جزيرة آدم

الفصل الاول
الغريقة
كانت جزيرة الزينا ترقد ناعسه تحت السماء العميقه, واشعة الشمس الأخيره تتخلل السحب القاتمه وتنشر اللون الناري في الأفق الممتد فوق المحيط. ومن تلك المسافة البعيده كانت المداخل الشماليه للمحيط الهادي تبدو ساكنه كالحرير, الا أن هدير الأمواج, تتكسر فوق الصخور عند مدخل الخليج المائي اث فردت ليه وما زال لونها شاحيا وقالت: " لا تقلق, لن اعود لزيارتك مرة اخرى. وحالما تجف ملابسي سأتركك بسلام " فرد عليها في سخرية وهو يسكب الحساء في اناء وقال: " والى اين انت ذاهبه؟ ومن اين اتيت؟ " " ذاهبه الى القريه, كنت في طريقي اليها عندما دفعت بي امواج المد واجبرتني على النزول هنا...واصيبت قدمي...ورأيت ضوء الكشاف الذي كنت تحمله...وعندئذ...." وصاح بها في دهشه: " كنت ذاهبه الى الطرف الاخر من الجزيرة؟ لا افهم! هل كنتي تسبحين؟ " فهزت رأسها قائله: " استغرقت حوالي الساعتين في السباحه, كان التيار عنيفا و كنت...." واخذ الشك يساوره فيما تقول وصمم ان يعرف الحقيقة وقال لها: " هل امضيت ساعتين في الماء؟ انني لا اصدق هذا, اخبرني الحقيقة, فأنت تعلمين تماما انه لا وجد هنا اي قريه " فهت رأسها في حدة وبدا عليها الخوف من جديد وقالت: " الا توجد اي قرية هنا؟ ولكن هناك بعض القرى فعلا, رأيتها هناك ابنية وساحة كبيره بجوارها, ولا يمكن أن يكون هذا سوى فندق, وهذا ما جعلني..." فقاطعها ببرود قائلا: " انها محطة للرصد الجوي وهي قاعدة امريكيه ولا يوجد هنا اي فندق أو قريه وانت تعرفين ذلك كما اعرفه والان عليك ان تطقي بالحقيقه " فنظرت اليه وقد شعلات بصدمه وقالت وأصابعها ترتعد بصورة اوشكت معها أن تدلق الشاي: " لا يوجد اي فندق؟ ولكن لابد أن يكون هناك فندق....لا بد ان يون هناك فندق " واصيبت فجأة بانهيار واخذت شفتاها ترتعشان وهي تغالب دموعا. واصابتها حالة من اليأس جعلتها تتلمس أي شيء يطمئنها بأنها لم تقع فريسة لكابوس, واخذتت تتمتم قائله: " يا الهي! ما الذي فعلته؟ " واخذ حدق فيها للحظات طوال وهو منزعج ويشعر بأنه مقدم على مأساة. انها تعاني من ورطة كما انها تعاني من التعب والانهاك ولو صح انها ظلت في الماء لمدة ساعتين ـ وهو لا يستطيع أن يجد تفسيرا اخر لظهورها المفاجئ امام بيته ـ فإنه لامر غريب انها ما زالت على قد الحياة. ولابد أن تكون جاءت من ذلك اليخت. ولك كيف؟ هل سقطت عنه! كلا فهذا تفكير مضحك. ولكن لو كان ذلك قد حدث لكانت غرقة وسط الانواء. وهذا اليخت ليس لعبه فهو سفينةحديثه عابره للمحيطات ومزوده بأحدث الاجهزه ولها قاربها الخاص الذي يسر بمحرك. ومن يملك هذا اليخت لابد ان كون من طبقة الفن او احد اثرياء النفط. وعندما نطق رغما عنه ببعض الكلمات التي اظهرت تعاطفه معها. تحركت ونظرت اليه وتوقفت الكلمات في حلقه وماتت. وبدا كالملهوف وهو ينظر اليها بشعرها غير المنظم الذي بدأ يجف, وتلاشت صورتها من امام عينيه لتظهر مكانها صورة ستيلا التي تخيلها جالسة مكانها وذقنها يلمس احدى كتفيه وهي ترمقه بعينيها الارجوانيتين. ثم تخيلها بعد ذلك وهي تميل برأسها....كلا....انها لا تريده وهي لم تنتظره ولن تفعل ذلك ابدا اذا هو عاد يوما الى الوطن. وسيطرت عليه حالة من الثوره العنيفه عندما اخذت تلك الصوره الذهنيه تعذبه وتبعث فيه ميلا شديدا لكراهية النساء اللواتي يتصفن بخيانة الوعد لمجرد الرغبة في التدمير وامتلأت نفسه بغضب جامح ضد الفتاة التي اقتحمت عليه مأواه, وكيف دفعت بها الاقدار في طريقه. انها تذكره بالمرأة التي ظنها تنتظره حتى يأخذ مكانه في الحياة من جديد وتضمد جراحه بخبها.... ونهض وتقدم خطوة واحده واخذ فنجان الشاي من يد الفتاة المرتعشه وقال لها: " استحلفك بالله ان تفضي الي بما فعلته؟ ولماذا جئتي الى هذا المكان؟ " ار انطباعا مفعما بالخطر, ارتسم على وجه الرجل الذي وقف ساكنا في شرفة اليت المطل على الخليج, وهو يغالب مشاعر الغضب المعتمله في نفسه. ولم يكن هناك اسم معروف لهذا البيت المكون من اربعة جدران خشبيه وسقف. وتحرك الرجل اخر الامر, وانعكس الضوء الصادر من النافذه الخلفية على المخطوطة البيضاء التي كان يحملها في يده وانحنى فوقها يعيد قراءة سطورها برغم انه حفظها على ظهر قلب, وهي سطور تتسم بالتناسق والجمال كاليد التي خطتها. وفجأة طوى المخطوطه وألقى بها فوق الناباتات المتسلقه المزينه الزهور القرمزيه الزاحفة على سفح التل كبساط يضيق به المكان. واشعل سيكاره بالولاعه التي اهدتها هي اليه, واخذ الشرر المتطاير من عينيه يعكس مدى عمق الاحساس بالاحباط الذي اصابه اذ حامل قارب البريد الاخير رساله لستيفنز الذي يعمل في محطة الارصاد الجويه في الجزيره مما ذكره بعلاقته مع ستيلا, فزم شفتيه بمراره وهو لا يكاد يصدق. اختفى قرص الشمس وبدأ الظلام يلف المحيط وصمتت أصوات الطيور مع مغيب الشمس, وعادت الجزيره الى وحدتها وعزلتها. وبدأ يألف شيئا فشيئا ليالي الوحده المقيته ويتقبلها. وفجأة لمح أضواء أحد اليخوت يخرج من المرفأ القاتم وسط تجويف صخري. انها راحله اذا. اطفأ سيكارته وقد تملكه شعور بالارتياح الغاضب وهو يتذكر المشهد غير السار الذي حدث صباح اليوم. كانوا سته: ثلاثة من الشباب وثلاثة يتظاهرون انهم من الشباب, وكانوا عى درجة من الغطرسه والعجرفه المستهتره مما جعله يتذكر العالم الذي جاء منه. نعم انه يتذكر ذلك تماما. ولكن أتراه يجرؤ على أن يتذكرانه هو نفسه كان يوما ضمن مجموعه من الغزاة القادمين من اليخت الابيض والباحثين عن المتعه والاثاره؟ الفارق انه كان يحمل هدفا لحياته. هدف ذو قيمه تغطي على المظهر المتباهي الذي كان يظهر به مع اقرانه وهم يرتدون القمصان الحريره التي يبلغ ثمن الواحد منها ثلاثين جنيها استرلينيا, ولكن في أي حال فإن هذا كله لم يكن ليصل الى حد الكبرياء والغرور اللذين لمسهما اليوم من اولئك القادمين الجدد. ولوى فمه في سخريه, اذا كان من المشكوك فيه أن ذلك الرجل الفارع القامه المفرط في التأنق والي يحمل آلة تصوير يبلغ ثمنها مائتي جنيه استرليني, يمكنه أن يمييز الحامل الذي ترتكز الاله عليه ان هو شاهده فكيف يعرف شيئا عن الزوجين النادرين من الطيور المهاجره اللذين كان يصورهما. كان هذا المغرور ذو الانف الارستقراطي المتعجرف بادي التحدي وهو يبحث عن ذلك الذي يعتبر نفسه حامي حمى الديار لهذين الزوجين من الطيور, بل ظن أن ستيفنز وهو يشبه اولئك البيض الذين يتسكعون في جزر المحيط الهادي, هو الذي أقام نفسه قانونا في جزيرة ألزينا. ولوى استيفنز فمه بسخرية مرة اخرى, وفي تلك اللحظه تماما لمح هؤلاء الاشخاص جراب مسسه وهو يرتكز على فخذيه من الخلف, انه الرادع الصامت. فهل اصبح ستيفنز نفسه فجأة على تلك الدرجة من الخطوره, جعلتهم يتراجعون ويعودون أدراجهم الى قاربهم يحتسون المشروبات المثلجه الامر الذي اثلج صدر ستيفنز الذي كان يراقبهم باهتمام من مسافة يمكنه لن يقطعها بسهولة اذا افلت زمام الامور من يده. خيم الظلام تماما الان, وبينما هو يتأهب لدخول البيت لمح شبح ابيض يتحرك عند الخليج فأخذ يمعن النظر محاولا أن يخترق حجب الظلام, وظن ان ما رآه من صنع خياله, واشعل سيكاره ثانيه وهو في حالة التوتر. ولمح ذلك الطيف الشاحب من جديد عند الجانب القريب من الارض التي تغطيها الشجيرات الصغيرة يتحرك, ويقترب ببطء الى اعلى في اتجاه البيت. فدخل بسرعة واحضر كشافا وقد تيقن أن شخصا ما أو شيئا ما موجود اسفل البيت. وشق طريقه بخطى واثقه. فقد اعتاد على المواق الصعبه, وتوقف عند حافة الخليج واخذ الكشاف الذي يحمله يحدث دوائر سريعة وسط الاشجار والنباتات. لكنه لم يعثر على شئ أو يلمح أي حركة, وكاد الصمت يفقده صوابه وصاح فجأة: " من هناك؟ " وكان صوت المد البحري المندفع نحو الخليج هو الرد الوحيد الذي تلقاه, وراح يتفقد المكان حوله, اذ لا يمكنه ان يكون مخطئا فأن شيئا ما تسلل الى هذا المكان, وفجأة سمع صيحة كالانين فالتفت نحو الصوت الذي كان صادرا عاى ما يبدو من الجانب الاخر وعبر المياه الضحله وتعثر أثناء ذلك فسقط وابتلت ملابسه. وما ان وصل حتى أطلق صيحة اخرى ينادي بها على صاحب الصوت, فرد عليه صوت يشبه صوت غلام. فاتجه نحوه وسأه عن غرضه هنا, وطلب منه ان يظهر فقال له صاحب الصوت بعدما حاول النهوض انه لا يستطيع لان قدمه مصابه. فامسك به وأحس بقشعريرة وهو يلمس جسمه, فسلط نحوه الكشاف ليتبين ملامحه, ففوجئ بأن هذا الوافد انما هي فتاة ترتدي فردة حذاء واحده! فتاة تبدو كالطفل الصغيرأو هذا هو ما تراءى له حينئذ. وراح يبحث عن شيء يحمل فيه بعض الماء ولكنه لم يجد. كما لم يكن معه غطاء للرأس يستخدمه في هذا الغرض, فسارع يملا كفيه بالماء وبلل رأسها فستردت وعيها, وتحركت وابعدت خصلات شعرها عن وجهها الذي بدى عليه القلق وقالت: " فقدت حذائي على الشاطئ, اما حاجياتي الاخرى فقد...." " لا تشغلي بالك بالتفسيرات. هل يمكنك السير؟ " حاولت ان تسير بمساعدة من يده ولكنها اخفقت. وبدون ان تتفوه بكلمة واحده حمله فوق ذراعيه وعبر بها الخليج في حذر نحو الشاطئ الاخر ثم اتجه الى الممر المؤدي الى منزله وعندئذ سألته: " الى أين نحن ذاهبان؟ هل هذ...." " لا أعتقد أنك في وضع يسمح لك بالاسئله " " كلا, ولكن...." وانزلها حتى يفتح الباب باحدى يديه, وادخلها الغرفة الرئيسيه وجلسها على المقعد الوحيد, واشعل الموقد بسرعة ووضع فوقه اناء ماء ثم اتجه نحو الفتاة الصغيرة المسترخيه على المقعد وسألها: " ما الذي بلل ملابسك؟ " " ماء البحر " ونظرت اليه في قلق وقد بدا الخوف في عينيها واضافت: " سبحت...." فقاطعها قائلا: " وهل تسبحين عادة وانت في كامل ملابسك؟ لا تخافي اخلعي ملابسك, وسوف احضر لك ملاءة تسترين نفسك بها " فتجدد خوفها ودار بصرها في ارجاء الغرفه ثم نظرت اليه قائله: " كيف اخلع ملابسي! كلا, لا اهمية لذلك سأصبح على ما يرام خلال دقيقة واحده " واخذ يتأملها ببرود وبدون أي رغبه, ولمح بقعا حمراء على كم قميصها الابيض. ونظر الى قدمها الحافيه والرسغ المصاب. وذهب فحأة الى الغرفه المجاوره واحضر منها ملاءه, ثم احضر منشفه كانت معلقه بالقرب من الموقد وقال لها: " هيا...اخلعي ملابسك. ولا تقلقي فلن انظر اليك. سأعد مشربا ساخنا " وادار ظهره وانشغل باعداد المشروب وتقطيع السمكة التي اصطادها في الصباح, وبعد أن أضاف بعضا من مسحوق الحساء الى السمكه في الوعاء احضر وعاء نظيفا ووضع فيه بعض الماء واضاف اليه كمية من مادة مطهره واتجه الى ضيفته التي اخرجت ذراعها من تحت الملاءه وسمحت له بأن ينظف الجلطه التي اصيبت بها وان يضمدها بضمادة لاصقه. وقالت له بسرعه: " سوف اتولى أنا بنفسي امر قدمي " فترك وعاء الماء الى جوارها, وقام في هدوء بعد أن اخذ كومة ملابسها المبتله, ووضعها فوق الموقد لتجف وسارع لانقاذ السمكه قبل ان تحترق, واعد قدحا من الشاي قدمه للفتاة بعدما اضاف اليه القليل من الشراب وقال لها: " هيا اشربيه كله, فأنت تبدين كالشبح " واخذ يراقبها وعندما رأها تتردد في اكمال شرب الشاي بعدما رشفت منه بضع رشفات قال لها: " اشربي, لكن لا اريد أن تحضري الى هنا مرة اخرى

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا