لا وعود بالحب

الفصل الاول
لم يخطر على بال أبيغيل التساؤل عما اذا كان من المفترض بها أن تشارك في الرحلة أم لا ، الا عندما بدأت الطائرة بالهبوط ، عندها فقط فكرت أبيغيل انه كان من الاحرى بها الا تشارك بأية رحلة . تقاعد المهندس المعماري الذي كانت تعمل لديه ، واصر خلفه على احضار سكرتيرته الخاصة معه . عندها ، رأت أبيغيل مستقبلها ينهار أمام عينيها . " انني آسف جداً . " قال لها جورج الوين : " ولكن يبدو انني لا استطيع مد يد المساعدة لكِ حتى تتمكني من الاستمرار بالعمل في هذه الشركة . " " انني اتفهم الوضع ، سيد الوين . " قالت أبيغيل ذلك وقلبها يتقطع حزناً ، " وأنا اشكرك وأقدر لك كل ما فعلته من أجلي ، خاصة بالنسبة للمبلغ الذي دفع كتعويض لي ، فهو سيساعدني كثيراً لاحقاً . " ما كان من السيد الوين الا أن ابتسم ، ثم ركز اهتمامه على شؤون اخرى . ولكن أبيغيل لم تستطع حقاً تفهم الوضع ، وكان هذا ما قالته لرايموند فلدر ، ذلك الشاب الذي يسكن في شقة مجاورة لشقتها في المبنى الواقع في احدى ضواحي لندن . قال رايموند لها : " اذاً ... استعملي المال الذي حصلت عليه للتمتع بعطله جميلة انني اعرف .... " وجال في ارجاء المكان . توقف بعدها عن الكلام وقطب حاجبيه اذ رأى الحدائق الخلفية للمبنى ثم عاد يتأمل تلك الحديقة التي كان المستأجرون يتقاسمونها : " هيا ، تعالي ألى موطني ، ألى سويسرا ، أرض الجبال والمستنقعات و.... " ثم تغيرت تعابير وقسمات وجهه اذ تابع : " حيث المناظر هي اجمل بكثير من تلك التي نراها الان في الخارج . " أجابته أبيغيل : " لا يمكنني تحمل النفقات التي توجبها رحلة كهذه ، ولكن شكراً لك على اقتراحك . سوف أقوم برحلة ألى سويسرا في يوم من الايام ربما وذلك ان حصلت من جديد على عمل . " " لا ، لا ، سوف تأتين ألى لوسيرن كضيفتي . سوف تكونين ضيفة لدى عائلتي ، لأننا نعيش في فندق . هناك منزل نقوم بتجديده للاقامة فيه – أبي ، أخي ، أختي ، وأنا ولكننا الان نقيم في فندق بانوراما ، ذلك ألى ان يغدو المنزل جاهزاً لسكن . " " يبدو ذلك رائعاً يا رايموند ولكن لا يمكنني الموافقة على أمر كهذا . كيف لي ان اكون ضيفة العائلة وأنا لم اقابل أي فرد منها سواك حتى الان ؟ ان أمك ... " أومأ رايموند وقال بحزن : " لقد فقدناها منذ عدة سنين . " أكملت ابيغيل كلامها بعد فترة : " أنني آسفة جداً . حسناً ان والدك .. إذن هذا دون ان آتي على ذكر أخيك . " " لا تأتي على ذكره هو بالأخص ، انه يكبرني بتسع سنوات وهو يعتقد ان فارق السن هذا يعطيه الحق بأن يتحكم بتحركاتي ويبدي آراءه بتصرفاتي . هو كذلك متحيز للرجال ويكره النساء . " بعد أن قامت ابيغيل بعملية حسابية بسيطة ، أدركت أن أخ رايموند قد تجاوز الثلاثين بقليل ، وهو يكبرها بست سنوات ،، قالت : " حسناً بما أن النسوة يشكلن نصف عدد السكان في العالم فلا بد أن أخاك يقضي معظم وقته وهو متجهم الوجه ." قال رايموند موبخاً إياها : " لا تخطئي فهمي ، انه يقدر كل ما تستطيع المرأة تقديمه ، هل تعلمين؟ " ثم أضاف : " انه يكره النساء لأن المرأة التي كان مصمماً على الزواج منها قد تخلت عنه لترتبط برجل اكثر ثراء ، وذلك بثلاثة أضعاف لذلك فقد جرحه تصرفها جرحاً عميقاً حتى أنه قرر ألا يرتبط بامرأة أخرى مجدداً . فهو يقول إن النساء يردن فقط الثروة والمكانة الاجتماعية الرفيعة عند الزوج . " همت أبيغيل بالتعبير عن سخطها لهذا الحكم القاسي من قبل أخ رايموند ولكن هذا الأخير أكمل كلامه . " لكن لا تجعلي ذلك حاجزاً يمنعك من المجيء . كان يجب عليّ ألا آتي على ذكر رولف . من المرجح أنكِ لن تتعرفي عليه أبداً . ذلك ان طموحه في الحياة هو العمل انه رئيس شركة هندسة في زيوريخ ، وعمله هذا يتطلب منه الكثير من الوقت . طبعاً ذلك لا يمنعه من لقاء صديقته انها بريطانية ، أما اسمها فهو لورا مارشان وهي صحافية مالية ذات تفكير منطقي سليم . " ساورت أبيغيل بعض الشكوك لم تستطع معرفة اسبابها فقالت : " هل ستكون أختك موجودة في الفندق؟ " أجاب : " مارتينا؟ لن تكون هناك في بادئ الأمر ، ولكنها ستحضر بعد قدومنا انها تؤسس مشغلاً ولكنها حسناً ، لا بأس بها فهي ليست قاسية أو أي شيء من هذا القبيل . انها تعمل في مجال الأزياء نعم الأزياء وتصميم الملابس وهي الان في الخارج بداعي العمل ! " عادت أبيغيل ألى الواقع ، فقامت بتثبيت حزام الأمان ثم أغمضت عينيها وتساءلت عن صحة ما قامت به ثم تمنت لو انها لم تدع رايموند يقنعها بالقيام بهكذا خطوة . كان رايموند قد انهي سنة اختبار كمحاسب في مكتب عمه القائم في وسط لندن وقد اظهر الكثير من الفرح عندما وافقت أبيغيل على عرضه ثم سافر قبلها بينما كانت أبيغيل لا تزال تنهي الاجراءات المتعلقة ببلاغها ألى الشركة وتهتم بترتيب أمورها وكانت قد تخلت عن غرفتها لفتاة أخرى وحين غادرت متجهة نحو المطار شعرت بأنها قطعت تماماً طريق العودة وكانت قد شعرت بالحماس بعدما اقفلت الباب وراءها ولكنها احست ايضاً بالخوف فهي لم تستطع انكار الامر . كان يجب عليها الاقتصاد في النفقات لذلك لم يكن يجدر بها الاقدام على خطوة مماثلة والذهاب في رحلة سياحية . وبالرغم من أن رايموند قد رحب كثيراً باقامتها في الفندق كضيفة فهي لم تنو ابداً قبول عرضه السخي بل أنها كانت مصممة على استعمال مدخراتها طوال فترة اقامتها في سويسرا كذلك قالت معزية نفسها : " لم تكن تكاليف الاقامة في فندق بانوراما باهظة والا فكيف يفسر امر اقامة عائلة فلدر في ذلك الفندق خلال فترة طويلة؟ " كانت أبيغيل قد حزمت حقائبها ووضعت فيها بعض الكتب لفترة اقامتها القصيرة ولكن بالرغم من ذلك فقد كانت حقيبتا السفر وحقيبة يدها التي حملت على عربة الترولي ثقيلة يصعب تحريكها . كان رايموند قد وعد بملاقاتها عند وصولها ألى المطار وقد شعرت بكثير من الارتياح اذ كان موجوداً بين الجموع . استقبلها رايموند في المطار بحرارة : " مرحباً ، يسرني رؤيتك من جديد يا آبي . أنا أعرف مواعيد القطار عن ظهر قلب وان توجهنا نحو المحطة الان سوف نكون في الموعد المحدد لنستقل القطار القادم . ان المحطة موجودة تحت مبنى المطار ، لذلك علينا النزول ألى الطابق السفلي . اتبعيني . " فعلت ابيغيل كما قال لها رايموند . وامسك عنها الترولي الذي اخذه من يدها بعد ان تجاوزا الحشود المجتمعة . " انظري كيف ان عربة الترولي هي مصممة بذكاء كبير ، فنحن نستطيع ايصالها بسرعة ألى السلم الدوار . " " ان ذلك رائع . " قالت ابيغيل ، وهي تقف ألى جانبه وتفكر كيف يمكن لدواليب عربة الترولي الوقوف على السلالم المتحركة " ان المهندسين السويسريين هم اذكياء جداً أليس كذلك؟ " قال رايموند ذلك ممازحاً ، وهو ينظر اليها : " كما قلت لكِ فأن أخي هو في عدادهم . " دفع رايموند عربة الترولي بقوة حتى غدت على مستوى ارض الطابق السفلي وتابع عملية دفعها وهو يقول اذ كانت تمشي بالقرب منه : " انني حقاً سعيد بقدومكِ . " اجابته ابيغيل ، وقد تاثرت لكلماته : " شكراً لك على دعوتك! " " هل أنتِ على علم بأن الصناعة التي تحتل المكانة الأولى في بلدي تتعلق بهندسة الميكانيك؟ " " ولكنني كنت على اعتقاد ..... " " أعلم ، كنتِ على اعتقاد بأن رياضة التزلج ، تسلق الجبال ، والتزحلق على الجليد تحتل المكانة الأولى في البلاد . " " ان هذه الامور ليست مصدر دخل مهم للبلاد فالصناعات الكيميائية والصيدلية تحتل المكانة الثانية بعد الهندسة ، ثم تتبعها صناعة النسيج وبالطبع صناعة الساعات السويسرية التي هي ذائعة الصيت . " " كذلك الامر بالنسبة لصناعة الاجبان والشوكولا . . لقد تكلمت عنها مراراً . ذلك دون ذكر امر المصارف وشركات التأمين ... " قال : " انكِ حفظتِ عن ظهر قلب الدليل السياحي عندما كنتِ في الطائرة والان.. يجب ان نبلغ رصيف السكة الحديدية . " بعد مرور عشرين دقيقة ، كانا جالسين في مقصورة القطار . سألت ابيغيل هذا الاخير الذي اشاح بنظره عن المناظر الخارجية وحدق بها : " أشعر بالقلق بسبب تكاليف الغرفة في الفندق ، و .. " " سبق وقلت لك ... لا يجب ان تشعري بالقلق . فأنتِ حضرت ألى سويسرا كضيفتي يا آبي ، وذلك يعني بأنني سوف اتكفل بدفع تكاليف عطلتك في سويسرا . " " لن اسمح ابداً بهذا الامر ، أنت لا تستطيع تحمل نفقات اقامة أي شخص في سويسرا . " " سوف تفاجئين اذاً . " قال رايموند ذلك وهو يضحك عندما ترجلا من السيارة ، نظرت ابيغيل ألى المظهر الخارجي للفندق فلاحظت مدى فخامته ، وما كان منها الا ان قالت بسرعة : " انني آسفة يا رايموند ولكني بكل بساطة لا استطيع البقاء هنا ." وضع حقائبها أرضاً ثم استدار نحوها : " اتعنين بأن الفندق ليس فخماً بما فيه الكفاية لتقيمي فيه . " " لا تكن سخيفاً أنت تعرفني كفاية حتى لا تعتقد كذلك أنا أعني انني لا استطيع تحمل نفقات الاقامة في هكذا فندق فمن الواضح انه فخم جداً وغالي كذلك فأنا لست موافقة على الاقامة فيه بصفتي ضيفتك . الامر سيكلفك ثروة كذلك ، أنا متأكدة من انك لا تستطيع تحمل نفقات اقامتي فيه . " " هناك امر لست على علم به بعد ، يا ابيغيل ولكن هل ابوح لك بالسر؟ ان فندق بانوراما يعود ألى عائلة فلدر . لا تستغربي الامر ألى هذا الحد . " همت ابيغيل بحمل حقائبها ولكنه اوقفها : " أنا لم اسمع ابدأً عن أية فتاة تلوذ بالفرار عندما يقول لها شاب بانه ليس فقيراًكما كانت تتصور . هيا يا آبي ، بالطبع يمكنك الاقامة هنا ، خاصة بعد ان تأكدت بأنني لن ادفع أي مبلغ من المال مقابل اقامتك أليس كذلك؟ " سمحت أبيغيل لرايموند بحمل حقائبها وقالت : " اذاً ساقيم هنا اياماً معدودة؟ " قال رايموند لاحقاً عندما التقيا بعد الظهر في الرواق : " لم تشاهدي غرفتي بعد انها اوسع بقليل من غرفتك ، ولكنها اصغر حجماً من غرفة أبي وغرفة أخي ليست بعيدة أبدا ، أنها هنا . " كانت الغرفة أوسع من غرفتها . كذلك كان اثاثها افخم من اثاث غرفتها . وفكرت ابيغيل بأن ذلك الامر كان متوقعاً . ضمت غرفتها عدة تجهيزات تفوق جودة معظم التجهيزات الاخرى التي تقدم عادة في الفنادق السياحية . قال رايموند : " لا تترددي بالجلوس ، فساحضر شراباً ماهو نوع الشراب الذي تفضلينه؟ " " أفضل عصير الليمون اذا سمحت . " بعد ان انتهيا من شرب العصير ، أخذ الكوب الفارغ من بين يدي ابيغيل ثم فتح خزانة واخرج علبة شرائط . قال رايموند : " يا لسوء الحظ . ان الشريط الذي أريده ليس موجوداً هنا . متأكد من أنني اعرته لرولف . " ثم أعاد العلبة إلى مكانها وتابع : " هل تودين رؤية مكان إقامة أخي ، ان غرفته تبعد مسافة غرفتين عن غرفتي . " وكان جناح أخيه فعلاً كما قال رايموند اوسع بقليل من جناحه ، لكن أثاثه كان من الطراز الحديث وبالفخامة نفسها . " تأملي المكان بينما افتش عن الشريط الذي استعاره أخي منذ عدة اسابيع . " تاملت ابيغيل المناظر المحيطة بها ، ثم رفعت عينيها نظرت ألى الجبال ، ثم استدارت فشعرت بقوة هذا الجو ، حيث الالوان الداكنة والستائر الغريبة . اما الكتب الموزعة في الغرفة ، فقد كانت تتكئ الواحدة على كتف الاخرى على الرفوف ولاحظت بان معظمها تتضمن الهندسة ، كما ان بعضها يتمحور حول موضوع توليد الطاقة ، وكان هناك كتاب واحد اواثننان على الاكثر يتناولان موضوع ادارة الفنادق وقد استغربت أمر وجودهما بين الكتب الاخرى . ولم يكن هناك أي شيء في الغرفة يوحي بأن دماغ صاحبها يمكن ان يرتاح في عالم الخيال حتى ولو لساعة واحدة . وكان هناك صورة امرأة على طاولة صغيرة مستديرة قرب النافذة . كانت تعابير وجهها توحي بالكثير من الثقة بالنفس ، لكأنها متاكدة من اهمية دورها في المجتمع . سألت ابيغيل وهي تشير ألى الصورة : " رايموند ؟؟ " " تودين معرفة هوية هذه المرأة ؟ انها لورا مارشان صديقة رولف . الم تعرفي بالامر مسبقاً ؟ لقد اخبرتك عنها . " كانت ابيغيل تشعر بوجود صاحب المكان ، وكانت تشعر بأنها التقته من قبل مع ان الامر ليس كذلك في الواقع . شعرت باحساس غريب وكأنها مراقبة من قبل شخص ما . واحست بالحاجة الملحة ألى الهرب ، فخرجت بسرعة من الغرفة . في لحظة ذاتها ، رن جرس الهاتف في غرفة الجلوس . " هلا أجبت يا رايموند؟ " سألت ابيغيل وهي تحدق بالهاتف كما لو كان حيواناً متوحشاً يستعد للوثوب . كان رايموند ما زال يبحث داخل الخزانة العائدة لأخيه . قال بصوت ضعيف : " كوني لطيفة واجيبي انتِ؟ لا يمكن ان يكون الأمر مهماً جداً فموظفة الاستقبال تعلم ان رولف ليس هنا! " رفعت ابيغيل سماعة الهاتف واكتفت بالاستماع اذ انها لم تعرف أي لغة كان يجب عليها ان تستعمل . " رايموند . " كان الصوت عميقاً ونبرته كانت تنم عن الغضب . سال رايموند وهو يخرج عدداً من الشرائط : " من المتكلم؟ " عاد الصوت يقول بنبرة مشحونة بالغضب : " مرحباً . " أومأت ابيغيل دون التفوه بكلمة ، وكانت قد ازاحت سماعة الهاتف عن اذنها . تقدم رايموند واخذ منها سماعة الهاتف . " مرحباً رولف؟ " ثم صمت و أصغى ألى المتكلم وكان ينظر تارة ألى ابيغيل ويشيح طوراً بنظره عنها : " اسمها؟ انه ابيغيل ، ابيغيل هايلي . " تردد رايموند ثم تكلم باللغة السويسرية مطمئناً ألى انها لن تتمكن من فهم ما يقوله . ثم اكمل الحديث بسرعة يشرح سبب وجوده في المكان . وتجاهل رايموند صرخة التعجب ، التي بدت وكأنها مزيج من الزمجرة والتذمر وكانت عالية جداً حتى ان ابيغيل سمعتها جيداً . ثم تابع الشقيقان الحديث ، وعندما سمعت رايموند يقول باللغة السويسرية : " نعم العم مانفرد بخير . " علمت بأن شقيق رايموند كان يسأله عن عمله في مكتب عمه في لندن . انتهت المحادثة ، فاستدار رايموند وقد بدت على وجهه علامات الحزن : " هل ارتكبت جريمة اذ قلت لرولف بأنك صديقتي ؟ على كل حال ، أنا اشعر بالصداقة الاخوية تجاهك . الا تبادليني الشعور نفسه؟ " ضحكت ابيغيل ولم تجب . اعاد من جديد توضيب الشرائط على الرفوف التي وجدت لهذا الغرض . " لقد وجدته ." صرخ وهو يلوح بالشريط في الهواء ، ثم قال : " الان ، سوف تتناولين طعام العشاء معي . " فضحكت ابيغيل : " شكراً ، الان يجب ان اجهز نفسي . " اومأ موافقاً : " إلى اللقاء إذاً ، عند الساعة السابعة والنصف . سيكون ذلك بمثابة موعد . " نظرت ابيغيل في المرآة فرأت وجهاً متجهماً ، فمجرد سماع صوت شقيق رايموند قد اثر عليها . على الرغم من انها لم تتفوه بأية كلمة بعد ما رفعت سماعة الهاتف ، فهي تشعر الان بدقات قلبها تتسارع كما لو انها دخلت في جدال حاد مع ذلك الرجل . خرجت من المصعد ، وكان رايموند بأنتظارها : " إن طاولتنا جاهزة. " ثم توجه نحو النافذة العريضة : " نحن نفضل ان تكون اعصاب زوارنا هادئة ، ولا نطلب منهم ان يتصرفوا بطريقة محددة . " أخذ رايموند لائحتي الطعام الكبيرتين ، ثم اعطى واحدة منهما لأبيغيل واختفى وجهه جزئياً خلف لائحته التي بدأ بقراءتها : " ماذا تختارين لهذه الأمسية؟ اعتقد إنني أفضل .. دعيني أرى .." " إن الخيارات هي عديدة ومتنوعة كثيراً ، إلى حد أنني اجد صعوبة في انتقاء صنف معين . " " ثقي بكلامي إن كل أنواع الأطعمة الموجودة على هذه اللائحة شهية . هل كنتِ على علم بأن الأطعمة السويسرية تضم أنواعاً كثيرة من عدة بلدان؟ وهناك الكثير منها ، ولكن .... ما رأيكِ بأن نأكل هذا المساء ما يسمى ( بالبوبوي ميت جيموز ) ، وهو عبارة عن الحساء مع بعض الخضار؟ طبعاً بعد ان نحضر البعض من الأطباق الباردة . " قالت محتجة : " لن نأكل نوعين من الأطباق أليس كذلك؟ ." " بالطبع بلى ، ولكن هذين الطبقين سيأتيان أولاً ثم تتبعهما أصناف أساسية نستطيع ان نختارها من بين عدة أنواع من الطعام . اما اسماؤها فهي لاتحتاج إلى الشرح إذ أنها باللغة الإنجليزية ، وهي الشرائح المحمرة مع الطماطم والفلفل ، او السمك مع صلصة . بعد ذلك يأتي دور الحلوى . " " أرجوك ، لن أقدر أبداً على أكل كل هذا . " " حسناً ، عليك إذن اختيار الأصناف التي تريدينها حتى نتمكن من طلبها ، موافقة ؟" وأعلمت أبيغيل رايموند بقرارها عندما كانا يحتسيان القهوة بعد أن انتهيا من الأكل : " أشكرك لأنك عرضت علي تغطية نفقات إقامتي هنا ، ولكنني أصر بشكل قاطع ونهائي على تغطية مصاريف إقامتي بنفسي . أرجوك ، لا أرغب في أن نتجادل مجدداً بالنسبة لهذا الموضوع . " بدت على وجه رايموند علامات التأثر ، فقال : " مما يعني أنكِ سوف تحزمين حقائبك لمغادرة الفندق غداً . " " هل تعني بأن تكاليف الإقامة هنا سوف تكون باهظة؟ ربما أنني سوف أبقى هنا لمدة يومين فقط . ليس ذلك لأنني أود مغادرة الفندق ولكن ربما يمكنني أن أجد فندقاً آخر في الجوار حيث تكون إقامتي اقل كلفة أليس كذلك ؟ " شرب رايموند ما تبقى من القهوة ثم أعاد الفنجان إلى الطاولة وبدت عليه علامات التفكير : " إن وجدنا لكِ عملاً تقومين به هل يسكت ذلك صوت تأنيب ضميرك الناتج عن قبولك الحلول علينا كضيفة؟ " قالت ابيغيل والابتسامة تعلو وجهها : " هل تريد أن أعمل بغسل الأطباق في المطبخ ؟" ضحك رايموند فأجاب : " ليس الأمر كذلك فعلاً يا آبي . أني أرى أمر تقديم فرصة عمل لك غير ضروري البتة ، ولكن إن كان ضميرك يصر على ذلك ... سوف أفكر الآن بصوت عال لقد وجدتها ، يجب أن نجد لك عملاً كنادلة هنا ، في هذا المطعم ." " هل هناك وظيفة شاغرة؟ " " لا أعتقد ذلك . ولكن يمكن تدبر أمر كهذا أو ربما ...." نظر رايموند إليها وعلامات التردد تظهر على وجهه . فما كان منها إلا أن ساعدته إذ بادرت بسؤال :" كما اقترحت سوف اضطر ربما إلى العمل في المطبخ أليس كذلك؟ " " سوف تمقتين العمل هنا كذلك الأمر بالنسبة لي . سوف يكون شاقاً وأنا دعوتك إلى هنا بصفتك ضيفتي . " " بصراحة ، يا رايموند ، أنا لا أمانع أبداً بالقيام بالأعمال المتعبة . " " هل توافقين على ترك هذه المهمة لي؟ أرجو ألا تمانعي البقاء هنا كضيفة إلى حينها موافقة ؟ " " شكراً ، لقد ربحت الجولة الأولى . " وصب رايموند من جديد القهوة في الفنجانين ، ثم قال : " سوف نشرب القهوة احتفالاً بانتصاري الأول . " في صباح اليوم التالي ، انتهت ابيغيل من تناول طعام الفطور الذي كانت قد وضعته على الطاولة الموجودة على شرفتها . " إن أبي يزور بضع الأصدقاء في فرنسا . " كان رايموند قد قال لها ذلك عندما حان وقت فراقهم وأضاف : " وكما تعلمين فأن أخي في الخارج بداعي العمل . غداً سوف أعود إلى عالم الواقع لأني سوف أعاود مزاولة عملي في المدينة . " وكان قد أخبرها بأنه يشغل وظيفة محاسب في المكتب الذي كان يتولى إدارة شؤون فندق بانوراما . ثم حدقت ابيغيل بالمنظر الرائع الذي لابد وانه كان السبب في اطلاق هذا الاسم على الفندق . وتصاعدت رائحة القهوة من شرفة أخرى في الفندق فأيقظتها من تأملاتها الحالمة . في اللحظة نفسها ، دقت الساعة الكبيرة في المدينة معلنة تمام العاشرة . دخلت إلى غرفتها وتوجهت نحو الطاولة حيث وضعت الكتاب الذي حوى معلومات عن البلد . ثم قرأت : " إن سويسرا هي إحدى البلدان الأوربية حيث يلاحظ تعدد اللغات . فالعديد من السويسريين يتكلمون لغات متنوعة . كذلك ، فهذا البلد هو بمثابة سوق بالنسبة لمحبي التبضع . يمكن البحث فيه عن الساعات ، المنسوجات ، الأقمشة المطرزة ، التحف وملابس التزلج . أما بالنسبة للأطباق ، فيغلب عليها الطابع الفرنسي ، الألماني والإيطالي ، ولكل منطقة أطباق خاصة بها . وننصحكم دائماً بطلب المرطبات السويسرية ." تنهدت وأغلقت الكتاب ، لو كانت تملك الكمية الكافية من المال للتسوق كما ينصح به الكتاب . فكرت بأن ذلك الأمر لا يقف عقبة أمام تفحص الواجهات ، ولم لا؟ توقف المصعد عند المدخل ، فتركت مفتاح غرفتها في قاعة الاستقبال . بعد أن دفعت الباب الدوار ، ضغطت على زر المصعد . وصل المصعد وما لبث بابه ان فتح فدخلت إليه واستمتعت بذلك الشعور الغريب الذي تملكها وهي تراقب الطوابق العديدة في الفندق تتسارع أمام ناظريها . بعد أن اجتازت الطريق ، وقفت لبعض الوقت وتأملت المنظر أمامها . كانت البحيرة تلمع تحت أشعة الشمس الساطعة التي أخفت كل اثر . خلف البحيرة كانت الجبال الشاهقة تمتد في الأفق وكانت قمم البعض منها مكللة بالثلوج . كانت المراكب الصغيرة تمر الواحدة تلو الأخرى في نفس الوقت ، وبدت جاهزة لتباشر عملها الصباحي . وكانت أصوات صفارات الأخرى بإفساح المجال لها . شعرت بأن الحياة حولها تتبع مجراها الطبيعي ، حتى ان أوراق الأشجار المصفوفة على طرف الرصيف كانت تصدر باستمرار أصوات حفيف إذ كانت كانت تداعبها نسمات الصباح . كان هناك أصوات تدل على الازدحام وقد احدثتها باصات تمر بسرعة ، في الجهة المقابلة من الطريق ، كانت لوحات دعائية مضاءة كتب عليها أسماء معروفة : رولكس وبياجية آفيا ولونجين . فكرت بأن هذه اللوحات تشد انتباه الانسان وتجعل لديه الشعور بالاندفاع بسرعة لابتياع ساعات اليد الذهبية ، والانواع الأخرى من الساعات ، كذلك الأمر بالنسبة للمجوهرات المعروضة بالقرب منها .. على شرط ان تتوفر الكمية اللازمة من المال ليدفع ثمن تلك السلع الفخمة ، ولم يكن الحال كذلك بالنسبة لها . وكان كل شيء يثير اهتمامها ، حتى الملصقات على اللوحات الاعلانية . وكانت تعلن عن الحفل الموسيقي الذي سوف يقام بعد بضعة أيام في المسرح المخصص للحفلات الموسيقية في المدينة . مر النهار وكأنه نوع من الحلم . وكانت ابيغيل قد تناولت طعام الافطار وشربت القهوة وعصير الفاكهة في المقاهي التي توزعت في كل مكان . كذلك ، فقد تأملت الواجهات واعجبت كثيراً بالاقمشة والبياضات ومحارم اليد المطرزة بأسلوب مميز والمعروضة بذوق وفن . وأحبت كثيراً اشكال وألوان البضاعة التي حيكت باتقان ، كذلك الأمر بالنسبة لسكاكين الجيش السويسري الشهيرة والتي تتميز بتعدد شفراتها وكانت ابيغيل قد جالت بين محلات البيع الكبيرة وحدقت بشغف بالبضاعة الرائعة وكذلك ، فقد اثارت المحلات الصغيرة حشريتها . وأحبت كثيراً منظر الساعات المعلقة على الجدران والتي كانت تستقطب الاهتمام وذلك بسبب اسلوب صنعها المسلي والمضحك . وكانت ابيغيل قد استمتعت إلى الموسيقى الصادرة عن علب موسيقية تتعالى بأصواتها المتناغمة كلما رفع غطاؤها . كذلك فقد تصورت جمال المنحوتات اليدوية والخشبية والسيراميك وهي تزين رفوف بيتها . ولكنها تذكرت وهي تحس بغصة بأن تلك الرفوف لم تعد ملكها من مدة . وغرقت ابيغيل في حلم من أحلام اليقظة ، فرأت نفسها من جديد بالقرب من شاطئ البحيرة وهي تتأمل المراكب والانعكاسات الذهبية للشمس على صفحة المياه وتذكرت ابيغيل بعد فوات الأوان بأن وجهة السير في سويسرا هي عكسها في بلدها . فقد أحست بدفع سيارة على ذراعيها الأيسر وكتفها ثم وقعت أرضاً . وكانت أصداء أصوات مكابح تشد بعنف تتردد في رأسها وهي على الرصيف وقد أدركت بأنها فقدت وعيها لبعض الوقت إذ أنها استفاقت فجأة لتجد نفسها في مستشفى

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا