: "ليس من الضروري أن تفعل ذلك" "اعرف ، ومع ذلك فإنني سأرفقك حتى الغرفة" أحرجها اصراره قليلا وأحس هو بذلك ، فقال لها وهما يدخلان المصعد "لا تقلقي ، فأنا لا أتوقع تجاوز باب الغرفة .كل ما في الأمر أنني أريد الإطمئنان على وصولك بسلام . فالمصاعد والممرات تعج بالأشقياء والأشرار". ضحكت أيما بمرح وإرتياح حقيقيين ، وقالت: " حقا يا كريس؟ إنك حارس امين!" ولما وصلا إلى الغرفة وفتحت أيما بابها ، وضع كريس يديه على كتفيها وسألها: "تمتعت بيومك هذا ، أليس كذلك؟" هزّت أيما رأسها وأجابته باسمة: " إلى أقصى الحدود" " عظيم. تصبحين على خير يا أيما" ثم أحنى رأسه وعانقها ، فإستجابت له بصورة عفوية . تراجع فجأءة إلى الوراء وقد إزدادت سرعة تنفسه وإصفر وجهه قليلا . ثم شدّ على يديها وقال لها متمتما: "سأذهب على الفور" راقبته أيما وهو يسير بسرعة نحو المصعد ويختفي بداخله دون أن يلتفت إلى الوراء دخلت غرفتها وأقفلت الباب وهي تشعر بالرضى والإرتياح ، على الرغم من الإرهاق الجسدي.
4-عينـان بـاردتـان
سانت دومينيك جزيرة صغيرة هادئة تقع على بعد بضعة كيلومترات من ناسو. وذلك الصباح فيما كان كريس وأيما يتوجهان إليها بزورق سريع ، راحت الممرضة الشابة تتأمل بإعجاب عشرات الجزر الصغيرة المنتشرة هنا وهناك. أوقف البحار زورقه قبل بضعة أمتار من الشاطىء مخافة أن يغرز المحرك في الرمال. إرتدى كل من الرجلين سروالا خاصا بالخوض في الماء ونزلا من الزورق, وفيما حمل كريستوفر أيما إلى الرمال الجافة ، تولى صاحب الزورق حمل حقيبتيها ووضعهما قربها ,حملهما كريس وأومأ برأسه شرفا ، ثم قال: "هيا بنا ! كنت أعتقد أن الآنسة مريديث التي يمكن الإتكال عليها سوف تحضر أنابيل لملاقاتك هنا" تنهدت أيما وسارت معه عبر حزام من أشجار النخيل الوارفة وخلال دقائق وصلا إلى فسحة كبيرة بين الشجر حيث توجد عدة أكواخ من القش يعيش فيها الخدم الذين في منزل دايمون . وشاهدت أيما بعد تجاوزها القرية الصغيرة مجموعة أخرى من الأشجار التي تخفي وراءها البيت نفسه. منزل جميل حقا ! منخفض وحديث البناء ، ولكنه ليس غريبا أو غير مألوف بالنسبة إلى المنطقة ككل، وإلى الجزيرة بشكل خاص . إنه منسجم جدا مع محيطه.....والحديقة المحيطة به اخاّذة تبهر الأنظار ، زهورا وهندسة . بضع درجات عريضة تؤدي إلى باب أبيض ضخم كان مفتوحا على مصراعيه. تطلع كريستوفر نحو أيما وأوما برأسه إلى القاعة قائلا: "هيا ، إدخلي ! لن يعضك احد!". فور دخولهما ، نزلت نحوهما من على درج داخلي متعرج سيدة طويلة القد نحيلة القوام أخذت على الفور تتفحص أيما بعينين باردتين ونظرات متحفظة. وضع كريستوفر حقيبتي أيما على الأرض وإبتسم إلى السيدة قائلا: "يا للصدفة الرائعة ! لويزا التي لا تقدر بثمن ! كيف حالك يا حبي القديم؟". تجاهلته لويزا تماما وتقدمت نحو أيما وهي تسأل ببرودة: "أنت بلا شك الآنسة هاردينغ . كنا نتوقعك أمس". إحمرت وجنتا أيما خجلا ، وإرتبكت ! ثم قالت لها بتعلثم: "أوه ! ولكنني فهمت.....أعني.....السيد ثورن على ما أعتقد....يبدو.....". سيطرت على أعصابها ورفعت رأسها نحو تلك السيدة القاسية وسألتها: "وأنت معلمة أنابيل ومربيتها ، أليس كذلك؟". حركت لويزا رأسها قليلا إشارة ألى الإيجاب ، وقالت بشيء من الحدة وهي تشير بيدها إلى كريس: "من الواضح أن.....السيد ثورن لم يكن يفكر إلا بنفسه . لسوء الحظ كانت لتصرفه نتائج ومضاعفات غير سارة". حدقت بها أيما وسألتها بكلمة واحدة: "كيف؟". "منذ ثلاثة أيام تركتنا الممرضة التي كانت تهتم بأنابيل . وأمس ، عندما لم يكن هنا أحد يتحدث معها أو يسليها ، خرجت تتجول بمفردها . ولسوء الحظ ، وقعت في بركة السباحة . ولو لم يكن الخادم هندي في مكان قريب ، لكانت الطفلة غرقت.....لأنها لا تعرف السباحة". أطلقت كلماتها تلك بلهجة قاسية خالية من الشعور أو الأحساس وكأنها تقرأ نشرة الأحوال الجوية . صعقت أيما ولم تعرف ماذا تقول سوى كلمات قليلة جدا ولكنها نابعة من القلب: "اني آسفة جداً" ونظرت إلى كريستوفر الذي تمتم بكلمات مفهومة ثم سأل لويزا: "متى وقعت هذه الحادثة؟". "بعد ظهر أمس . وكما قلت ، كان من حسن الحظ وجود هندي في مكان قريب مما مكّنه من سماع صراخها . رأينا من الأفضل اليوم أن نبقيها في سريرها خوفا من أي مضاعفات غير مستحبة". "وأنت ، ماذا كنت تفعلين في ذلك الوقت ؟ تقلمين أظافرك؟". ردت عليه لويزا بغضب وإستغراب ، قائلة: "لم تكن ضرورية أبدا هذه الملاحظة !". وقالت أيما لنفسها أنها فعلا بداية مشؤومة . وتأملت تلك المعلمة التي تبدو في أواخر الأربعينات أو بداية الخمسينات من عمرها ، مع أنها في الحقيقة لم تتجاوز الخامسة والثلاثين . وسمعت كريستوفر يرد عليها قائلا: "في اي حال ، فإن أيما لم تكن لتصل قبل الخامسة بكثير حتى لوعدنا أمس ولذلك ، فليس بإمكانك أن تلقي اللوم عليها". "وهل قلت في أي وقت من الأوقات أنني ألوم الآنسة هاردينغ؟". "أوحيت بذلك ضمنا . أوه،حسنا ! يكفيك ثرثرة الآن حول هذا الموضوع . هل أنابيل في غرفتها ؟ سأراها قبل أن أعود". وسار نحو الدرج ثم إلتفت نحو أيما قائلا: "تعالي يا أيما ، سأعرفكما على بعضكما . إتركي حقيبتك هنا . لويزا ، إستدعي أحد الخدم لينقل الحقيبتين إلى غرفة أيما . وإذا أخبرتني أيها ستكون غرفتها فسوف أدلها إليها ايضا ". إستدارت لويزا إلى الناحية الأخرى وهي تقول بجفاف: " أنالست مدبرة المنزل هنا ". "لا يا سيدتي ، لست مدبرة المنزل . ولكن إما أن تفعلي ما أقوله لك وإما سأرفع عنك تقريرا إلى السيد ثورن". لم تظهر أي بوادر قلق أو إنزعاج على وجه لويزا ،بل ربما دلت ملامحها على الإستهزاء وعدم الإكتراث . ردت عليه ببرودة قائلة "ان الأمر ليس في الصعوبة التي تتصورها . من الطبيعي أنني أبرقت للسيد ثورن حول حادثة إبنته . أرسلت البرقية صباح اليوم وقلت له فيها بالطبع أن الآنسة هاردينغ لم تصل بعد" "ايتها وخنق كريستوفر الكلمة البذيئة التي كان ينوي توجيهها ألى لويزا ، ثم إلتفت نحو أيما وقال له "تعالي يا أيما . لا يمكنني تحمل المزيد من هذه التفاهات". لحقت به أيما وهي تشعر بأن رأسها في دوامة مزعجة . فلديها بالتأكيد شعور بالذنب ، مهما حاول كريستوفر الدفاع عنها أو أقناعها هي شخصيا بعكس ذلك, وتمنت ألا يكون بقية الموظفين والخدم عدائيين معها كما هي لويزا بكل وضوح . وإنتبهت إلى أنهما وصلا إلى اخر الممر ، حيث فتح كريستوفر الباب وحيا الطفلة الموجودة في الداخل قائلا ببساطة: "مرحبا يا أنابيل! ". وسمعت أيما ضحكة طفلة هتف لها قلبها فيما كانت تلحق بكريستوفر إلى داخل الغرفة . كانت أنابيل ثورن تجلس في منتصف سرير ضخم يهيمن على غرفة مؤثثة ومزينة خصيصا لطفلة صغيرة . ولاحظت أيما أن أنابيل تتطلع نحو إبن عم والدها بملامح سارة ومحبة واضحة . وقالت أيما لنفسها أن الفتاة الصغيرة حوّلت الكثير من عاطفتها ومحبتها إلى كريستوفر ربما بسبب تغيّب والدها بإستمرار , ولكنها أحست أيضا بشعور من الإرتياح. فبعد مطالب دايمون النهائية والحاسمة أقنعت أيما نفسها بأن إبنته طفلة مريضة وبحاجة لخدمات ممرضة قانونية ومتمرسة وسمعت الصغيرة تنادي عمها بلهفة وحماس: "كريس ،كريس ، عدت إلينا ! ما أروع ذلك ! هل أحضرت معك الآنسة هاردينغ؟". أمسك كريس بيد أيما وأشار إليها بالجلوس على حافة السرير ، فيما رد على قريبته قائلا : "نعم يا حبيبتي ، إنها هنا .وهي ايضا فتاة طيبة جدا ،فلا تسيئي معاملتها وتدفعيها إلى الإستقالة". ضحكت أنابيل بمرح ومدت يدها بإتجاه أيما قائلة : " أهلا بك ". "أهلا بك أنت يا أنابيل . كيف حالك الآن بعد غطسك في البركة؟". تحولت ملامح الفتاة فجأة إلى الجدية وقالت: " ألم تكن تلك حقا خطوة سخيفة ورعناء من جانبي ؟ كادت الآنسة مريديث أن تصاب بنوبة عصبية . تانزي تضايقت وخافت أيضا ، ولكنها لم تغضب لدرجة كبيرة تدفعها إلى إرسال برقية إلى والدي . إنه سيغضب كثيرا وسوف يؤنبني كثيرا على هذا التصرف". رد عليها كريس بشيء من الحدة: "سيكون له كل الحق . أنابيل ، بحق السماء ، كدت تقتلين نفسك غرقا ! ". "أعرف ، أعرف . الآنسة مريديث أخبرتني كل شيء, في أي حال ، إنها تبقيني الآن في البيت طوال الوقت ، لأن برندا لم تعد معنا . برندا طيبة وحنونة.....كانت تدعني أذهب أينما أريد". ذكّرها كريس بمعلومات بسيطة غابت عن بالها وهي أن برندا كانت ترافقها دائما ولا تدعها تذهب بمفردها . ثم أضاف قائلا: "لا تقلقي بعد الآن يا صغيرتي . فالآنسة هاردينغ ستهتم بك من الأن وصاعدا وتأخذك أينما تريدين . أما بالنسبة إلى أبيك ، فإنه حاليا في هونغ كونغ وأشك كثيرا في أنه سيطير آلاف الأميال لمجرد رغبته في تأنيبك وتأديبك". تنهدت أنابيل وقالت: "آمل ذلك" "الآن يا عصفورتي الحلوة ، يجب أن أذهب . فأنا مضطر للقاء هيلين وأبلاغها بعودتي . سأعود قريبا لزيارتك . سوف تهتمين بالآنسة هاردينغ ، أليس كذلك؟". بعد ذهابه أخدت أيما تفكر بهيلين ومن تكون . فهو لم يذكرها أو يتحدث عنها من قبل . هل هي أخته، أو ربما مدبرة منزله ؟ وهزت رأسها.....ستعرف من هي في الوقت المناسب ، فلماذا إضاعة الوقت بالتكهن ؟ كل ما كانت تأمل به في تلك اللحظة هو ألا يقرر دايمون ثورن العودة الى سانت دومينيك قريبا . كانت تأمل ايضا في أن تتمكن من الإستقرار قليلا في هذه الجزيرة قبل أن تضطر لملاقاته مرة أخرى . فوجوده قريبا يثير شجونها وذكرياتها بشكل مزعج ، كما إنها تخاف من مشاعرها وعواطفها.....بالرغم مما حدث في الماضي. قطعت عليها أنابيل تفكيرها عندما رفعت لعبة كبيرة قربها وقالت: " إنها باتريشيا . ألا تعتقدين أنها جميلة جدا؟ ". خنقت أيما الكلمات التي كادت تتفوه بها . فاللعبة قبيحة المنظر ممزقة الرجلين واليدين ، محترقة الشعر . نظرت إليها بحنان وشفقة ، وقالت: "طبعا.....طبعا يا أنابيل ، إنها جميلة ". وأخذت اللعبة التي أعطتها إياها الفتاة الصغيرة ، ثم أضافت: "ما أجمل ثيابها ! هل باتريشيا هي لعبتك المفضلة ؟". "نعم ، إنها معي منذ أن كنت في الثالثة من عمري . كانت معي ايضا عندما.....عندما.....". وتوقفت عن إتمام جملتها ، فعرفت أيما السبب , مسكينة أنابيل ! لا عجب إن كان يبدو عليها الحزن والأنقباض ،فالحادثة المؤسفة التي حصلت لها ولوالدتها لا تزال تؤثر عليها إلى حد كبير , ثم سمعتها تسأل بتهذيب: "هل سأتمكن من الخروج غدا ؟ قالت الآنسة مريديث يجب أن أمضي هذا اليوم في غرفتي بسبب الصدمة التي حدثت لي أمس . ولكنني لست مضطرة للبقاء غدا ، أليس كذلك...خاصة وقد أتيت أنت ؟". "طبعا لا, غدا صباحا سنقوم سوية بنزهة في بعض أنحاء الجزيرة وتخبريني عنها بالتفصيل". "عظيم كنت أعرف الجزيرة تمام المعرفة . قبل.....قبل الحادثة ، كنا أنا ووالدي نأتي إليها كثيرا ". سمعت أيما صوتا في الممر المؤدي إلى غرفة الطفلة فإلتفتت لتشاهد إمرأة مسنة تدخل الغرفة وهي تتكىء بإجهاد على عصا . إلا أن وجهها كان مضيئا ومشرقا ، حتى بتجاعيده الكبيرة والمتعددة وإبتسمت بحرارة لأيما التي وقفت لإستقبالها وأحست الطفلة بوجود المربية العجوز فسألت بلهفة: "هل هذه أنت يا تانزي؟ ". "نعم يا حبيبتي . أتيت لأدل الممرضة الجديدة على الغرفة المخصصة لها . أتصور أنها قد ترغب بالإستحمام قبل تناول طعام الغداء ". هزت أيما برأسها امتنانا ، أما الطفلة فعادت إلى السؤال: "هل بإمكانها أن تأكل هنا ،معي ؟ هل بأمكانها ،يا تانزي؟". " لا ارى أي مانع ، إن كانت الآنسة تريد ذلك ". ثم تطلعت نحو أيما وقالت: "كما سمعت ، فإن الجميع ينادونني تانزي . إسمي الحقيقي هو هستر تانزفيلد ولكن يمكنك مناداتي تانزي كما يفعل الآخرون . أنت هاردينغ ، أليس كذلك ؟". "نعم تشرفت بعرفتك". ثم تطلعت نحو أنابيل وقالت: " إني متأسفة جدا لعدم تمكني من الوصول أمس . الحادث.....من المؤكد انه كان مرعبا ومزعجا ". "هيا ، إنسي الموضوع . إننا لا ندع هذه المشاكل تؤثرعلينا،أليس كذلك يا حبيبتي أنابيل ؟ نعم ،كان حادثا مزعجا.....ولكن الحوادث تقع . تلك المخلوقة مريديث وحدها أصيبت بهلع وذعر شديدين إلى درجة السخافة والغباء ، مما جعلها ترسل برقية إلى السيد ثورن ! من المؤكد أنه سيتصور أن الفتاة جرحت نفسها مثلا أو تأذت كثيرا بشكل أو بآخر , أنابيل لم تبق في الماء أكثر من ثلاثين ثانية". أثناء الغداء ، قدّمت أنابيل لممرضتها ورفيقتها الجديدة تقريرا مفصلا عن حياتها في سانت دومينيك: "أمضي ساعات الصباح عادة مع الآنسة مريديث ، ثم أتناول غدائي وأرتاح ساعة كاملة وبعد ذلك ،كانت برندا ، الآنسة لوسن ,تأخدني في نزهات داخل الجزيرة, وكنا نطلب احيانا من كارلوس أن يأخدنا بنزهة بحرية في زورقه السريع . كارلوس يعيش هنا . وزوجته روزا تعمل في المطبخ . أتصور أنك ستتعرفين عليهم جميعا في الوقت المناسب ". إبتسمت أيما وقالت: "أرجو ذلك . أخبريني الأن يا أنابيل ،وبكل صدق وأمانة هل ترين قليلا ؟ أي شيء ، أو ضوء ، أو لون من أي نوع ؟". "لا ، لا شيء على الإطلاق . كل شيء أسود, مظلم". ثم حرّكت كتفيها دليل عدم الإكتراث وأضافت قائلة: "إعتدت على الوضع الآن ولم يعد يضايقني كثيرا ,في البداية, كان التغيير رهيبا ومروعا أما الآن فلم أعد مهتمة.الجميع طيبون جدا معي ووالدي....أوه ،والدي كان يقلق كثيرا لأمري ولكن ذلك لم يكن تصرفا صحيحا , أعني أنه لم يتسبب في وقوع الحادث، وهو بالتالي ليس مسؤولا عنه وعن نتائجه, وعليه قررت أن أرضخ للواقع الجديد الذي أعيش فيه وأدرب نفسي على مواجهته بأقل قدر من الأنزعاج والانقباض". كانت تتحدث كالكبار.....أسلوبها ،كلماتها ، طريقتها ! ولكن ,أين وجه الغرابة في ذلك ؟ فمن الواضح أن حادثتها أبعدتها عن الاطفال الآخرين ,وأصبحت بالتالي تعيش بإستمرار مع الكبار والراشدين ، وتتحدث مثلهم , أخّذت أيما تفاحة أخرى وسألت صديقتها الجديدة: " أخبريني،هل هناك أطفال آخرون على هذه الجزيرة يمكنك مصاحبتهم ؟ أعني , هل لديك صديقات تلعبين معهن في أوقات اللعب واللهو ؟ ". تنهدت أنابيل وقالت: "ليس لدي أحد في أي حال ، ما من أحد يريد اللعب معي ,فأنا عمياء ، لا أقدر أن أجري وراء الكرة..... أو أسبح.....أو أفعل أي شيء آخر". أحست أيما بعاطفة قوية تشدها الى تلك الطفلة المسكينة , وقالت لها بلهجة إستغراب بدون أن تدرك أنها بذلك تؤيد وجهة نظرها: "ولكن يا حبيبتي ، ليس هناك أي سبب يمنعك من اللعب أو السباحة كالأطفال الأخرين , فثمة أشخاص كثيرون فقدوا بصرهم ولم يقعدهم ذلك عن ممارسة السباحة أو التزلج على الماء أو أي شيء آاخر يمكن للمبصرين أن يقوموا به, ففي لندن مئات لا بل آلاف من العميان الذين يعيشون حياة طبيعية جدا , فهم مثلك أنت ، وطاقة النظر تحولت إلى الحواس الأربع الأخرى ، يستخدمونها بطريقة تعوض لهم عما فقدوه". ثم أضافت شيئا من البهجة والتشجيع الى نبرة صوتها وهي تختم حديثها قائلة: "كانت خطوة شجاعة وحكيمة عندما أقنعت نفسك بتقبل الواقع . ولكن ألاتعتقدين معي أن الوقت قد حان لكي تحاولي العيش مع واقعك الجديد بصورة طبيعية ؟ ". هزّت أنابيل كتفيها وسألت أيما وهي تتطلع نحوها بعينين زرقاوين باردتين: "هل تعتقدين أن بإمكاني ذلك يا آنسة هاردينغ ؟ هل تعتقدين ذلك حقا ؟". "نعم , أنني مقتنعة حقا بأنك قادرةعلى ذلك. وهذا هو سبب وجودي هنا.....لمساعدتك, وقريبا جدا ، بإذن الله،ستصبحين قادرة على السباحة كالسمكة . فحرام ان يعيش الأنسان هنا ولا يكون قادرا على التمتع بهذه المياه المنعشة ". ظهرت إبتسامة خفيفة على وجه الطفلة ولكنها إختفت عندما قالت: "تبدو القضية رائعة ومغرية ، أعرف ذلك , ولكن برندا لاتعرف السباحة ولذا فإنها لم تتمكن من تعليمي .كذلك فإن والدي يقول دائما إن المياه خطرة". "اذن ، يجب أن نثبت له أنه على خطأ ". ومرت بضعة أيام شعرت أيما خلالها بأن أقامتها وعملها لا بأس بهما على الإطلاق ، لا بل إنها تمتعت بأيامها الأولى إلى حد كبير . كانت تزعجها بين الحين والآخر الروح العدائية التي تناصبها إياها لويزا مريديث , ومع أن تانزي كانت على ما يبدو المشرفة على شؤون المنزل في غياب دايمون ، إلا أن لويزا كانت تستخدم سلطتها ونفوذها كمعلمة وحاضنة الى أبعد الحدود. ولاحظت أيما أن المنزل يعج بالخدم ، إلا أنهم لم يتسببوا في أي وقت من الأوقات بالإزعاج أو الفوضى،لأن كلا منهم لديه مهام معينة ومحددة. وإكتشفت أيما أن مساحة الجزيرة تقل عن ثلاثة كيلومترات مربعة . إلا أنها محاطة من جميع جوانبها بشواطئ وخلجان رائعة الجمال . ومن الجانب الشرقي للمنزل ، كان بإمكان أيما أن تشاهد بوضوح جزيرة سانت كاترين الصغيرة التي لا تضم إلا منزلا رئيسيا واحدا......منزل كريستوفر ثورن.وفي إحدى تلك النزهات المتعددة مع أنابيل رأت يختا حديث الطراز وأنيق المظهر وعرفت أنه يخص دايمون. "أبي يحب النزهات البحرية كثيرا . وهو يسمح لي بالصعود الى اليخت ومرافقته في بعض الرحلات القصيرة ولكنه يصر علي بإرتداء سترة واقية من الغرق وحزام النجاة مما يزعجني كثيرا وخاصةعندما يكون الطقس شديد الحرارة" شّدت أيما على يدها بعطف وحنان قائلة: "يجب أن نبدأ دروس السباحة وعندما تتعلمينه جيدا فإنك قد لا تضطرين ألى إرتداء تلك السترة طوال الوقت". "أوه، نعم، أرجوك !". وراحت تقفز بسرور وحماسة ، ثم أضافت : "سأشعر بسعادة فائقة إن تمكنت من تعلم السباحة قبل عودة والدي, أرجو ألا يكون غاضبا جدا بسبب وقوعي في البركة. لم يكن هناك أي داع ابدا لأن ترسل لويزا تلك البرقية". "أتصور بأنها كانت مقتنعة بأنها خطوة صحيحة. ثم ، من يدري ، ألم يكن ممكنا أن تؤذي نفسك من جراء تلك الحادثة ؟ ". "لو كان كريس هنا ، لما كان سمح لها بإرسال أي برقية من هذا النوع". ردت عليها أيما موافقة: "صحيح , ولكن هذا لا يعني أنه على حق, أنت تحبين كريس ، أليس كذلك ؟ ". إبتسمت أنابيل وقالت بمحبة وحنان: " أوه ،نعم ، نعم ,إنني أفتقد أبي كثيرا وكريس يحاول تعويضي عن ذلك إلا أن هيلين لا تحبه أن يزورنا كثيرا . أعتقد أنها تشعر بالغيرة مني , هل تعتقدين أن هذه فكرة سخيفة ؟". عقدت أيما جبينها وقالت: "لا أعرف . من هي هيلين ؟ ". " إنها زوجة كريس . ألم يخبرك؟ ". شعرت أيما بإنقباض وذهول ، ليس بسبب مشاعرها أو أحاسيسها بشكل خاص بل بسبب الطريقة العادية والعرضية التي تصرف بها معها.....فقد سمح لنفسه مثلا أن يعانقها ! هل هذا هو سبب إحتقار لويزا الشديد له ؟ هل حاول معها الأسلوب ذاته.....وصدّته؟ وبلعت ريقها بقوة وصعوبة . هل فكرت لويزا بأنها تعرف وضعه العائلي ومع ذلك تغاضت عن تصرفاته وصفحت عن محاولاته ؟ إنه إحتمال معقول ويفسر إلى حد ما بعضا من العداء الذي تناصبها إياه ! لا عجب إذن لأنها تضايقت كثيرا من بقائهما سوية في ناسو ! وفجأة لمعت برأسها فكرة اكثر هولا وازعاجا ! كيف ستبرر عملها لدايمون نفسه ، وهو الذي يظهر لها بوضوح الإحتقار والإزدراء ؟ كيف تتوقع منه أن يصدق أنها لم تعرف أن كريس متزوج ؟ هل يضع كريس خاتم زواج ؟ لم تعد تتذكر.....ولكن كان عليها أن تفكر بهذا الأحتمال.....أن تسأله ! تسأله ؟ لا ، فهذا أسلوب سخيف للغاية . فهل يعقل أن تسأل فتاة الرجل الذي يستقبلها على المطار إذا كان متزوجا ام لا ، فور لقائهما ؟ هل سيقبل دايمون هذا التحليل المنطقي ؟ وإن لم يقبل ،فهل سيعتبر تصرفها شائنا وغير لائق بالتي سترعى إبنته وتهتم بها؟
5- الصينية الغامضة
كان الجو في هونغ كونغ حارا جدا وتبلغ فيه الرطوبة أعلي درجاتها، مما يشل حركة الإنسان وتفكيره . وكان دايمون ثورن يسير بعصبية وقلق ظاهرين في أرجاء قاعة المسافرين الفسيحة بالمطار الدولي ، متجاهلا دعوات كبارالموظفين المتكررة له للذهاب الى الصالة المخصصة للمسؤولين وأصحاب الشأن والنفوذ , ولكن دايمون لم يكن بمزاج يقبل محاولات التهدئة والإسترضاء ، وتعرض نتيجة ذلك ، أكثر من مسؤول لتهكمه الحاد وسخريته اللاذعة. حتى بول ريميني مساعده الخاص ،الذي يرافقه في هذه الرحلة ، لم يفلح بإقناعه على تهدئة أعصابه . إنهما ينتظران في المطار منذ أكثر من ساعتين . فقد حدثت مشكلة فنية لطائرتهما قبل الإقلاع بلحظات ، ولا توجد أي طائرة أخرى بديلة. عاد بول يحاول مرة أخرى تهدئته والترويح عن نفسه . وبول شاب إيطالي وسيم الطلعة وصديق مخلص ومساعد أمين يرافق دايمون في كافة أسفاره ورحلاته المتعلقة بأعمال أمبراطوريته الضخمة.ويعرف أن دايمون يريد مغادرة هونغ كونغ بأسرع مايمكن لأسباب شخصية، وكلما طالت فترة التأخير والانتظار كلما زادت حدة غضبه وإنقباضه . إقترب من دايمون وقال له: "مما لا شك فيه أنني أشعر بحاجة إلى فنجان قهوة وقليل من الفاكهة المثلجة .فما رأيك يا سيدي؟". إستدار نحوه دايمون بعصبية , كان يعرف أنه يشعر بالحر الشديد والرطوبة القوية وأن الطقس مسؤول جزئيا عن تعكير مزاجه. الا أن ذلك لم يخفف من حدة رده على مساعده: "اللعنة يا ريميني ! قهوة وفاكهة ! هل هذا كل ما يمكنك التفكير به الآن ؟ ". ثم سرح شعره الأسود الكث باصابع يده التي تتصبب عرقا: "اللعنة على الشيطان ! آسف يابول ، أنا أعرف أنك لست مسؤولا عن هذا التأخير.....ولكن قل لي بربك متى سنغادر هذا الفرن ؟ ". إبتسم بول بإرتياح . إنه لحسن الحظ يعرف دايمون ثورن جيدا ولذلك فإنه لا يتأثر كثيرا إذا تعكر مزاجه وتفوه بكلمات قاسية وحادة. "سأذهب للإستفسار عما اذا كانت هناك أنباء جديدة.....ثم نطلب قهوة وفاكهة ، أليس كذلك ؟ ". إبتسم دايمون قليلا وأجابه: "حسنا ، حسنا إذهب الأن وإستفسر عما يفعله هؤلاء الفنيون التعساء ! ". لاحظ دايمون أن هناك فتاة صينية تراقبه من مكان بعيد في القاعة . كانت تجلس على مقعد منخفض وتضع رجلا فوق الاخرى كاشفة عن ساقيها بشكل مغر .ولم يغب عن باله أنها ترمقه بنظرات غنج ودلال.....إنه يعرف مدى تأثيره على النساء ومدى إنجدابهن إليه . ولكن إهتمامه بهن كان دائما عابرا وسطحيا . ثمة امرأة واحدة اراد فعلا الزواج منها......أيما هاردينغ . ومع أن علاقته بها أصبحت الآن جزءا من الماضي وملكا للتاريخ ، إلا أنه لايزال يشعر بالغضب والإنزعاج كلما تذكر رفضها له. وقفت الفتاة الصينية وسارت نحوه ثم توقفت أمامه وهي تحمل بين أصابعها سيكارة غير مشتعلة . أومأت إلى السيكارة وقالت له بدلال: " هل تسمح ؟". أشعل لها سيكارتها بهدوء فيما كانت تتأمله بشغف ونهم . إبتسمت له شاكرة وقالت بغنج واضح: " يبدو أنني أضعت ولاعتي . شكرا ". "بكل سرور". أجابها بهدوء وتهذيب ملحوظين ثم تطلع حوله بتبرم بحثا عن بول, لماذا تأخر ؟ لماذا لا يعود الآن وينقده من هذه المتطفلة الثقيلة ؟ لماذا......؟ "هل أنت مسافر إلى سان فرانسيسكو ؟". "نـعم ". " وأنا أيضا . ربما تسمح لي بدعوتك الى كأس من الشراب لاظهار تقديري وإمتناني.....لإشعالك سيكارتي ، بالطبع ". عبس دايمون قليلا وأجابها ببرودة : "لا أظن أنها فكرة جيدة . أنا ومساعدي سنذهب الى المطعم". " يا للصدفة الجميلة ! فأنا أيضا ذاهبة الى المطعم". حرّك سيكاره بعصبية وتململ . إنه قادر بكل سهولة أن يتصرف معها بوقاحة وفظاظة مما يريحه منها بسرعة وبساطة . إلا أنه ليس من طبيعته أن يسيء إلى الناس بطريقة عشوائية . وشاهد بول عائدا فغمزه مبتسما بمكر وسخرية وهو يومىء برأسه إلى الفتاة . فهم بول الإشارة وإنضم إليهما على الفور ، إذ أنه أصبح يعرف متى يتدخل ومتى يختفي. " مساعدي ". قالها دايمون بسرعة وقد تعمد عدم سؤال الفتاة عن إسمها.ثم وجّه الحديث إلى بول قائلا: " هل من أخبار جديدة ؟". "نعم ، القليل . يعتقد المسؤولون أن الطائرة ستصبح جاهزة خلال ربع ساعة ، العطل لم يكن رئيسيا ". تمتم دايمون قائلا بسخرية لاذعة : "تأخروا كثيرا لإكتشاف ذلك . في أي حال ، لايزال أمامنا متسع من الوقت لشرب فنجان من القهوة". أحنى رأسه بأدب أمام الفتاة الصينية وقال لها : " عن أذنك ". ثم سار وبول نحو المطعم تاركا الفتاة لتدرك بنفسها أن وجودها معه أمر غير مرغوب فيه . تطلع بول ألى الوراء لحظة وقال: "من الواضح أنها أحست أخيرا بأنها مدعاة للضجر". إبتسم دايمون وقـال : "لسوء حظها أن مزاجي لا يسمح لي الآن ، بمغازلة أحد". وصلت برقية لويزا إلى فندق رويال باي في سان فرنسيسكو ، في اليوم الثاني لوجود دايمون ثورن ومساعده هناك. كان دايمون وبول يجلسان إلى طاولة العشاء عندما وصلت البرقية . ففتحها دايمون بشكل عادي ظنا منه أنها تحتوي بعض المعلومات المطلوبة حول إحدى شركاته الجديدة . وأصابته دهشة قوية عندما وقع نظره على إسم لويزا مريديث في نهاية البرقية . قرأ النص بعناية فائقة ثم رمى الورقة إلى بول ، الذي كان يراقب ردود فعله بإنزعاج وإنقباض . قرأ مساعده البرقية وسأل رئيسه عابسا : "هل تعتقد أن الحادثة خطيرة ؟". أخد دايمون البرقية من يد مساعده وقرأها مرة ثانية بتمعن وتمهل . ملاحظات لويزا كانت مقتضبة وتتحدث عما جرى بالتحديد وبدون لف أو دوران . أنابيل وقعت في البركة وكادت تغرق ، وممرضتها الجديدة لم تصل بعد . أخذ سيكارة من بول ،ثم هز كتفيه العريضتين وقال : "أعتقد أن لويزا تضخم الحادثة قليلا . إلا أن هناك واقعا لا يمكن إنكاره أو تجاهله وهو أن أنابيل وقعت فعلا في البركة وأنها كادت تصاب بأذى بالغ ". ثم طوى البرقية بهدوء ووضعها في جيبه ثم أشعل سيكارة ثانية . كان يشعر في تلك اللحظات بغضب حاد . لماذا لم تصل أيما ؟ البرقية مؤرخة في اليوم التالي لموعد وصولها ، فأين هي بحق السماء ! وزادت حدة غضبه عندما لاحظ أن غيابها أزعجه كثيرا .....ليس لأن وجودها كان سيحول دون وقوع الحادثة فحسب ، بل لأنها هي لم تصل بعد ، ولأنه لا يعرف سبب ذلك . إنها الإمرأة الوحيدة التي لها مثل هذا التأثير عليه . ونظرا لذلك فقد شعر أن بإمكانه الآن سحقها وتحطيم عظامها بين يديه . علّمته الحياة عدة أمور وأشياء هامة.....قوة المال ، قوة جاذبيته وشخصيته ، وفوق ذلك كله قوة الذكاء . فقبل أن تصبح مؤسسته العملاقة على ماهي عليه الآن من قوة وعظمة وإتساع ،كان دايمون مجرد باحث كيميائي تخرج بدرجات مشرفة وممتازة من أرقى الجامعات وأفضلها . تعرف منذ بداية عمله على جميع أنواع النساء.....من الضاربة على الآلة الكاتبة في شركته إلى الباحثة والعالمة التي تعمل في الحقل ذاته، والتي قد تفوقه ذكاء وخبرة . إلا أن واحدة فقط تمكنت من السيطرة عليه . كانت له دائما اليد الطولى والكلمة الأخيرة مع أي إمرأة مرت في حياته ،ولكن المأساة الكبرى كانت أن المرأة الوحيدة التي أحبها ,لم تعر مشاعره وأحاسيسه أي إهتمام أو أنتباه. لم يدعه بول يستغرق في تفكيره، في أحلام اليقظة التي غرق بها ، عندما قال له مبتسما : "أعتقد أنني أعرف ماذا يدور في رأسك . إنك قلق طبعا ،فأنت والد الطفلة....والد محب.ولكن....أين هي هذه الممرضة التي إستخدمتها حديثا ؟". "هذا هو السؤال . إلا أنني أعتقد أنها موجودة الآن في سانت دومينيك . من المحتمل أنها تأخرت قليلا ". ضحك بول وقـال : "هل قلت أن كريس سيكون بإستقبالها ؟ أنا لا أستبعد أبدا أن يكون الفارس الوسيم قد أغراها بالبقاء في ناسو بعض الوقت . وإن فعل ذلك ، فإنني لا ألومه كثيرا فحياته جحيم مع تلك الزوجة الحاسدة الغيورة !". "أرجو أن تكون مخطئا ، فمهما كانت هيلين ، فإن كريس رجل متزوج ، وهذا يكفي". "إنني أذكر جيدا أنك لم تعر أي اإهتمام على الاطلاق لعلاقته بلويزا في العام الماضي.....وفي العام الذي سبقه ، إن لم أكن مخطئا ". صرخ به دايمون بقسوة وعصبية : "إهتم بشؤونك التافهة ، ولا تتدخل بشؤون غيرك . أحضر لي فنجانا آخر من القهوة المرة ثم إتصل بالمطار . سوف نستقل أول طائرة إلى فلوريدا وأعتقد أن بإمكاننا متابعة الرحلة ألى جزر البهاما في اليوم ذاته ، أليس كذلك ؟". بدت الدهشة والحيرة على وجه بول الذي قال: "أعتقد أن ذلك ممكن ، إذا قمت بالترتيبات اللازمة منذ الآن". "عظيم. باشر بها إذن !". أشعل دايمون سيكارة أخرى فيما كان بول يشرب الجرعة الأخيرة من قهوته ويهز بكتفيه ثم يتوجه للبدء بالإتصالات الضرورية. وفي تلك الاثناء كانت إمرأة نحيلة تجلس قرب دايمون وتداعب ذراعه بأصابعها وهي تقول : "هـل تتذكـرني ؟". إلتفت دايمون نحوها متململا فشاهد إمرأة رائعة الجمال تزين عنقها بعقد من اللؤلؤ يلفه ثلاث مرات . وقال دايمون لنفسه: ( إذا كان هذا العقد حقيقيا وليس مزيفا ،فإن إهتمام المرأة به ليس لماله) .أجابها بتكاسل: "أذكر . هل تشربين فنجانا من القهوة ؟". هزت رأسها وأجابت: "مع القليل من السكر ، شكرا . ولكن ، أرجوك ، أنا أدفع". "عندما أكون بصحبة سيدة ، فأنا أدفع". ثم إستدعى النادل وطلب منه فنجانين من القهوة . ولما ذهب سألها ببرودة: " ولمن أطلب القهوة ؟". بدا أنها ترددت قليلا ثم قالت: " تساي بن لونغ ". تأمل الخواتم التي تزين عددا كبيرا من أصابعها وردد بتعجب: " السيدة تساي بن لونغ ؟". " نعم . وأنت ؟". " ثورن . دايمون ثورن ". " وماذا تفعل في سان فرانسيسكو يا سيد ثورن ؟". " أعمالي ". سألته بهدوء: "أنت تملك تلك المصانع الكيماوية الضخمة في ثورنفيل". قطب دايمون جبينه قليلا وقال: " لا ،ليس بالضبط. فأنا املك قسما منها". وأستغرب الكيفية التي حصلت بها هذه السيدة تلك لمعلومات ، فإن لم تكن تعرف إسمه ، فكيف ربطت على الفور بينه وبين المعامل ؟ ثورن ليس إسما غير إعتيادي ، فلماذا هو بالذات ؟ كانت عيناها تستكشوإستغرب الكيفية التي عرفت بها هذه السيدة تلك افان أرجاءالمطعم، وقرر دايمون تحويل إنتباهها إليه فسألها: "لماذا أتيت إلى سان فرانسيسكو ؟". هزت كتفيها ببرودة وأجابت بهدوء ونعومة: " إنني أعيش هنا ". لم تعلق بشيء آخر فأثارت حفيظة دايمون ضدها . كانت تبدو مهتمة بتحركاته وأعماله ، إلا أنها من الواضح لا تنوي الدخول في تفاصيل شؤونها الخاصة . كانت بلا شك تدرك بأنه يريد سؤالها عما كانت تفعله في هونغ كونغ ولكنها لم تتبرع بأي معلومات ، كما لم تشجعه على توجيه أي سؤال في هذا الصدد . وعوضا عن ذلك ، إبتسمت له وسألته بتهذيب: "هل ستغادر سان فرانسيسكو قريبا ؟ ". أغضبه سؤالها المباشر . فإبتسم وقال لها بخبث مماثل : "ربما......وربما لا !". "ولكنك أميركي . لهجتك لا تخطئ". "ولدت في الولايات المتحدة . هل ولدت هنا؟". " لا ". كلمة واحدة فقط وأنزلت مرة اخرى الجدار السميك في وجه المزيد من الأسئلة أو التفاصيل المتعلقة بها ,وفجأة سمعها تقول له وكأنها ندمت على سكوتها: "ولدت في بكين. عائلتي لا تزال تعيش هناك". ودار بينهما حديث سياسي ، أتبعته بالسؤال التالي: "هل تؤمن بالقضاء والقدر ، يا سيد ثورن ؟ ". "ربما ولكنني أعتقد أن من الغرابة بمكان إجراء أحاديث كهذه بيننا". ثم وقف وراح يتطلع حوله بتململ وتبرم ، إلى أن وقع نظره على بول فتنهد بإرتياح . ورفع مساعده حاجبيه عندما لاحظ من تكون رفيقة دايمون وعندما إنضم إليهما لم يزعج دايمون نفسه بتقديمهما إلى بعضهما ، بل إعتذر من السيدة وأاخرج بول إلى القاعة قبل أن يسأله عما فعله بالنسبة إلى سفرهما . تنهد بول وقال: "نتوجه الى المطار خلال أربعين دقيقة تقريبا . ألغى مسافران رحلتهما فحجزت المكانين على الفور . هل يعجبك ذلك ؟". هز دايمون رأسه علامة الموافقة والإرتياح ، أما بول فإبتسم وسأله: "وماذا عن الصينية الساحرة ؟". "تساي بن لونغ . لا أعرف ". ثم ضحك وقال ساخرا : " أعتقد أنها شاهدت لتوها وجها مألوفا ". بدا التشكك على وجه بول ، ثم قال: "من المحتمل جدا أنها تبحث عنك في جميع الفنادق والمطاعم الراقية في سان فرانسيسكو . كان واضحا لها أنك ستكون في مكان كهذا ". هز دايمون كتفيه العريضتين بلا مبالاة قائلا : "وما هي المشكلة ؟ القانون لا يمنع ذلك ". " هل أنت مهتم بها ؟". "ماذا تـظن ؟". "لا أعرف ، لا أعرف . إنها جذابة للغاية ". سار دايمون نحو الباب الخارجي فيما كان بول يلحق به . ثم توقف وإستدار نحوه ليقول بهدوء: "نعم ، إنها جذابة للغاية....شأنها في ذلك شأن الملايين من النساء ".
6- غضـب تـحت الجلـد
سحبت أيما يدها برفق ونعومة من تحت جسم أنابيل وهي تقول : "هيا ، تابعي ، إنك تتقدمين بطريقة رائعة !". تحركت يدا أنابيل الصغيرتان البرونزيتان وتبعتهما الرجلان بالأسلوب ذاته . إنها تسبح ، إنها حقا تسبح . بمفردها ولأول مرة في حياتها ! وشعورها ،لا يمكن وصفه بكلمات ! ثم أحست بيدي أيما تمسكان بوسطها وتساعدانها على الوقوف على أرض البركة وشهقت بحماس وسعادة: " هل كنت أسبح ؟ هل كنت حقا أ سبح ؟". "نعم يا حبيبتي ، وبمفردك تماما . قمت بأثنتي عشرة حركة ولم أمد يدا لمساعدتك ". "أوه ، أيما ألن يفاجأ والدي عندما يأتي ؟ أعني ، إنه لم يكن يسمح لي أبدا بالنزول إلى البركة لأن مياهها عميقة جدا....كما كان يقول ". ساعدتها أيما على الخروج من البركة وجلستا معا على حافتها . كانت أيما ترتدي ثوب السباحة الأبيض المؤلف من قطعتين . وسرها كثيرا أن الشمس بدأت تلفح وجهها وجسمها لتضفي عليهما سمرة جذابة . كما لاحظت بسعادة فائفة أن الطقس في الجزر يناسبها تماما , وأنها بدأت تتأقلم بسرعة كبيرة مع مكان إقامتها الجديد ومع جميع العاملين في تلك الجزيرة الصغيرة ،حتى لويزا مريديث نفسها لم تعد تتصرف معها بالقسوة والفظاظة اللتين كانت تستخدمهما في بداية الأمر . ورجحت أيما أن ذلك ربما يعود جزئيا إلى ان لويزا لاحظت بلا شك الإنزعاج الذي أبدته هي تجاه كريس. فقد أتى صباح اليوم الثالث لوجودها في سانت دومينيك وأعلن بشكل طبيعي جدا أنه سيأخد أيما وأنابيل في نزهة تستغرق طوال النهار . وكان قد جلب معه في الزورق عدة الغطس تحت الماء وسلة كبيرة من المأكولات والمرطبات . وبدا أنه لم يتوقع أي إعتراض على الإطلاق من جانب أيما. إلا أنه فوجئ بأنها مستاءة منه إلى أبعد الحدود , ولما سألته عن مسألة زواجه وكيف أنه لم يزعج نفسه بإطلاعها على ذلك ، هز كتفيه وأجابها بهدوء: " هيلين وأنا لا نعيش حياة زوجية طبيعية . فهي لا يمكنها أن تنجب أطفالا ". غضبت أيما جدا من ذلك الرفض البارد القاسي لزوجته ،فقالت له بدهشة وإستغراب : " ولكن من المؤكد أن بإمكانك تبني طفل، إذا كانت المشكلة كلها تتعلق بهذا الموضوع ! ". " أنا لا أريد أطفال أناس آخرين. أريد اطفالا من لحمي ودمي ". ثم أمسك بيدها وقال: " إنك جذابة جدا بحيث يصعب علي أن أدعك وشأنك . لا تلعبي معي دور الفتاة الصعبة المنال فترة طويلة. فقد أفقد صبري ". شعرت أيما بغضب عارم وإستياء ما بعده إستياء وقالت له بلهجة عنيفة وحاسمة أنها تحتقره بسبب موقفه أتجاه زوجته، وأنها لن تذهب معه إلى أي مكان وفي أي زمان. وأحست أنابيل ، التي لم تفهم سوى القليل من حديثهما الغاضب ، بخيبة أمل كبيرة . إلا أن أيما عوضت لها تلك الخسارة بتمضية المزيد من الوقت معها في البركة وبكسب ثقتها الكاملة بها . غادر كريس سانت دومينيك غاضبا بصورة لم يسبق لأحد أن شاهدها أو أحس بها . وتمنت أيما الا يحاول إيجاد أعذار لإطلاع دايمون على كيفية تصرفها معه . وشعرت بصورة شبه أكيدة أنه لن يفعل ذلك ، لأنه لن يتمكن من إبلاغ دايمون بما جرى بدون إدانة نفسه.....وهي مسألة قد لا يرغب في التعرض لها . وأحست أيما تلك الليلة بشيء من الحزن والأسى لأن صداقتها القصيرة لكريس تحطمت بمثل هذه السرعة. بدأت لويزا تلين معها قليلا ، وإتفقتا بطريقة غير مباشرة على نوع من الهدنة . وتصورت أيما أنه من الممكن جدا في نهاية الأمر أن تصبحا صديقتين عزيزتين . وبإستثناء لويزا ، وتانزي بالطبع ، فإنه لم يكن لدى أيما أشخاص آخرون تتحدث معهم . فالحديث مع أنابيل ، التي تتحدث مرارا كالراشدين ،لا يمكن أن يحل محل الصداقات المتعددة التي أقامتها في المستشفي. كانت أيما وأنابيل تجلسان قرب بركة السباحة وتعرضان ظهريهما لشمس على وشك الغروب . وكانت أنابيل تبدو كلعبة سمراء جميلة تجلس على منشفة كبيرة وترتدي ثوب سباحة من قطعتين خاطته لها أيما من إحدى ستائر الحمام . وفجأة إستلقت الطفلة على ظهرها وسألت رفيقتها الكبيرة: "هل تعتقدين بأنني سأتمكن يوما ما من إستعادة نظري؟". ترددت أيما وإرتبكت . إنها لا تريد زرع أفكار وآمال خاطئة في مخيلة الفتاة ، مع أنها تشعر من الناحية الأخرى أن مشكلة أنابيل هي نتيجة صدمة نفسية بقدر ما هي عجز جسدي . ولاحظت أيما أنها كلما حاولت أن تتحدث مع الفتاة الصغيرة عن أمها كانت تجابه بسد منيع من الصمت المطبق.....وكأن أنابيل تخفي أمرا ، ولا تريد التفوه بشيء مخافة أن تفشي سرها . ومما زاد في تصور أيما أن فقدان النظر يعود بدرجة كبيرة إلى مشكلة نفسية ، أن رأس الفتاة ووجهها ، خاليان تماما من آثار أي جروح أو ضربات وفجأة سمعتا صوت طائرة مروحية فوقهما , فهبّت أنابيل واقفة ببهجة وحماس قائلة: " أيما، أيما ! إنه أبي ، إنه أبي !". وتوترت أعصاب أيما.....هل هو حقا دايمون ثورن؟ وهل عاد قبل موعده بسبب حادثة إبنته؟ وكيف سيفسر الليلة التي أمضتها وكريس في ناسو وسألت صديقتها الصغيرة : " هل يحضر والدك عادة بطائرة مروحية ؟ ". " أحياناً ". ثم أمسكت بيد أيما وسألتها بلهفة : "هل بإمكاننا أن نذهب لملاقاته ؟ ". تطلعت أيما نحو الطائرة ، ولاحظت أن الوقت لا يسمح لهما بالذهاب إلى البيت وإرتداء ثيابهما ثم العودة الى مكان هبوط الطائرة لإستقباله. وكذلك ، فإنه ليس من اللائق أو المستحب أن تستقبلا دايمون ثورن وهما كحوريات البحر . ردت عليها بوداعة وحنان : " أعتقد أن علينا الإنتظار هنا. ثم.....ألا تريدين مفاجأة والدك بوجودك في البركة وقدرتك على السباحة بمفردك؟". " طبعا ، طبعا .نسيت ! هل تعتقدين أنه سيحب ثياب البحر التي أرتديها الآن ؟". "أوه ،طبعا . أنا متأكدة من ذلك ". ثم أخذت معطفا قصيرا خاصا بالبحر وإتدته بسرعة لأنها لم تكن لديها أي رغبة في دفع دايمون إلى الظن بأنها تعرض نفسها أمامه بزهو وتباه . خف صوت المروحة ثم عاد الصمت يخيم على تلك الجزيرة الصغيرة . كانت البركة تقع خلف المنزل ، فيما كان مهبط الطائرة يقع في فسحة قرب الشاطئ . وماهي إلا لحظات حتى ظهر دايمون ورجل آخر يخرجان من بين أشجار النخيل . كان دايمون يرتدي بزة زرقاء أنيقة ويحمل حقيبة صغيرة . أما الرجل الآخر الذي يبدو أصغر سنا ويرتدي بزة رمادية ، فكان يحمل حقيبة سفر خفيفة . وشعرت أيما بأن دايمون يبدو أضخم مما هو عادة.....وأحست بقلبها يقفز إلى حلقها ويحبس أنفاسها. قفزت أنابيل وأمسكت بيد أيما وهي تقول بلهفة : "هيّا نستقبله يا أيما ، أرجوك . أرجوك ! ". وجهتها أيما نحو والدها فركضت نحوه بسرعة وثقة مذهلتين . وفتح دايمون ذراعيه القويتين وضمّ إبنته ثم رفعها في الهواء مرحبا بها بمحبة وحنان : " أنابيل حبيبتي ! إنك تبدين اليوم جميلة جدا ". " هل أنا حقا يا أبي ؟ هل أنا حقا جميلة ؟ ". ثم تحول وجهها نحو الرجل الآخر ، وقالت : "بول ، بول ، هذا أنت أليس كذلك؟ هل تعتقد أنني جميلة حقا ؟ ". " رائعة الجمال ! ترتدين قطعتين ايضا....من أين أتيت بثياب البحر الجميلة هذه ؟ ". " أيما خاطتها لي . وهل تعرف ايضا أنني تعلمت السباحة ". نظرت أيما إلى وجه دايمون لتراقب رد فعله ، فرأته يتطلع نحوها لأول مرة منذ وصوله.....ويسألها بشيء من الحدة : " هل هذا صحيح ؟ هل تعرف أنابيل كيف تسبح ؟ ". "تقريبا. لم اجد سببا يمنع تعليمها السباحة . إن ذلك على الأقل يحول دون وقوع المزيد من الحوادث الخطيرة ". نظر دايمون إلى بول فرآه يتأمل أيما بإعجاب ظاهر. وإنتبه ايضا إلى أن أيما إبتسمت له شاكرة إعجابه بصمت خجول . وأحس دايمون فجأة بغضب شديد . كان عليه ألا يحضرها أبدا إلى هذه الجزيرة ، لقد تصرف بغباء ! أنزلت أنابيل نفسها ألى الارض وأمسكت بيد والدها وسألته بلهفة : " هل تسبح معي ؟ ألا تريد مراقبتي عندما أسبح ؟ ". حوّل دايمون نظراته عن أيما ورد على إبنته بحنان واضح : " طبعا يا حبيبتي . ولكن والدك آت من مكان بعيد جدا وهو بحاجة الآن الى حمام بارد وساعتين على الأقل من الراحة . غدا.....غدا إن شاء الله يمكنك تفويت دروسك وتمضية النهار بكامله معي . فما رأيك ؟ ". " أوه نعم . وأيما ايضا ؟". " قد تكون الآنسة هاردينغ بحاجة للقيام ببعض الأمور الأخرى ". ثم رفع رأسه نحو أيما قائلا بجدية وهدوء : " ولكن أريد التحدث مع الآنسة هاردينغ هذه الليلة ، إن لم يكن لديها أي مانع ". " لا مانع على الإطلاق ". ثم أمسكت بيد أنابيل وإستدارت نحو البيت وهي تقول : " إعذرانا الآن ، فقد حان موعد الشاي لأنابيل ". ونظرت إلى دايمون وسألته ببرودة أعصاب مذهلة . " هل ستأتي لرؤيتها قبل ذهابها الى النوم ؟". " طبعا وفي هذه الأثناء سوف أستحم وأشرب فنجانا من القهوة ". وتطلع إلى بول قائلا بهدوء : "بول ، يسرني أن اقدم إليك الآنسة أيما هاردينغ ، ممرضة أنابيل ومرافقتها الجديدة ". إبتسم لها بول فإضطرات لمبادلته ولكن بشيء من التحفظ ، وسمعته يقول لدايمون فيما كانت هي وأنابيل تتوجهان الى البيت : " إنها بلا شك أفضل بكثير من برندا لوسن ". " نعم ، ولكن....لا تورط نفسك معها ! ". قطب بول حاجبيه وسأله : " ما قصة هذه الفتاة ؟ يبدو .....". رمقه دايمون بنظرة أخرسته، ثم توجه الى البيت دون أن يقول شيئا . وفي المساء أختارت أيما ثيابها بدقة لأنها لا تريد مواجهة دايمون بثياب منزلية عادية . وكانت أيما تتناول العشاء عادة مع لويزا وتانزي في إحدى الغرف الصغيرة التي تطل على البحر . أما عشاء الليلة فلن يكون مريحاًعلى الإطلاق . نزلت الى القاعة الكبيرة التي قلّما تستخدم في غياب دايمون وهي مرتاحة إلى أنها ساعدت أنابيل على الإستحمام وقدمت لها عشاءها ثم وضعتها في السرير بإنتظار الزيارة المرتقبة من والدها . ولما دخلت القاعة وجدت بول ريميني جالسا في أحد المقاعد الجانبية يقرأ أحد كتب أنابيل. ولما شاهدها ، هبّ واقفا وقال : " مرحبا مرة أخرى . السيد ثورن لم ينزل بعد . هل تريدين شرابا باردا ؟ سيكارة ؟ ". إبتسمت أيما وقبلت منه سيكارة أشعلها لها بتهذيب وإحترام ، ثم صبّ لنفسه قليلا من عصير التفاح المنعش . سارت أيما نحو النافذة العريضة وأخذت تتأمل الحديقة بإعجاب صامت . لحق بها بول وسألها بهدوء ومجاملة : " هل أستقرت بك الأمور هنا ؟ أتصور ان الطقس يلائمك جدا ، أليس كذلك ؟ ". " أوه نعم . إنه بلا شك مكان رائع ". ثم إستدارت نحوه وسألته : " هل تعمل مع السيد ثورن منذ فترة طويلة ؟ أخبرتني أنابيل أنك أقرب مساعدي والدها المفضلين ". " هذا صحيح . فأنا أعمل مع دايمون منذ ست سنوات" > ثم إبتسم وأضاف : " إنها وظيفة عظيمة . نسافر معظم الوقت.....والى عدة أنحاء من العالم . دايمون رجل رائع ويسعدني جدا العمل معه . إنك لم تتعرفي عليه جيدا بعد، ولكن صدقيني.....". قاطعته أيما بتهذيب قائلة : " أرجوك . دعنا من مناقشة شخصية السيد ثورن ". وترددت قليلا ثم سألته : "إنك بلا شك كنت تعرف السيدة ثورن ". " نعم ، كنت أعرفها ". ثم قطب جبينه وأضاف : " قتلت في حادثة سيارة قبل عامين تقريبا " "حادثة مأساوية بالتأكيد ! ". أنهى بول شرب عصيره دون أن يبدو عليه التأثر والإنفعال ، فشعرت أيما بحشرية قوية. كيف كانت اليزابيت ثورن . وكيف كان شكلها ؟ من المؤكد أن دايمون أحبها كثيرا كي يتزوجها ! وأنابيل....أنابيل ولدت خلال أقل من عام بعد زواجهما ! وأحست بإنقباض شديد، فقررت تغير الموضوع. " هل تمضيان أوقاتا طويلة هنا في سانت دومينيك ؟". "احيانا نأتي إلى هنا ونمضي بضعة أشهر ،واحيانا أخرى بضعة أسابيع فقط . وفي بعض الأوقات يأتي دايمون بمفرده لقضاء عطلة ، فيما أعود أنا إلى بيتي في ميلانو بإيطاليا ". خف توترها قليلا فإبتسمت له وقالت : " إنك تتحدث الإنكليزية بطلاقة ". علت وجهه إبتسامة عريضة وهو يجيبها قائلا : " أبي وأمي إيطاليان . ولكن أمي عاشت وتربت في بريطانيا لحين عودتها إلى إيطاليا وزواجها من أبي . وقد علمتني الإنكليزية منذ صغري . كانت دائما تقول أن هذه اللغة ستصبح في نهاية الأمر الأولى في العالم , من حيث عدد الأشخاص الذين يقدرون على التحدث بها ". " أعتقد أنها كانت عل حق ". ونظرت أيما إلى ساعة يدها التي كانت تشير في تلك الآونة الى الثامنة إلا ثلثا . العشاء عادة يقدم في تمام الثامنة.... " أنني أضجرك على ما يبدو !". ندمت أيما على تصرفها وسارعت الى القول : " لا ، ابدا . ولكني كنت أتساءل ...متى سيحضر السيد ثورن ؟". " إنه هنا ! ". وإلتفتا ليشاهدا دايمون ثورن واقفا قرب الباب يتأملهما بهدوء وجدية . ثم قال موجها كلامه إلى أيما : " آنسة هاردينغ ، أريد محادثتك على إنفراد . مكتبي هو المكان الأفضل ". شعرت أيما برجفة خفيفة فيما كانت تطفئ سيكارتها وتلحق به الى غرفة المكتب التي لم تدخلها بعد منذ وصولها الى الجزيرة . توجه دايمون إلى مكتبه وأشار إلى أيما للجلوس في أحد المقاعد القريبة، فهزت رأسها بهدوء وقالت : " أفضل الوقوف ،إن لم يكن لديك مانع . وقل لي ما تريده على الفور ،لأنني أكره هذا الترقب القلق ". رد عليها بتهكّم واضح ، قائلا : " يا للأسف !". ثم أشعل سيكارا وسألها بهدوء وهو يتكئ على المكتب الخشبي : " لماذا لم تصلي إلى هنا في اليوم المقرر ؟". " إستقبلني إبن عمك في ناسو ، كما تعرف ، ثم أقترح علي البقاء حتى اليوم التالي لأتمكن من مشاهدة نيوبروفيدانس ". وتنهدت .فطريقة إجابتها على هذا النحو رهيبة ومزعجة. اللعنة ! كان يجب أن تصر على كريس لإحضارها فورا الى سانت دومينيك. رد عليها دايمون غاضبا : " أنني لا أدفع لك مرتبك كي تبقي في ناسو وتشاهدي المعالم السياحية ". "أوه ، وما الفائدة ؟ إنك لم تفهم أو تتفهم ! عندما وصلت إلى ناسو ، تبين لي أن كريس حجز غرفتين في الفندق . وبدا أنه إعتبر بقاءنا تلك الليلة أمرا مفروغا منه " . ثم تنهدت وأضافت: " رفضت وأعرف أنه كان يتوجب علي الإصرار على رفضي...ولكن...أوه ، يستحيل علي الآن أن أشرح بالتفصيل ما حدث ذلك اليوم". "ألم يهمك أبدا أنه رجل متزوج؟". تنهدت بأسى ظاهر وقالت: " لم أعرف أنه متزوج . أنت لم تخبرني ، وهو بالطبع لم يتبرع بإبلاغي ذلك. حتى أنني كنت أتوقع فتاة في إستقبالي، تصورت أن كريس تصغير لكريستين وليس لكريستوفر ! كيف كان من المفروض علي أن اعرف أنه متزوج ؟ لم يتصرف معي أبدا كأنه رجل متزوج!". أصدقك! إني اصدق كلامك !". ووقف ثم قال: "وماذا عن أنابيل ؟ أتصور أنها تحبك كثيرا. من المؤسف أنك قد لا تبقين هنا". حدقت به إيما بذهول وحيرة وهي لا تصدق ما سمعته أذناها. إنه يمزح ! إنه لن يطردها لأنها لم تصل في اليوم الذي حدده لها ! إنها مستعدة لخسارة مرتب ذلك اليوم اللعين إن كان يهمه تطبيق القانون بحذافيره ! وسألته بإستغراب واضح: " وماذا علي أن افهم من ملاحظتك هذه ؟ إنك سوف تطردني ؟ وإنك سترسلني إلى لندن، وتعتبر أن مشكلة أخي وكأنها لم تكن؟". " هذا بالضبط ما أفعله مع أي موظف آخر ليس لديه مثلك شقيق متورط بهذه القضية. ولكن يؤسفني أن وضعك يختلف عن أوضاع الآخرين . فأنت لديك حصانة ضد الطرد...إلا إذا عدت وقررت تحويل قضيته إلى القضاء". صرخت إيما بذهول ولهفة : "ولكنك لن تفعل ! لن تفعل! " قطب دايمون حاجبيه وقال لها بهدوء وجدية: " لا ، لن أفعل وسأنسى هذه الحادثة مع كريس " " وهل سأبقى ؟" درس دايمون بتمعن ملامحها المبتهجة. وحذره عقله ومنطقه من إبقائها لحظة واحدة ، بينما لا يزال قادرا على ذلك. ولكنه لأول مرة تجاهلهما وقال لها وهو يهز رأسه موافقا : " لا أعتقدذلك". إبتسمت إيما فعقد دايمون جبينه مرة أخرى وقال لها: " يبدو الآن أن موقفينا تعاكسا. فقد كان لدي انطباع بأنك كنت تريدين البقاء في لندن ...بأن عملك هناك...وبأنك سوف تحصلين على ترقية!". " كان هذا قبل لقائي آنابيل . إنها طفلة رائعة " " هل هي حقا ؟ على الرغم من أنها إبنتي أنا ؟ " " وما يجعلك تظن أن لذلك أي تأثير سلبي " " يجب أن يكون ، أليس كذلك؟ اعني أن هذا هو صلب الموضوع، أم ترى انا على خطأ ؟". ثم إستدار نحوها غاضبا وقال: " مرت اوقات شعرت خلالها بأنني أريد قتلك بسبب ما فعلته بي!". شدّت إيما يديها بتوتر ظاهر. إنهما يعودان الآن إلى الموضوع الأساسي، وهي على وشك أن تفقد أعصابها.لماذا أعاد إلى حديثهما النبرة الشخصية ؟لماذا لم يحتفظ بلهجة رب العمل مع موظفته؟ " كانت خطوة نحو الأفضل ". وسارت بعصبية نحو الباب ولكن صوته أوقفها في مكانها عندما سألها بحدة: " إنك لم تتزوجي أبدا......ألم تشعري بتاتا بالندم ؟ " ." ندم بسبب عدم الزواج ؟ " تقدم نحوها بسرعة وقال لها، فيما كانت عيناه تتأملان جسمها بإعجاب يصل إلى درجة الإحراج والإهانة: " أنت تعرفين جيدا ماذا أعني ". إرتعش جسمها بقوة .فعندما يكون قريبا منها إلى هذا الحد تشعر بالضعف أمامه.ليس عليها إلا أن تخطو نصف خطوة نحوه لتلتصق به وتشعر بدفئه وحنانه. وشعرت بألم وعذاب شديدين عندما أحست بأنه لا ينتظر منها إلا أن تفعل ذلك . وفي تلك اللحظة الوجيزة تذكرت بوضوح أدق التفاصيل في العلاقة التي كانت بينهما. إنه لا يعرف انها تركته لأجله هو..... لصالحه ! وتذكرت الليدي ماسترهام وهي تقول لها: " ولكن ، يا إيما أعتقد أن دايمون يتصرف بشجاعة فائقة ، ألا توافقيني الرأي على ذلك؟ أعني.....رجل بعمره ونفوذه ، وفتاة صغيرة جميلة مثلك لا تملك جنيها واحدا ! أعني ، يا عزيزتي، إن الناس سيحكون.....من المؤكد أنهم سيحكون ! ويخيل إلي أنه سيكون لكلامهم تأثير سلبي وغير سار على مؤسسته عندما يعرف منافسوه بضعفه إتجاهك. ثم إن هذا التصرف لا يدل على خلق رفيع وشخصية قوية ، ألا تعتقدين ذلك ؟". تذكرت إيما ايضا أن عيني الليدي ماسترهام كانتا تسألانها كيف أن رجلا مثل دايمون يجد أي إهتمام بحشرة مثلها ! إلا أن الليدي نفسها لم تتجرأ على الإفصاح علنا عن مثل هذه الآراء المذلة. ولكن البذور زرعت بصورة جذرية، وكان على إيما أن تسمع العديد من الملاحظات المماثلة.وكانت كل ملاحظة أسوأ وأشد قساوة من سابقتها.....إلى أن إقتنعت إيما بأن وجودها معه سوف يلحق الدمار بعمله..... وبحياته. رفعت رأسها وتطلعت فيه غير قادرة على التفوه بكلمة واحدة. حدّق بها دايمون لفترة قصيرة. وعندما شعرت بأنها لم تعد قادرة على الوقوف طويلا ، أزاح وجهه عنها وتمتم بصوت متوتر وغاضب: "! اخرجـي ".
7- بحر من العواطف
صباح اليوم التالي ،تناولت إيما طعام الفطور في غرفتها ثم نزلت الى الطابق الأرضي لتسمع من لويزا أن رب البيت وإبنته خرجا سوية منذ بعض الوقت . " أنت وانا اليوم في عطلة إلزامية . فقد أوضح السيد ثورن انهما سيستقلان اليخت ولن يعودا قبل المساء . أعتقد انه سيأخدها الى الدورو". نظرت إليها لويزا وإبتسمت بمكر قائلة وهي تشير إلى احد الزوارق : "هذا هو الزورق الذي يقوده جوزف ، إن كنت ترغبين برحلة قصيرة إلى ناسو ". ثم وقفت وأضافت: "فعلا ، وبكل جدية ، أنا لا أمانع ابدا برحلة كهذه . وبما انه ليس لدينا اي شيء نقوم به ....". وتوقفت عن إتمام جملتها عمدا. إبتسمت إيما دليل الموافقة وقالت : "فكرة لا بأس بها على الإطلاق. كنت أتمنى لتوي أن أحضر بعض الأقمشة....ولكن ماذا عن السيد ريميني ؟ ألن يتوقع منا البقاء هنا ؟ ". إبتسمت لويزا : "بالنسبة إلى السيد ريميني .فالسيد ثورن أوصله إلى سانت كاترين حيث سيمضي النهار مع كريس وهيلين. بول وكريس يعرفان بعضهما منذ عدة سنوات ، إنهما زميلا دراسة". ." إذن ، اعتقد ان علينا الترفيه عن نفسينا....أليس كذلك؟" أعادهما جوزف بعد أن تناولتا عشاء من السمك والخضار في الهواء الطلق ، ولكنهما شعرتا بشيء من الذنب لأنهما تغيبتا مثل هذه الفترة الطويلة. وفيما إقترب زورقهما من سانت دومينيك ، شاهدتا اليخت رأسيا في مكانه وعلمتا ان دايمون ثورن عاد إلى الجزيرة قبلهما . وعندما دخلتا البيت وهما تحملان حاجياتهما لم تجدا أحدا. كانت الساعة آنذاك تقارب الثامنة فقررتا أن تذهب كل منهما إلى غرفتهما لتغتسل وتغيّر ملابسها إستعدادا للعشاء. وقالت لويزا لإيما فيما كانتا تصعدان الدرج : " لا تقلقي بشأن أنابيل . تانزي تهتم بها عادة عندما لا يكون أحد منا هنا ". شعرت إيما بالإرتياح، فقد كانت على إستعداد تام للعودة الى الجزيرة في وقت مبكر ، إلا أن لويزا أصرت على أن لا حاجة لذلك . وقبلت إيما ذلك بدون إعتراض أو إحتجاج لأنها شعرت بأنه لم يكن لديها أي يوم عطلة منذ وصولها الى الجزيرة قبل أسبوع . إستحمت بسرعة وإرتدت فستاناً أزرق اللون ثم نزلت الى القاعة لتجد دايمون جالسا في إحدى زواياها يشرب كأسا من العصير البارد .كان يرتدي بزة رمادية داكنة تضيف الى سمرته وجاذبيته أناقة وهيبة. رفع حاجبيه إشارة الى انه أحسّ بدخولها، فوقفت لا تدري ماذا تفعل او تقول .وبعد لحظات ، إستجمعت شجاعتها وسألته بهدوء : " هل أمضيتما يوما جيدا ؟ " " أعتقد ذلك. وأنت ، هل أمضيت يوما ممتعا؟". ". نعم .ذهبت ولويزا إلى ناسو حيث إبتعنا بعض الأغراض" أحنى رأسه قليلا وهو يقول: ". تانزي أبلغتني بذلك بذلك " ثم أشار الى كرسي مجاور وقال لها: "تعالي ،سأحضر لك شرابا. ما رأيك بعصير التفاح ؟ كنت تحبينه كثيرا ". أعد لها الشراب وأعطاها الكأس فأخدته شاكرة، ثم دخلت لويزا وبدأ الثلاثة بتناول العشاء، فيما كان دايمون يقول للشابتين الجالستين معه : "بول باق بعض الوقت في سانت كاترين. سوف يعود في وقت لاحق ". سألته لويزا عن رحلة اليخت والى أين ذهب .وأرادت إيما ان تسأله عن أنابيل وهل تمتعت بنزهتها الطويلة .إلا أن صوتها رفض الإنصياع لأوامراها وقررت ألا تتكلم كثيرا حتى تتمكن من السيطرة على نفسها وأعصابها . : وبعد العشاء إعتذر دايمون منهما وتوجه الى غرفة المكتب.رفعت لويزا رأسها وقالت لإيما ضاحكة " أعتقد أن وجودنا لم يكن مفيدا على الإطلاق. ألا تشعرين معي بذلك؟". ثم إبتسمت وأضافت قائلة قبل أن تنتظر جوابا "هيا ، لنقم بنزهة خارج البيت. إنها ليلة رائعة ". وافقتها إيما على ذلك بدون تردد. لقد كانت فعلا ليلة جميلة جدا وكان من الخطأ البقاء داخل البيت . لفت إيما عنقها بوشاح خفيف وسارتا نحو الشاطئ تتمتعان بالنسيم العليل وضوء القمر الساطع وإنعكاسه البهيج على سطح الماء وكان واضحاً أن لويزا تريد التحدث بأمور خاصة. وقفت فجأة وقالت لإيما بجدية قائلة "أريد تقديم إعتذاري الخالص لك ،فقد تصرفت معك في اليومين الأولين لوصولك بطريقة سيئة وفظة للغاية ، ولكني سأحاول الشرح...". لا حاجة لذلك مطلقا". " " أعرف ،ولكني سأخبرك . عندما أتيت الى هذه الجزيرة قبل عامين لأعطي أنابيل دروسا تمهيدية ثم ننتقل الى أسلوب برايل في الحروف النافرة، تورطت عاطفيا مع كريس ثورن. كانت خطوة سخيفة....أعرف ذلك ،وكان علي بعد أن تجاوزت الثلاثين أن أتصرف بحكمة وروية. ولكنه جذاب للغاية، وأعتقد أنني بدأت أشعر باليأس ". وتنهدت لويزا ثم مضت الى القول "أقمنا علاقة إتسمت بالعنف. كنت أعلم بوجود زوجته هيلين، على العكس منك كما تبين في وقت لاحق ،إلا أنني لم أهتم أو أكترث، تعرفت اليها.....إنها باردة وقلبها قد من حجر، بينما كان كريس دافئاً وحنونا.....ويحبني ". وعبست ثم قالت: "كم كنت سخيفة وغبية ورعناء !كريس كان يلعب معي ،لعدم وجود فتيات أخريات . برندا بالتأكيد لم تكن من الطراز الذي يعجبه. لم تدم علاقتنا طويلا . فبعد حوالى تسعة أشهر تعب مني وبدأ يتطلع الى ضحية جديدة وإنتصار جديد، هذه هي القصة الفاسدة بحذافيرها ! أعتقد أنك تظنين أن ما فعلته بهلين يدل على الأنانية وحب الذات ". تنهدت إيما وقالت بنعومة وهدوء: "أنا لست في موقف لإصدار أحكام. ولكني آمل في ان نصبح الآن صديقتين مخلصتين ". إبتسمت لويزا بحرارة ومودة وقالت: " طبعا، طبعا. لقد لاحظت منذ بعض الوقت إنك إنسانة طيبة جداً. ما رأيك في العودة الآن ، أيتها الصديقة ؟ ". عادت الفتاتان الى البيت ، كما عادت اليه الحياة العادية والنمط اليومي المعتاد. دايمون يمضي معظم وقته إما في مكتبه يراجع التقارير والوثائق التي تصله يوميا ، وإما على اليخت مع بول ، أو في زيارة إبن عمه في سانت كاترين وكانت أنابيل تراه لفترة قصيرة مساء كل يوم قبل ذهابها الى النوم ولكن إيما كانت تشعر بأن عليه تمضية المزيد من الوقت مع إبنته. ومع ان أنابيل لم تتذمر كثيرا، الا أن إيما أحست بأن الطفلة الصغيرة مصابة بخيبة أمل كبيرة لأنه لم يظهر أي إهتمام يذكر بتعلمها السباحة. كما أنه لم يسبح معها ولا مرة في البركة. وفي مساء اليوم الخامس ، شعرت إيما بأن عليها التحدث مع دايمون قبل فوات الأوان . لم تكن تعرف طول الفترة التي ينوي تمضيتها في الجزيرة .وبالإضافة الى إحتياجات أنابيل ، فإن إيما تريد التحدث معه بشأن المواضيع النفسية المتعلقة بالطفلة وفقدانها النظر . وبعد العشاء تلك الليلة ، توجه دايمون الى مكتبه فلحقت به ودقت الباب المغلق . مرت بضع لحظات قبل أن تسمعه يقول: "نعم ؟". فتحت الباب ودخلت ثم أقفلته وراءها بعزم وثبات . كان دايمون يجلس وراء مكتبه يدرس بعض الوثائق . وبدا عليه الإستغراب عندما رفع رأسه وشاهد إيما أمامه أزاح الاوراق جانبا ووضع يديه وراء رأسه ثم قال لها بتهكم: ." أوه ، إيما ! ماذا يمكنني أن أفعل لك ؟ " ليس لي ، بل لأنابيل . أعتقد انك تهملها كثيرا". إنقبض دايمون في كرسيه وقال لها بعصبية: " حقا ؟ وبأي سلطة تتحدثين فيها عن إهمالي وأخطائي؟" " إنها الحقيقة. أمضيت يوما واحدا معها من بين الأيام الخمسة التي مرت على وجودك هنا . إنها لا تتحدث كثيرا عن هذا الموضوع ، ولكنني أرى من خلال عينيها ونظراتها بأنها تشعر بإهمالك". هب دايمون واقفا بحدة وإنفعال وقال لها بلهجة ساخرة وقاسية: "آنسة هاردينغ ، أنك تقومين بعملك بطريقة تثير الاعجاب ،تصبحين على خير!". حدقت به إيما وقد أغضبها موقفه وتصرفه ، وصرخت به بيأس واضح: " ألا يهمك أن تحصل إبنتك على الحب والعاطفة الإبوية ؟ هل مصاحبة إبن عمك وأصدقائك أكثر أهمية من طفلة واحدة عمياء ؟". " إحذري من التحدث معي بهذه اللهجة او هذا الاسلوب ! انابيل ليست بحاجة إلي ما دامت معها لويزا مرديث وتانزي....وأنت بالطبع! ". إنهمرت الدموع من عينيها وأحست بإنقباض شديد. ولم تقدر على ضبط أعصابها فقالت له بتأثر بالغ: " هذه سخافة ! حماقة ! " قام دايمون من وراء مكتبه وإقترب نحوها بحدة وغضب، وأمسكها بذراعها وشدها بقسوة شعرت بأنه يكاد يحطمها .نظرت إلى عينيه فرأت الشرر يتطاير منهما . وأحست إيما بأن جسدها بدأ يخونها.....يضعف أمامه، مع ان لسانه كان يلسعها كالسوط وهو يصرخ بوجهها قائلا لها أنها آخر شخص يحق له التحدث عن إحتياجات أي إنسان في الدنيا. حاولت التملص من قبضته بدون جدوى. فهو رجل قوي وكان يبدو عليه أنه يتمتع بعذابها ومحاولاتها المتكررة والفاشلة للتخلص منه. توقف عن الكلام ولكن عينيه ظلتا تقدحان شررا . إلا ان الشرر هذه المرة كان مختلفا.....يتطاير من نار تشعلها مشاعر اخرى. أحست بموجة من الحرارة تلف جسمها ، فتوقف عن الحركة.....وراحت تحدق به بهدوء غريب. شدها نحوه ببطء وضمها إليه بقوة. ثم أمسك بخديها ورفع رأسها بإتجاهه وعانقها برغبة جامحة. بذلت جهودا خارقة كي تتمكن من عدم التجاوب معه، وشعرت بأنه يحاول ضبط أعصابه بصعوبة بالغة . توقعت أن يدفعها عنه بإزدراء وأحتقار، ولكنها نسيت على ما يبدو إصراره وعزيمته . ظل يعانقها بقوة ويداعب ظهرها بأصابع فولاذية، إلى ان ضاعت وما أن أحست بنفسها تغرق في بحر من العواطف الهائجة ، حتى أبعدها عنه بوحشية بالغة إضطرتها للامساك بأحد المقاعد كيلا تقع على الأرض. شهقت بدهشة وإستغراب وحدقت به لتواجهها نظرات حقد وكراهية, أحست بالخجل والعار والإذلال....إنها لم تتمكن من إخفاء عواطفها نحوه وسمعته يقول لها بخبث ومكر ظاهرين : " شكرا لك إنني أشعر الآن برضى وإرتياح تامين . فعلى الرغم من نفيك مرات ومرات إلا انك لست حصينة إتجاهي كما كنت تريدينني أن أعتقد!". ."! انك حقير ومبتذل " " لا ، بالتأكيد لا ! أنا رجل ذو أحاسيس ومشاعر ورغبات ، هل كنت تتصورين حقا أنني سأحتفظ لك بأي إحترام بعد ذلك التصرف؟ لقد سرني ورفه عني جداً أن أزعزع هذه الواجهة الحزينة والتعيسة التي تتظاهرين بها أمام الناس!". ." هل يمكنني الذهاب ؟ " " خارج هذه الغرفة ، نعم . خارج سانت دومينيك، لا. فلديك ذنوب كثيرة يجب التكفير عنها". كتمت شهقتها وفتحت الباب ثم جرت بسرعة نحو غرفتها. لم تعد تهتم بما يقوله أي إنسان عنها.تريد أن تختبئ...بعيدا عن سخريته اللاذعة وإنتقاداته القاسية، وأكثر من ذلك كله......عن لمسة يديه.
8- سـباحة في الأعمـاق
كانت الساعة تشير الى السادسة والنصف فقط عندما إستيقظ دايمون صباح اليوم التالي. كان قلقا ومتململا. خرج من سريره متكاسلا وتوجه إلى شرفة غرفته المطلة على البحر، حيث وقف يتأمل يخته الجميل المسمى أنابيللا، تهزه برفق وحنان أمواج خفيفة هادئة . وأصغى دايمون بإهتمام الى أصوات العمال وعائلاتهم يعدون فطورهم فيما كان الأولاد يقفزون ويلعبون. ما أجمل حياة القرويين! إنها طبيعية وبسيطة وغير معقدة، وعاد به التفكير فجأة إلى ما قالته إيما عن أنابيل. اللعنة ! لقد رفض تعليقاتها وملاحظاتها في الليلة السابقة بدون أن يعيرها إهتماما يذكر . أما الآن، وهو يشعر بأن اليخت يغريه برحلة بحرية طوال النهار ، فقد بدأ يفكر بشيء من الذنب عما إذا كان حقيقة يهمل أنابيل بسبب الذكريات المؤلمة التي يثيرها وجودها . شتم غضبا واطفأ سيكارته التي أشعلها قبل لحظات ثم أمسك سماعة الهاتف وإتصل بإبن عمه . وأحس دايمون كأن وقتا طويلا إنقضى قبل سماعه صوت كريستوفر يجيب متثائبا : ." نعم ؟ من المتحدث ؟ ". ." أنا ، دايمون . ماذا تفعل ؟ ". ."وماذا، بحق السماء ، تعتقد أنني أفعل في السادسة صباحا ؟". ثم أضاف بلهجة شبه حادة : " إنني في السرير طبعا !"." " الساعة الآن السادسة والدقيقة الخامسة والثلاثين. ما رأيك برحلة اليوم على أنابيللا ؟". رد عليه كريس بصوت ينم عن الإهتمام الحقيقي : "فكرة عظيمة ، هل قلت اليوم؟". " لـم لا ؟ " ثم مضى إلى القول: "هل يمكنك أن تكون جاهزا خلال ساعة ؟ سأحضر معي الطعام والشراب وغير ذلك من الأمور التي سنحتاج اليها". " عظيم ، عظيم! هل سيذهب بول معنا ؟ " " أعتقد ذلك . الى اللقاء " وأعاد دايمون سماعة الهاتف إلى مكانها، متجاهلا شعور الأنانية الذي غمره فجأة وبدون مبرر. إنه هو والد أنابيل ...وهو الذي يقرر متى وكيف يرفه عنها !". وبعد أن أحضرت روزا طعام الصباح، إستهل دايمون الحديث موضحا له خططه لذلك اليوم. أعرب له بول عن إستعداده وسروره لمرافقته في تلك الرحلة، ولكنه نظر إلى دايمون بحشرية وسأله: " ماذا حدث ليلة أمس ؟ إيما إختفت بعد العشاء مباشرة، هل رأيتها ؟ كنت سأدعوها لمرافقتي في نزهة قصيرة حول الجزيرة". " أتت لمقابلتي ثم ذهبت ، على ما أعتقد، لتنام . هل كانت تعرف أنك بإنتظارها ؟". لا ،لا .ولكن ليس من عادتها أن تذهب الى فراشها باكرا"." وبدا عليه القلق قليلا ثم أضاف: " هل تظن أنها مريضة ؟ " "طبعا إنها ليست مريضة. بالمناسبة، أريدك أن تذهب بعد إنهاء طعامك مباشرة لتتأكد من أن جوزف سوف يضع كمية كافية من قوارير الأوكسجين". حسـنا"." قالها بول وهو يهز بكتفيه قلقا ومستغربا، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر بأنه لم يتمكن فيها من إختراق ذلك القناع الذي يخفي وراءه دايمون أفكاره ومشاعره الحقيقية. ولم يتمكن بول من معرفة سبب ذلك. كان دايمون وحده ينهي الفنجان الثالث من القهوة عندما دخلت إبنته أنابيل ، أحست بوجود شخص آخر آخر في الغرفة ، " أبي ؟ هل هذا أنت ؟ " قام دايمون من كرسيه وإتجه نحوها قائلا وهو يمسك بيدها: "نعم يا حبيبتي . وقد إنتهيت لتوي من تناول فطوري هل اكلت طعامك ؟ ". "نعم ، شكرا .ماذا ستفعل اليوم يا أبي؟ ". "سنذهب أنا وبول وكريس للغوص تحت الماء . ماذا ستفعلين أنت؟ كيف أصبحت في السباحة ؟". ردت عليه بهدوء مماثل: " إنني أسبح جيدا هذه الأيام. ولكنني لا أعرف ماذا سنفعل اليوم. سبحنا كثيرا وفي بعض الأحيان نذهب الى الشاطئ لجمع الصدف والأحجار الجميلة. وأحيانا نكتفي بحمام شمسي والقيام ببعض الحركات الرياضية. ولكني أتمنى من كل قلبي أن تراني أنت بنفسك كيف أسبح. ألا يمكنك ذلك، يا أبي ؟ اعني.....إنني لا اراك الا قليلا". تنهد دايمون ، فأحمر وجه أنابيل التي أصبحت تعرف مزاجه وأسلوبه معها. وقالت بلهجة حاولت جاهدة إخفاء الحزن منها: أعرف ، أعرف. أنك مشغول جدا ". " أحس دايمون بإنزعاج شديد من نفسه وطريقة تصرفه معها. إنها إبنته التي يحبها كثيرا....وهي تشعر بأنه مشغول جدا عن الإهتمام بها أو تمضية المزيد من الوقت معها. ركع على ركبتيه أمامها وضمها إلى صدره بحنان ومحبة، وقال لها: " وماذا بالضبظ تريد أن تفعله اليوم بطتي الجميلة ؟ " ردت عليه بلهفة وبدون تردد، وقد علت وجهها البرئ إبتسامة كبيرة : ." أريد أن أذهب معك....كما فعلنا في اليوم الثاني لوصولك" وتوقفت لحظة ثم سألته بلهفة واضحة : " هل بإمكان إيما أن تأتي معنا أيضا؟". "! اسمعي الآن " وعضّ دايمون شفتيه بقوة. أن يأخد أنابيل معه، فهذا أمر طبيعي .أما مع إيما،فالوضع مختلف الى حد كبير . وأكمل جملته محاولا إقناعها بالتخلي عن طلبها: " كنا،نحن الرجال الثلاثة ،سنقوم برحلتنا البحرية بمفردنا، ولكنني لا أجد أي مانع على الإطلاق من ذهابك معنا، إن كنت حقا ترغبين بذلك.ولكن إيما قد تشعر بالإنزعاج والحرج لوجودها مع ثلاثة رجال". "ربما ستشعر بذلك ". ثم افتر ثغرها الجميل عن إبتسامة عريضة وذكية قائلة: ." ولكنها لن تكون معكم بمفردها ، فأنا أيضا سأكون هناك". وتوقفت لحظة ثم أضافت: "ثم ،ألا يمكنك أن تدعو هيلين للإنضمام الينا. إنها لم تتعرف بعد على إيما". "صحيح، إنها لم تلتق بعد بإيما. ولكنها قد لا تكون راغبة في الانضمام الينا. ربما غيما نفسها لا تريد الذهاب معنا". "إذن لنسألهما ! أنت تتصل بهيلين وأنا أسأل إيما. يمكننا أن نقيم حفلة رائعة ونمضي وقتا ممتعا للغاية. يمكننا الذهاب الى أحد الخلجان الصغيرة الهادئة وأريك هناك كيف أسبح ". تمنى دايمون بعض الشيء لو أنه لم يبدأ هذه المحادثة بكاملها وقال لإبنته بلهجة من غلب على أمره : " إسمعي ! إذهبي الآن وإسألي إيما رأيها في الموضوع ، وأنا سانتظرك هنا ". حسـنا"." قالتها بسرعة وخرجت مهرولة قبل أن ينهي والدها جملته ، وقف دايمون مبتسما وهو يشعر بشيء من الإرتياح، فمن المؤكد أن إيما سترفض الذهاب معه بعد ذلك اللقاء العاصف الذي حدث بينهما في الليلة السابقة، ولكن أنابيل عادت بسرعة ووجهها يشع بالبهجة والسرور. وقالت له وهي تقفز فرحا: " قالت إيما أنها ستأتي معنا . قالت لي أنها لن تتمكن من رفض طلبي ". " حسنا. سأتصل بكريس لأسأله عما اذا كانت هيلين تريد الإنضمام الينا ما رأيك ؟ ". إذا كنت تعتقد أن ذلك ضروري فعلا". تذكر دايمون ولو متأخرا أن إبنته لا تحب هيلين كثيرا. فزوجة كريس تميل الى معاملتها كطفلة عاجزة في حين أن أنابيل لا تريد شفقة أحد. وما كانت مناشدتها إياه لإحضار هيلين إلا لضمان موافقته على إنضمام إيما ، ولكنه بالتأكيد يرفض تمضية يوم بكامله تكون فيه إيما الإمرأة الوحيدة. ولذا فقد رفع سماعة الهاتف وهو يقول: " أعتقد أن ذلك ضروري يا تفاحتي الحلوة ". جلست أنابيل قرب إيما وكانت الطفلة الصغيرة تعرف أن الجميع سيمضون يوما رائعا ، فمجرد وجودها على اليخت مع والدها وإيما ، بالإضافة الى حمام شمسي والسباحة في فترة لاحقة ، أدخل السعادة والبهجة الى قلبها، وكانت إيما تشاطرها ذلك الشعور وهي تتكئ على أحد أعمدة اليخت . إلا أنها لم تكن متأكدة من أنه ستكون لديها الجرأة الكافية لخلع سروالها القصير وقميصها، على الرغم من إشتداد الحر ، إن ظلت الإمرأة الوحيدة بين ثلاثة رجال وطفلة. أبلغتها أنابيل ان بول سيذهب معهم،وكذلك كريس. وذكرت أن هيلين زوجة كريس، قد لا تنضم اليهم مع أن والدها دعاها الى ذلك. ثم إضافت وهي تحرك أنفها وفمها بطريقة مضحكة: " هيلين لا تحب النزهات البحرية كثيرا. ولكنها اذا علمت بوجودنا نحن ، فإنها ستأتي على الأرجح....لمجرد الحشرية لا أكثر". إبتسمت إيما لإستخدام أنابيل أسلوبها في التحدث عن الراشدين. وتمنت لو أن هناك اطفالا آخرين كي تلعب معهم، لأنها تعيش بصحبة البالغين طوال الوقت. وما هي الا لحظات حتى بدأ دايمون وبول يرفعان الأشرعة. فلماذا إستخدم المحرك عندما يكون الطقس رائعا والهواء مواتيا ! وشعرت إيما بأنهم على وشك الإبحار نحو جزيرة سانت كاترين . إنها لم تلتقى بعد بهيلين، وأحست أنها متضايقة من ذلك اللقاء المرتقب....خصوصا أنها ستضطر لرؤية كريس مرة اخرى. فهي لم تره منذ ذلك اليوم الذي قالت له ما تشعر به إتجاهه. وتساءلت بصمت عما إذا كان ذلك النهار سيمر بنجاح وبدون عوائق ومشاكل كبيرة بسبب التيارات النفسية العنيفة التي ستعصف به! وتحولت أنظارها رغما عنها الى دايمون. كان يرتدي سروالا قصيرا وقميصا يظهر منكبيه العريضين وصدره الواسع وعضلاته القوية والمفتولة .وكان يزنر معصمه بساعة ذهبية جميلة وتتدلى من عنقه سلسلة ذهبية تحمل ميدالية ذهبية صغيرة عليها رسم القديس كريستوفر. وتذكرت إيما الميدالية وكيف كانت تغيظه بسببها في الأيام السعيدة. وتطلعت نحو بول ريميني الذي كان يرتدي ثيابا مماثلة ، إلا أنه لم يكن أكثر جاذبية من رئيسه، ولاحظت إيما بإعجاب العلاقة القائمة بين الرجلين . فهما صديقان حميمان ، كما أن بول يحترم رب عمله ويعجب به الى حد كبير. وقالت أنابيل ، التي يزنر خصرها طوق مطاطي ربط بالسياج المعدني لليخت تحسبا لأي طارئ: ." إنها ستكون رحلة رائعة ، أليس كذلك ؟ " وشدت على يد إيما ومضت الى القول بحماسة وعفوية: " أوه ، إيما، أتمنى أن يكون كل يوم كهذا اليوم !". شدت إيما على يد الطفلة الصغيرة بحنان مماثل ولكنها لم تجب . وتحرك اليخت ببطء وهدوء بعد ان ملأ الهواء الأشرعة الكبيرة. وشعرت إيما بالنسيم العليل يداعب شعرها، فسرها، أنها شدته الى الوراء وربطته بإحكام كيلا يغطي وجهها بين الحين والآخر. وضعت نظارة الشمس على عينيها وإتكأت على مرفقيها بتكاسل ظاهر . وإبتسمت.....إنه يوم جميل للغاية ! وفجأة أحست بأن بول جلس قربها وهو يقول بمرح: "مرحبا ! هل قال لك أحد من قبل إنك شابة جميلة وجذابة؟". ضحكت وأجابته على الفور: " لا أحد على الإطلاق. وأنا لا أصدقك. إنك أحد أولئك الإيطاليين الغزليين العاشقين الذين اقرأ عنهم دائما". إحتج بول ضاحكا: "! لا ، إنني أعني ما أقول ". ثم أضاف بهدوء: "سنصل خلال دقائق معدودة الى سانت كاترين . لا ادري ما إذا كانت هيلين ستنضم الينا أم لا ". ردت عليه أنابيل وهي نصف نائمة تقريبا : " سوف تأتي ! أتصور أن مجرد رغبتها في مشاهدة إيما سيحملها على المجيء. إيما لم تذهب الى سانت كاترين ". " صحيح ، إنها لم تذهب بعد !". وحوّل نظره الى إيما وسألها : "لم لم تذهبي من قبل يا إيما ؟ ". " لا سبب في ذلك. كل ما في الأمر أنه لم توجه الي دعوة لزيارة الجزيرة ". بدأ التشكك على وجه بول وقال : " يمكنني أن أحزر السبب ، إنه كريس ، أليس كذلك ؟ ". " وماذا تعني بذلك ؟ ". " لا تقولي لي أنك لا تعرفين عن مغامرات كريس العاطفية . مع لويزا ، مثلا !". ودرس ملامحها وإنفعالاتها لحظة ثم أضاف : " ألهذا السبب كان دايمون غاضبا وساخطا الى تلك الدرجة ؟ وصلت متأخرة يوما عن الموعد المقرر لك ، وكان إبن العم في إستقبالك . واحد مع واحد يساوي إثنين.....". " وربما خمسة ! ". قالتها إيما بلهجة جافة الى حد ما. ثم نظرت الى جارها وقالت له بجدية : " يؤسفني أن أخيب آمالك ، ولكنني لم ألتق كريس إلا ذلك اليوم....ولم تقم بيننا بالتأكيد أي علاقة على الاطلاق !". " صحيح ، ولكنه حاول مغازلتك .إنني أقرأ ذلك في عينيك وملامحك ، ولكنك كنت أكثر ذكاء وأشد دهاء من لويزا ، فعندما علمت أنه متزوج أرسلته خائبا يجر أذيال الفشل والهزيمة . صحيح ؟ ". سبقتها أنابيل الى الإجابة ، فقالت : " هذا صحيح. أتى كريس بعد يومين من وصول إيما الى سانت دومينيك وطلب منا نحن الإثنتين مرافقته ، ولكن إيما رفضت ذلك ....وكانت تشتعل غضباً وغيظاً! . " " أوه ، أنابيل!". أحست إيما بالخجل لأن موضوعا خاصا كهذا طرح فجأة على بساط البحت والمناقشة وبخاصة أمام شاب غريب وطفلة صغيرة . وسمعت بول يردد بسرور وإرتياح : " عظيم . عظيم جدا !". وشعرت إيما بأن شخصا رابعا يقترب منهم ، فتطلعت لتجد دايمون واقفاً على بعد أمتار قليلة يراقبهم بهدوء. إنه بالتأكيد قادر على سماع أحاديثهم ، فماذا سيكون تحليله للموضوع أو رد فعله عليه ؟ إلا أنه لم يعلق بشيء على كلامهم ، بل قال لبول بصوت هادئ : " تعال وساعدني!". قفز بول وغمز إيما ثم لحق بدايمون مسرعا : وتوقف اليخت في سانت كاترين، فصعدت اليه هيلين ثورن التي كانت النقيض التام لما توقعته إيما .فقد تصورت أن زوجة كريس ستكون طويلة ونحيفة ومرهفة الأحاسيس ولكنها كانت مخطئة الى حد كبير . فهيلين قصيرة القامة ، مثلها تقريبا ولكنها ممتلئة الجسم بشكل واضح ، وكانت ترتدي ثيابا صيفية تظهر الجسم المترهل على حقيقته . رحب بها دايمون بشكل عابر. إلا أنه كان واضحا أن عينيها تبحثان بعصبية وتبرم عن الإمرأة الأخرى. ولما وقع نظرها على إيما النحيلة والجذابة، عضت على شفتيها بإنزعاج ووجهت الى كريس نظرة قاتلة. وقالت إيما لنفسها أن كريس ربما أخبر زوجته عن ممرضة عانس في أواخر الأربعينات من عمرها ، آملا في ألا تلتقي بها أبدا. وهذا هو كريس، وهذا هو أسلوبه ! تم التعارف بسرعة وإيجاز...وفي هذه الأثناء كانت أنابيل صامتة لا تتفوه بكلمة واحدة. وعرفت إيما السبب عندما شاهدت هيلين تقترب منها بعد بضع دقائق وتقول لها : " مرحبا يا حبيبتي. كيف حالك ؟ هل تشعرين أنك أفضل قليلا هذا اليوم ؟ من المؤكد أن هذا الهواء النقي سيساعدك كثيرا ". تنهدت أنابيل وردت قائلة : "إنني مرتاحة ومسرورة جدا ، يا هيلين . شكرا !". ثم أضافت بإبتهاج متعمد : " لم أشعر في أي يوم مضى بأفضل مما أشعر به اليوم ". علقت هيلين على كلامها بمكر وخبث واضحين : " إنك حقا فتاة شجاعة...تأتين في رحلة بحرية كهذه وأنت لا تبصرين أو تعرفين السباحة ". شعرت إيما بإنزعاج وإنقباض شديدين ، فتدخلت قائلة : " أنابيل تسبح جيدا . أنا علمتها " . نظرت اليها هيلين ببرودة وقالت : " هل فعلت ذلك حقا؟ كنت أتصور أنك ممرضتا لا رفيقتها أو مدربتها ". " أنابيل وأنا صديقتان حميمتان. إننا نستمتع جدا برفقة بعضنا وبما أنني أحب السباحة، فقد شعرت بأنها ترغب بذلك وسرني جدا أنني دربتها ونجحنا " . " ولكن ألا تعتقدين ان السباحة هواية خطرة بالنسبة الى فتاة صغيرة عمياء ؟". وسمعت إيما صوتا وراءها يجيب قبلها : " أعتقد أن إيما تعرف أكثر منك يا هيلين في هذا المجال " . انه دايمون ...وقد هب للدفاع عنها . إنها لا تصدق أذنيها. ولكن هيلين لم تستسلم ، إذ قالت لدايمون بإستغراب مصطنع : " أوه ، دايمون ! إنك نادرا ما تأتي الى سانت دومينيك، ولذا أشك كثيرا في أنك تعرف مشاعر الطفلة على حقيقتها" . وجلس دايمون قربهن ولمست ركبته ذراع إيما فأحست بموجات كالصدمة الكهربائية تسري في عروقها وعظامها. أبعدت ذراعها بسرعة وبطريقة لا تلفت النظر. وسمعت دايمون يرد على تلك الملاحظة القاسية قائلا : " ربما لا أعرف. ولكنني إذا كنت أعرف قليلا، فأنت تعرفين أقل. وعليه ، أرجو ألا ندخل في جدال عقيم في يوم جميل كهذا. إنني مسرور يا هيلين لأنك قررت الإنضمام الينا ، فالتغيير يفيدك كثيرا" أرسى دايمون اليخت خلال فترة الغداء قرب شاطئ أحد الخلجان الصغيرة، حيث توجد صخرة ضخمة ترتفع عن سطح الماء عشرات الأمتار، وفيما كانت إيما تتطلع بإعجاب الى تلك الصخرة العملاقة ،إقترب منها كريس وتحدث معها للمرة الأولى ذلك اليوم : "يسمونها حجر مينرفا، إنها شكل مثير للدهشة والإعجاب، أليس كذلك ؟ وهي أيضا مركز رائع ومغر للقفز الى الماء". ردت بإستغراب واضح متساءلة : " هل يقفز أحد فعلا من هذا العلو الشاهق ؟ ." " بعض الأشخاص ، نفر قليل طبعاً. وأعترف بأنني لست منهم ". وأرغمها على النظر اليه عندما سألها كطفل مذنب : " هل غفرت لي ؟ ". إبتسمت إيما إبتسامة خفيفة وقالت : " يجب ألا أغفر لك ابدا !". " ولكنك غفرت". " أوه ، أعتقد ذلك . هل أنت متزوج منذ فترة طويلة؟ ". " منذ عشر سنوات ، كنت آنذاك في العشرين بينما كانت هي في الخامسة والعشرين ". " أوه !". إستدار كريس الى الجهة الأخرى ونظر أليها بعينين مداعبتين وهو يقول لها : " بعد الغداء سيذهب دايمون وبول للغوص تحت الماء، فما رأيك أن ننضم اليهما !". إرتجف جسمها وقالت له : " الغوص ليس من هواياتي المفضلة. ثم ، علي الإهتمام بأنابيل". " أنابيل ترتاح عادة بعد الغداء ، وأنا سأعلمك على الغوص". " لا أعرف ...". وترددت، إنها ترغب في تعلم الغوص تحت الماء ولكنها تخشى مرافقة كريس. هيلين تراقبهما بعينين كعيني الصقر....وقد تظن أنها سارقة أزواج ! وفي تلك اللحظة وصل دايمون وسألهما : " هناك كميات كبيرة من المأكولات والمرطبات في القمرة . هل تريدان تناول الغداء هنا ؟ " . وعرفت إيما أنه لا يوجه الحديث اليها مع أنه إستخدم صفة المثنى تأدبا أحنت رأسها قليلا كي تتجنب نظراته، فسمعت كريس يقول بلهفة: "أوه ،دايمون، شكرا .الغداء هنا أفضل سأذهب حالا لإحضار الطعام ". وفور ذهابه ،سألها دايمون بصوت منخفض وآمر : ؟". ماذا كان كريس يقول لك قبل لحظات "إنه...طلب....طلب مني مرافقته للغوص تحت الماء، عندما تكون أنابيل مرتاحة بعد الغداء". وإحمرت وجنتاها وهي تضيف بحياء: " لا تقلق ! لم أوافق على طلبه. أعتقد انك لا تريدني أن أذهب معه ،وهذا أمر يناسبني تماما ". " اللعنة ! إن لديك حقا اعصابا فولاذية ! إسمعي يا إيما ، إياك أن تعامليني كطالب مراهق لا يفهم شيئا!". ثم نظر نحو حجر مينرفا وسألها: " هل تعرفين الغوص تحت الماء ؟ " . ." لا " ونظرت الى ناحية أخرى فأمسك كتفها بقوة وأدارها نحوه ، ثم سألها: " وهل تريدين التدرب على ذلك ؟ " . تنهدت إيما وسألته بهدوء: " وماذا تظن ؟ " . " حسنا . أنا سأعلمك بنفسي يمكنك أن تقولي ذلك لإبن العم عندما يسألك مرة أخرى". لم تكن إيما جائعة أثناء الغداء، فأفكارها منشغلة بالفترة التي ستمضيها مع دايمون في وقت لاحق. الفكرة مثيرة...ولكن أعصابها أصبحت مشدودة كأوتار العود. ألهت نفسها قليلا بتأمل السماء والبحر حتى إنتهى الجميع من تناول غدائهم. وعندئذ أخذت أنابيل إلى السرير المخصص لها، ثم عادت لتنضم الى الآخرين. ولما أعربت هيلين عن رغبتها في البقاء على ظهر اليخت نزلت إيما والرجال الثلاثة الى الزورق الصغير الذي نقلهم الى الشاطئ الرملي الجميل. خلع الرجال قمصانهم وسراويلهم التي يرتدونها فوق ثياب السباحة. إستجمعت إيما شجاعتها وقوة إرادتها وقامت بخطوة مماثلة كشفت عن جسم جميل تغطي مفاتنه قطعتان صغيرتان، وتجاهلت إيما نظرات الاعجاب والرغبة التي رمقهما بها بول وكريس. أحضر الرجال الأجهزة اللازمة من الزورق. وخلال لحظات ، كان كريس وبول قد أعدا نفسيهما وركضا نحو الماء. وبعد بضعة أمتار ، رفعا رأسيهما قليلا وإندفعا بقوة نحو القاع ليختفيا عن الأنظار بسرعة مذهلة. نظر دايمون الى وجه إيما المشدوه وقال لها وهو يبتسم نصف ابتسامة: "عملية سهلة ، أليس كذلك ؟ إنها في الحقيقة ليست صعبة على الإطلاق ، ما دمت لا تنزلين الى عمق كبير. تعالي لأساعدك في حمل القارورة". كانت إيما ترتجف وهي تضع قدميها في إثنتين من الزعانف المطاطية التي تساعد السابح على التحرك بسرعة أكبر. سألها دايمون وهو مقطب الحاجبين: "هل تشعرين ببرد ؟اذا كان الأمر كذلك ، فالأفضل ألا تنزلي الى الماء". "إنني لا أشعر بالبرد ، ولكنني خائفة قليلاً ". "! انت معي " . "! و ان يكن ". " لن أدعك تغرقين نفسك ،إن كان هذا ما يقلقك ويخيفك ". وقفت إيما بصعوبة نظرا لإستخدامها الزعانف المطاطية للمرة الأولى وأخدت تتأمله لحين إنتهائه من إعداد نفسه ، فيما أحست بأن أنزعاجها الناجم عن شعورها بقربه منها وإنفراده بها يتزايد بسرعة وبإستمرار. إنها لم تره في ثياب البحر من قبل. وتساءلت بصمت كيف سيكون تفكيره ورد فعله لو عرف مدى رغبتها في ضمه اليها بقوة وحنان . إحتقرها وأذلها لأنه أعتقد بأنها لا تبالي كثيرا بوجوده ولا تشعر بشيء نحوه . وسألت نفسها بأسى عما إذا كان يحق له أن يشعر إتجاهها بمثل هذا الغضب وهو الذي سارع الى الزواج من أليزابيت بمجرد إنفصالهما عن بعضهما! ولما أصبحا جاهزين ، إلتف نحوها وسألها: " حسنا ، هل أنت مستعدة ؟ " . " كأفضل ما يكون عليه الاستعداد ". بعد فترة قصيرة من نزولهما الى الماء ، شعرت إيما بأنه لم يكن أي داع على الإطلاق للخوف والقلق. فالعملية كانت سهلة جدا وقد فتحت لها افاقا جديدة ممتعة . إنه عالم آخر من الجمال والروعة.... ظلت إيما على هذا النحو بعض الوقت . وعندما أحست بأن رجليها تعبتا، خشيت ان تتشنجا وتتوقفا عن الحركة ، فسارعت الى الشاطئ حيث وضعت عدة الغوص واستلقت قربها على الرمال الدافئة وهي مغمضة العينين . تبين لها عندما فتحت عينيها انها نامت فترة من الزمن. فقد كان دايمون جالسا قربها يشد سدادة قارورة الاوكسجين، فيما كان بول وكريس يقفزان الى الماء من على صخرة تعلو حوالى عشرة أمتار بعد ان احضرا أجهزتهما الى الشاطئ، أتكات على مرفقيها وسألت دايمون بلهفة : " هل مر وقت طويل وانا نائمة ؟ " نظر اليها وأجابها بهدوء : " حوالى ربع او ثلث ساعة لا غير. أعتقد أنك كنت مرهقة ، فالانسان يحتاج الى بعض الوقت قبل ان يعتاد على الغوص والبقاء طويلاً تحت الماء " . ثم ابعد القارورة الفارغة وسألها : " هل تريدين سيكارة ؟ " . هزت برأسها وأجابت : " نعم ، شكراً " . وأدهشها انه اشعل السيكارة بنفسه قبل ان يعطيها أياها. أخدتها منه مكررة شكرها ثم سألته : " كم الساعة الآن ؟ " . "بعد الثالثة بقليل . ارتاحي ! اذا استيقظت انابيل ، فبإمكان هيلين الاهتمام بها قليلا " . ثم ابتسم واضاف قائلا : "أعتقد أنه لم تكن لديك أوقات فراغ معقولة منذ وصولك حتى الآن " . " لدي كل مساء " . " نعم ، ولكن أمسياتك هي لك اصلا ولا يمكن اعتبارها أوقات فراغ . أعني ان كل موظف يحق له يوم واحد على الأقل كاجازة اسبوعية " " حسنا . أنا أشكرك " . سحبت ايما رجليها وطوقت ركبتيها بذراعيها ثم وضعت رأسها فوقهما وأغمضت عينيها ، اما دايمون فقد إستلقى على ظهره وسألها فجأة : " أخبريني يا إيما ! لماذا بالضبط قطعت علاقتنا ؟ " . صعقت بسؤاله المفاجئ وغير المتوقع . لم تكن مستعدة لسؤال كهذا ، فاجابته بتوتر ملحوظ : " أنت تعرف السبب " . " دعيني أصحح كلامك . أنا أعرف ماذا قلت لي انت ....بأن شخصا تبين لك فجأة انذاك ، أنكما تحبان بعضكما " . احست إيما بأن جسمها كله ، وليس وجهها فقط ،احمر خجلا ،ترددت لحظة ثم قالت له : " هل من الضروري ان نبحث الموضوع الآن ؟ اعني ان وقتا طويلا...." . وتمنت لو أن بإمكانها رؤية عينيه وقراءة تعابيرهما. وأحست بشكل قاطع انه تعمد وضع نظارتيه البنيتين على عينيه كي يصبح في موقف متميز . وسمعته يتمتم بلهجة ساخرة : " نعم ، أعتقد ذلك . فأنا...أنا هو الشخص الذي نكثت بعهدك له ونبذته كخرقة بالية " . " اوه ، توقف ! توقف ! كنت مستاء وحزينا جدا لدرجة انك سارعت للزواج من اليزابيت كينغزفورد ولم يمض على انفصالنا سوى عشرة أسابيع ! " . ويبدو انها اصابت وترا حساسا للغاية . فانتزع نظارتيه بعصبية فائقة وحدق بها بعينين باردتين غاضبتين تقدحان نارا وقال لها بحدة وعنف : " اريد الحقيقة يا إيما ، وأقسم لك بأنني انوي فعلا التوصل اليها ! ". " لا أعرف ماذا تعني " . الا ان محاولتها لصم اذنيها عن سماع كلماته باءت بالفشل ، اذ جاءت كلماته التالية تحمل بين طياتها سخرية باردة اسوء من اي غضب عارم : " نعم ، تعرفين . لم يكن هناك اي رجل آخر ، اليس هذا صحيحا؟ وحتى لو كان ثمة رجل في حياتك ، فأين هو ؟ لا يا إيما، لم يكن هناك أحد ،ولكنك انت اعدت النظر في الموضوع. كنت في الثمانية عشرة بينما كنت أنا في السابعة والثلاثين ، أي ما يزيد على ضعف عمرك ! لم تعترفي بأنك كنت تعتبريني عجوزا بالنسبة اليك ؟ في عمر والدك تقريبا ؟ " . " لا ! " . خرجت تلك الكلمة من فمها كسهم محترق وحدقت به بعينين زائغتين معذبتين وهي تتمتم بعصبية بالغة : لا ،لا ، لا ! هذا ليس صحيحا ابدا"." نظر اليها دايمون بعينين مشككتين ، فأبعدت وجهها عنه بتألم وانكسار . انه لن يصدقها على الاطلاق ! وشاهدت كريس وبول يقتربان منهما وهما يلوحان بأيديهما فشعرت بالارتياح ، اذ ان وجودهما سيحول على الأقل دون استمرار هذا الحوار المزعج ، ولما سألها بول ان كانت تريد السباحة معه ، قفزت بسرعة شاكرة له دعوته وركضت أمامه نحو الماء . كانت السباحة منعشة جدا لها ، وعوض سرور بول الواضح برفقتها عن غضب دايمون وتصرفه العنيف معها ، وأخدها بول الى المكان الذي صعد منه وكريس الى حافة صغيرة ثم الى ما يشبه درجا صخريا يقود الى فسحة في تلك الصخرة العملاقة كانا يقفزان منها قبل قليل. وسألها بول متشككا : "هل يمكنك الغطس من هناك ؟ لا تحاولي الا اذا كنت متأكدة من قدرتك على ذلك " . ثم أبتسم بتحد وأضاف قائلا : " يمكنك أنتظاري هنا " . " اوه ، لا ! لا أريد الانتظار. لقد غطست عدة مرات في حياتي ، وانا متأكدة من انني سأكون بخير " . " حسناً " . ابتسم بول وشد على يدها ثم سالها : " هل تعرفين ان دايمون كان يقفز من قمة الصخرة عندما كان بالطبع أصغر سنا؟ " . نظرت ايما الى القمة وهي تهز برأسها غير مصدقة ، فإن العلو شاهق جدا . و سألته بجدية : " أليس ذلك خطراً ؟ " . " ليس الى الحد الذي تتصورين ، وخاصة مع خبراء القفز. الا ان الخطر يكمن اثناء القفزة نفسها بحيث يضطر الانسان للمحافظة على توازنه ، فاذا اختل التوازن ، يمكن للانسان ان يكسر ظهره ...او يدق عنقه ! " . بلعت ايما ريقها بصعوبة . فتصورها لدايمون وهو مصاب بجروح بليغة ومميتة او بشكل دائم ، لهو امر رهيب ومروع . ثم بدأت تصعد مع بول الى تلك المنصة الحجرية الطبيعة للانقضاض منها الى سطح الماء . وبعد حوال نصف ساعة ، انضم اليهما كريس فيما توجه دايمون بزورقه الى اليخت واحضر انابيل وهي ترتدي ثياب السباحة . ولعب الجميع على الشاطئ ، وسبحوا . وكانت انابيل تختال كالطاووس بعد كل مرة تسبح فيها لبضع دقائق ، وبعد فترة من الزمن ، عادوا جميعا الى أنابيللا حيث تناولوا بعض المرطبات ورجعوا الى كاترين وسانت دومينيك . وفي طريق العودة، جلست هيلين بين ايما وانابيل وسألت الكبيرة منهما : " كيف حصلت على هذه الوظيفة يا آنسة هاردينغ ؟ هل انت ممرضة أطفال ؟ " . هزت ايما رأسها واجابت بهدوء : " لا . كنت ممرضة في احد مستشفيات لندن، ولكن تمضية بضعة اشهر في جزر البهاما كانت فرصة ذهبية لم ارد تفويتها". وقالت ايما لنفسها ان الوضع الحقيقي تغير بصورة جذرية ، فبينما كانت مسألة استخدامها في البداية امرا مؤلما ومذلا للغاية ، اصبحت مهمتها الآن ممتعة الى حد كبير ...على الرغم من بعض المواجهات العنيفة مع دايمون . وشعرت بأنها اصبحت تفضل البقاء في البهاما اكثر من لندن ، ولكن دايمون فقط يظل ذكريات من الماضي تداعب قلبها وعواطفها وسمعت هيلين تسالها بحشرية واضحة : " اذن ، كيف اختارك دايمون لهذه المهمة ؟ " . "انا ....انا تقدمت اليها عندما قرأت اعلانا عنها " . " هل اعلن عنها ؟ هذا امر غير مألوف بالنسبة الى دايمون . فهو يطلب عادة من أحدى الشركات او الوكالات المتخصصة استخدام موظفيه " . احمر وجه ايما واضطرت للمضي في كذبتها البيضاء ، فقالت : " في هذه الحالة اعلن عن الوظيفة مباشرة " .
9 - السـارقـة !
خصص دايمون الأيام القليلة التالية بكاملها لأنابيل . وشعرت إيما بأنها كشخص إضافي لا ضرورة له ، لأن دايمون تولّى جميع المهام التي كانت تقوم بها . وتمكنت إيما من البقاء وراء الكواليس طوال هذه الفترة ، إلا أنها لم تعزل نفسها تماما عن الآخرين . فقد أخدها بول الى ناسو بعد ظهر أحد الأيام ، وكانت رحلتهما ستطول الى ما بعد العشاء لولا انها اصرّت على العودة لأن أنابيل قد تكون بحاجة اليها . أما السبب الأساسي لرفضها فهو احساسها بأن بول يريد علاقة أوثق من مجرد الصداقة العادية . ومع انه يعجبها كثيرا لكن لم يكن لديها اي اهتمام شخصي به ، ولا تريد بالتالي التصرف عكس ذلك . استلمت رسالة من شقيقها جوني أزعجتها قليلا، فهو يجد صعوبة على مايبدو في التأقلم مع وضعه الجديد وفي رعاية أموره الحياتية. وقارنت ايما بين حياتها في لندن وتلك في سانت دومينيك ، فبدت الاولى باردة وتتركز بمعظمها على عملها في المستشفى . وفي صباح مبكر ، بعد ثلاثة أيام ، غادر دايمون وبول الجزيرة بالطائرة المروحية .وعلمت من تانزي اتهما توجها الى الولايات المتحدة لاكمال صفقة هامة هناك . بعد ذهابه ، تغير كل شيء. مجرد وجوده في البيت أضفى نوعا من الحيوية والنشاط الى الاعمال اليومية المعتادة . أما الآن فان المكان يبدو خالياً ...مهجورا. تأثرت انابيل لسفر والدها ولكنها كانت في الوقت ذاته مسرورة جداً لأنه اظهر مثل هذا الاهتمام الفائق بها خلال الأيام القليلة الماضية . سبح معها ، لعب معها ، قرأ لها ، واخبرها قصصا وطرائف مسلية . ووجدت ايما صعوبة في تغطية الفراغ الكبير الذي خلفه رحيله ، مع ان انابيل أصبحت تحبها وتتعلق بها الى حد كبير . بعد أسبوع من ذهاب دايمون ، تسلّمت ايما وانابيل دعوة لتمضية فترة ما بعد الظهر في سانت كاترين . دمدمت انابيل وتذمرت عندما أبلغتها ايما بأن عليهما قبول الدعوة ، ولكنها وافقت بتردد في نهاية الامر وتوجهتا بالزورق السريع الى الجزيرة المجاورة . لم يكن منزل هيلين كما توقعته ايما على الاطلاق . فالنظافة بعيدة عنه كل البعد، وكأن احدا لا يراقب الخدم او يشرف على عملهم. كما تنتشر في غرفة الاستقبال ، هنا وهناك ، اعداد كبيرة من الكتب والصحف والمجلات . وقد اخفى كريس نفسه على ما يبدو في غرفة مكتبه ، حيث كانت ايما تسمع صوت الآلة الكاتبة بوضوح . وحاولت هيلين جاهدة ان تظهر الود والدماثة إتجاه ضيفتها ، الا ان ايما شعرت بان مضيفتها كسولة جدا اذ تترك بيتها ونفسها على تلك الحالة المزرية . فثيابها ليست مرتبة ابدا وشعرها على ما يبدو لم يغسل منذ عدة أيام . وكانت هيلين تحيك باستمرار كما فعلت معظم الوقت خلال الرحلة البحرية . وبعد ساعتين تقريبا احسّت الضيفتان بالارتياح الشديد لأن الوقت قد حان لعودتهما الى سانت دومينيك . وتمنت ايما الا تضطر لتكرار هذه الزيارة ابدا. ومضت الايام التالية ببطء وتكاسل ، كانت ايما ترسل خلالها عدة رسائل لاخيها وتستلم منه بين الحين والآخر بعض الاجابات المقتضبة . ولم يكن يشغلها سوى قلقها إتجاهه . وفي سان فرانسيسكو...كان دايمون ثورن يشعر بالانقباض والانزعاج . مضت ثلاثة أسابيع كاملة على عودته الى هذه المدينة الاميركية انهى خلالها الاعمال التي اتى من أجلها. وسوف يتوجه في اليوم التالي وبرفقته بول ريميني الى لندن . الا ان العمل لم يكن سبب انقباضه وضيقه. فعلى الرغم من تركيزه المكثف على اشغاله وأعماله ، الا انه لم يتمكن من طرد ايما هاردينغ من أفكاره. وأصبح عصبي المزاج يثور لأدنى سبب . حتى ان بول لم يعد قادرا على التصرف معه الا بهدوء وحذر بالغين . كان يمضي معظم أمسياته في تلبية دعوات الى العشاء والسهرة من زملائه واصدقائه الذين يريدون لقاءه أثناء وجوده في المدينة. ومع أنه كان مهدبا ولطيفا ودمثا مع الآخرين . الا انه ينقلب الى انسان آخر عندما يكون بمفرده . كان حزينا ومنقبضا، ويعرف ان بول لن يقدر على تفهم السبب الحقيقي لذلك .اندفع اكثر من مرة ليبلغ صديقه ومساعده المخلص عن علاقته السابقة بايما، ويكشف له بالتالي سر تصرفاته الغربية هذه ،ولكن دايمون ثورن ليس ذلك الرجل الذي يسعى الى إشفاق أحد...وخاصة عندما يشعر بأنه يتصرف برعونة وغباء . وشتم نفسه بغضب وهو يمشي بعصبية في غرفته بفندق رويال باي. لماذا يصر عقله على محاولة إيجاد سبب لتخلي ايما عنه قبل سبع سنوات ؟ لماذا لا يمكنه أن يقبل بما قالت له ؟ ولكن نقاطا كثيرة توقف عنده عقله العلمي والمنطقي مرات ومرات . فعندما أعلنت عن رغبتها في فك الخطبة ،شعر بأذية وسخط شديدين لدرجة انه عين تحريا خاصا لمراقبة تحركاتها والإبلاغ عنها ساعة فساعة. وإكتشف آنذاك أن لا وجود لأي رجل آخر في حياتها ، بالرغم من اصرارها الشديد على ذلك . وتأثر جدا عندما إفترض بأن أسباب إنسحابها تعود اليه وحده....الى سنه، مظهره، شخصيته .... وزاد أحتقاره لنفسه. فالآن ، وبعد تصرفاتها تلك معه ، لا يزال يشعر برغبة قوية إتجاهها . وتذكرها قربه على الرمال أمام حجر مينرفا فثارت مشاعره المتناقضة ، أشعل سيكارا وجلس في مقعده قريب من النافذة ، سمع طرقة خفيفة على الباب ، فقال بشيء من العصبية : " ادخل ! ". دخل بول وأغلق الباب وراءه ، فيما كانت تعلو وجهه أبتسامة عريضة . أخد علبة سكائره من جيبه وقال : " لديك زائر لا تتوقع حضوره البتة ! " . وأشعل سيكارته ثم أضاف بخبث : " السيدة تساي بن لونغ ! ". " انك تمزح ! ". " آسف ، ولكني لا أمزح. كنت اشتري علبة سكائر عندما اقتربت مني وسألتني عما إذا كنت ستمضي بعض الوقت في المدينة. فأخبرتها بالطبع اننا متوجهان غداًصباحا الى لندن " . " طبعا ! ثم ماذا ؟ " . " دعتنا لتناول فنجان من الشاي معها " . " اللعنة ! وهل هي في المطعم الآن ؟ ". " نعم ، ومن الأرجح انها ستظل هنال الى ان ننضم اليها". وقف دايمون بحدة وقال : " هذا آخر شيء أريده الآن . كنت أريد تناول الطعام " . هز بول كتفيه واقترح عليه ان يطلب طعامه الى الغرفة. ثم أضاف قائلا : " قد أشاركك الطعام هنا " . " لست في مزاج لمثل هذه الحفلات الانفرادية . أريد ان اكون بين الناس ، فوجودي وحدي يضايقني ويحزنني " . " حقا، يا دايمون ! انك تتصرف بطريقة غريبة منذ مغادرتنا الجزيرة ! " . " ليست هناك مشكلة على الاطلاق " . قالها بلهجة مشجعة وهو يتظاهر بالابتسام . ثم أضاف : " هيا يا بول ، لننزل الى القاعة الرئيسية . هناك كثيرات من اللواتي تعرّفت عليهن في حياتي أسوأ من هذه الانسانة بمكان " . تنهد بول وهو يشعر بالفشل مرة اخرى من اختراق ذلك القناع غير المرئي الذي يرتديه دايمون على وجهه . ثم توجّه الى غرفته وارتدى سترة، وزين عنقه بربطة جميلة ، قبل ان يعود الى غرفة دايمون للنزول معا الى بهو الفندق . كان المطعم يعج بالناس، الا ان السيدة الصينية كانت على ما يبدو ترقب وصولهما . فبمجرد دخولهما انضمّت اليهما مبتسمة وقالت : " آه، سيد ثورن ! انني في غاية السرور لأنك تمكنت من الحضور " . وما ان تمتم دايمون بجواب مهذب ، حتى سارت أمامهما الى ركن منعزل في القاعة الضخمة التي تنيرها اضواء ساطعة. وفيما كانوا يطلبون ما يريدون، اخدت تساي تتأمل دايمون بهدوء وتمعن . كانت تبدو عليها ملامح انقباض وعصبية لم يلحظها دايمون من قبل....كانت تتحدّث بشيء من القلق والترقب وكأنها تبحث عن شيء ما ، او شخص ما وسألته : " هل تأتي كثيرا الى سان فرانسيسكو يا سيد ثورن ؟ " . هزّ دايمون كتفيه مرّة أخرى وأجابها بهدوء : " هذا يعتمد على عدّة أمور.فعندما تكون لدي أعمال كثيرة أظل هنا أحيانا عدة أسابيع ،بينما في أوقات أخرى لا أمضي سوى ليلة واحدة " . " وهل تذهب مرارا الى لندن ؟ ". ضاقت عيناه قليلا وهو يحاول تحليل الاسباب التي تدفعها للاهتمام بتحركاته وتنقلاته ،فيما لا تقبل ابدا الرد على أسئلة تتعلق بها شخصيا .ردّ عليها بدون ان ينظر اليها : " أمضي أحيانا بعض الوقت في لندن " . تدخل بول وسألها : " وماذا عنك أنت ؟ هل تنوين البقاء طويلا في سان فرانسيسكو ؟ " . هزّت برأسها وهي تجيب بهدوء مصطنع : " ربما ، وربما لا . هذا يعتمد على ما اذا كانوا سيسمحون لي بذلك او يرفضون " . أجابها بول بشهامة كاذبة وهو ينظر اليها محاولا أخفاء سخريته : " أنا متأكد من ان لا أحد يمكنه الاعتراض على بقاء سيدة جميلة مثلك " . " اوه ، شكرا لك يا سيد ريميني ، فهذا كلام لطيف ومشجع . ولكني آسفة جدا لان المسؤولين في مكتب الهجرة لا يعيرون اي أهتمام للمظاهر والاشكال " . علق دايمون ببرودة : " يمكن للمظاهر ان تكون غشاشة جدا". أجابته تساي بن لونغ بجدية : " أنها العيون على ما أعتقد. اذ يمكن للانسان الذكي ان يكتشف عدة امور بمجرد النظر الى عيون الآخرين". أخرج دايمون علبة سكائره وهو يقول لها : " واذا كان الانسان أعمى ، فماذا يفعل ؟ ". " انت لست أعمى يا سيد ثورن ! " . فتح علبته وقدمها لها وهو يجيبها : "صحيح . وهل قلت ذلك ؟ ". شربت جرعة من الشاي وهزّت برأسها، ثم أخدت سيكارة ووضعتها بين أصابعها بعصبية . ولما أنتبه الى انها لا تزال تنتظر منه ان يشعل لها سيكارتها، اخرج قداحته بسرعة فوقعت من يده . نظر اليها وهو يعتذر منها ، فشاهد مسحة من الرعب تعلو وجهها. كانت نظراتها تتركز على مكان ما وراءه ، ولكنه عندما استدار بسرعة الى الوراء لم يشاهد شيئا ملفتاً للنظر. تطلّع فيها مرة أخرى ثم نظر الى بول الذي بدا انه لم يلاحظ شيئا على الاطلاق ، اذ كان غارقا في حديث عن كرة القدم مع رجل يجلس بجوارهم . عبس دايمون ثم تذكر قداحته فانحنى لالتقاطها . أوقفته السيدة الصينية قائلة وهي تنحني لاستعادة القداحة : " اسمح لي ! ". تطلع دايمون حوله مرة اخرى بعد ان اشعرته حاسته السادسة بوجود شخص يراقبه...او يراقبها ،انه لأمر سخيف! ولكنّ شخصا ما في هذا البحر من الرجال والنساء أخاف الفتاة . لماذا ؟ من هناك في هذه المدينة يمكن له ان يخيفها ويرعبها على هذا النحو الواضح ؟ وفجأة، سمعها تقول له وهي تهم بالوقوف : " اعدرني ! لن أتاخر لحظة ! أريد الاطمئنان الى تسريحتي ! ". وقف دايمون احتراما ثم عاد للجلوس ...والتفكير.ماذا يهمه منها ومما تفعله؟ سأل نفسه مغتاظا وغاضبا.الا ان الجواب جاءه بسرعة وبدون تردد. فمع انه غير مهتم بها الا ان خوفها بدأ يقلقه ويزعجه. انها انسانة مستضعفة على ما يبدو ، وهو بطبيعته يحترم الانسان. وقرر ان يدعوها الى العشاء بمجرد عودتها،فلربما عندئد ستخبره بما يرعبها ويقض مضجعها . اخد سيكارة واراد أشعالها ، الا انه لم يجد القداحة . اللعنة! لقد أخدتها تساي بن لونغ بعد ان تبرعت بالتقاطها عن الارض. وتطلع حوله بعصبية بالغة محاولا مرة أخرى تحليل تلك الفتاة الغامضة ، وشخصيتها ، ودوافعها . قداحته ذات قيمة كبيرة أهداه والداه عندما احتفل ببلوغه سن النضوج ...الحادية والعشرين . ومع انها قداحة ذهبية حفر عليها الحرف الاول من اسمه ورصع بالجواهر الثمينة ، الا ان قيمتها المعنوية تفوق بكثير القيمة المادية .الم تكن تساي سوى لصة تستخدم أسلوبا جديدا في السرقة ؟ وان كانت كذلك، فلماذا لم تحاول سرقته من قبل ؟ " بول ، أشعل لي سيكارتي من فضلك ! ". " أين رفيقتك الجميلة ؟ ". " في غرفة السيدات ، على ما أعتقد ". " وماذا حدث لقداحتك ؟ هل فرغت من الغاز ؟ " . هزّ دايمون رأسه ، ثم اومأ الى نادل وطلب منه ابريقا آخر من الشاي . بدأ الغضب يتسلل بسرعة وقوة الى رأس دايمون وأعصابه ولم يعد يشعر برغبة في اجراء حديث عادي وثرثرة لا فائدة منها . وراح يتأمل وجوه السيدات عله يرى بينها وجه زائرته الغامضة . وعندما مرت ربع ساعة على غيابها ، نظر الى بول غاضبا وقال : "سأتمشى الى الخارج . سوف أعود بعد قليل " . " مهلا يا دايون ! ماذا دهاك ؟ لم أعرف انها تهمك الى هذه الدرجة ! " . " انني لست مهتما بها شخصيا. لقد اخدت قداحتي ! ". " سأذهب معك " . " لا داعي لذلك ". " أعرف ، ومع ذلك فسوف اذهب ". توجّها بسرعة الى بهو الفندق حيث توجد غرفة السيدات قرب الدرج الذي لم يعد يستخدم الا نادرا بسبب وجود المصاعد. وكان عدد كبير من السيدات يدخل تلك الغرفة ويخرج منها ، الا انهما لم يشاهدا تساي بن لونغ . " انه لأمر مؤسف حقا!". قالها دايمون وهو يسيطر على غضبه بطريقة تثير الاعجاب. مع ان نبرة صوته كانت توحي بان هذه السيدة اللعينة لن تكون مسرورة ابدا اذا وقع نظره عليها مرة اخرى . عبس بول وقال بتأثر : " لم يكن يظهر عليها ابدا انها من هذا النوع من النساء. كنت اظن انها انسانة محببة ودمثة " . وعاد دايمون الى التحليل وايجاد التفسيرات المنطقية ، ثم احس بيد تربت بتهذيب على كتفه . التفت الى الوراء فشاهد مدير الفندق يبتسم ويقول له : "عفوا سيد ثورن ! اوصتني سيدة قبل قليل باعطائك هذه القداحة . انها لك ، اليس كذلك ؟ ". ارتفع حاجباه استغرابا وقال له بدهشة وحيرة : " نعم انها لي . أين السيدة ؟ هل تركت الفندق ؟ " . " اعتقد ذلك يا سيدي . اصرّت عليّ كي اتأكد من تسلميك القداحة شخصيا والاعتذار لك عن ذهابها بها بتلك الطريقة ! ". هزّ دايمون رأسه وقال له فيما كان يأخد القداحة من يده : " حسنا ! شكرا، شكرا جزيلا ". وفي وقت لاحق من تلك الليلة ، وفيما كان مستلقيا على فراشه مغمض العينين استعدادا للنوم ، عاد به التفكير مجددا الى ايما. وانتبه الى ان حادثة المساء خففت الكثير من الضجر والملل اللذين سيطرا عليه فترة طويلة . وشعر بأنّ وجود تلك الفتاة الصينية الجميلة اثبت له مرة أخرى مدى تعلقه بايما . كان يريدها كثيرا، ولم يتمكن في السابق من ضبط مشاعره ورغباته إتجاهها الا لعلمه بانه سيتزوجها....ما الآن فالوضع مختلف جدا.....جدا ! وقد وضعت نفسها، بذهابها الى سانت دومينيك، تحت رحمته وبمتناول يده ! لا يهمه ان جاءت موافقتها على الانتقال الى تلك الجزيرة نتيجة ضغوطه التي وصلت الى درجة الابتزاز والتهديد ! او اذا كانت على استعداد للتضحية بنفسها لأجل شقيقها، فلماذا يهتم او يبالي ؟ وتحول تفكيره فجأة الى تساي بن لونغ وسبب مغادرتها له على ذلك الشكل . لماذا؟ لماذا ذهبت فجأة ولم تعد ؟ ولماذا أخدت القداحة وأصرّت على ان تسلم اليه شخصيا؟ هل لهذه التصرفات الغريبة علاقة بانفعالها وخوفها في مستهل اللقاء ؟ ام انها التقت شخصا آخر تصورت انه سيمنحها سهرة اكثر متعة واشد اثارة؟ ولكن ، ما أهمية كل ذلك الآن ؟ التقت به...أخدت ولاعته...أعادتها...واختفت ! هذا كل ما في الأمر ، فلماذا لا يخلد الآن الى الراحة والنوم ؟ الا ان النوم لا يأتي بمثل هذه السرعة، فعاد به تفكيره الى ايما والى لقائه الاول بها . فتاة في السابعة عشرة من عمرها، صغيرة وجميلة كما لاتزال حتى الان ولكن اكثر حيوية ونضارة. كانت موظفة جديدة في المقر الرئيسي لشركة ثورن للكيماويات بشارع هولند بارك، وكان المبنى صغيرا جداّ بالنسبة الى المجمع العملاق الذي انتقلت اليه الادارة في وقت لاحق،وعدد الموظفين قليلا نسبيا. وبعد ظهر احد الايام، توجه الى المبنى القديم ليشرف على ما يقوم به احد البحاثة في حقل مستحضرات التجميل....وكاد ان يصدم بايما . كانت هي المخطئة ، وأعترفت بذلك صراحة وبدون مورابة او تبرير. وأبتسم دايمون عندما تذكّر مدى غضبه آنذاك، وكيف انها لم تخف منه بل طالبته....بالاعتذار. تذكر بوضوح تام فستانها الأحمر وسترتها القطنية البيضاء....ونظراتها التي كانت تقدح شررا كقطة صغيرة يهاجمها كلب شرس.أعجبته شخصيتها وثقتها بنفسها، مع انه كان متأكدا من انها لم تعرفه...والّا لما كانت تجرؤ على مواجهته بتلك الطريقة . ظل يفكر بها طوال فترة ما بعد الظهر. وكشاب مراهق يقع في الحب للمرة الاولى في حياته، لم يتمكن من طرد صورتها من مخيلته طوال الايام التي تلت ذلك اللقاء العاصف. تأكد له ان عليه رؤيتها مرة ثانية. فاجرى تحقيقات سرية عنها وعن أوضاعها. تبين له ان شقيقها ايضا يعمل في شركته ، فسهلت الأمور بعض الشيء . استدعاه في اليوم التالي وقال له انه أحد رجال الاعمال القلائل الذين يحبون التعرف شخصيا على جميع موظفيهم، وان عليه بالتالي ان يحضر وشقيقته لمقابلته وتناول العشاء معه في احدى غرف جناحه الضخم المخصصة لذلك . لم يفكر او يبالي بالنتائج او المضاعفات ، فهو يريد ان يراها ! . لم تكن ايما من الاشخاص الذين يسهل التعرف اليهم . فما ان عرفت من يكون ،حتى بدأت تتهرب منه ومن الاجتماع به....وبخاصة على انفراد . ومع انه احس بانها معجبة به ، الا انه كان يعرف ايضا انها لن تثق به ولسوف تظلّ تعتبره زير نساء....وتتحاشاه . امضى عدة أشهر قبل ان يتمكن من اقناعها بعكس ذلك . ولما تأكد له انها أصبحت تحبه كما يحبها ، وعقدا خطوبتهما تمهيدا لزواج قريب ، هدمت له برجه العاجي وتركته يتخبط وحيدا وحزينا. لم يصدقها في بادئ الأمر ! رفض ان يصدقها! علاقتهما حميمة جدا مبنية على حب واحترام متبادلين، وكانا على وشك الزواج. رفض التسرع لأن وضعه الاجتماعي لا يسمح له بأن يبدو انسانا انفعاليا وارتجاليا. وكذلك اراد ان تتأقلم ايما الصغيرة الفقيرة مع عالمه الثري النافذ قبل ان تنضم اليه وتصبح جزاءا منه. كيف توقعت منه ان يقبل رفضها بيسر وسهولة ؟ رفض ان يصدق بأنها جادة . ولكنها كانت جادّة...تركته الى غير رجعة! وعاد الغضب اليه وهو يتقلب في سريره. الا انه اقنع نفسه اخيرا بان النقطة الايجابية الوحيدة في ذلك البحر من السلبيات كانت عدم اعلان الخطبة رسميا...والا لكان جعل من نفسه اضحوكة لندن باكملها. لم يعرف بجدية علاقتهما سوى نفر قليل من اصدقائه الخلص. اما الآخرون فظنوا انها مجرد نهاية لمغامرة عاطفية اخرى. واكتشف ان ايما ترد على مستجوبيها عندما يسألونها عن سبب الانفصال ، بان دايمون نبذها بعد ان مل منها. وكانت تلك الاجابات ترضي غروره وكبرياءه الجريحين الغاضبين.... ولكنها كانت تؤلم مشاعره وتثير اشمئزازه من نفسه...... ودفن نفسه تحت وسادته بقوة واصرار ،مركزا تفكيره على أمور اخرى. امضى ليالي كثيرة جدا يعذب نفسه بسبب ايما....اما هذه الليلة فلن تكون كسابقاتها !
10 - رمـال الـعناق !
أمضى دايمون وبول الرحلة بين سان فرانسيسكو ونيويورك غارقين في العمل على أوراق ووثائق يجب اتمامها قبل وصولهما الى لندن. ولم يتمكّن دايمون بالتالي من قراءة الصحف التي أبتاعها في مطاري المدينتين الاميركيتين الابعد اقلاع طائرتهما من مطار كينيدي في نيويورك. كانت عناوين صحف سان فرانسيسكو تتحدّث عن مقتل فتاة صينية بوحشية. قطب جبينه بانقباض ووضع الصحف الأخرى جانبا ثم بدأ يقرأ الخبر بسرعة . تحدث النبأ بايجاز عن فتاة صينية لم تحدد هويتها بعد ، وجدت مقتولة طعنا بالسكاكين، واكتشفت جثتها الملقاة على احد الارصفة دورية لرجال الأمن. ومع ان الخبر لم يحدد المكان ولم تكن هناك اي أشارة توحي بأن القتيلة هي تساي بن لونغ، الا ان دايمون احس بشعور غريب اكد له انها هي الضحية وان هذا كان سبب خوفها ورعبها . أعطى دايمون الصحيفة الى بول وسأله فيما كان يشير الى الخبر : " ما رأيك بهذا ؟ ". قرأ بول النبأ الذي تحدث عن مقتل الفتاة واختتم بسطر واحد يقول أنها ثاني جريمة خلال اربعة أيام تستخدم فيها السكاكين ، وانّ الضحية الأولى رجل في الاربعينيات من عمره يحمل الجنسية البريطانية. كما ان السلطات المحلية تربط بين الجريمتين. ثم نظر الى دايمون باستغراب قائلا : " ماذا تعني ؟ تساي بن لونغ؟ لا، لا. ستكون مصادفة غريبة جدا ! " . " لا أعرف ! كانت خائفة جدا الليلة الماضية. شعرت بذلك قبل اختفائها....ثم...." . تنهّد قليلا واضاف : " اعتقد ان السيف سبق العذل . فحتى لو كانت تساي، لم يعد بامكاني القيام بأي شيء إتجاهها ". أجابه بول بحدّة : " هذا صحيح ، واياك ان تخطر ببالك افكار مجنونة للعودة الى سان فرانسيسكو والتعرف على الجثة. اذا كانت تساي ، فاننا لا نريد التورط في عملية البحث عن القتلة ! " . في تلك الاثناء، كانت ايما مستلقية على الشاطيء قرب انابيل تتصفّح بكسل احدى المجلات الاسبوعية، فيما كانت الصغيرة تلعب بالرمال. كان يوما رائعا كالايام التي سبقته ، وكانت هناك مظلة كبيرة تقيهما حرّ الشمس ولهيبها. ولاحظت ايما ان الايام تمر بدون مصاعب ومشاكل ، وها قد مضى على وجودها في سانت دومينيك شهران كاملان. ومنذ ذهاب دايمون والفتاتان تعملان على توثيق العلاقات بينهما وتقويتها تتحدثان عن مواضيع مختلفة ومتعددة ، ابرزها حياة انابيل منذ حادثتها. ولم تتمكن ايما بالرغم من محاولاتها الجاهدة والمتعددة سبر أعماق الطفلة في فترة ما قبل الحادث. فكلما اثارت الموضوع، تجنبته انابيل بحزم واصرار وحولت انتباه ايما الى امور اخرى . الا ان ايما كانت مصممة على اكتشاف ذلك الجانب الهام من حياة صديقتها الصغيرة، وبخاصة بعد ان لاحظت انابيل تبكي في غرفتها. رفضت انابيل التحدث عن السبب مع ان ايما سمعتها تتمتم بكلمة أمي مرات ومرات. ذهبت ايما الى تانزي لانها الشخص الوحيد الذي يعرف اليزابيت ثورن. وحصلت منها على صورة واضحة تقريبا عن زوجة دايمون الراحلة . قالت لها تانزي بقرف وهي تهز انفها : " أوه ، كانت مخلوقة انانية الى ابعد الحدود ! لم تعر الطفلة اي أهتمام ، ولم تمنحها دقيقة من وقتها الا عندما كانت تريد استخدامها كسيف لايذاء السيد ثورن" . " اين وقع الحادث يا تانزي ؟ " . ردّت عليها تانزي بشيء من التأثر والانفعال : " في ايرلندا يا ابنتي. كان السيد دايمون يملك مكانا رائعا هناك ، الا ان السيدة اليزابيت لم تكن تحبه ، كانت تقول دائما ان ذلك المكان بارد جدا وخال من كل نشاط واثارة. واعتقد انه لم يكن هناك رجال لتسلي نفسها معهم ". اتسعت عينا ايما دهشة واستغرابا، ولما لاحظت تانزي ذلك تابعت روايتها قائلة : " أوه ، نعم ، كان هناك الكثير من الرجال في حياتها ". ارتبكت ايما وقالت : " اعتقد ان علينا ...." . " اوه ، لا تعتقدي ان الامر سر. كانت معلومات عامة يتداولها الجميع ، وكان السيد دايمون على اطلاع تام بما يجري. انا لا أقول انه كان ملاكا بريئا، ولكنه لم يزعج نفسه بان يكون مخلصا لفاسقة مثلها. ولماذا يجب ان يكون ؟ تصوري انها رفضت رعاية الطفلة والاعتناء بها بعد ولادتها، وذهبت الى لندن...للترفيه والتسلية " . " هكذا اذن ! " . وما ان استدارت لتخرج من المطبخ حتى أوقفتها تانزي قائلة : " يعلم الله لماذا عادت الى ايرلندا، مسببة للسيد دايمون آلاما وعذابا بسبب الطفلة. كانت متوجهة الى دبلن عندما وقع الحادث ...كانت دائما مهملة في قيادة السيارات ووقعت لها عدّة حوادث سير صغيرة قبل الحادثة الكبيرة. في اي حال، قتلت في تلك الحادثة وشعر الكثيرون منا بالارتياح والسرور...لأجل السيد دايمون. لم تكن زوجة صالحة او انسانة طيبة ،النتيجة المؤسفة الوحيدة هي أصابة انابيل ومعاناتها منذ ذلك الحين . ولكننا نقول الحمد لله ، انها لا تزال حية ترزق، وانها ورثت الطباع الحميدة عن والدها ولم ترث اي شيء عن تلك الفاجرة التي تسميها امها " . هزّت ايما برأسها وقالت للسيدة العجوز " شكرا ، شرحت لي الكثير من الأمور". : " عظيم . اتركيني الآن لأعود الى عملي ، لدي عشاء للاعداد وقد داهمني الوقت ". وضعت ايما المجلة جانبا ، وأمسكت بيد انابيل ثم سألتها بنعومة : " انابيل ، اخبريني عن ايرلندا " . تشنّجت الفتاة الصغيرة وسحبت يدها بقوة وسرعة وهي تجيب بشيء من العصبية : " لا شيء اعرفه لأخبرك اياه. هل يمكننا ان نسبح الآن يا ايما ؟ " حبيبتي انابيل، يجب ان نتحدث في هذا الموضوع عاجلا ام آجلا ، فلماذا لا نبحثه الآن ! " "لا اريد التحدث عن هذا الموضوع " . " انابيل ، لا يمكنك الاحتفاظ بهذه القضية في داخلك الى الابد . لابد لك من البوح بها يوما ما ، فلماذا لا يكون ذلك الآن؟ من المؤكد انك تذكرين جيدا بيتكم هناك. هل كان والدك يذهب مرارا لرؤيتك؟ من كان يعتني بك ؟ " . ظهر التمرد على وجه انابيل، ثم تنهدت وقالت بهدوء : " نعم ، كان والدي يحضر باستمرار...تانزي تعتني بي...وهناك اولاد آخرون ألعب معهم...كانت حياتنا رائعة" . " وأمك " .. " اليزابيت " . " نعـم " . " هي التي طلبت مني ان أناديها باسمها. لم تكن تحبني ان اناديها أمي . قالت ان هذه التسمية تشعرها بانها اكبر من عمرها " . وابتسمت ايما بارتياح ظاهر. وأخيرا، بدأت انابيل تتحدّث.... وبدون تردد او قيود. وقررت ان تشجعها على المضي في حديثها فسألتها : " هل كنت تريدين منها ان تمضي معك فترة اطول ؟ " . وقفت انابيل وسألت ايما بهدوء متجاهلة كلامها وسؤالها : " هل يمكننا ان نسبح الآن ؟ " . تنهدت ايما ووقفت بدورها وهي تقول : " اعتقد ذلك " أدركت انها ستحتاج الى اكثر من اسبوعين لحمل انابيل على أبلاغها الحقيقة الكاملة عما حدث. وبعد العشاء تلك الليلة ووضع انابيل في فراشها وانتظارها حتى تنام ، ذهبت ايما في نزهة على طول الشاطئ. كان الطقس رائعا والنسيم العليل ينسيها حر النهار. وفجأة تسمرت في مكانها لحظة قبل ان تتذكر ان هذا الشيء الذي أفزعها هو منشفة البحر الكبيرة التي كانت تستعملها وانابيل بعد ظهر ذلك اليوم . وبعد ان حملتها وهّمت بمتابعة سيرها طرأت على رأسها فكرة أعجبتها . فلماذا الانتظار حتى عودتها الى البيت لتأخذ حماما باردا ؟ لماذا لا تسبح الآن ؟ الماء ليست باردة، وفكرة السباحة بمفردها في ضوء القمر لا بأس بها على الاطلاق. هذا الشاطئ بالذات مهجور دائما، فالقرويون يستخدمون الجانب الآخر حيث ترسو القوارب والزوارق . خلعت ثيابها ونزلت الى الماء. لم تسبح بعيدا مخافة الوقوع بمشاكل هي بغنى عنها في مثل وضعها الحالي . شعرت بالارتياح والرضى ، حتى انها اقنعت نفسها بأنها قادرة في غياب دايمون على التخلص من وحدتها التي تشعر بها اثناء وجوده. خرجت من الماء بعد حوالى ربع ساعة ولفت نفسها بالمنشفة وبدأت تجفف جسمها المنتعش والمرتاح . وفجأة....سمعت صوتا وحركة. شدّت المنشفة حولها بقوة وقالت بصوت مرتجف وهي تحدّق في الظلام : " من القادم ؟ " . تقدم نحوها رجل طويل القامة عريض المنكبين ، فصرخت بدهشة واستغراب شديدين : " انت ! متى وصلت ؟ " . هزّ دايمون كتفيه العريضتين واجابها بهدوء : " قبل ربع ساعة. اخبرتني لويزا بمكان وجودك ، وكانت قلقة بسبب تأخرك . قلت لها اني ذاهب لاحضارك " . شدت ايما المنشفة بقوة فبدت على وجهه ملامح الانزعاج وسألها بانفعال : " ماذا ترتدين تحت هذه المنشفة ؟ " . لم تجبه فصرخ قائلا : " بحق السماء يا ايما ، من المؤكد انك لا تسبحين .... هكذا, وحدك ايضاً ؟ " . " ولّم لا ؟ " . " لا ، لا ، لا تقولي ذلك ! " . واقترب منها غاضبا وهو يقول : " يمكن لأي شخص ان يباغتك وانت على هذه الحالة، هل تدركين ذلك ؟ وما هي الفرصة التي ستكون لديك لو هاجمك احدهم وقرر اغتصابك ؟ " . تطلعت به ايما وهي تحاول اخفاء عصبيتها وحدة مزاجها قائلة : " لم يأت احد ، سواك انت بالطبع ! " . " وهل تثقين بي ؟ " . " وهل من سبب يدعوني الى عكس ذلك ؟ " . " نعم ، اللعنة عليك ، نعم ! " . " لماذا ؟ ماذا ستفعل ؟ هل ستنتزع المنشفة عن جسمي ؟ هل سيسرّك ذلك ويرفّه عنك ؟ " . "كانت تتعمد اغضابه واثارة سخطه، اذ ان حنقه كان يثير في نفسها مشاعر استفزازية غريبة . ردّ عليها بجفاف : " لا ، ان مشاهدتك عارية لا يرفّه عني او يسلّيني ". أرغمت ايما نفسها على التذكر بانه يكرهها ويحتقرهها ، وبأن اي شيء يقوله لها يهدف الى ايذائها واذلالها اكثر من اي وقت مضى . استدارت بعيدة عنه وانحنت لتلتقط ثيابها . داست على احد اطراف المنشفة ، فهوت امامه على الرمال . هّبت واقفة بسرعة وتمتمت حانقة : " اعذرني الآن ، يجب ان ارتدي ثيابي " . لم يتحرك من مكانه بل مدّ يديه وامسك بها مانعا اياها من الذهاب . ثم ابتسم بقسوة وسخرية قائلا : " لا ، انني افضلك كما انت الآن " . بدأت دقات قلبها تتسارع وضغط الدم يرتفع ، وحاولت بدون جدوى التخلص من قبضته . بدا انه يتمتع بجهودها الفاشلة ، فزادت حدّة غضبها . ثم ضمّها نحوه بهدوء وقوة. ابعدت وجهها عنه وهي تحتج بكلمتين كادتا تعلقان بحلقها خوفا وانقباضا: " انني مبتلة ! " . شعرت بلهاثه الحار يقترب من عنقها وسمعته يقول بشغف ساخر : " أمر مثير ! " . " دايمون ، أرجوك ! " . سألها باستهزاء وهو يداعب كتفيها : " ارجوك ، ماذا ؟ " . " اتركني ! دعني اذهب ! " . " ولماذا أفعل ذلك ؟ اذا كان يسرني او يسليني أن أكون معك، فلماذا لا أفعل ذلك؟ لاحظت منذ ذهابي أنك لا تزالين تجذبينني ، فأنت مخلوقة جذابة للغاية " . رجته بصوت منخفض قائلة : " دايمون ، لا تكن هكذا ! " . " لماذا ؟ ماذا يمكنك ان تفعلي لمنعي ؟ اذا تركتك الآن ، فما من شيء سيمنعني من اخذك في يوم آخر . اليس كذلك؟ " . استدارت ايما لتنظر اليه وهي غير قادرة على منع تلك الموجة من الحب التي اثارها فيها ، لو لم تعرف قصة اليزابيت، لاعتبرت انها آذته اكثر مما كانت تتصور . وكانت ملامحه تعكس افكارها بوضوح تام ، اذ سمعته يقول : " رباه ! لا تنظري الي هكذا ! " . ثم افلتها من بين يديه واستدار نحو المنزل وهو يشعر بقرف واحتقار ذاتيين. وشعرت ايما بالحزن على افلاتها منه ! لم تعد تهمها ماهية الاسباب التي تحمله على لمسها وضمّها . كل ما تعرفه في هذه اللحظات انها تحتاجه الآن اكثر من اي وقت مضى . والحب الذي شعرت به إتجاهه عندما كانت في السابعة عشرة ازداد بدلا من ان يموت ، كما كانت تأمل وتتمنى . واليوم....انها امرأة...واصبحت تحبه وتريده...كامرأة . " هيا ، ارتدي ملابسك وعودي الى البيت " . " دايمون ! دايمون ! " . " لا تتحدثي معي " . " دايمون ، لا تكن هكذا ! " . " هكذا ، كيف ؟ لا تغشّي نفسك يا ايما ! انا لم اتركك الآن شفقة عليك ، ولكني تركتك لأن لا نية لدي لفقداني احترامي لنفسي بسبب غشاشة صغيرة مثلك ! " . تراجعت ايما مذهولة الى الوراء وهي تضع يدها على فمها لتمنع نفسها من الصراخ...او ربما البكاء . علق على ذلك ساخرا: " هل يؤذيك كلامي ومعناه ؟ عظيم . كنت اخشى حصول سوء تفاهم بيننا " . " خشيتك لم تعد في محلها بعد الآن " . وحملت ثيابها ثم ركضت نحو المنزل بدون ان تلفت الى الوراء ، او ان تنتظر لارتداء ملابسها. 11 - تركتــكّ لأجـلك...... تبين لايما ان دايمون اتى بمفرده هذه المرة، ترك بول في لندن لمتابعة شؤون العمل وطار الى ناسو ،و منها الى سانت دومينيك مستخدما الزورق بدلا من الطائرة المروحية . وعلى الرغم من خلافهما في الليلة الفائتة الا انها اكتشفت انه لن يهمل ابنته على الاطلاق. وكان حضور ايما ، الذي اصرت عليه انابيل، امرا لم يرغب به اي من الراشدين الا انهما قبلا به مرغمين ارضاء للفتاة. ومع ان ايما أحست بعذاب كبير عندما اتت الى الجزيرة، الا ان ذلك الألم لم يكن شيئا يذكر بالنسبة الى ما تشعر به الآن . فقد ادركت ان دايمون نجح في مخططه الرامي الى معاقبتها على ما فعلت به في الماضي. وتصورت انه مسرور جدا بما يحققه من الحاق الأذية بها . واحتقرت نفسها لأنها تسمح بحدوث ذلك . هل تحدثه عن والدة انابيل ؟ الفكرة بحد ذاتها ليست امرا سهلا او ممتعا ،ولكنها شعرت بأنها ضرورية جدا لمساعدة انابيل على الخروج من محنتها واسترجاع بصرها . وسنحت لها الفرصة بعد ظهر احد الأيام ، عندما كانت انابيل نائمة ولويزا ذهبت الى ناسو لتمضية النهار بكامله. اما تانزي فلا تتدخل بشيء بل معظم وقتها بالمطبخ حيث تعد الطعام وتخيط بعض الملبوسات لأطفال القرية الصغيرة. كان دايمون يعمل في مكتبه والهدوء يعم البيت عندما حضرت ايما وطرقت بابه بهدوء ونعومة. ولما سمعته يطلب منها الدخول، دخلت وأغلقت الباب وراءها. نظر اليها باستغراب وقال لها بلهجة التبرم والتململ : " نــعم ؟ " . " اريد ان احدثك عن انابيل " . " مرة اخرى ؟ " . " نعم ، مرة اخرى. ولكن لا اريد التحدث عما يتعلق بك ، بل عن الحادثة " . بدا الاهتمام والحذر على وجه دايمون وقال : " نعم ؟ وماذا عن الحادثة ؟ من المؤكد أنه لا يعنيك أمره. فمهامك هنا تقتصر على رعاية انابيل عندما تكون بحاجة لرفيقة او شخص يعتني بها . كونك ممرضة لا يعني بالضرورة ان عليك الالمام بتفاصيل حادثتها " . " نعم ، انا ممرضة واعتقد ان لي الحق في التحدث عن حادثتها مهما كانت طبيعة عملي هنا . اوه ، أنا اعرف انني لست سوى حاضنة ورفيقة لها .وادرك ايضا انه ليست لمؤهلاتي اي علاقة بسبب احضارك لي الى هذه الجزيرة. ولكنني الآن هنا ولا انوي السماح لك ابدا بأن تعاملني كانسانة غبية . أنا أعرف بعض الامور عن الموضوع ولا أعتقد ان انابيل بحاجة الى عملية جراحية . لأني اظن بأن عماها ناجم عن مشكلة نفسية وليس بسبب تلك الحادثة بالذات " . وضع يديه وراء رأسه وقال لها بسخرية واضحة : "أوه ، حقا ؟ أنت تعرفين ذلك بالتأكيد ؟ " . " أنا لا اعرف ذلك بل أشعر به. دايمون، بحق السماء ، اسمع ما اقوله لك ! لا يمكن لأي طبيب ان يعمل بنجاح الا بناء على المعلومات الصحيحة التي تقدم او تتوفر له . وعليه ، فإن كان الاطباء لا يعرفون حقائق علاقتك مع والدتها فلن تتكون لديهم ادنى فكرة عن قلق الطفلة ومشاكلها النفسية ...." . هبّ دايمون واقفاً وسألها غاضبا : " وماذا تعنين بهذا الكلام كله ؟ " . أحمر وجه ايما وأجابته بهدوء وثقة بالنفس : " أنت تعرف جيدا ماذا اعني " . " حقا ! ومن يزودك بمعلومات عن علاقتي بزوجتي الراحلة ؟ اعتقد أنها تانزي ، العجوز الثرثارة ! " . " لم تتفوه تانزي بكلمة واحدة ضدك . انها لم تقل اي شيء على الاطلاق يسيء الى طبيعتك الطيبة ! " . " وافترض ان الهدف من هذا الاطراء هو استرضائي ! " . ولمعت عيناه ببريق الغضب ثم قال لها : " لماذا لا تهتمين بأمورك وشؤونك الخاصة فقط ؟ " . " انابيل هي اموري وشؤوني ! فاذا كانت علاقتك الزوجية السابقة تنعكس سلبا على مشكلتها ، فإني اعتقد ان من حقي القيام بأي محاولة لمساعدتها على استعادة بصرها". " لم يكن بالامكان ان تكون علاقتي الزوجية ، كما تسمينها ، اسوأ مما كانت عليه .هل هذا يجيب على سؤالك ؟ " . " اذن ، فلماذا ...؟ ". وخنقت بقية السؤال في حلقها. ولكنه حدق بها وكأنه ادرك طبيعة السؤال ، وقال : " لماذا تزوجتها ؟ اهذا ما كنت ترغبين في معرفته ؟ " " هل ملامح وجهي شفافة الى هذه الدرجة ؟ " . " بالنسبة الي ، وفي بعض الأمور ، نعم " . رفعت رأسها نحوه وقالت : " اذن ....؟ " . ثم تنهدت واضافت : " انك لم تجد اي صعوبة تذكر لنسياني يا دايمون .انك تحملني على البقاء هنا للتكفير عما تعتبره ذنبي في رفضي الزواج منك . ولكنني حسبما ارى فإن قلبك لم يتأثر على الاطلاق ! " . تمتم دايمون وهو يكاد يطحن اسنانه غيظاً : " أحببتك جدا يا ايما ! " ردت عليه بلهجة غلبت عليها القسوة والمرارة : " هل احببتني حقا ؟ ام انني طعنت كبرياءك في الصميم ؟ لم تصدق ان اي شخص بامكانه ان يصد دايمون ثورن ويرفضه ! " . امسك بكتفيها بقسوة بالغة أحست معها وكأن اصابعه غرزت في مكانها ووصلت حتى العظام. وصرخ بها بعصبية عنيفة قائلا : " هذه قحة لا اقبلها منك ابدا !". ثم هزها بقوة وقال لها والنار تكاد تخرج من عينيه : " قلت انني احببتك، وهذه هي الحقيقة. كنت الامرأة الوحيدة التي احببتها في حياتي او اردت الزواج منها" . نظرت اليه وهي لا تصدق ما سمعته اذناها ، وقالت متلعثمة : " ولكنك تزوجت اليزابيت ! بعد عشرة أسابيع فقط ...." . ولم تتمكن من انهاء جملتها ، فقال لها : " نعم ، تزوجت اليزابيت، هل انكرت ذلك ؟ " . " لا . ولكن ....ولكن....انابيل...." . قاطعها دايمون باحتقار قائلا لها بقسوة : " لا تكوني حمقاء وغبية ! كانت زوجتي ، وتشاطرني السرير ذاته ! " . " أوه ، دايمون ! " . وشعرت بألم يحز في قلبها . فهمت اخيرا لماذا تزوج اليزابيت. كان متألما جدا ، لدرجة انه اقدم عليه غير عابئ بالنتائج او المضاعفات . وسمعته يقول لها ببرودة : " لا تشعري بأي شفقة نحوي. كنت اعرف تماما ماذا افعل " . " انا آسفة يا دايمون ، آسفة جدا! ". " هل انت حقا آسفة ؟ يا للعاطفة الجياشة ! " . ثم اضاف بسخرية لاذعة : " ربما ترين فيّ الآن شخصا يرعاك ويؤمن لك مستقبلا زاهرا وحياة رغيدة ، وهو امر لم يكن يبدو لك بمثل هذه الأهمية قبل سبع سنوات ! " . اتسعت عيناها دهشة وحنقا وشعرت بأنها لم تعد قادرة على تحمل المزيد . رفعت يدها وصفعته بقوة على وجهه ثم استدارت بسرعة نحو الباب . سبقها وسد الباب بقامته الطويلة وكتفيه العريضتين ، وشاهدت في عينيه السوداوين نظرات غاضبة توحي بالشر والخطر . " لا احد يصفعني هكذا ويذهب بدون عقاب ! " . وشدها نحوه بقوة وهو يتمتم : " اوه ، يا ايما ! انني اريدك ! اريدك ! " . حاولت التملص منه فلم تفلح . اردات تجاهل عناقه وعدم الاستجابة له...ففشلت لا بل وجدت نفسها تطوق عنقه بذراعيها وتبادله العناق . لم يكن عناقه كالمرة السابقة عندما كان هدفه الوحيد ايلامها واذلالها . كان هذه المرة على ما يبدو نابعا من القلب ومن عاطفة جامحة ... وتمنت ايما الا يتوقف . وبعد لحظات انتبه لنفسه وفرضت عليه حشمته ان يتوقف. ولكن ايما لم تتركه ... وارغمته رغباته على عدم المقاومة . وفجأة ، وبدون سابق انذار ، فتح الباب ودخل كريستوفر ثورن . انتبهت ايما لنفسها على الفور وابعدت رأسها عن دايمون .الا ان الرجل تردد بعض الشيء في افلاتها . تنحنح كريس الذي تسمر في مكانه مشدوها وقال : " اوه ! يبدو انني تصرفت بغباء ورعونة ، اليس كذلك ؟ كان عليك يا ابن عمي ان تعلق لافتة على باب المكتب تقول ...ممنوع الدخول ، أو بالاحرى ...ممنوع الازعاج !". " سأطلب من تانزي اعداد ابريق من القهوة " . ولما خرج من الغرفة نظر كريس بشيء من الاعجاب الي ايما ، التي كانت تهتم بشعرها وفستانها وهي تشعر بخجل رهيب . وقال لها بوداعة مزعجة : " اهدأي يا صغيرتي ، فأنا أعرف تماما بما تشعرين " . ثم ابتسم واضاف : " لا عجب ان يغضب الى تلك الدرجة عندما ابقيتك ليلة في ناسو ! " . عاد دايمون وسأل كريس : " ما الذي حملك على المجيء في مثل هذا الوقت ؟ " . هز كريس كتفيه واجاب : " لا شيء محددا . لم نرك كثيرا منذ مجيئك الى البهاما ، واقترحت هيلين ان ندعوك لتناول العشاء معنا هذه الليلة". " شكرا ، ولكني لن اتمكن من قبول الدعوة . لدي عدد كبير من الرسائل والمذكرات التي يجب الانتهاء منها ، وانوي تخصيص هذه السهرة لانجاز اكبر كمية ممكنة " . تعمد كريس النظر الى ايما وهو يقول : " حقا ؟ " . رد عليه دايمون بهدوء : " كريس ، ارجوك ، دع المزاح جانبا! ". أبتسم كريس وقال : " لماذا ؟ فهذا كل ما يمكن لرجل مثلك ان يفعل في ظروف كهذه . في اي حال ، ان كنت منشغلا الى هذه الدرجة ، فما رأيك ان تدع ايما تلأتي معي ؟ سأتاكد من اعادتها بسلام وبدون ازعاج " . رد عليه دايمون قبل ان تسنح لايما فرصة الاجابة بنفسها : " لا اعتقد ذلك " . احضرت تانزي القهوة فأخد كل منهم فنجانه شاكرا . وشعرت ايما وهي تشرب قهوتها بأنها سعيدة لأن دايمون قرر رفض الدعوة بالنيابة عنها . ثم سمعت كريس يقول : " حسنا ، حسنا . هذا يعني انني قمت برحلة طويلة كهذه بدون جدوى " . " آسف يا كريس . وارجو من الآن فصاعدا الا تقتحم غرفة مكتبي على هذا النحو ! " . " اعدك بذلك " . ثم التفت نحو ايما وقال لها ساخرا : " الن تأتي لوداعي يا ايما ؟ " . اومأت برأسها علامة النفي فوجه اليها كريس ابتسامة توحي بأنه يتقبل الهزيمة بشموخ وكبرياء ، ثم حياهما وغادر الغرفة مسرعاً وبعد ذهابه ، أنهت ايما قهوتها وقالت : " سوف تستيقظ انابيل قريبا . سأذهب لأكون بقربها ". وقف دايمون وقال لها بهدوء بدون ان يلمسها : " حسنا ". ثم استوقفها قائلا: " اعتقد ان علي الاعتذار لك انت ايضا ، اليس كذلك ؟ ". هزت رأسها بالنفي ، فقال لها : " ماذا تعنين برفضك هذا ؟ انك تعرفين حق المعرفة انه لولا وصول كريس بتلك الطريقة المفاجئة ...ما كان بامكاني ردع نفسي ومشاعري ، واظن الى حد ما انك كنت تمرين في حالة شغف مماثلة " . احمرت وجنتاها خجلا وحياء ، فما كان منه الا ان مضى الى القول : " انا عادة لا افقد السيطرة على نفسي. حتى اني ، عندما كنا ...معا... قبلا ، لم اسمح بوصولنا الى هذا الحد . ولكنني أعتقد انني لم أهتم كثيرا هذه المرة بمشاعرك او احاسيسك . تصرفت معك كالحيوان ! اني احتقر نفسي! كنت اعتقد انني سأؤديك بهذه الطريقة ، ولكني كنت مخطئا". " لا تلم نفسك ، فأنا التي كنت اسعى اليها . تصرفت كفتيات الشارع ، وكنت اريدك الا تتوقف ! " . " كيف يمكنني تصديق ذلك ؟ كانت لديك مرة فرصة ذهبية ولكنك قررت ان تخذليني وترفضيني ! " . ردت عليه بحزن وأسى : " رفضتك بسببك ولأجلك ! لأجلك انت فقط ! " . قطب جبينه استغرابا وسألها : " بسببي أنا ؟ لأجلي أنا ؟ ما هذه القصة التي تختلقينها الآن ؟ " . " انها ليست قصة مختلقة . انها الحقيقة " . وادارت وجهها بعيدا عنه وهي تقول : " أوه ، ما الفائدة ؟ انك لن تصدقني ابداً ! " . " حاولي ! جربيني ! " . " يصعب جدا شرح ما حدث . فالمسألة تبدو الآن سخيفة وواهية جدا ، في حين تبدو آنذاك اهم شيء في العالم " . " تابعي ! " . تنهدت ايما وهي تبحث في رأسها عن الكلمات المناسبة لايضاح تصرفاتها معه قبل سبعة اعوام ، وسالته بهدوء : " هل تذكر حفلة العشاء التي اقمتها مرة للورد والليدي ماسترهام ؟ " . " اني اتذكرهما ، مع انني لا اذكر اي حفلة عشاء معينة حضراها . ولكن هذا ليس مهما. المهم هو ما حدث بالنسبة اليك " . " بعد العشاء مباشرة ،اخدتني الليدي ماسترهام الى الشرفة وبدأت حديثها عن مدى ذكائك ، ونجاحك في عملك ، وأهمية حصول رجل في مركزك على زوجة مناسبة وملائمة . قالت انك شجاع جدا لأنك متورط مع فتاة فقيرة وتعيسة مثلي ليست جديرة بأن تكون خادمة لك . وصفت مشاعري إتجاهك بأنها ابتزاز وسعي وراء المال والشهرة ، وقالت انها تأمل في الا تسيء علاقتك بي الى مركزك ومكانتك وعملك " وهزت ايما رأسها ومضت الى القول : " يمكنك تخيل بقية الحديث ، اليس كذلك ؟وبالمناسبة فإن الليدي ماسترهام لم تكن الوحيدة على الاطلاق . فجميع من كنت تعتبرهم أصدقاءك قالوا لي ان وجودي معك سيفسد حياتك...سيدمر كل شيء عملت جاهدا لانجازه وتحقيقه . كنت اعرف انك لن تصدق هذه الاقاويل مطلقا...واعرف اننا نحب بعضنا ونثق ببعضنا . ولكني كنت صغيرة وكنت اخشى ان يكون كلامهم صحيحا. احببتك كثيرا ولم ارغب في الحاق اي اساءة او اذية بك ، فتظاهرت بوجود رجل آخر . كنت اعرف بأنني لو اخبرتك الحقيقة لما قبلت بالخلي عني ، ففضلت الاقدام على ما اقدمت عليه . فضلت التضحية بحبنا من اجل مصلحتك ومركزك الاجتماعي والتجاري . ولكنك عندما تزوجت اليزابيت كينغزفورد خلال فترة وجيزة جدا ورزقت بطفلة ، شعرت بأنني أفضل الموت على الحياة ! " . ونظرت اليه بحذر خائفة من رؤية نظرات الاستهزاء وعدم الاقتناع في عينيه . ولكنه كان واقفا بدون حراك وهو يستمع اليها بدهشة وحيرة لا تصدقان . وسألها بصوت قاس : " هل هذه هي الحقيقة ؟ انها ليست رواية مختلقة؟". هزت ايما برأسها حزينة ومتألمة ، وقالت : " انها الحقيقة يا دايمون ! الحقيقة المجردة ! " . امسك بيدها وقال لها بحدة : " كنت مجنونة يا ايما ، مجنونة ! هل اعتقدت آنذاك انني كنت سأعير اهتماما لما يقوله اي انسان عنا؟". "هذا ما قلته لك بنفسي ! كنت اعرف بأنك لن تهتم بما يقولون. ولهذا السبب وحده اضطررت للكذب ، والا لما كنت تركتني او تخليت عني " . " مؤكد ، مؤكد ! ولكن لماذا انتظرت حتى الآن لتخبريني بذلك ؟ " . " اعتقد انني لم اكن قادرة على مشاهدتك وانت تعذب نفسك ،وتعذبني، اكثر مما تعذبنا . كان عليك ان تعرف الحقيقة " . هز دايمون رأسه بحزن قائلا : " اوه ، ايما ، كم كنت غبية ، تهدرين تلك السنوات كلها ! " . " لا يا دايمون ، انها لم تذهب هدرا ! اني اعلم تماما ان كبريائي لن يسمح لي بأن ادعك تفكر طوال العمر بانني مخلوقة انانية ورعناء، وتستحق كرهك وحقدك واحتقارك . ولكن الوضع لم يتغير كثيرا عن السابق. كل ما في الأمر اننا كبرنا سبع سنوات. ولكنني لا ازال نكرة معدمة وانت لا تزال رئيس مجلس الادارة_ المدير العام لؤسسة ثورن للكيماويات " . ضغط بيده على كتفها حتى اوجعها وسألها بحدة : " وماذا علي ان افهم من ملاحظتك هذه ؟ " . " ما قلته لك تماما. الوضع لم يختلف. لم اتمكن من الزواج منك في المرة السابقة ولن اتمكن من الزواج منك الآن...والسبب واحد ! ". عبس دايمون وهو غير مصدق ما يسمع ، ثم قال لها بحدة : " كيف ترفضين امرا لم يعرض عليك او يقدم لك ؟ مهما كان الأمر، فهل يمكنني معرفة السبب ؟ " . ردت عليه بتبرم واضح : " انت تعرف السبب. اليزابيت لم تكن مثلي. كانت ثرية وذات مكانة اجتماعية. كان زواجك منها على الأقل يناسب وضعك ومكانتك " . ضرب يده على الجدار بعنف وهو يقول لها : " انظري كم كان ناجحا ذلك الزواج ! عشنا معاً ثلاثة اشهر فقط... الفترة الباقية بأكملها كانت جحيما !". " ربما كانت شخصا غير مناسب لك . فكما فهمت من تانزي، كنتما نقيضين وضدين ! " . " وماذا تقترحين علي ان افعل الآن؟ اجد امرأة يمكنني العيش معها وادعك انت وتانزي تدرسانها وتحللان شخصيتها ثم تقولان لي ما اذا كانت تناسبني ام لا ! " . " هل تفكر بالزواج مرة اخرى ؟ ". أجابها بسخرية وهو يرغب بإيلامها مرة أخرى: " ربما فعلت ذلك " . " اوه ، دايمون ! " . وبكت.....ثم خرجت مسرعة من تلك الغرفة ، كما فعلت في المرة السابقة. 12 - التـحدي الجـميل ! حمل اليها صباح اليوم التالي رسالة من شقيقها. كانت أطول من الرسائل المقتضبة التي اعتاد ان يبعثها لها . وبدات ايما تقرأ الرسالة بسرور بالغ لأنها ستبعد تفكيرها ، ولو مؤقتا ، عن دايمون ونتيجة ذلك اللقاء العاصف بينهما . الا انه تبين لها عندما انهت قراءة الرسالة ان سبب طولها اناني بحت .فأخوها يواجه مشكلة اخرى وهو بحاجة الى بعض المال.... لم تعرف ماذا تفعل. ليس صعبا عليها ان تتصل بمصرفها في لندن وتطلب منه تحويل المبلغ لجوني ليسد به احتياجاته. ولكنها ماذا ستفعل بعدئذ؟ فالمبلغ الذي وفرته اثناء عملها في المستشفى، بعد انفاق الجزء الاكبر من مرتبها على الطعام والثياب لها ولشقيقها، على وشك ان ينضب . كان جوني يستدين منها باستمرار وبدون اهتمام او شفقة. ولم يكن يساهم كثيرا بنفقاتهما المشتركة، واذا كان عليها الآن ان تسد جميع ديون القمار المترتبة عليه ،فإنه لن يبقي لديها اي شيء على الاطلاق ، وتمنت لو ان هناك شخصا تلجأ اليه وتبحث معه مشكلتها ومصاعبها . ولكن ليس لديها احد . انها لا تريد مفاتحة دايمون بالأمر ،مع انه سيساعدها بطريقة او باخرى على الرغم من احتقاره لجوني . وفي وقت لاحق من اليوم ذاته اتصل بول هاتفيا من لندن. كان دايمون مستلقيا وانابيل قرب بركة لسباحة عندما ابلغته بأن بول يريد التحدث معه . ولانه تصور بأن الحديث سيدور حول امور تتعلق بالشركة ، فقد صعق عندما سمع بول يقول له : " اقتحم أشخاص شقتك الليلة الماضية ! " . " الشقة ؟ وماذا كان باينز يفعل آنذاك ؟ " . " ضربوه وقيدوه. يبدو انها كانت عملية اقتحام سريعة ". " رباه !قل لي يا بول !ماذا اخذوا من البيت ؟ اللوحات الفنية ؟ ". "لا شيء على الاطلاق، وهذا وجه الغرابة في العملية ، قلبوا المكان رأسا على عقب، ولكن هذا هو كل ما في الأمر. اعتقد انهم كانوا يبحثون عن شيء ما !". قطب دايمون حاجبيه بعصبية وراح يفكر بما حدث ويحاول تحليل القضية واسبابها ،ويبدو انه ظل صامتا فترة طويلة مما دفع بول لأن يسأل : " هل مازلت معي ؟ " . " طبعا، طبعا ! كنت احاول تحليل الموضوع ولكني لم اصل الى اي نتيجة معقولة . هل توصلت انت الى اي نتيجة؟ " . " بالتأكيد لا ! اسمع يا دايمون، اني احدثك الآن من الشقة. رجال الشرطة موجودون هنا بالطبع . طلبتهم بمجرد ان وجدت باينز " . " انت الذي وجدت باينز ؟ " . " نعم. حاولت الاتصال مرات عديدة هذا الصباح فلم يجب. اتيت الى الشقة وفتحت بابها بالمفتاح الذي تركته معي . صعقت عندما وجدت باينز على تلك الحالة . فقد كمية كبيرة من دمه ولكن الاطباء اعطوه كمية بديلة وقالوا انهم يتوقعون نجاته " . " اشكر الله العلي القدير . مسكين باينز ! كيف دخلوا الشقة يا بول ؟ " . " اعتقد انه فتح الباب لهم . لم تكن هناك اي دلائل على حدوث عراك كما ان جميع النوافد كانت لا تزال مقفلة بصورة طبيعية " . " لماذا تأخرت حتى الآن لابلاغي بما حدث ؟ " . " اوه، انت تعرف! الاتصال بقسم الطوارئ في المستشفى وبمركز الشرطة ، وصول المسعفين ورجال الشرطة، اسئلة وأجوبة، وكذلك انتظار المكالمة معك ! في اي حال ، هل تريدني ان اقوم بأي شيء آخر ؟ سأعمل بالتأكيد على اعادة الشقة الى وضعها الطبيعي. ولكن ، ماذا بعد ذلك؟". هز دايمون كتفيه وقال : " لا اعرف . اعتقد ان بامكانك البقاء في الشقة ، ان كنت تريد ذلك " . وضحك ثم أضاف قائلا : " لا تعتقد انني اريدك ان تتعرض للضرب او الأذية يا بول . ولكن اذا كانوا قد قلبوا الشقة رأسا على عقب ، فمن المنطقي حسبما اتصور انها ستكون آمنة اكثر من اي مكان آخر في لندن . هل تفهم ما أقول ؟ " . ذهل بول ، الذي تقع شقته قرب شقة دايمون ، وقال : " هل تعتقد انهم قد يحاولون اقتحام مسكني كذلك ؟ " . " من يدري؟ اننا لا نعرف عما يبحثون . ولكن اذا كان هذا الشيء يتعلق بالشركة ، فانهم بالتأكيد يعرفون انك مساعدي الخاص . ومن يدري ماذا سيفعلون ! " . " حسنا ، حسنا. لقد اقنعتني.سأنام في شقتك واترك جهاز الانذار متصلا بمركز الشرطة ليلا ونهارا .يمكنك ان تصفني بالجبن اذا اردت، ولكنني لن اقدم على أي مجازفة". " أحسنت ! " . ثم تنهد واضاف : " لا تقلق كثيرا ! سأراك ان شاء الله خلال أيام قليلة " . وبعد انتهاء المكالمة، عاد التوتر الى أعصاب دايمون . فمن يا ترى يريد اقتحام شقته والعبث بمحتوياتها على الصورة التي تمت بها العملية؟ ولماذا لم يهتم المهاجمون مثلا بسلب شيء ، وخاصة اللوحات الفنية النادرة التي تشكل بحد ذاتها ثروة طائلة ؟ التفسير الوحيد هو ان المهاجمين كانوا ينفذون اوامر صارمة من شخص اخر فرض عليهم عدم اخذ شيء الا الذي كانوا يبحثون عنه ! ولكن السؤال المحير يبقي هو ذاته ....عن اي شيء كانوا يفتشون ؟ احست انابيل بعودته ، فسألته بلهفة : " هل من مشكلة يا أبي ؟ " . حدق بها دايمون غير مصدق سؤالها. يا للذكاء! انها تملك حاسة قوية وغريبة توحي لها بانه متضايق ومنقبض النفس ! اضطر للكذب لأنه لا يريد ازعاجها، فقال : " لماذا يا حبيبتي ؟ لا شيء على الاطلاق ! لنسبح قليلا الآن لأن لدي بعض الأعمال التي يجب اتمامها". ومن ناحيتهان امضت ايما يومها قلقة بشأن جوني....وبسبب وضعها هي الصعب في الجزيرة، لم تلتق دايمون طوال النهار. تجنبت بركة السباحة عندما علمت انه هناك مع ابنته . كذلك فإن الطقس لم يكن مشجعا. فالجو حار والغيوم السوداء بدأت تنشر في الافق منذرة بحدوث عاصفة . الا ان العاصفة لم تحدث، مع ان ايما تمنت العكس. فالعاصفة على الأقل توفر لها موضوعا جديدا تفكر به . حل اليوم التالي كئيبا ومزعجا.فالغيوم السوداء التي تكاثرت في اليوم السابق تحجب ضوء الشمس بكثافة، وشعرت ايما بالوحدة والانقباض.ذهبت لويزا الى ناسو بعد الفطور مباشرة لتمضية عطلتها الاسبوعية في تسوّق بعض الحاجيات والاغراض. وكانت قد دعت ايما لمرافقتها ، الا ان ايما فضلت البقاء في الجزيرة متحججة بالطقس الرديء والصداع الذي تشعر به. ولكنها ندمت على ذلك في وقت لاحق ، لأن انابيل تمضي وقتها بكامله مع والدها . الا ان دايمون أبلغ ابنته بعد الفطور بأن عليه اجراء بعض الاتصالات الهاتفية ذلك الصباح . فما كان منها الا ان ذهبت الى ايما وتوجهتا معا بعد ذلك الى الشاطئ. وخلال وجودهما هناك،قرأت ايما بضع قصص قصيرة لانابيل، التي قالت لها بعد بعض الوقت : " كفانا قراءة قصص اليوم يا ايما . حدثيني عن أيام طفولتك،هل كان لك والد ووالدة ؟ اشقاء وشقيقات؟". تنهدت ايما واغلقت الكتاب ثم اجابتها بهدوء وتمهل : " نعم ياحبيبتي.كان لي والدان، الا انه ليس لدي الا شقيق واحد.كنا اربعة فقط، ولكننا كنت سعداء جدا .لم تكن لدينا اموال طائلة كما هي الحال مع والدك ، الا ان ذلك لم يكن يؤثر علينا كثيرا . كنا نتمكن من تمضية عطلة سنوية فب مصيف ساحلي، وكانت تلك الرحلة الوحيدة التي كنا نقوم بها " وسألتها انابيل ، التي بدا انها استوعبت جميع المعلومات بسهولة ويسر : " هل كان بيتكم كبيرا ؟ " . " اوه ، لا ! كانت هناك ثلاث غرف نوم وحمام واحد ، بالاضافة الى غرفتين أخريين ومطبخ في الطابق الارضي " . " فقط ؟ " . قالتها انابيل بأستغراب واضح فهي لا تعرف سوى الفيللات الضخمة والبيوت الريفية التي تشبه القصور بحجمها ومساحتها . " نعم يا حبيبتي ، وهو حجم لا تتوصل اليه معظم العائلات المتوسطة الحال . انت فتاة محظوظة جدا لأن لديك قصرا جميلا كهذا مع ما حوله من حدائق وبركة سباحة وشواطئ رائعة ...وأي شيء اخر تشتهيه وترغبين في الحصول عليه " . " انني لست محظوظة على الاطلاق. انني بالطبع احب والدي ، وانا متأكدة من انه يبادلني هذا الحب. ولكني مستعدة للتخلي عن كل شيء في العالم ليكون لدي بيت حقيقي فيه والدان يحبان بعضهما واخوة واخوات صغار يركضون ويلعبون " . ثم ضمت ركبتيها بذراعيها وقالت : " اوه ،اني احب كثيرا وجود أعداد كبيرة من الأولاد في البيت . كما احب وجود أطفال ارعاهم وأهتم بهم ، عوضا عن اضطراري للاكتفاء بلعبتي باتريشيا ! ". " يحدث أحيانا ان شخصين يتزوجان ثم يشعران بعد فترة من الزمن انهما غير قادرين على العيش معا. انه ليس خطأ اي منهما ، كما انه ليس خطأ اي شخص اخر. انهما بكل بساطة لا يتمكنان من مواصلة العيش معا. واذا انفصلا عن بعضهما بعد ان يكونا قد رزقا اولادا ، فإن ذلك سيؤثر كثيرا على الأولاد. وهذا فعلا أمر مؤسف للغاية ! ". علقت انابيل باستغراب وتأثر واضحين وقد انهمرت الدموع من عينيها : " ولكن يتحتم على هذين الزوجين الا يرزقا اطفالا على الاطلاق ! ". " ليس الاطفال دائما...." . وبحثت ايما في عقلها عن الكلمات المناسبة لتصف المسألة بطريقة سهلة وغير معقدة. ترددت بعض الشيء ثم قالت بعزم وثبات : " انابيل ، حاولي ان تفهمي الوضع على حقيقته. لم يكتشف والداك خطأهما الا بعد ولادتك ! " . وعضت شفتها تأثرا ثم اضافت : "يجب ان تكوني ممتنة لأن احد والديك على الأقل يحبك حتى العبادة ". اخفت انابيل وجهها بين يديها فجأة وقالت باكية بحزن وتأثر بالغين : " اوه ، ايما ! كنت انوي الحاق الأذى بوالدي. لقد احبني دائما، ولكني كنت سأغادر البيت ...كنت سأتركه الى الأبد". قطبت ايما جبينها ووضعت يدها برفق وحنان على رأس انابيل وهي تسألها بهدوء : " تتركينه ؟ ماذا تقولين يا انابيل ؟ " . رفعت الطفلة الصغيرة وجهها المبتل بالدموع الحارة وقالت بتعلثم : " انك لا تفهمين الوضع...يا ايما ! كان ذلك عندما ...عندما...عندما وقع الحادث ! " . واخفت وجهها مجددا بين يديها. ازداد تأثر ايما واستغرابها ، فقالت لها : " اكملي ! اخبريني المزيد ! " . " لا اقدر ! لا اقدر ! انني اخجل من نفسي الى درجة كبيرة ! " . ضمتها ايما بمحبة وحنان قائلة : " أسمعي يا حبيبتي ! انت تتحدثين مع ايما ! يمكنك ان تخبريني اي شيء تريدين ، فلن اغضب او اصدم ! اخبريني ماذا حدث ، ارجوك ! " . رفعت انابيل رأسها وسألتها بهدوء : " هل تعدين بذلك ؟ ". " طبعا ، طبعا " . مسحت انابيل وجهها بيديها وقالت : " حسنا ، اذن ". ثم تنهدت وبدأت تروي قصتها : " أتت امي ذلك اليوم الذي وقع فيه الحادث ، ولم اكن قد شاهدتها منذ عدة اشهر كما انني لم التق والدي منذ بضعة اسابيع . قالت ...قالت لي ان ابي منعها من رؤيتي ، وانه...لا يحبني كما يقول والا لما كان قد تركني هكذا . قالت انها تحبني، وتريد ات تأخذني معها حيث سنعيش سوية في لندن. رفضت ذلك وقلت لها لن اترك ابي. ولكنها قالت انني غبية وسخيفة " . غضبت ايما وتأثرت لأن اساليب اليزابيت في اقناع طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها كانت قاسية وتدل على انعدام المحبة والعاطفة . وسمعت انابيل تبلع ريقها وتلتقط انفاسها ثم تمضي في رواية ما حدث معها قائلة : " عندما لاحظت اصراري على البقاء ، حاولت معي طريقة اخرى وهي انها ستعطيني ما أريد ان ذهبت معها " . وشاهدت ايما شفتي انابيل ترتجفان وهي تتابع حديثها : " كنت لعدة اشهر اطلب من والدي ان يشتري لي مهرا أصيلا ، وكان يقول لي دائما انني صغيرة جدا وركوب الخيل في تلك السن خطر جدا. ولما قالت لي اليزابيت انها ستعطيني ما أريد ، سألتها ان كان بامكانها ان تشتري لي مهرا. أجابتي بأنها ستشتري مهرين، اذا وافقت على الذهاب معها. قبلت عرضها المغري واستأذنتها لتوضيب اغراضي . رفضت ذلك وقالت انها ستشتري لي ثيابا والعابا جديدة ، وان الاغراض القديمة يجب ان تبقى كيلا يشك احد بذهابنا .وكان كل ما اخدته معي آنذاك باتريشيا !". وأنهمرت الدموع مجددا من عينيها ثم قالت : " وقع...الحادث وقتلت اليزابيت. كنت تعيسة جدا واشعر بحزن وخجل عميقين. لم ...لم اتمكن من اطلاع ابي عما كنت انوي القيام به ، لم اتمكن من ابلاغه انني كنت سأبادله بمهر ! " . وراحت تبكي بانفعال وعصبية ، فضمتها ايما مجددا الي صدرها وأخدت تربت بحنان ووداعة على كتفيها الصغرتين . ومع انها تأثرت جدا بما سمعت ، الا انها شعرت بشيء من الأمل يتفاعل في داخلها. فاذا كان ما روته انابيل صحيحا، فإن احتمالات العوامل النفسية تتضاعف بسكينة انابيل ، انها لا تريد ان ترى خيبة الأمل على وجهه عندما يكتشف الحقيقة ...انها لا تريد ان ترى ! هذه هي الكلمة ! حدثتها ايما بهدوء وحنان مخففة عنها مصابها ، ثم اعادتها الى البيت لتناول طعام الغداء . وعندما انتهت انابيل من الغداء وذهبت الى غرفتها كالمعتاد لتنام ساعتين ، خرجت ايما الى الحديقة واخذت تحلل بهدوء وروية القصة التي سمعتها من صديقتها الصغيرة. صحيح انها اكتشفت دافعا لتلك المشكلة ، وسببا لرفض الفتاة التحدث عن الحادثة . ولكن ، هل يكفي ذلك ؟ وكذلك ، فماذا ستفعل باكتشافها هذا ؟ انها تشك كثيرا في ان معرفة دايمون للحقيقة سوف تعيد بصر انابيل بطريقة عجائبية ! ثم تنهدت بعمق وحولت تفكيرها الى اخيها ومشاكله . وسمعت وقع اقدام وراءها ، فالتفتت بشيء من العصبية لتشاهد دايمون يقترب منها وقد بدا جدابا وساحرا الى درجة كبيرة . جلس قربها واخد سيكارا من جيب سترته ثم قال لها : " اين كنت طوال اليومين الماضيين ؟ " . هزت كتفيها وقالت له بهدوء " " هنا وهناك ! " . برقت عيناه بلمعان غريب وتمتم بحنق : " تتجنبينني ؟ " . " لا...لا ...أعني انك ...كنت مهتما بأنابيل ، وأنا...انا كانت لدي بعض الأعمال البسيطة " . " مهلا ، مهلا ! هل تظنين انني رجل غبي ؟ يمكنني ان اقرأ افكارك ككتاب مفتوح ، يا ايما .انك تتجنبينني كأنني وباء خبيث. لماذا يا ايما؟ هل تخافين ان انقلب عليك ؟ ام انك تعتقدين انني بعد ان عرفت الحقيقة فلربما بدأت بمضايقتك وازعاجك كي تتزوجيني ؟ " . " توقف ، توقف ! " . " لماذا ؟ " . واطفأ سيكاره ثم قال لها بهدوء : " في اي حال ، انا مسافر غدا الى لندن ، وعندها يمكنك ان ترتاحي. هل تريدنني ان انقل اي رسالة الى اخيك ؟ " . احنت ايما رأسها وقالت له متعلثمة : " انك ...انك لم ...تمض....فترة طويلة هنا " . " صحيح " . ثم هز كتفيه واضاف : " ربما كان عليّ ان اطلعك على السبب . اتصل بي بول أمس وابلغني بأن اشخاصا اقتحموا شقتي قبل ليلتين ، وان باينز تعرض للضرب والتعذيب وكاد يقتل " . اتسعت عيناها استغرابا وتأثرا، وقالت بصدق واخلاص : " باينز ! انه لأمر فظيع ومؤسف حقا! " . " صحيح . في اي حال ، لم يسرقوا شيئا " . " اذن ، لماذا ....؟ " . " لا اعرف اكثر من هذا ، كما اننا ورجال الشرطة لا نعرف سبب الاقتحام . ولذلك يجب علي الذهاب لمعرفة الاسباب الحقيقية ونتائج التحقيقات الأولية " . حدقت به ايما خائفة وقالت : " اوه دايمون ! هل انت مضطر للذهاب ؟ " . وانتبهت الى ان نبرة صوتها تخونها وتفضح مشاعرها تجاهه ، فتمالكت اعصابها وقالت : " اعني انك ستكون حذرا ، اليس كذلك ؟ " . امسك بمعصمها وتمتم قائلا : " ايما ، قولي لي أرجوك ! ماذا تريدنني ان افعل ؟ " . واحست ايما بأن عظامها بدأت تذوب كالشمع بسبب لمسته ، وسمعته يضيف قائلا : " لا تفعلي ذلك بنا ! " . " دايمون ، يجب ان تذهب الى لندن " . قالتها بصعوبة فائقة وهي تحس بقوة مشاعره تغلفها وتهز اعماقها . وسارع دايمون الى الرد عليها وكان صوته مثقلا بالعواطف الجياشة : " انا لا اتحدث عن لندن ، وانت تعرفين ذلك ! انني اتحدث عنا نحن! عن حياتنا ! انك تدمرينني ! " . " اوه ، دايمون ! " . رد على همسها بصوت قاس : " انك تحبينني ! اللعنة عليك يا ايما ، أعرف انك تحبينني ! " . اغرورقت عيناها بالدموع فيما كانت تتأمله بمحبة وحنان . هذا هو دايمون الحقيقي. لم يعد ذلك الثري المتغطرس الذي اعتادت على رؤيته خلال الاشهر القليلة الماضية .بل اصبح دايمون الذي كانت تعرفه قبل سبع سنوات ...جالسا قربها ممسكاً بذراعها ، وعيناه تتعذبان رغبة وحبا. وصرخت بصوت عال بعد ان شعرت بأنها غير قادرة بعد الآن على حرمانه اي شيء : "نعم ، نعم ، نعم ! بالطبع احبك يادايمون . احببتك دائما ، واريد الآن اعادة حياتك الضائعة اليك ... لا الى تدميرك !". تمتم بصوت اجش وهو يحني رأسه ويقبل يديها بمحبة وحنان : " اذن احبيني ! لا اريد منك الا ان تحبيني ، لأنني...يشهد الله على ذلك...لن اتمكن من العيش بعد الآن بدونك ! " . لم تصدق ايما تماما انها في حقيقة وليس حلم ...وان المعجزة حدثت . انها تخرج الآن من ذلك النفق الطويل المظلم لتشاهد النور الساطع وتتنشق الهواء المنعش ، قد تعود الشكوك في وقت لاحق ، اما الآن فليس هناك احد الا هي ودايمون...وهذا الشعور الرائع الذي يربط بينهما ، نزلت ببطء من كرسيها الى ذراعيه اللتين استقبلتاها بقوة ومحبة . وبدا ان دهورا مرت قبل ان يعود دايمون الى الاستلقاء على ظهره ، وهو لا يزال ممسكا بيدها كيلا تهرب منه ...حتى ولو ارادت ذلك . اشعل سيكارة وراح ينفث دخانها بهدوء وارتياح . ثم... عاد به التفكير فجأة الى سان فرانسيسكو وتساي بن لونغ . وتأمل مرة اخرى بتمعن اكثر الولاعة الذهبية التي اخذتها منه تساي واعادتها بطريقة غامضة تثير التساؤل . وقال لنفسه بغضب انه كان عليه ان يتحقق عن الفتاة الصينية التي قتلت اثناء ليلته الاخيرة في الولايات المتحدة . هل هي تساي بن لونغ ام مجرد فتاة صينية اخرى؟ ولما رفعت ايما نفسها على مرفقها ورأت ذلك العبوس والتفكير العميق على جبينه ووجهه، تمتمت تسأله بشيء من الانقباض : " دايمون.... انك... انك غير نادم ...وتعيد النظر منذ الآن؟". اعاد دايمون الولاعة الى جيبه وهز رأسه وقد علت وجهه ابتسامة كسولة . مد يده الاخرى وداعب عنقها بوداعة قائلا : " بماذا تفكرين الآن يا حبيبتي ، بالنسبة الي ، انا احبك ...اعشقك ...احببتك دائما منذ اللحظة الأولى ...احببتك حتى عندما كنت اكرهك ! هذا صحيح ! يا ايما ! كرهتك ! " . " والآن ؟ " " الآن سوف نتزوج بغض النظر عن اي اعتراضات وعن هوية المعترضين . لم اعد ارغب في تمضية حياتي في غرفة مجلس الادارة . اريد مزيدا من الوقت لنفسي . اريد اولاداً.... اريد اولادنا ! " . " وانابيل ؟ " . ذكرت ايما اسم الطفلة وهي تدعه يضع رأسها على صدره ، بحيث شعرت بالطمأنينة وراحة البال لأول مرة منذ عدة سنوات . اشعل دايمون سيكارة اخرى واجابها بهدوء : " انابيل متعلقة بك الى حد كبير . لقد اثبتت ذلك مرات عديدة وعليه فأنا لا اعتقد انها ستجد صعوبة او غرابة في تحولك من صديقة الى زوجة اب . اضافة الى ذلك ، انك ستكونين لها اما افضل بكثير من اليزابيت " . " اوه ! اوه ! ". وقفزت ايما من مكانها وهي تقول : " اوه ، هذا يذكرني بشيء اكتشفته اليوم . كانت اليزابيت تنوي خطف انابيل منك عندما وقع الحادث " . هز دايمون رأسه وقال : " لقد تصورت ذلك آنذاك " . تنهدت ايما واضافت : " انابيل لا تعرف انك تعرف . انها تعاني من عقدة اتهام الذات بشكل رهيب " . ثم نظرت اليه بجدية بالغة وقالت : " انني اعتقد فعلا بأنه ربما كان لهذه القصة علاقة بفقدانها نظرها " . اتسعت عيناه لحظة ثم تنهد وقال : " ولكن،لماذا ؟اعني ... انها تعرف بأنني لن الومها بالنسبة الى اي شيء حدث ذلك اليوم " . " اعرف . ولكن ، الم تنتبه للنقطة الأساسية؟ انها مهتمة بأمرك انت وليس بأمرها هي . انها تلوم نفسها لأنها سمحت لأليزابيت باقناعها على الرحيل . انها تشعر بالذنب لمجرد قبولها التخلي عنك ! " . حمل دايمون احدى يديها الى شفتيه وقبلها قائلا " " وتعتقدين حقا ان من شأن ذلك التسبب بوضعها الحالي؟" . " ربما كانت هناك علاقة ما . ولذلك ، فلو تمكنا من اقناعها بأنك غير مهتم على الاطلاق بما حدث ذلك اليوم وانك لا تزال تحبها بالقدر ذاته رغم تلك الحادثة ، فانها...ربما...تبدأ طريق العودة الى حالتها الطبيعية .وعندئد يعمل الاخصائيون على ايقاظ عضلات عينيها وتدريبها على التكيف مع استعادة البصر " . وقف دايمون وتمتم بتأثر وانفعال : " آه ، لو يمكنهم ذلك ! ". طوقته ايما بذراعيها وضمته الى صدرها بقوة وهي لا تزال غير مصدقة تماماً بأنهما لا يتشاجران او يتعاركان ، بل يتحدثان بهدوء ومحبة كأي عاشقين راشدين . وسمعت دايمون يقول لها بصوت منخفض : " ايما ، لا تجعليني اريدك اكثر مما اريدك الآن وفي هذه اللحظة بالذات ! " . " لماذا ؟ " . سألته بصوت هامس يوحي بالاستفزاز والاغراء والتحدي...وبرغبة قوية في ان يقبل التحدي، وبسرور بالغ وسعادة فائقة ، قبل دايمون التحدي ووضع حدا للمزيد من هذا النوع من الاستفزاز الذي يحبه ويتمناه .... 13- اقتحام حديث القلوب في ذلك المساء ،ارتدت ثيابها وزينت نفسها بعناية واهتمام . انها ليلته الأخيرة في الجزيرة ، اذ انه سيتوجه الى لندن صباح اليوم التالي للتحقق من امر الشقة ولاعداد بعض الاوراق الضرورية لزواجهما. وسوف يعود في وقت لاحق من الاسبوع ليأخذ الجميع الى لندن لحضور حفلة الزفاف .انه يريد عقد قرانه بسرعة قبل ان يكون لديها الوقت الكافي لتغيير رأيها . وانفرجت اساريرها عندما تذكرت ردّ الفعل الهادئ لانابيل عندما ابلغاها النبأ اذ قالت : " احسست منذ البداية ، يا ايما ، ان لديك مكانة خاصة في قلب ابي ، لم يرحب ابدا بوجودك معنا عندما كنت اطلب منه ان ترافقينا . ولكن عندما كنت تأتين بناء على اصراري ، كان يريد تمضية معظم الوقت معك " . احمّر وجه ايما حياء وسألتها : " الا يزعجك ذلك ؟ " . " طبعا لا . على الاقل ...اعتقد ان ذلك لن يزعجني ابدا .ولكن اذا ...اذا رزقتما اطفالا آخرين ، فهل سأظل انا الكبرى بينهم ؟ " . إحتضنتها إيما بحنان شديد وقالت: " انابيل ، انت ابنتنا الآن . واذا انجبنا اطفالا اخرين فانهم سيستعينون ويسترشدون بك لأنك الكبرى ، كما تقولين ". وداعبت شعر الطفلة بمحبة واضافت قائلة : " انت قلت لي انك تحبين كثيرا ان يكون لديك اخوة واخوات " . " طبعا ، طبعا " . ثم غطت وجهها الجميل مسحة حزن وأسى ، ومضت الى القول : " ولكني لن اتمكن من رؤيتهم ، اليس كذلك ؟ " . نظرت ايما نحو دايمون بسرعة ثم اجابتها بتمهل وروية : " ربما تمكنت من ذلك يا حبيبتي " . ثم تنهدت بصمت وقالت : " اطلعت والدك يا انابيل عما قلته لي هذا الصباح " . " صحيح يا ابي ؟ هل اخبرتك ايما باني كنت انوي التخلي عنك ؟ " . رفع دايمون ابنته بحنان وأجلسها برفق ومحبة على ركبتيه وهو يقول : " كنت اعرف ذلك مسبقا يا ملاكي " . " انت تعرف ؟آه يا ابي الحبيب ! كنت سأقدم على عمل شنيع جدا ! " . اجابها دايمون بدماثة وحنان وهو يقبل رأسها : " لا تكوني سخيفة يا حبيبتي ! كنت طفلة صغيرة ، في الرابعة فقط من عمرها ! " . " كنت اريد ذلك المهر اللعين ، الا تذكر ؟ وقالت لي اليزابيت انها ستبتاع لي مهرين عوضا عن مهر واحد !". وأخفت وجهها قرب عنقه فيما كان يقول لها بنعومة واقناع : " المؤسف ان اليزابيت كانت امرأة تعيسة وغريبة الطباع". وتركتهما ايما وهي تشعر بأنّ الأسس قد وضعت ...وبأنّ الوقت وحده كفيل بمساعدتها على الشفاء ، من عقدتها النفسية ، واسترجاع بصرها . ونزلت ايما من غرفتها الى القاعة حيث كان دايمون بانتظارها وقف احتراما لدى دخولها ، واقترب منها وهو ينظر اليها بعينين دافئتين تشعّان حبا وحنانا ، وتعجبت بصمت من قدرتها على تحويله الى رجل آخر ....رجل محب وهادئ...رجل يبدو الآن اصغر من سنه بعدة سنوات. قبلها ، فقالت له : " اتمنى لو انك لم تكن مضطرا للذهاب غدا " . " وانا ايضا " . " هل عادت لويزا ؟ " . " نعم . قالت لي تانزي انها ترتدي ثيابها لتناول العشاء معنا . اني اشكر الظروف لأنها هنا " . احمرّت وجنتاها قليلا ، فاضفى ذلك على وجهها جمالا وروعة . ثم أحست بدخول لويزا التي حيتهما بتهذيب قائلة : " مساء الخير " . ردّا التحية بالمثل ، ثم سألتها ايما : " هل امضيت يوما ممتعا ؟ " . " الى حدّ كبير ، شكرا ابتعت كمية من القماش الجميل والجيد ، سأريك القماش في وقت لاحق " . ابتسمت ايما ثم تطلعت نحو دايمون لتعرف ما اذا كان ينوي ابلاغ احد باستثناء انابيل عن زواجهما المرتقب ، ولم تضطر للانتظار طويلا ، اذ سمعته يقول : " اعتقد يا لويزا ان عليّ ابلاغك بالأمر. اتفقنا انا وايما على الزواج في الاسبوع المقبل " . ظهرت الدهشة بوضوح على وجه لويزا وقالت بتعلثم : " انها مفاجأة...انكما...لا تعرفان ...." . قاطعها دايمون بتهذيب ووداعة قائلا : " لا يا لويزا ! التقيت ايما لأول مرة قبل ثماني سنوات عندما كانت تعمل في مكاتبنا بلندن ولكنها..." وتردّد قليلا ثم ابتسم وأضاف قائلا : " ولكنها لم تقبل بالزواج مني الا اليوم " . " ماذا ...ماذا يمكنني ان اقول ...سوى انني مسرورة لكما وآمل ان تكونا سعيدين جدا " . وعندما انتهوا من تناول طعام العشاء انسحبت لويزا بهدوء لتتركهما على انفراد . وضع دايمون شريطا يضم مجموعة كبيرة من المقطوعات الموسيقية الحالمة تعزفها احدى اشهر الفرق في العالم.ثم اطفأ الانوار الاساسية مكتفيا بضوء جانبي بعيد ، وجلس قرب ايما على تلك الكنبة الكبيرة المريحة . " والآن اخبريني ماذا كنت تفعلين طوال السنوات السبع الماضية . اريد ان اعرف كل شيء عن حياتك منذ انفصالنا حتى الآن " " لم يحدث معي اي شيء يذكر. فبعد ان تركت شركتك دخلت مستشفى سانت بنيديكت كطالبة تمريض . ثم اصبحت ممرضة مسؤولة ،وكما تعلم كنت آمل في ان أتوصّل الى رئاسة القسم الذي كنت اعمل فيه " . " هل تفتقدين عملك ؟ هل تندمين على التخلّي عنه ؟". وضعت رأسها على كتفه بغنج ودلال وقالت : " لا ، ابدا .كنت اشعر في البدء انني اتمنى وجود زميلاتي الممرضات لنتحدث عن المرضى ومشاكلهم، ولكن ذلك لم يعد يهمني كثيرا . الآن، تبدو لندن بعيدة جدا....ولكني لن امانع في الذهاب اليها اذا كنت معي " . نظر اليها بمحبة وتمتم قائلا وهو يداعب ذراعها : " لماذا بحق السماء جعلتنا نضيّع هدرا مثل هذه الفترة الطويلة من حياتنا ؟ " . " اوه ، دايمون اني خائفة! خائفة من ان هذا الغرام لن يدوم. اني أُحبك كثيرا...لدرجة لا اتحمل معها حدوث اي شيء يفسد حياتنا او حبنا " . " لن يحدث اي سوء على الاطلاق. سوف نتزوج خلال اقل من اسبوع ، ولن ادعك تذهبين بعد ذلك ابدا . سأعلمك معنى الحب ، وخفايا الحياة الزوجية " . وابتسم عندما رأى احمرار الخجل والحياء يغطي وجنتيها بقوة ، وقال : " لا تكوني خجولة معي . لن اؤذيك ، وانت تعلمين ذلك ". " اعلم " . وفجأة احست بوقع اقدام . ابعدت نفسها عن دايمون والتفتت نحو الباب لتشاهد انابيل قادمة وعلى وجهها ملامح انفعال واضحة . اقتربت منها وسألتها بذهول : " انابيل ، ما بك ؟ ماذا تفعلين هنا ، وفي مثل هذا الوقت ؟". " اردت ان... ان انزل لرؤيتكما معا كي اخبركما ما حدث . ايقظني شيء ما وكنت خائفة . ثم تذكرت انك ستصبحين امي الجديدة ، فقلت لنفسي انك لن تمانعي في حضوري اليكما " . نظرت ايما مبتسمة الى دايمون ثم قالت لانابيل : " طبعا لانمانع يا حبيبتي. ولكن ماذا ايقظك ؟ هل لويزا هي التي ايقظتك ؟ " . " لا ،لم تكن لويزا . على الاقل اني متأكدة من انها لم تكن لويزا ، فانا اعرف طريقة سيرها " . وتردّدت لحظة ثم تابعت قولها : " لست متأكدة مما حدث، عندما جلست في فراشي كان الهدوء يخيم على الغرفة ، ولكني شعرت بان احدا كان هناك " . وامسكت بيد ايما وهي تقول : " كنت خائفة حقا ! انني لا اقول ذلك تحججا او ادعاء !كنت خائفة الى درجة كبيرة ! " . ارشدتها ايما الى الكنبة ، فقفزت انابيل الى حضن والدها وقالت له : " سمعتكما تتحدثان فعلمت انكما هنا " . وضمت والدها بقوة واضافت : "أبي ! انك تحب ايما حقيقة ، اليس كذلك ؟ اعني انك لن تغير رأيك ...بعد الزواج ؟ " . نظرت ايما الى عيني دايمون فرأت فيهما بوضوح انه لن تقع اخطاء هذه المرة . وسمعت دايمون يرد على ابنته بصدق واخلاص وهو يربت برفق على كتفها : " اني احب ايما يا انابيل، وما من شيء في العالم يغّير رأيي بالنسبة اليها . انني أحبها منذ زمن بعيد ، ومن غير المرجح ابدا ان اتحوّل عن حبي لها الآن . الا توافقينني على ذلك ؟ " . " وهل تحبك ايما الى هذه الدرجة ؟ " . ردّت عليها ايما بسرعة قائلة : " طبعا، يا حبيبتي ، طبعا! لا تقلقي ابدا فسيكون لك باذن الله بيت وعائلة ،تماما كأي فتاة اخرى ، وسنكون انا ودايمون دائما قربك عندما تحتاجين الينا " . " اوه ، اني اتمنى ذلك من كل قلبي ! " . وقالت ايما لنفسها انه سيسعدها كثيرا ان تتمكن من تعويض هذه الطفلة البريئة عن الآلام والأحزان التي تعانيها منذ ولادتها...اولا مع امها ، وثانيا مع فقدانها النظر والمشاكل المترتبة على ذلك . تحدّثوا بعض الوقت وفرحت ايما الى حد كبير عندما لاحظت انفتاح انابيل التام والكلي على والدها وابلاغه كل شيء تعرفه.....بما في ذلك ان روزا تنتظر مولودا جديدا. وبعد فترة من الزمن ، انزلها دايمون عن ركبتيه وقال لها بحزم ، وهو يقبّلها : " الى الفراش والنوم ايتها الآنسة . انها العاشرة تقريبا " . نظرت اليها ايما متمنية بكل مشاعرها وجوارحها ان يعود اليها نظرها ، وان تظل دائما....سعيدة ومبتهجة ، وسمعتها تسألها : " هل من الممكن يا ايما ان تأتي معي ؟ أرجوك ! " . " طبعا يا حبيبتي . تمنّي لوالدك ليلة سعيدة ، وهيا بنا ". قبّلت والدها بعطف وحنان وغادرت الغرفة وهي ترقص فرحا وسرورا .وكانت تتوقف بين الحين والآخر لتتأكد من ان ايما لا تزال وراءها .كانت الغرفة غارقة في الظلام ، وقد دخلتها انابيل بسهولة ويسر لأنها ليست بحاجة الى النور . وقفت ايما داخل الباب ومدّت يدها لتضيء الغرفة ، فأحست فجأة بيد تضغط على فمها وتمنعها من اطلاق صرخة الهلع التي اختنقت في حلقها ، وذراع قوية تطوقها وتشلّ حركتها. حاولت التملص ولكن دون جدوى . وكانت الطفلة واقفة قرب سريرها وهي تشعر بوجود خطر ما بدون ان تدرك تفاصيله او اسبابه . وقالت بصوت مرتجف يعكس مدى خوفها وفزعها : " ايما ! ايما ؟ " . حاولت ايما جاهدة مرة اخرى التملص من قبضته ولكن محاولاتها باءت بالفشل . وقال الرجل الغريب : " ما بها هذه الطفلة ؟ الا تراك ؟ " . ثم سحب يده التي كانت مطبقة على فمها وقال لها : " صوت واحد او حركة واحدة واقتل الفتاة ! " . ركضت ايما نحو انابيل غير عابثة بالخطر المحدق بها وهمست قائلة : " كل شيء على ما يرام يا حبيبتي ، ولكن لا تتكلمي او تتحركي من مكانك ! " . تأملت ايما الرجل الدخيل بدقة وعناية . قصير القامة ، ممتلىء الجسم ، شعره حالك السواد ، وعيناه ليستا كعيون الاوروبيين . حرّك مسدسه إتجاههما وسألها بحدة : "اين ثورن ؟ " . تردّدت ايما ولجأت الى الكذب : " لا....لا أعرف " . تقدم نحوها الرجل وقال لها بقسوة وعيناه تقدحان شررا وحقدا : " يكفي هراء وسخافة ! كنت معه طوال السهرة . انا سمعتكما بهاتين الاذنين . اين هو الآن ؟ هيا ...هيا اخبريني ، والا آذيت الطفلة " . بلعت ايما ريقها بصعوبة واخذت تنظر حولها . شاهدت الغرفة وقد قُلبت رأسا على عقب ولم يترك فيها هذا الرجل اللعين مكانا الا وفتش فيه . تردّدت ايما مرة اخرى ولكنها لم تتمكن هذه المرة من الكذب خوفا على حياة انابيل . " انه ...انه في القاعة . ولكن ، ارجوك ، ماذا تريد ؟ ليست لدينا هنا اي اغراض ثمينة .خذ ما تريد ، بحق السماء ، واتركنا . اتركنا ! " . " اخرسي ! " . ثم نظر الى الممر الطويل وقال لها وكأنه يقرأ افكارها : "لن تتمكن تلك الشقراء من مساعدتك ايتها الآنسة ، كما انني اشك كثيراً في ان احدا آخر سوف يهرع لمساعدتك!". " لويزا ؟ ماذا فعلت بها ؟ " . " لا شيء ، لاشيء ، انها بخير " . ثم ابتسم بلؤم واضاف قائلاً : " ستشعر على الأرجح بصداع قوي غدا ، فانا عادة لا اقتل النساء ! تعاليا الى هنا وبسرعة ؟ " . وقفت ايما ببطء ، وتقدمت وانابيل نحوه بهدوء وتمهل . كانت الطفلة الصغيرة ترتعش خوفا ، كما ان ايما احست بأن رجليها ضعيفتان جدا وانها تكاد تقع ارضا. " هيا الآن امامي بنعومة وروية . ولا تحاولي القيام بأي حركات سخيفة ايتها الآنسة لأن الطفلة تموت اولا . هل تفهمين ؟ " وضعت ايما ذراعها على كتف انابيل وشدتها نحوها قائلة بنبرة مشجعة : " هيا يا حبيبتي ، لنذهب ونجد والدك " شدّت انابيل على يدها بقوة وسألتها قبل ان تنهار باكية : " هل ...هل سيقدم هذا الرجل على قتل ابي ؟ " . هزت ايما رأسها بعنف واجابتها : " لا.... لا ! طبعا لا! انه يريد التحدثّ معه فقط " . " ولكنه يحمل مسدسا، اليس كذلك ؟ " . حدّقت ايما بذهول وسألتها : " وكيف عرفت ذلك ؟ " . " افترضت انه يحمل مسدسا، والا كيف يكون بامكانه ان يرغمنا على تنفيذ ما يريد ؟ " . كانت القاعة تبدو جذابة ومغرية في ذلك الضوء الخافت ،ودايمون لا يزال جالسا على الكنبة كما تركتاه يتصفح احدى المجلات المتخصصة بشؤون السيارات والمحركات . رفع رأسه استغرابا وقال : " انابيل ! كنت اعتقد انك...اللعنة على الشيطان ، ماذا يجري هنا " . وتوقف فجأة عندما شاهد الرجل يدخل وراءهما وهو يحمل بيده سلاحا قاتلا يصوبه على انابيل . " اوه ، دايمون " . قالتها ايما هامسة ، فأمسك الرجل بذراعها وقال لها بقسوة فيما كان دايمون يهّب واقفا ومتحفزا : " اهدأي ايتها الآنسة ، فانا والسيد ثورن سوف نجري بعض المساومات والصفقات المثيرة ! " . احست ايما بأنها ترتعش وهي تراقب الرجل الدخيل يستجوب دايمون بعنف وقسوة .ظهر الارهاق والتعب الشديدان على وجه دايمون ، فقد مضت خمس ساعات على وصول هذا الرجل واصدقائه. وقالت ايما لنفسها ان هذا الرجل يحظى بمساندة ما من خارج المنزل ن والاّ لما كان اقدم على هذه المهمة الصعبة . ولاحظت ايما من عملية الاستجواب ان دايمون ،من حيث لا يدرين اصبح ضحية لعبة قذرة جدا تتعدّى الاقتحام والتهديد بالسلاح ،وحتى القتل . ولكن الرجل الغريب لا يصدّقه... في البداية كان هادئا ويحاول استخدام الاقناع المنطقي وهو يسأل دايمون عن مكان وجود الفيلم .ولما ظلّ دايمون يصرّ على انه لا يعرف شيئا ، تحول الرجل الى العنف وهدّده بسكين فيما ظل مسدسه مصوبا نحو الفتاتين : "سيد ثورن ! انا لست رجلا صبورا . لا تصرّ على موقفك هذا لأنك ستضطرني الى استخدام اساليب اقناع اخرى.هل تريدني مثلا ان امزّق وجه ابنتك امام عينيك ، ام ان الصبية تهمك اكثر من الطفلة ؟ " هز دايمون رأسه بقوة وانفعال قائلا : " انني اقول لك للمرة المئة ...لا اعرف بتاتا عمّا تتحدث ". فقد الرجل صبره وسيطرته على اعصابه فهوى بعقب المسدس على مؤخرة عنق دايمون بوحشية بالغة . فقد دايمون توازنه ووقع على الارض .ضغطت ايما على فمها كيلا تطلق صرخة خوف وألم ، فيما كانت انابيل تسألها بلهفة : " ماذا حدث ؟ ماذا فعل ؟ هل تعرض أبي لسوء ؟ ". صرخ بها الرجل بصوت عال وهو يتحوّل نحوهما وكأنه يريد الانقضاض عليهما : " اخرسي ! " . احتضنت ايما الطفلة الصغيرة بقوة وهي تحاول ان تحميها بجسدها وروحها حتى آخر رمق ، فيما لو حاول هذا اللئيم القيام بأي شيء على الاطلاق . نهض دايمون بصعوبة فعاد الرجل الى الاستجواب.... وعاد دايمون الى نفي اي علاقة او معرفة بما يتحدث عنه هذا الرجل. وحاول ان يستخدم المنطق معه ، فقال : " اسمع ! الا تعتقد انني لو كنت اعرف شيئا لكنت اخبرتك ايّاه ؟ هل تعتقد بأنني اريد رؤية ابنتي وخطيبتي تتعذبان وتتألمان ؟ " . " عد الى رشدك يا ثورن ! ما اقوم به الآن هو أمر عادي جدا بالنسبة الي . لقد التقيت عشرات الاشخاص مثلك وجميعهم يعتقدون ان بامكانهم التهرب والتملص بالادعاء بانهم يحكون الحقيقة . هذا التظاهر لن ينجح معي ! صدقني! سأحصل على الفيلم منك بطريقة او باخرى، وعندما يتم ذلك .... " . واقترب من دايمون ثم وضع حافة السكين على عنقه وضغط قليلا وهو يقول : " هل تشعر بالسكين ؟ بالمعدن الحاد البارد ؟ هذا ما ستتعرضون اليه جميعا ما لم تعد الى رشدك " رفع دايمون رأسه فجرح ذقنه وسالت منه بضع نقاط من الدم ، مما ارعب ايما قليلا فصرخت : " رباه ! " . ابعد الرجل السكين عن عنق دايمون، كان واضحا انه لا ينوي قتله قبل ان يخبره عن مكان الفيلم . ولكن اي فيلم ؟ واحتارت ايما واصابها الذهول . هل من الممكن ان دايمون يعمل لحساب احدي المنظمات الحكومية بدون معرفتها ؟ انه لأمر مستبعد جدا ، ولكن امورا اكثر غرابة وقعت وتقع كلّ يوم في هذا العالم المجنون ! واستمرت التحقيقات والاستجوابات، وظلّت الفتاتان تشعران بالعجز وعدم القدرة على مساعدة دايمون . ارغمهما الرجل على الجلوس ومشاهدة اضطهاده وتعذيبه لدايمون ، وشعرت ايما بشيء من الارتياح لان انابيل لا ترى شيئا .كانت ستتأثر اكثر بكثير لو كانت مبصرة وشاهدت والدها يعذّب ويهان ويهدد بسكين ، بدون ان يتمكن من تحريك ساكن بسببهما . وفي احدى الفترات ، ضرب الرجل دايمون على رأسه فأفقده وعيه . هرعت ايما الى جانبه غير عابئة بتحذير الرجل الغريب ووضعت رأس حبيبها في حضنها وراحت تربت على خديه برفق وحنان . ثم نظرت بحقد وعنف الى الرجل الغريب وصرخت بوجهه قائلة : " ايها اللئيم ! لماذا لا تذهب ؟ الم تلاحظ بعد انه لا يعرف شيئا على الاطلاق ؟ الا ترى انك تقتله لمجرد القتل فقط؟". رفعها الرجل عن الارض بوحشية ولوى ذراعها وراء ظهرها ثم دفعها بقوة الى الجانب الآخر من الغرفة وهو يقول : " اذهبي الى هناك ، واحضري ابريق الماء ذاك " . فركت معصمها لتخفيف الألم وأحضرت ابريق الماء صاغرة. وفكرت بضربه بالابريق على رأسه ولكنها خافت من الا يترك المسدس من يديه ويبدأ باطلاق النار مما قد يؤدي الى مقتل احدهم او جميعهم ، ولم تجرؤ على المجازفة . اعطته الابريق فصب الماء على وجه دايمون الذي أفاق للتو من غيبوبته ، جلس على الارض وهو يضع احدى يديه على مكان الجرح الذي خلفته ضربة الرجل . ولما انتبه الى وجود الرجل ، وقف بسرعة وتطلع نحو ايما وانابيل ليتأكد من انهما لم تتعرّضا لأيّ ازعاج او مضايقة. وعاد الاستجواب والتعذيب ، الى ان قال له الرجل : " اسمع يا صديقي العزيز ! سنورد الحقائق الواحدة تلو الاخرى ، واذا تمكنت من نفيها بشكل مقنع ومرض فسوف نرى عندئذ ماذا سنفعل " . حدّق به دايمون متعبا ومرهقا ، فالساعة تجاوزت الثالثة ببضع دقائق والصباح سينبلج خلال فترة قصيرة . ثم قال له بصوت منخفض : " اي حقائق يا رجل ؟ اخبرتك مئة مرة انني لا اعرف شيئا عن هذا الموضوع . انا رجل اعمال وليس جاسوسا! ". " الأمر سيان لدي . ان كنت عميلا ماجورا او انك تبرعت بالقيام بهذه العملية فقط ، فالامر لا يهمني . ما اعلمه جيدا انك ستدفع الثمن غاليا ، كما ستدفع صديقتاك الجميلتان ثمنا مماثلا ، ما لم تخبرني الحقيقة ، ركزت جميع محاولاتي حتى الآن عليك ، ولكني سأتحوّل قريباً اليهما . أضعت وقتا ثمينا معك ، الا ان لدينا كل الوقت الذي تريده . فوجودك يا سيد ثورن على هذه الجزيرة الصغيرة يساعدنا ويخدم اهدافنا " . وتأثر دايمون اذ انه لا فرصة امامهم على الاطلاق . ولكنه لن يستسلم بدون قتال ....اذا سنحت له الفرصة . " اذن ، هل اخبرك بما نعرفه نحن ؟ " . " وماذا يمكنكم ان تعرفوا ؟ ليس هناك شيء كي تعرفوه". " صبرك يا سيد ثورن ، فهناك الكثير ! اولا ، هل يمكنك ان تنفي انك كنت تعرف فتاة صينية جذابة للغاية تدعى تساي بن لونغ ؟ " . " نعم ، كنت اعرفها . ماتت ، اليس كذلك ؟ " . " بكل اسف ، نعم . حادثة مؤسفة للغاية. كانت فتاة جميلة ورائعة ! " . " انت قتلتها ؟ " . " اضطررنا لذلك ، ولكن المؤسف في الموضوع أنّنا لم نجد الفيلم معها . احسّت بملاحقتنا لها فتخلصت من الفيلم قبل موتها " . " آه ، انني افهم الآن ماذا تعني . انتم تعتقدون انها اعطته لي .... تظنون انني انا الوسيط " . " اننا لا نظن يا سيد ثورن...اننا نعرف.انت الانسان الوحيد الذي اتصل بها ،ولم يكن ذلك لمرة واحدة بل لمرات عديدة. ان الاستنتاج الطبيعي والمنطقي يوحي بأن اسلوبك الساحر ، اعماها عن الاخطار التي كانت تواجهها " . " ولكن الا تلاحظ خطأك ؟ فلو كنت انا الوسيط لكان عليها ان تدرك بان اتصالها بي سيفضح امري ، اليس كذلك ؟" . " خطرت هذه الفكرة في رؤوسنا ولكننا الغيناها لأكثر من سبب .فالفتاة لم تكن على علم تام بأننا وراءها وسننقض عليها ، كما انها ذهبت الى سان فرانسيسكو لمقابلة رجل من التابعية البريطانية " . " الجريمة الثانية هي ايضا من صنعكم ؟ الرجل البريطاني؟". " نعم تصوّرنا اننا تخلصنا بنجاح من وسيطها ، الا اننا كنا على خطأ " . صرخت ايما متدخلة في الحديث الجاري بين الرجلين : " وماذا لو لم تكونوا مخطئين ؟ ماذا لو كان الرجل الآخر وسيطها ؟ ربما اتصلت بدايمون لأنها تريد مساعدته ، ولكنها لم تحصل عليها " . " آنستي العزيزة،انا متأكد تماما من انك لا تعرفين شيئا على الاطلاق عن هذا الموضوع .تساي بن لونغ كانت فتاة جذابة للغاية ،ومن غير المحتمل الى حد كبير ان يطلعك السيد ثورن على نواياه ،مهما كانت تلك النوايا " . احمرّت وجنتاها غضبا وغيرة .ولما شاهد دايمون ذلك الاحمرار وتلك النظرات المنزعجة ، ناشدها قائلا : "لا تصغي الى كلامه يا ايما ، ارجوك ! " . " يبدو ان خطيبتك لم تكن تعرف شيئا عن تساي بن لونغ . كنت اتصور ذلك . اخبرني يا سيد ثورن ، هل نمت مع تلك الفتاة ؟ " . ظهر الرعب على وجه ايما فيما شعر دايمون بحقد وكراهية بالغين إتجاه ذلك الرجل الحقير .كيف يجرؤ هذا اللعين على الايحاء بمثل هذه التفاهات والاكاذيب امام ايما، وانابيل ايضا. انه لأمر مؤلم جدا . لم يجب على سؤال الرجل الذي بدا عازما على ملاحقة الحديث حتى النهاية ، اذ قال : "في فترة ما خلال علاقتك بتلك الفتاة ، اصبحت وسيطها . ان كان ذلك بارادتك،وهذا ما اعتقده شخصيا ،او بغير ارادتك ...فالامر سيان وغير مهم بالنسبة الينا . اننا نريد الفيلم ! " . " اي فيلم ؟ رباه ، فتشتم هنا ونقبتم شقتي في لندن ...فلو كان معي لكنتم وجدتموه ! " . " تحدّث بمنطق يا سيد ثورن . الفيلم صغير جدا، ميكروفيلم ،ليس اكبر من حبة دواء صغيرة " . وابتسم بخبث ولؤم قائلا : " اياك ان تلهو معي يا سيد ثورن ، فانا لن اغادر هذه الجزيرة قبل الحصول على الفيلم " . شهقت ايما ثم عادت الى صمتها وحزنها وتساؤلاتها ,لا يمكن ان تكون هذه الليلة حقيقية ،لا يمكن ! انه كابوس مزعج ، ولكنه ليس كابوسا. وقف الرجل بسرعة ورفس الكرسي بعنف ووحشية قائلا : "الفيلم معك يا سيد ثورن . هل اخبرك كيف اعرف ذلك ؟ لأن جميع العملاء الذين نستخدمهم في هونغ كونغ لا يزالون بخير وسلام .لو انك سلّمت الفيلم الى السلطات المختصة ،لكانوا معتقلين منذ بعض الوقت .سيحاولون الهرب طبعا، وبما انهم لا يزالون يعملون ، فهذا يعني ان الفيلم لا يزال معك . عندما فتشنا شقتك في لندن كنا متأكدين من ان الفيلم موجود هناك . كان من المستغرب جدا ان تغادر البلاد والفيلم لا يزال بحوزتك .اننا دقيقون جدا يا سيد ثورن ! " . ثم ابتسم بخبث وتابع حديثه قائلا : " خلاصة القول ان الفيلم موجود هنا . وبما انني اتصوّر انك لن تتركه في مكان ما هنا وتواجه خطر فقدانه ،فانني اصبحت شبه مقتنع بانه موجود معك انت بالذات " . وتنهّد بلؤم وقال : " ان تفتيشك سيكون امرا مزعجا جدا . ومع انني اكره ان اقوم بذلك شخصيا ، الا انني مضطر جدا " " ولكنك فتشتني مرة قبل الآن " "وهل تعتقد ان ذلك التفتيش كان دقيقا بما فيه الكفاية ؟ ". " ماذا تعني بذلك ؟ " . " اعني ان التفتيش السابق كان خارجيا وسطحيا . اما في المرة المقبلة فسوف يكون من الضروري ان نبحث في كل مكان من جسمك . هل تفهم يا سيد ثورن ؟ في كل مكان !". وضحك بمكر وحقد ثم اضاف قائلا بهدوء : "انني متأكد من انك لا ترغب في ان تشاهد الفتاتان هذه الاهانة والمذلة ، ولكنهما ستفعلان ذلك مرغمتين ! " . " رباه ! " . واحنى دايمون رأسه ومضى الى القول : " لا يمكنني ان أضيف كلمة واحدة الى ما قلته سابقا .اقسم لك بانني لا اعرف شيئا عن هذا الفيلم " . هزّ الرجل كتفيه بدون اكتراث ، وقال : " اخلع ثيابك يا سيد ثورن " . " لا ! " . " اعتقد انك ستفعل ، يا سيد ثورن " . واقترب منه ببطء ثم ضحك واستدار نحو الفتاتين .استل سكينه ووضعها قرب عنق ايما وكرّر جملته باسما : " اعتقد انك ستفعل ، يا سيد ثورن " . تصاعدت الدماء الغاضبة الى وجه دايمون بسرعة وانفعال، وبيدين ترتجفان حقدا وسخطا حلّ ربطة عنقه وسحبها بهدوء متعمّد .امسكها امام وجهه لحظة حلّل فيها فرصة واحتمالات الربح والخسارة .عليه التحرك الآن، والا لن تسنح له فرصة اخرى ! ماذا سينجم عن ذلك ؟ هذا المجرم السفاح سوف يقتلهم جميعا في اي حال ! نظر الى وجه ايما فشاهد الرعب الحقيقي ، وتطلع الى انابيل فرأي كتلة صغيرة من الخوف والهلع ،فتأكد له انه لن يتمكن من البقاء ساكنا بدون حراك . وبقوة تفوق القدرة البشرية ، رمى دايمون بنفسه على الرجل المسلح ملقيا به جانبا. وقع الرجل على ايما ،فيما صرخت انابيل وفّرت كالمجنونة نحو الطرف الآخر من الغرفة . ابعده عن ايما و...يا لهول المنظر ! كانت سكينه قد غرزت حتى مقبضها في كتف ايما ، وكانت حبيبته لحسن حظها غائبة عن الوعي. الا ان الدماء كانت تفور بغزارة من جرحها العميق وتشكّل بركة حمراء صغيرة على السجادة الصفراء تحتها . لو كان ثمة شيء في العالم يقوّي من عزيمته ويعطيه المزيد من القوة الجسدية ،لكان رؤيته ايما جريحة وعلى وشك ان تموت ان لم تحصل على معالجة سريعة .كان الدخيل لا يزال ممسكا بالمسدس عندما استدار دايمون تلك اللحظة الوجيزة لمعرفة مدى الخطر المحدق بخطيبته .صوّب الرجل المسدس الى خصمه ولكن دايمون كان سريعا للغاية فوجّه الى وجه الرجل لكمة حّملها كل قوته وغضبه واشمئزازه.لم يتمكن الرجل من الضغط على الزناد ،ولكنه كان قويا جدا فاكتفى بهز رأسه بقوة ،واطلق صرخة حادة كحيوان بّري جريح ثم استدار نحو دايمون.احس دايمون بان لاحظ له في الحياة ان لم ينقض على عدوّه المسلح والاشتباك معه بالايدي.تقاتل الرجلان بوحشية وضراوة . ومع ان دايمون اطول من خصمه ،الا ان ذلك الرجل كان مجموعة من العضلات المفتولة القوية ومعتادا اكثر بكثير من دايمون على جميع فنون القتال.رفع ركبته ووجهها بأقسى قوته الى معدة دايمون مما دفع به الى الجدار المقابل ،حيث ارتطم به ووقع وراء الكنبة في اللحظة التي انطلقت فيها رصاصة وحطمت زجاج النافذة فوق رأسه . تحرّك دايمون بسرعة على الارض قبل ان تسنح للرجل اي فرصة للتحرك . امسك برجليه واوقعه ارضا حيث قبض على معصم اليد التي تحمل المسدس وراح يضربها على الارض بعنف ووحشية ، الى ان وقع المسدس قرب قدمي انابيل .نظر دايمون الى ابنته وقال لها بلهفة وهو يحاول بصعوبة فائقة ابقاء الرجل على الارض : " انابيل ! المسدس ! موجود قرب قدميك ! اعطني المسدس بسرعة ! " . هزّت الفتاة الصغيرة رأسها مذعورة وقالت باكية : " أبي ؟ أبي ؟ أين انت ؟ " . " هنا ، هنا ياحبيبتي ! اعطني المسدس يا انابيل ! بسرعة ! " . انحنت انابل ورفعت المسدس بيد مرتجفة وقالت : " ابي ؟ ابي ؟ أين انت ؟ " . " انني هنا يا حبيبتي ! انابيل ، هنا " . بدأ الرجل يتحرر تدريجيا من قبضة دايمون وامسك بيده ذقن خصمه في حين مدّ يده الاخرى نحو الطفلة .واصيب دايمون بالهلع ! فلو اقتربت ابنته قليلا ، فانها ستعطي المسدس لهذا الرجل الشرير . كيف ستعرف ؟ كيف ستفرّق بين يد واخرى؟ قال لها وقد بلغ به اليأس حدا لا يطاق : " انابيل ، انتبهي يا ابنتي ! احذري بحق السماء ان تعطي المسدس لهذا الوحش ! " . حدقت بهما انابيل وهي لا ترى شيئا، وكانت تحمل المسدس بيد وتضغط على فمها باليد الثانية .وصرخت باكية وخائفة : " كيف...كيف سأعرف ؟ ابي ، اين انت ؟ " . اقتربت قليلا فشدّ الرجل نفسه نحوها وامسك برجلها ، ففقدت توازنها ووقعت فارتطم رأسها بالخزانة الخشبية القريبة . ولحسن الحظ ، وقع المسدس تحتها . وجّه دايمون لكمة قوية جدا الى صدغ الرجل اذهلته فترة وجيزة، ثم نادى ابنته بلهفة : " انابيل ، انابيل ! هل انت بخير ؟ " . بدأت الفتاة الصغيرة بالتحرك ثم وقفت ببطء وهي تمسك بالمسدس مرة اخرى . اجابته بتمهل وهي تفرك عينيها : " نعم ، نعم ، انني بخير . ابي؟ هل انت هنا ؟ " . " هنا .....هنا ! " . وبدأ الرجل الآخر يتحرك ايضا . انه بلا شك قوي البنية الى درجة مذهلة . وعاد دايمون ينادي ابنته ويحذرها : " انابيل ، المسدس! ولكن لا تقتربي كثيرا ! " . تقدمت انابيل نحوهما ثم بدا وكأنها تتأملهما ،لأنها انحنت فجأة ووضعت المسدس في يد والدها . رفع دايمون المسدس وهوى به بكل قوته على رأس الرجل فأفقده وعيه .وقف دايمون وقد ظهر الاعياء على وجهه . وفي تلك اللحظة بالذات دخل رجلان ، فصوّب المسدس نحوهما ثم قال وكأنه لا يصدق عينيه : " المفتش هوارد ! رباه شكرا لك ! من اين اتيت يا رجل؟". 14 - يا لـها مـن لــيلة ! دخل المفتش هوارد الغرفة بهدوء وسكينة وكأنه يقوم بزيارة مجاملة ، وفيما تولى مساعده تقييد الرجل المغمى عليه ، اقترب من ايما التي بدأت تستعيد وعيها تدريجيا وقال لرب البيت : " اخبرني الآن يا دايمون، ماذا كنت تفعل ؟ هل كنت تقيم حفلة للمجانين ؟ ". وابتسم فرحا بنفسه لأنه شعر بضرورة العمل على تخفيف حدة التوتر المخيمة على هذا المنزل وجميع المقيمين فيه .القى دايمون بنفسه على احد المقاعد القريبة وقد بلغ منه الاعياء درجة لا تصدق .سأل صديقه المفتش وهو لا يزال ممسكا بالمسدس : " هل هي بخير ؟ " . " انها بدأت تعود الى وعيها .لقد فقدت كمية كبيرة من الدم" . ثم التفت نحو مساعده وقال : " فيليب ، اذهب الى الزورق واستخدم جهاز الاتصال الموجود فيه لاستدعاء الطبيب مريديث.قل له ان يحضر معه معدات خاصة باعطاء الدم ،لأن الفتاة قد تكون بحاجة لذلك . هل تعرف يا دايمون فئة دمها ؟". هز دايمون رأسه اشارة الى النفي، وفيما غادر فيليب المنزل متوجها الى الزورق ، التفت المفتش نحو دايمون وقال له بهدوء : "ستكون بخير باذن الله .كيف حالك انت ؟ وانت ايضا، يا صغيرتي انابيل ، كيف تشعرين ؟ " . كانت انابيل واقفة قرب مقعد والدها وقد بدت على وجهها ملامح غريبة .لم تجب المفتش فاستدار والدها نحوها وتمتم بقلق : " انابيل ، حبيبتي ، هل انت بخير ؟ " . هزت انابيل رأسها وقالت لوالدها بصوت ضعيف : " أبي ! الم تلاحظ ؟ اعطيتك انت المسدس ! " . " انابيل ! هذا صحيح ! هذا صحيح ! هل ترين ؟ " . سمعت ايما سؤاله فرفعت رأسها المرهق وسألت بصوت واهن : " هل عاد اليك بصرك يا انابيل ؟ هل عاد حقا ؟ " . " بدأ بصري يعود تدريجيا... اعتقد ذلك . لا...لا ارى بوضوح .اشعر وكأن غشاوة تغطي عيني المتعبتين .ولكني تمكنت من معرفتك يا أبي . كان علي ان اعطيك انت ذلك المسدس اللعين ، اليس كذلك؟" . جذبها دايمون نحوه وضمها بمحبة وحنان مرددا اسمها وصوته يكاد يختنق عاطفة وتأثرا : " اوه ، انابيل ! انابيل ! انابيل ! " . عانقته وقبلته بحنان فياض ثم سارت نحو ايما بخطى بطيئة وثابتة فيما كان والدها والمفتش يراقبانها باهتمام . ارتمت ايما على الكنبة لأنها لم تعد قادرة على الجلوس ، فانحنت فوقها انابيل ودفنت رأسها قرب عنق صديقتها الجريحة هامسة : " اوه ، ايما ! سأستعيد بصري يا ايما ! سوف ارى ! يا لروعة هذه الكلمة ! " . قال دايمون لنفسه انه لن ينسى هذه الليلة في حياته، لا لرعبها وعذابها بل لأنها اعادت النظر الى ابنته الحبيبة . قد يمر بعض الوقت قبل ان يعود النظر الى حالته الطبيعية، ولكن المهم ان الحاجز النفسي كسر وانها بدأت ترى ! ركع على ركبتيه قرب الكنبة عندما انسحبت انابيل الى مكان آخر ، وقال للفتاة الجريحة : " ايما ، حبيبتي ، هل انت بخير ؟ " . شدت ايما على يده بقوة وقالت : " سأكون بخير ، باذن الله . الجرح مؤلم الى حد ما ، ولكني سأخرج من هذه المحنة سالمة معافاة ... ثمة امور عديدة اتطلع قدما اليها والى تحقيقها " . " والآن يا عزيزي ،بعض الايضاحات من فضلك !لماذا اتيت الى هنا ؟ وماذا عن الآخرين المتورطين مع هذا الرجل؟". أجابه المفتش هوارد بهدوء وهو يبتسم : " لم يكن معه سوى رجل واحد ،وهو الآن مكبل اليدين والرجلين ومطروح في زورق الشرطة تحت الحراسة " . " عظيم . ولكن ،لماذا أتيتم الى هنا ؟ اعني ،كيف عرفتم بما يجري ؟ " . " لم نعرف . كنا نعلم فقط ان هذين الوغدين وصلا الى ناسو بمجرد نزولهما من الطائرة ، ولكننا بالطبع لم نتصور ان لهما علاقة بك .في اي حال ،ابقيناهما تحت المراقبة طوال الوقت ، ولكنهما ليسا السبب في حضورنا يا دايمون ، مع اننا سمعنا طلقا ناريا عندما كنا نقترب من الجزيرة وشعرنا بأن مشكلة ما قد وقعت .سبب حضورنا هو ممرضتك ، الآنسة ايما هاردينغ. هل هي هنا ؟ " . ذهل دايمون لأن ذلك كان آخر امر يمكن ان يتصوره. سبقته ايما الى الاجابة وقالت له بصوت واهن وقد اصفرت وجنتاها اكثر من ذي قبل : " انا ايما هاردينغ. ماذا تريد مني يا حضرة المفتش؟" . دهش المفتش هوارد وقال وهو ينظر بذهول الى دايمون : " ولكني كنت اعتقد....اعني ...ان تصرفك مع الآنسة جعلني...افترض طبعاً انها ....انها ...." . اجابه دايمون بهدوء : " انها خطيبتي .سوف نتزوج في نهاية الاسبوع المقبل .لماذا ؟ " . هز المفتش رأسه وقال : " هكذا اذن ! يا للأسف ! " . شهقت ايما ورفعت يدها الى كتفها فجأة...ثم أغمي عليها مرة اخرى .هرع دايمون الى جانبها وهو يقول : " رباه ! رباه! هل تعتقد ان علي نقلها الى ناسو ؟ " . " لا ! لا تحركها من مكانها ! سوف تؤذيها اكثر مما تساعدها " . دخل المساعد فيليب في تلك اللحظة وهو يلهث من التعب، وقال : " الطبيب في طريقه الينا . انه قادم من الدورو ،وسيصل خلال عشرين دقيقة " . " شكرا لك يا ربي ! " . قالها دايمون بتأثر واضح ثم التفت نحو صديقه المفتش وقال له : "ولكن يا بوب ،ماذا حدث ؟ لماذا كنت قادما لمقابلة ايما؟". " يؤسفني في هذه الظروف الصعبة بالذات ، والتي ستوضحها لي في وقت لاحق ، ان احمل للآنسة انباء سيئة ومزعجة . الأفضل ان نبحث الموضوع في مكان آخر كيلا تسمع حديثنا في حال انها استعادت وعيها فجأة ". " رباه ! لويزا ! تانزي ! والخدم !لم يذهب احد بعد لمعرفة ما اذا كانوا بخير ! " . وفيما كانت تانزي تدخل الباب ،اشار المفتش الى مساعده قائلا : " فيليب ! تحقق من الامر ! " . " سيد ثورن ! ماذا جرى ، بحق السماء ؟" . " سأشرح لك لاحقا. هل انت بخير ؟ هل دخل احد غرفتك؟" . " لا ، حسبما اعلم .لماذا ؟ هل وقعت مشاكل ؟ " . وشاهدت الرجل الغريب ملقى على الارض ، فصاحت : " أوه ! أوه ! ماذا يجري هنا ؟ " . اجابها دايمون بتململ وتبرم : " في وقت لاحق يا تانزي ،في وقت لاحق . اسمعي ! ايما مصابة بجرح بالغ . الطبيب في طريقه الينا . ابقي معها هنا فيما اتحدث مع المفتش على انفراد " . " طبعا ، طبعا " . وركضت نحو ايما وهي تقول بعد ان شاهدتها على الكنبة : " اوه ، الفتاة المسكينة ! " . ثم التفت نحو انابيل مذعورة وسألتها بلهفة وتأثر : " وانت يا حبيبتي الصغيرة ! يا ملاكي ! هل انت بخير ؟ هل اصابك احد بأذى ؟ " . رقصت انابيل وقفزت امامها وقد امتزجت في نفسها مشاعر الفرح من انتهاء المحنة والبهجة بعودة بصرها . وتركها والدها والمفتش لتخبر تانزي الانباء السارة بعودة بصرها جزئيا. وفي غرفة المكتب ، تطلع دايمون الى صديقه سائلا وقد عيل صبره : " هيا ! هيا ! ما هي هذه الانباء السيئة التي تتحدث عنها؟" . " كان لها شقيق ، اليس كذلك ؟ جوني هاردينغ ؟ " . " كان ....كان لها شقيق ؟ " . " آسف يا دايمون . هل تعلم انه سرق اكثر من مئتي جنيه من شركتك ؟ " . " نعم منذ بعض الوقت ، وقد تمت تسوية المشكلة آنذاك". " لا اعني تلك الحادثة ،بل هذه التي وقعت خلال الشهرين الماضيين. انها القصة المعتادة....ديون لا يقدر على تسديدها، وتهديدات يتلقاها من اشقياء يستخدمهم اصحاب نوادي القمار لجمع ديون اللاعبين" . " دع المقدمات ،واخبرني ماذا حدث بالضبط " . " كتب لشقيقته على ما يبدو طالبا منها ان تحول له مبلغا من المال .استجابت خطيبتك للطلب...ولكن المبلغ لم يكن كافيا. وليلة أمس الأول تعرض لعملية مطاردة في شوارع لندن .اصطدمت سيارته بزاويه احدى البنايات ،وربما كان ذلك عمدا، فقتل على الفور .اكتشف رجال الشرطة هناك ان اقرب انسان له هو شقيقته... التي تعمل هنا " . " مسكين هذا الشاب ! كان يتصرف دائما وكأنه يسعى الى حتفه ! " . ثم تنهد واضاف قائلا : " اعتقد ان علينا التمهل قليلا لابلاغ ايما هذا النبأ المزعج. يكفيها ما مرت به طوال الليلة الفائتة " . " اوافقك بدون تحفظ . هيا ،لنعد الى القاعة .قد يستعيد الرجل وعيه ويحاول القيام بشيء ما، على الرغم من قيوده " . التقي بهما فيليب قبل ان يدخلا الغرفة الكبيرة وابلغهما بأن لويزا هي الوحيدة بين بقية المقيمين في المنزل التي تعرضت لهجوم الدخيل ،والسبب في ذلك ان غرفتها تقع في الجانب المخصص لاصحاب البيت وضيوفهم او العاملين معهم من غير الخدم مثل لويزا وايما .وقال انها بدأت تستعيد وعيها،وسوف يكشف الطبيب على رأسها بعد معالجته للجريحة . كانت ايما تصارع الاغماء ،فصرخ دايون وهو يسير بعصبية في ارجاء الغرفة : " اين مريديث بحق السماء؟ الا يعرف انها حالة طارئة واضطرارية ؟ " . نظر اليه المفتش بتأثر ووضع يده على كتفه قائلا : "لنحاول تمضية الوقت بتحليل الظروف التي أدت الى هذه المشكلة .لماذا اتى الرجلان الى هنا ؟ماذا كان دافعهما لاقتحام بيتك ومهاجمتك على هذا النحو ؟ " . جلس دايمون وبدأ يخبر المفتش القصة بحذافيرها وكما حدثت اولا بأول .اخبره عن لقائه الأول والعابر مع تساي بن لونغ في مطار هونغ كونغ وعن حادثتي القتل في سان فرانسيسكو ،وكذلك عن حادث اقتحام شقته في لندن.واخيرا وصف له تفاصيل ما حدث في الليلة السابقة .وكان المساعد فيليب يدون كافة المعلومات بسرعة ودقة . ولما انتهى دايمون من رواية قصته ،نظر اليه المفتش باهتمام بالغ وقال : " انها قصة غريبة جدا .فلماذا تتصل بك هذه الفتاة ان لم تكن متورطا بهذه العملية .انا اظن كهذين الرجلين ،انك وافقت على القيام بدور الوسيط بعد مقتل الرجل البريطاني الآخر " . واشعل سيكارة ثم اضاف قائلا : " يجب ان تدرك يا دايمون ان تصرفاتك تثير الشكوك والشبهات .بيتك هنا ،ولكنك مع ذلك تعود مباشرة الى لندن بعد مغادرتك سان فرانسيسكو " . " انا رجل اعمال اذهب حيثما تضطرني اعمالي للذهاب . اضف الى ذلك ،انني لو كنت الوسيط فلماذا لم اترك الفيلم .... ان كان له وجود في المقام الأول ...في لندن؟" . " هذا الفيلم موجود ،ونحن نعرف ذلك يا دايمون .ثم ،اليس محتملا انك ترغب في عرضه بطريقة المزاد العلني؟" . " تعني....على حكومات مختلفة ؟ " . " تماما. اني اتصور ان عددا كبيرا من رؤساء الدول يتمنون معرفة محتويات هذا الفيلم " . " بوب هوارد ! هل تظن صراحة ان الفليم حقا موجود معي؟" . هز المفتش رأسه واجابه بجدية بعد ان شاهد الذهول والاستغراب الشديدين والصادقين على وجهه " لا يا دايمون ، انا لا اظن ذلك ،اني اعرفك منذ سنوات عديدة ولا اتصور انك ستعرض حياة ابنتك والآنسة هاردينغ لقاء شيء كهذا .اضف الى ذلك انك لست من هذا النوع من الرجال " . تمتم دايمون بارتياح : " شكراً لك يا ربي ! " . سمع الرجلان وقع اقدام في الخارج فتنهد دايمون وعلت وجهه ابتسامة خفيفة .انه الطبيب ! توجها الى القاعة فورا، فوجدا ان الطبيب باشر بمعالجة ايما .كما كان اثنان من رجال الشرطة يخرجان الدخيل الذي بدأ يستعيد وعيه . وبدأت الأمور تعود الى طبيعتها بصورة تدريجية .اخذت تانزي الفتاة الصغيرة الى سريرها حيث سيفحصها الطبيب في وقت لاحق، وبعد ان عالج كتف ايما وضمد الجرح بعناية فائقة ،حملها فيليب الى غرفتها في الطابق العلوي ووضعها في سريرها . وبعد ان ذهب الجميع واختلى الرجلان لمتابعة تحليل المشكلة ،ربت هوارد على كتفه وقال : " اني متأسف جدا لارهاقك وازعاجك باسئلتي المتواصلة والمتلاحقة ،ولكن اعتقال هذين الوغدين ليس نهاية الطريق .فما دامت قيادتهما تظن بأن الفيلم موجود معك ، ستظل في خطر . ولذلك فإنه يتحتم علينا ،بطريقة او باخرى ،ان نتأكد من ان الفيلم ليس معك .... وان لم يكن معك ،فأين هو هذا اللعين ؟ ". هز دايمون رأسه بعصبية وقال : " بوب ،الا تظن انني اريد معرفة ذلك قبلك ؟ انني مشمئز من هذه القضية برمتها واريد الانتهاء منها كلية ...وباسرع وقت ممكن " . " لا يمكنك التخلص من هذه المشكلة بدون مواجهة بعض المصاعب ،فعندما يصبح الفيلم بحوزة السلطات المعنية ، تصبح انت حرا طليقا . ولكن حتى ذلك الحين ... " . " سوف يطاردونني كالوحوش الكاسرة ! يا لهذه الورطة الشنيعة ! " . اخذ سيكارة من العلبة الموجودة امامه واخرج قداحته لاشعالها .ثم ،كومضة برق خطرت بباله فكرة ...فهب واقفا وهو يقول بدهشة بالغة : " لدي فكرة غريبة ! " . " حافظ على هدوئك يا دايمون ، وفكر بروية ! " . " لا اقدر ! لا اقدر ! رباه ،لماذا لم افكر بهذا الاحتمال من قبل ؟ " . تنهد المفتش بشيء من الانزعاج ،متصورا ان الارهاق والمعاناة هما سبب هذا التصرف . وسأله متبرما : "تفكر بماذا ، يا دايمون ؟ " . " اسمع !كلما فكرت بتلك الفتاة الصينية ،كنت دائماً افكر بالأوقات التي كنا فيها معا وتأكد لي في وقت لاحق انها هربت مني لأنها كانت خائفة .ولكن شيئا اخر نسيته تماما ، وهو اننا عندما كنا في سان فرانسيسكو استعارت مني قداحتي ...هذه القداحة ! وعندما فزعت وخافت ،كما قلت لك ،اختفت...واخذت القداحة معها ، اعتقدت في البداية انها سرقتها ،ولكننا عندما خرجنا من المطعم ، استوقفني مدير الفندق واعطاني القداحة قائلا ان فتاة صينية طلبت منه اعادتها لي شخصيا .لم اعد افكر بالقداحة .تأكد لي ان الفتاة ذهبت ولن تعود وتصورت انها قررت اعادة القداحة لأنها ربما ندمت على سرقتها .الا تلاحظ شيئا غريبا في هذه المسألة ؟ اليس محتملا ان يكون الفليم الصغير في القداحة ؟ " . "انه احتمال معقول تماما، لماذا لم تفكر بالقداحة من قبل؟". " كما اخبرتك قبل قليل ، لم يبد الامر هاما على الاطلاق . ولكنني اعتبره الآن مفتاح القضية برمتها " . اخذ المفتش القداحة بسرعة وبدأ يفحصها ويقلبها باهتمام بالغ .ثم صرخ بصوت عال : " حجر القداحة ! " . وفتح بسرعة غطاء المكان الصغير المخصص للحجر الاضافي ، فوقع الفيلم الصغير على الطاولة .وصرخ المفتش مرة أخرى بسرور وابتهاج : " رائع ! رائع ! " . ثم ابتسم بمكر وقال : " يجب ان اتوقع ترقية نتيجة لهذه القضية " . ابتسم دايمون ايضا وهو لا يصدق بأن هذه الورطة المزعجة قد انتهت . ثم اشعل سيكارته بعود ثقاب من علبة قريبة وقال لصديقه ضاحكا : " انك تستحقها ...يا حضرة كبير المفتشين " . ثم تمتم وهو يهز رأسه : " يا لها من ليلة ! يا لها من ليلة ! " . بعد مرور شهر على تلك الليلة العصبية والحادثة الرهيبة ، ادخلت ايما الشاي الى غرفة زوجها في شقتهما بلندن .كانت ترتدي عباءة حريرية شفافة ...وتبدو كأنها في الثامنة عشرة من عمرها . هذا ما قاله دايمون لنفسه وهو يتأملها بشغف ومحبة ، وفيما كان مستلقيا بتكاسل على سريره يراقب دخولها وطريقة سيرها . ومع انه مر أسبوعان واكثر على زواجهما ، الا انه لا يزال يشعر كلما شاهدها بتلك الرعشة المثيرة التي احس بها عندما زنر اصبعها بذلك الخاتم الرائع . كانا سعيدين جدا، كما توقع ان يكونا .وكانت هي كل ما تمناه واراده في زوجته وشريكة حياته . لم تعد تشعر بتلك العصبية الخفيفةالتي احست بها في الليلة الأولى لزواجهما ...عندما كانت خائفة الى حد ما من اظهار عواطفها بالقدر الذي تريد . ولكنه علمها بصورة تدريجية كيف تسعده وتبهجه، وفتح لها بذلك آفاقاجديدة ومثيرة لم تكن تحلم بها من قبل. وضعت الشاي قربه وسألته بهدوء وحنان : " هل ايقظتك ؟ " . " كم الساعة الآن ؟ ". " الثامنة الا خمس دقائق . هل تريد فنجانا من الشاي؟" . " وهل تريدين انت ؟ " . " نعم " . " وصبت فنجانين من الشاي وجلست على مقعد مجاور تشرب فنجانها وتتأمله بعطف وحنان . انهى فنجانه بسرعة وقال : " ها قد انتهيت . شكراً " . " يبدو انك كنت بحاجة اليه " . " تعالي الى هنا " . ظلت تشرب فنجانها متجاهلة طلبه ورغبته .فكرر طلبه بلهجة الأمر ،ابتسمت وقالت له : " لم اشرب حاجتي بعد " . كانت تشعر بلذة مثيرة عندما تعذبه وتغيظه على هذا النحو، لأنها تعرف الكيفية التي سيقاصصها بها .انها تحبه وتعشقه ...تحبه كانسان ،وكرجل ،وتشعر بانها لن تتحمل العيش بعيدة عنه او بدونه .شربت الشاي ووقفت بتكاسل متعمد . اخفى رأسه تحت الوسادة ،فعضت على شفتها وصرخت به : " دايمون ، دايمون ! " . لم يجبها ،فاقتربت منه ورفعت رأسه نحوها . لم يمد يده اليها بل تركها تفعل ما تريد . قطبت جبينها قليلا وناشدته قائلة : " دايمون ، لا تغضب مني ! " . ابتسم بمكر وقال لها : " انا لست غاضبا.اذهبي وارتدي ثيابك فسوف اظل بعض الوقت في سريري " . غضبت وهزت رأسها وبدأت تتمتم : " انك ، انك ... " . علق على ثورتها البريئة ضاحكا : " العصبية ، العصبية !" . وشعر بأنه لم يعد قادرا على اغاظتها اكثر من ذلك . فرمى الغطاء الحريري واخذها بين ذراعيه . " دايمون ! ماذا لو دخل احد الآن ؟ " . " انك زوجتي ، اليس كذلك ؟ " . وعانقها مانعا اياها من مواصلة الاحتجاج والتذمر .وبعد فترة طويلة جدا ن نهضت ايما رغما عنها واخذت تتأمله بعينين عاشقتين . ابتسم وامسك يدها ثم قبلها بوداعة وحنان وسألها : " هل انت سعيدة يا حبيبتي ؟ " . اجابته بهدوء وهي ترتدي العباءة الحريرية بتردد ملحوظ : " وهل يجب ان تسأل ؟ انني لم اشعر بجزء من هذه السعادة في اي وقت من حياتي...وانت تعلم ذلك " . " وجوني ؟ " . تنهدت ايما وردت عليه وقد ابتلت عيناها بالدموع : " انت تعرف انني افتقده بيت الحين والآخر . ولكنني ممتنة جدا ان المفتش ابلغنا ذلك النبأ السيء في تلك الظروف بالذات .لا ادري ماذا كان سيحدث لنا لو لما يأت في ذلك الوقت " . "صحيح . كنا محظوظين لأن بوب وصل في ذلك الوقت المبكر .ظن انني ساستخدم اليخت ذلك اليوم ، وهو يعرف انني اذهب باكرا " . " كنا محظوظين جدا " . واغمضت عينيها لحظة وهي تستعيد ذكرى تلك الساعات الرهيبة والمرعبة وارتعش جسمها ،ثم تذكرت شقيقها فقالت : " مسكين جوني ! يقتل على ذلك الشكل ،يطارده الاشقياء ورجال العصابات ! انه لامر مؤسف ومحزن حقا ! " . تنهد دايمون وقال لها : " افكر احيانا بما اذا كانت الحادثة ستقع لو لم ارغمك على الذهاب الى سانت دومينيك ! " . هزت ايما رأسها بحدة وقالت : " هذه سخافة ! جوني والمتاعب صديقان حميمان لا يفترقان .كان دائما يريد مالا ، وكان سيواجه عاجلا ام آجلا مشكلة كهذه عندما لا يعود قادرا على تسديد ديون الشر والفساد " " هل هذا ما تشعرين به حقا ؟ " . " طبعا. لماذا تسأل ؟ هل كنت تظن انني سأحملك مسؤولية ما حدث له ؟ " . " تصورت ذلك احيانا " . " اوه دايمون ، حبيبي ! " . ثم قامت من السرير وقالت : " يجب ان اذهب لارتداء ثيابي ستستيقظ انابيل بين لحظة واخرى " . ابتسم دايمون وقال لها : " حسنا " . نظرت اليه فجأة وسألته : " بالمناسبة ، كنت اريد ان اسألك قبلا ولكني منعت نفسي بحزم واصرار . هل نمت مع تلك الفتاة الصينية ؟ " . ابتسم ورد عليها بشيء من التهكم : " ايما ثورن ! كيف تجرؤين على توجيه مثل هذا السؤال؟" . احمرت وجنتاها خجلا وتمتمت قائلة : " أوه ...كنت ....كنت اتساءل فقط ! " . " حسنا ،حسنا .سأغفر لك " . " ثم ماذا ؟ " . هز رأسه واجابها بهدوء : "طبعا لا . اني لم اتطلع الى اي امرأة اخرى منذ اللحظة الأولى لدخولك مكتبي طالبة مني مساعدة جوني " . " اوه ، شكرا لك يا حبيبي ، شكرا لك " . وضمته الى صدرها بقوة وحنان ثم اضافت باسمة : " الآن يمكنني ان آخذ حماما بسلام وطمأنينة .بالمناسبة ، قرأت انابيل امس الصفحة الأولى من كتابها الجديد . ويعتقد الطبيب المختص ان نظرها سيعود الى حالته الطبيعية خلال فترة وجيزة " . ابتسم دايمون وقال : " اننا محظوظون جدا يا حبيبتي ، اليس كذلك ؟ " . " ومسرورون وسعداء ايضا " .
تمت

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا