غفرت لك

غفرت لك
الكاتبة : مارغريت هيلتون
الملخص
الاخلاص فضيلة كالذهب, نبحث عنها ونادرا نجدها .ولكن الاخلاص أيضا بوصلة عمياء وسط البحار قد تقود صاحبها الى شواطئ غير مرغوب فيها, كأية فضيلة أخرى يساء فهمها. كارين رادكليف تفاجأ بعودة زوجها آرثر من جنوبي امريكا بعد غياب و انفصال طويلين, يغير حياتها رأسا على عقب بشخصيته الحازمة المسيطرة, و اعتياده على إلقاء الأوامر. ذات ليلة تكتشف من حديث آرثر ومحاولته مغازلتها انه ما زال يكن لهارغبة دفينة كانت تظنها ماتت الى الابد, ولكن لوحة الشك بألوانها السوداء مازالت تقفبينهما كالقدر, تحيل حياتهما الى اكذوبة كبيرة,فهل تستمر هذه الاكذوبة حتى النهاية ...ام تجد البوصلة مرفأها المنشود, وتقودهما الى شاطئ الامان أخيرا؟

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا

1 _عودة المتاعب
يجب أن أراك ..... راحت كارين راد كليف تحملق في البطاقة التي كانت كلماتها تتردد في رأسها بلا أنقطاع , وأنصرفت عن كل ما ألفته من حولها في شقتها الصغيرة , ولم تعد تشعر الا بالصدمة التي أنتابتها وبالبطاقة البيضاء التي دفعت من تحت بابها تنتظر عودتها من جولتها السريعة في السوق التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة , لا بد أنه جاء أثناء ذلك , لقد عاد آرثر وكان هنا! غاصت كارين بأعياء في أقرب مقعد ,وأرتجفت ساقاها ويداها فجأة حتى كادت البطاقة تسقط من بين أصابعها الواهنة , فماذا يريد؟ ولماذا؟ بعد كل هذا الوقت الذي قارب السنتين من الصمت . قرأت الجمل الثلاث الموجزة : يجب أن أراك , من الواجب أن تتصلي بي خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة , ( فيستا ) "عيد" حلبة الرقص الشعبي حتى الساعة التاسعة , وبعدها الى البيت: آرثر . كان الألحاح لمتناهي جليا في هذه الجمل , فتملكها الغضب . تلك كانت طبيعة آرثر , لا كلمة رجاء في تلك الأسطر السوداء الصارمة , ولا حتى الكلمة التقليدية (من فضلك) , مجرد أستدعاء متعجرف , عاد الى البيت بعد سنتين , بعد كل ما حدث متوقعا أن يجدها مستعدة لأن تهرع لتلبية دعوته. أنتصبت كارين واقفة تتجلى في عينيها القسوة ,عليها أن تتجاهل هذه الدعوة وتمزق البطاقة , مشت الى النافذة وأخذت تحملق في الحديقة المكسوة بالغبار وقصاصات الشاش حيث الأطفال يتدافعون ويتعاركون أثناء لعبهم , وفجأة فطنت الى أنها كانت تعبث بخاتم زواجها. وراحت ترتعش من جديد , ليس من الصدمة أو الغضب , ولكن من الخوف ,فهل كانت هذه الدعوة تعني أن آرثر غيّر رأية وقرر أن ينشد حريته على الرغم من كل الأيمان التي أقسمها ؟ هل ألتقى بأمرأة أخرى؟ فجأة طرق الباب فأستدارت كارين مجفلة , وتدفق الدم عنيفا في عروقها ,هل هو آرثر ؟ هل عاد؟ ووجدت نفسها عاجزة عن الوصول الى الباب , وطرق الباب ثانية , ثم سمعت صوتا مألوفا يقول متبرما: " هل أنت هنا يا سيدة راد كليف أنني وحدي على الباب ". أسرعت كارين الى الباب وفتحته للمرأة السمراء ذات الوجه النحيل التي كانت تقف في الخارج , نظرت السيدة الى كارين وقالت: " عرفت أنك رجعت يا عزيزتي , فأردت أن أعلمك أن زائرا حضر أثناء غيابك". " أعلم ذلك ". وأبقت كارين يدها على الباب دون أن تفسح مجالا لدخول جارتها , فلو فعلت لما خرجت من عندها قبل ساعة . " هل ترك رسالة؟". " أظن ذلك, قال أنه من الضروري أن يراك , يا له من رجل فائق الوسامة". ولمعت عينا السيدة بيجنز وركزت بمرفقها ذراع كارين . " جسيم , أسمر ووسيم , له نظرة تجعل المرأة تشعر بالرغبة الى....". ووكزتها ثانية: " أنت تعرفين!". لم تبتسم كارين وأكتفت بأن هزت رأسها قليلا , كانت أعرف النساء بما لنظرة آرثر من تأثير , ولكنها أحست بشيء من الأشمئزاز وهي تسمع السيدة بيجنز تصف نظرته بتلك التلميحات الخبيثة , وتنهدت السيدة بيجنز بعد أن فشلت مداعباتها بأن تثير لدى الفتاة الشاحبة المتوترة أية أستجابة ثم أردفت: "من المؤسف أن أفتقدته طيلة هذه المدة , دعوته أن ينتظرك عندي لكنه أعتذر , لا بأس ما دام قد ترك لك رسالة تحت الباب ". فأجابتها كارين ببرود: " أشكرك سيدة بيجنز على مجيئك لأعلامي , وعلى دعوتك أياه للأنتظار عندك , أسمحي لي الآن فأمامي عمل كثير". خطت خطوة الى الوراء وبدأت بأغلاق الباب , فتراجعت السيدة بيجنز ومعالم الحيرة تبدو على وجهها , أغلقت كارين الباب وهي تتمنى- وليس للمرة الأولى – لو أنها أفلحت في أيجاد سكن لها في أي مكان آخر غير شقتها هذه لدى السيدة بيجنز , صحيح أن الشقة الصغيرة كانت مقبولة , وأجرتها في حدود الميزانية وصاحبتها على قدر كاف من الطيبة , ألا أنها كانت فضولية الى حد لا يطاق , تراقب حركاتها وسكناتها وتسجل عليها بعين الريبة الزيارات القليلة التي كان يقوم بها بعض معارفها ومع هذا فأنها تعرف أن من يبحث في لندن عن مكان يعيش فيه كمن ينقب عن الذهب في الأرصفة , لذلك أعتبرت نفسها محظوظة أن وجدت لها ملاذا في منزل السيدة بيجنز على ما هو عليه من مظهر وضيع وطلاء مشوه. ولم يكن خارج المنزل أفضل مظهرا من داخله , حيث كان ولدا السيدة بيجنز الشديدا الصخب يتعاركان ويتشاجران معظم الوقت , ولكن كارين كان بأستطاعتها أن تغلق بابها بوجه الضجيج ورائحة السمك والبطاطس المقلية التي كانت تنبعث من الأسفل , وكانت تعتبر نفسها محظوظة أيضا لكونها تسكن على مقربة من طريق النفق الأرضية التي كانت تصلها بمقر عملها في المدينة ,حيث بدأت تعيد بناء حياتها من جديد , بعد أن مرت بأعصب تجربة في سنواتها الأثنين والعشرين. أخذت كارين تعد وجبة طعامها , يساورها شيء من القلق وهي تحاول أن تجد تفسيرا لتلك البطاقة الصغيرة البيضاء , التي بدت وكأنها تملأ أرجاء الشقة كلها , فماذا تعني عودة زوجها بعد غيبته الطويلة ؟ ليس هناك ألا جواب واحد على سؤالها , هو أنه ألتقى بأمرأة أخرى , أن السنتين اللتين أمضاهما بعيدا كافيتان ولا شك لأن يلتقي بالكثير من النساء , حتى ولو أنه أمضى الجزء الأكبر من هاتين السنتين في جنوب أميركا , فلكم كانت النساء تتجمع حوله كتجمع الفراشات حول اللهب. أطبقت كارين قبضتها تحاول جاهدة أقصاء شجونها القديمة التي ظنت أنها تغلبت عليها , على الرغم من وعيد زوجها وقسمه أنه سيضع كل العراقيل في طريق أستعادة حريتها , ولكن أذا كان قد بدل رأيه وعزم على أن يطلقها ويمنحها حريتها فلماذا يجشم نفسه عناء الحضور للأتصال بها؟ أليس بأمكانه تكليف أحد المحامين للقيام بالأجراءات القانونية اللازمة؟ بالتأكيد أنه لم يأت لمجرد أن يلقي بتلك البطاقة الجافة من تحت الباب. بدأت كارين بتناول طعامها , ولكنها لم تستطع , فدفعت الطبق بعيدا , وحتى الشاي سيخنقها لو تناولت منه جرعة واحدة , ماذا عليها أن تفعل الآن؟". طال بها الجلوس الى المائدة , ومشاعرها تتخبط في داخلها كالأرجوحة المجنونة , ستكون أحمق من حمقاء لو أنها فكرت في رؤية آرثر ثانية , فذلك يعني أن تحرك السكين في جرح أوشك أن يندمل , لو كان يريد منها أن توقع على أية وثيقة لأمكنه ذلك عن طريق شخص ثالث , فلماذا جاء بنفسه ليقابلها؟ هل يتوقع منها أن تعرض نفسها للمذلة من جديد ؟ كلا , لن تراه , بمقدورها أن تكتب له رسالة باردة قاسية كتلك التي كتبها لها عندما أسدل الستار على مشكلتها المخيفة , تلك الرسالة التي يعلمها فيها أنه هيأ لها نفقة يدفعها لها أثناء غيابه , يمكنها أعلامه أنه يستطيع الأتصال بها عن طريق محاميها العجوز السيد كولينز , الذي أدار شؤون والدها مدة طويلة , فهو لا شك سيهتم بالأمر , ما عنوانه يا ترى.؟ أسرعت الى صندوق صغير حيث كان والدها يحتفظ ببعض أوراقه لعلها تجد فيه ذلك العنوان , فوقع نظرها على بعض الصور القديمة الباهتة , صور لها ولأمها وللبيت القديم في كانتربري حيث عاشت طفولتها الهانئة التي لا رياء فيها ,عندما كان آرثر وليزا وفينس كاين بعيدين عن المستقبل المحجوب خلف سحابة لم تكن ملامحها قد تبدت بعد في أفق الأيام. أحست بوخز الدموع في عينيها فدفعتها بأنفعال , لقد بكت ما فيه الكفاية من أجل آرثر , ولن تسمح لدموعها أن تنساب ثانية مهما حدث. تابعت البحث عن العنوان ولكن دون جدوى , فقررت الذهاب في اليوم التالي الى دائرة البريد لتبحث عنه في دليل الهاتف. وقع نظرها ثانية على البطاقة البيضاء , فصبّت على آرثر اللعنات , لماذا لم يوضح سبب مجيئه ؟ لماذا عاد ثانية ليظهر في حياتها ؟ ولتقابله في الفيستا بالذات؟ وبدت عيناها هذه المرة خاليتين من أي أثر لدموع الذكريات , الفيستا , المكان الذي يرتاده عشاق الرقص الشعبي , المكان الذي أخذها اليه آرثر في لقائهما الأول , ذلك اللقاء الذي ما كان لينقضي عليه شهر واحد حتى أنقلب واقع دنياها الى دنيا العجائب حين طلب منها الزواج , والآن فأنه يتوقع منها أن تقابله في ذلك المكان نفسه , ليبحث معها الفصل الأخير لقصة بدأت هناك في تلك الأمسيات الساحرة الفاتنة........ أمسكت كارين بالبطاقة البيضاء ومزقتها أربا , ثم حملت حقيبتها ومعطفها وخرجت تسير في الليل , أمضت ساعة ونصف في أحدى دور السينما , ثم عادت الى شقتها بعد التاسعة بقليل , نسيت كل ما شاهدته في جولتها , ولكنها شعرت بشيء من الراحة لأنها تمكنت من أن تتحداه. لم تجد بطاقة تحت الباب هذه المرة , ولم تهرع اليها صاحبة البيت تحمل لها بعض الأنباء , فأرسلت تنهيدة ضعيفة , لم تكن تتوقع أن يعود آرثر ,وبهذا الشكل المفاجىء , أرخت كارين الستائر وقد أستولى عليها أحساس بالوحدة , وأخذت تشعر ببعض الأعياء وهي تقوم بترتيب ما يلزم للمحافظة على أناقة الشقة , وبعدها أحست بحاجتها الى حمام , فحملت ما يلمزمها من ثياب ولم تنس أن تضع حذاءها بالقرب من الباب ومفتاح الشقة في حقيبتها الأسفنجية , ثم أطفأت النور وأغلقت الباب خلفها وعبرت الممر , هبطت درجات السلم الثلاث الى غرفة الحمام , وهناك أسلمت نفسها بأسترخاء تام للماء المنعش الدافىء , مكثت ساعة وخرجت بعدها لتجد الدار تقبع في ظلمة دامسة , لم تعجب لذلك فلاشك أن أحدهم قد أطفأ نور الممر , كانت قد ألفت مسالك المنزل فلم تجد صعوبة في تلمس طريقها , فتصعد الدرجات الثلاث وتعبر الممر الى باب شقتها , تريثت هناك قليلا لتنشر المنشفة ثم أدارت المقبض وأخذت تدفع الباب , وأذ بها تندفع خطوة حذرة الى الوراء وتجمد في مكانها , وجدت الشقة مضاءة وهي التي أطفأت النور بنفسها ,ولم تجد أثرا للحذاء الذي تركته قرب الباب. بدأ قلب كارين يخفق بشدة من الخوف, فهل أقتحم أحد المتطفلين شقتها ؟\لا , لا يمكن لأي متطفل أن يدخل الدار دون أن تلحظه عين السيدة بيجنز الحادة.فلم تر قدمي رجل يختبىء خلفها. دخلت كارين مترددة ال وسط الغرفة مستعدة للهرب فورا أذا لزم الأمر ,وأستبدت بها الحيرة عندما وجدت حذاءها ملقى على بعد أقدام من الباب , تساءلت هل هي قطة؟ لكن السيدة بيجنز لا تقتني قططا في منزلها , وفجأة سمعت صوت حركة من داخل غرفة النوم التي رأت بابها مفتوحا على مصراعيه , فقفزت الى الخلف وقد أنطلقت من فمها صرخة فزع وأصطدمت بأحد المقاعد , وأمتدت يدها الى عنقها من الخوف عندما شاهدت جسما طويلا يسد باب الغرفة , كان يقف هناك ينظر اليها , أنبعثت من فمها كلمة مخنوقة : " أنت!". تقدم آرثر بخطوات ثابتة الى الأمام كما لو أن له الحق في وجوده هناك وقال: " نعم أنا, هل أخفتك؟". " كيف تجرأت على دخول منزلي كما لو أنك...". "وجدت الباب مفتوحا". قال ذلك وأتجه نحو باب الشقة ودفعه بيده فأغلقه , فأستدارت كارين صائحة: " ماذا تفعل؟". " أغلقت الباب ". وقف أمامها , يداه في جيبي معطفه والتحدي ظاهر على كل عضلة من عضلات جسمه , وقال: " عرفت أنك لن تحضري فحضرت أنا". تلعثمت كارين وهي تصيح: " هل كنت تتوقع حقا أن أركض تلبية لدعوتك؟ يا للوقاحة!". تجلت أبتسامة مرح ساخرة على فم آرثر وقال: " أراك لا زلت تتلعثمين , فأنت بعد كما عهدتك لم تتغيري". فثارت صائحة: " وأنت أيضا لم تتغير , متعجرف وبغيض كما كنت , ما أشد غبائي , لا أدري كيف وقعت في حب واحد مثلك , أنك...". فقاطعها ببرود: " دعينا من الحب الآن , فلم أحضر الليلة لنبدأ قصتنا السابقة من جديد , لقد أستغفلتني مرة , وثقي أنني لن أدعك تعيدين ذلك مرة أخرى". أشتعلت عينا كارن غضبا وصاحت: " أخرج من نا , فليس لدي ما أقوله لك". " لكن لدي الكثير لأقوله لك , ولن أخرج من هنا قبل أن أقول كل شيء". كان الغضب البارد جليا في عينيه , فأرتجفت كارين وهي تصيح: " أذن قله بسرعة وأنصرف! لم تكن بحاجة للمجيء الى هنا الليلة كي تطلب الطلاق , عرضت عليك ذلك منذ سنتين عندما أوضحت لي بأنك تكرهني". فضم فمه بمرارة وقال: " أتظنين أن هذا هو سبب مجيئي الليلة ؟ يا لك من خسيسة". أسرعت كارين الى الباب وأمسكت بمقبضه وصرخت: " هل هذا ما جئت تقوله لي ؟ حسنا فقد قلته, هل أكتفيت؟". وفتحت الباب بعنف ووقفت تنتظره ليخرج , ولكنه وقف مكانه دون أن يتحرك , أصطدمت نظراته المريرة بنظراتها , وأطبق فمه بقوة محاولا أن يكظم غيظه , ثم تحرك ببطء عبر الغرفة وقال: " لم أحضر الى هنا من أجلنا نحن , ولكن من أجل أليزابيث". حدقت كارين في وجهه وقد ظهر عليها الخوف: " أليزابيث ؟ ماذا حدث؟ هل أصابها مكروه؟". " أنها مريضة". " آسفة لسماع لذلك , هل الأمر خطير؟". " أنها على أبواب الموت". أغلقت كارين عينيها تحاول ألا تصدق ما سمعت , أليزابيث تلك المرأة اللطيفة , المرأة الكريمة التي أحبتها بمقدار حبها لأمها خلال الأشهر القليلة التي عرفتها فيها , المرأة التي يدين لها آرثر بالكثير , المرأة التي أقسمت أكثر من مرة بأن آرثر على أستعداد لأن يضحي بكل ما يملك ليجلب السعادة والهناء لكارين ,كلا, لا يمكن أن يكون ذلك صحيحا , نظرت الى آرثر فرأت معالم الألم المبرح على وجهه تكاد تهزم رباطة جأشه , فتأكدت من صدق الأمر. سألت كارين بصوت منخفض: "ماذا حدث؟ متى علمت؟". " عندما عدت البارحة". وأرتفعت كتفاه وهو يتابع : " هل لديك شيء للشرب يا كار؟". ناداها بأسم التدليل الذي أعتاد أن يناديها به من قبل دون أن ينتبه لذلك , فهزت رأسها بأسى وأسرعت الى الخزانة حيث تحتفظ ببعض الشراب وقالت: " ليس لدي ألا شراب الكرز, تفضل". وأقترب منها ليتناول الكأس من يدها وسألها: " وأنت, ألا تشربين؟". " كلا, شكرا". أحست بقربه الشديد منها , وفطنت فجأة أنها ترتدي الثوب الذي أعتادت أن ترتديه عند خروجها من الحمام ,فشدته عليها وأحكمت حزامه ثم تابعت كلامها: " أفضل أن أتناول الكاكاو مع قطعة من البسكويت قبل أن آوي الى السرير , ولكن دعنا من هذا يا آرثر وحدثني عن أليزابيت". جلس على أحد المقاعد وقال متجهما: " لا أعلم الكثير عن مرضها , أذ لم ألتق بأحد أطمئن منه عليها , ألم تشاهديها أنت؟". فأجابت بمرارة: ":لا! بالطبع لم أرها , ألم نتفق بأنه من الأفضل أن نتركها تعتقد.... ولكنني لا أدري لماذا أتفقنا على ذلك , فأنها سوف تعلم ما حدث بيننا عاجلا أم آجلا". " كلا يجب ألا تعلم , ليس الآن أطلاقا , أذا سولت لك نفسك أن تنكثي بالعهد-". كان التهديد جليا في لهجته , فأشاحت بوجهها عنه كي لا يرى الألم والمرارة في عينيها ,وقالت بصوت حاولت أن يكون هادئا: " أليزابيت لن تعرف الحقيقة مني أبدا , لكنني أود زيارتها , أشتقت اليها كثيرا". نظر اليها بأزدراء وقال: "هل حقا ما تقولين؟فاجأني قولك هذا , فات الأوان ولا حاجة لأظهار عواطفك". أنتفضت كارين ورفعت رأسها بكبرياء وصاحت: " أسمع يا آرثر , لا أنوي أن نبدأ الأتهامات القديمة التي لا طائل منها من جديد , صدقني أنني لشديدة الأسف لسماع خبر مرضها , وأذا كان بمقدوري أن أفعل شيئا , فما عليك الا أن تسأل , ولكن-". فقاطعها بحدة: " بالتأكيد يوجد ما يمكنك فعله ,ولسوف تفعلينه ولو مرة واحدة في حياتك الطافحة بالأنانية والغرور". فأنفجرت صائحة: " كيف تجرؤ! أظن أنه من الأفضل لك أن تنصرف قبل...". وتوقفت فجأة عندما أطبق بيديه على كتفيها , وأجفلت متألمة أذ أحست بأصابعه تنغرس في بشرتها الناعمة , وأنبعثت منها صرخة خافتة عندما حملقت في عينيه الملتهبتين , ثم أفلتت منه مبتعدة. سقطت يداه الى جانبه ولاح الشحوب في وجهه , وفارقها خوفها عندما لمحت حزنه العميق خلف ثورته العارمة. قال لها بعد لحظة صمت: " جئت أطلب هدنة ولكنني أرى أنني لم أحسن صنعا". " هدنة! ماذا تعني يا آرثر". أجاب من غير أن ينظر اليها: " يجدر بي أن أشرح لك بعض الأمور , قبل بضعة أشهر كتبت اليّ أليزابيت تعلمني بأنها باتت تشعر ببعض التعب, وعزمت على قضاء عطلة طويلة عند عائلة ميتشلز- لا أظن أنك ألتقيت بهما- وهما صديقات قديمان لأيزابيت أستقرا في مارييلا بعد تقاعدهما , ويملكان دارا هناك , ثم بعثت الي برسالى ثانية تعلمني فيها بأنها سافرت الى صديقيها , وهي تتوقع منا أن نعود قريبا الى البيت لأنها في غاية الشوق لرؤيتنا". أزدردت كارين لعابها بجهد , أذن فقد كتم آرثر الأمر كما وعد أن يفعل طيلة السنتين اللتين أمضاهما في أميركا الجنوبية تاركا لأليزابيت تعتقد بأن الأمور بينهما على ما يرام وأن كارين مع زوجها هناك... وتأوه آرثر قائلا: " يا الله ,كنت على حق , كان يجب أن نخبرها الحقيقة في حينها , لا شك كانت ستتألم وينتابها غم قاتل , لقد أحبتك وكنت شغلها الشاغل يا كارين , ومع ذلك فأنها كانت ستجتاز الصدمة مع الأيام , أما الآن فقد فات الأوان". تنهدت كارين وظلت صامتة , هناك حقيقة لا مفر من أن تبينها لآرثر , لكن الفرصة لم تكن مناسبة لتواجهه بها الآن ,وهي أن خداع أليزابيت كانت فكرته هو وفكرته وحده , لأنه يدرك تماما لو أنها علمت حقيقة ما حصل بينهما لحاولت بكل الوسائل التي تملكها أن تسوي الخلاف بين الرجل الذي تعتبره بمثابة ولدها, وبين الفتاة الت أختارها عروسا له. أرتعدت كارين من جراء ما راودها من أفكار , وأيقنت أن آرثر على صواب بسفره البعيد ,لأنه لو لم يفعل لعلمت أليزابيت بالحقيقة , لا شك أن معرفة الحقيقة تحررا من الوهم , ولكن فيها أبضا كثيرا من الحزن والأسى ... كلا , الأفضل ألا تظهر الحقيقة , لقد أختار آرثر السبيل الأكثر حكمة , مع أن تلك السبيل لم تجلب لنفس كارين شيئا من الراحة. وتنهدت ثانية وقالت بهدوء: " نعم فات الأوان , أظن ذلك, مسكينة أليزابيت!". رفع آرثر رأسه بحدة ولمع التصميم في عينيه وهو يقول: " ولكن لم يفت الأوان بعد لأن نجعل أيامها المتبقية سعيدة قدر المستطاع". وخزتها كلماته التي تحمل معنى الأتهام وقالت: " بالطبع لا! وبالنسبة لي , أذا كان هناك شيء بمقدوري أن أفعله لأجلها فعليك أن تسألني أياه , بحق السماء يا آرثر ألا تصدقني؟ صحيح أنني لم أعرف أليزابيت مدة طويلة , ولكنها كسبت أحترامي في المدة الوجيزة التي عرفتها بها وأصبحت أحبها حبا جما , وما حصل بيننا لم ولن يؤثر أبدا في مدى أحترامي وحبي لها". هب آرثر من مقعده متجهما , وأتجه نحوها وعيناه لا تتحولان عن وجهها ,ووقف أمامها وقال: " حسنا هذا ييسر السبيل أمامي لأقول ما يجب أن أقوله". أنتظرت كارين حازمة أمرها ألا تذعن لوعيده , وأن تصمد بعناد أمام ألاعيبه القديمة التي لا يزال يتقنها لأستثارة العواطف , وأخيرا قال: " جرى بيني وبين أليزابيت حديث طويل بعد ظهر اليوم , أبدت لي رغبتها بالعودة الى دلرسبك مسقط رأسها الذي أمضت فيه معظم حياتها الزوجية كما تعرفين , وبعد وفاة زوجها العم جيمس أذعنت لضغط العائلة وأنتقلت جنوبا حيث أشترت لها شقة في كرانتن بليس. ليتنا تركناها تعيش حسب رغبتها في دلرسبك , لكن ليزا كانت بعيدة عنها بحكم عملها , وكان يستحيل علي! بسبب ألتزاماتي الكثيرة أن أعيش في دلرسبك , بالأضافة الى أن البيت كان كبيرا جدا , موحشا جدا , مليا بالذكريات , مما يجعلها لا تحتمل العيش فيه بمفردها بصحبة الخدم فقط , لكنني أتساءل , هل كانت أليزابيت مع ذلك سعيدة راضية بحياتها بعيدا عن دلرسبك ؟ لا أظن ذلك". " لكنك أجّرت البيت , هل بعته؟". " كلا , لم أترك أليزابيت تبيعه , لقد أجرناه فعلا , لكن المستأجرين أخلوه منذ بضعة أشهر , سأتةجه الى دلرسبك غدا لأجراء الأصلاحات اللازمة للبيت , وآمل أن آخذ أليزابيت اليه في الأسبوع المقبل". طأطأت كارين رأسها , آرثر لم يتغير , فأذا عزم على أمر ما فأنه لا يتوانى عن أنجازه ولا يسمح لأحد أن يقف في طريقه ,ترى هل يعود ذلك الى كونه تحول من غلام فقير قدم من أحدى مدن الشمال , الى رئيس شركة هندسية ضخمة لها فروع في جميع أنحاء العالم؟ أنفرجت أسارير كارين وهي تنظر الى آرثر , كانت عادلة يتقييمها لسلوكه من غير أن تسمح لمشكلتها الشخصية معه أن تحرفها عن ذلك , لقد أحبته بسبب أخلاصه المتفاني للمرأة التي منحته الفرصة ليحقق طموحاته ,وقالت برقة: " لقد سرني ما تقول, وأعتقد أن ما تنوي عمله سيجعل أليزابيت في منتهى السعادة". " نعم, ماعدا أمر واحد". كانت لهجته تعبر عن معنى واضح , فألتقطت أنفاسها وهي تقول: " وما هو هذا الأمر؟". " عائلتها – أولئك الذين تحبهم". أبتلعت كارين لعابها وقالت: " أليس ذلك طبيعيا؟ أتريدني أن أذهب لزيارتها؟". " أريد أكثر من ذلك يا كارين". "ماذا تعني؟". " أريدك أن تبقي معي في دلرسبك , ما دامت أليزابيت بحاجة الينا". حملقت فيه لحظة ثم قالت: " طبعا , سأذهب معك لرؤيتها , ولكنني لا أستطيع البقاء ويلا يا آرثر ... يمكنني التغيب عن وظيفتي هنا , سأطلب أجازة بضعة أيام ولربما...". وتوقفت عن الكلام عندما رأته يهز رأسه قائلا: " أنك لست معي يا كارين , أو أنك تتعمدين ألا تفهميني". أنفرجت شفتاها فزعا عندما أدركت ما يريده منها وتمتمت: "كلا يا آرثر! أنك لا تعني....". فقال بصرامة: " بل أعني أنك ستأتين معي الى دلرسبك كزوجتي". " كلا كلا! لا أستطيع بعدما...". " بل تستطيعين وسوف تفعلين".
2 _ الصفعة"
لأول مرة خلال ستة أشهر وصلت كارين الى عملها صبيحة اليوم التالي متأخرين عشرين دقيقة , لأنها عندما أستيقظت في الصباح مرتبكة على غير عادتها , أرتدت ثيابها وأخذت تعد أفطارها ساهمة تفكر في أحداث الليلة السابقة , فتناثر رذاذ الحليب على ثوبها مما أضطرها الى تبديله , وعندما خرجت من منزلها وجدت أن القطار قد فاتها ,فأضطرت أن تقطع المسافة التي تفصلها عن مقر عملها سيرا على الأقدام. خرجت من باب المصعد , مرهقة متقطعة الأنفاس , وعندما وصلت الباب الزجاجي لغرفة السيد دراموند , كادت تصطدم بمديرها الذي كان يخرج من غرفته في تلك اللحظة , أعتذرت له وأعتذر لها , ثم تراجع الى الوراء وقال: " كنت أتساءل ماذا حدث فأنا.....". فقاطعته: " نعم, لقد تأخرت .... أنني في غاية الأسف". فأبتسم أبتسامته اللطيفة المعهودة وقال: " لا بأس , أنك نادرا ما تتأخرين , ولن أحاسبك على هذا التأخير بسبب ما حدث". حملقت كارين بمديرها الذي تابع حديثه: " أنني آسف جدا يا آنسة رادكليف لسماعي خبر مرض أحد أفراد عائلتك فأنا......". قطع حديثه عندما رن جرس الهاتف , فأشار لكارين أن تجلس ورفع السماعة , جلست كارين على طرف المقعد قلقة أثناء المكالمة تسائل نفسها ,ترى هل أتصل آرثر بمديرها؟ لا يمكن أن يكون هناك جواب آخر , فكيف عرف أذن بنبأ مرض أحد أفراد العائلة؟ آرثر لم يضيع الوقت سدى كما يبدو... أنهى السيد دراموند مكالمته ونظر اليها , كان يبدو على وجهه الشاحب أثر الخيبة , وظهر ذلك جليا في لهجته عندما قال: " فهمت الآن بأنك تحتاجين اى أجازة مفتوحة". صمتت كارين مترددة بين أخلاصها لمديرها الذي يقدر ظروف موظفيه , وبين طلبات آرثر التي لا تراعي مصلحة أحد , ثم قالت: " هل من الممكن...... أعني أريد أن أقسم وقتي بين عملي هنا وبين.". فقاطعها السيد دراموند: " كلا ,كيف يمكنك في وقت واحد أن توفقي بين عملك هنا وبين أعتنائك بصحة المرأة المريضة؟كلا , خذي أجازتك , وتأكدي أنك ستجدين وظيفتك بأنتظارك عندما تشعرين بأنك أصبحت حرة مرة ثانية , لقد كنت موظفة شديدة اتفاني في عملك يا سيدة رادكليف". وأنحنى قليلا يستمع الى كلمات الشكر التي قدمتها له ثم سأل: " ولكن لماا لم تطلبي مني هذا الطلب شخصيا وأنا كما تعرفين لا أضع حاجزا بيني وبين الموظفين؟". عضت كارين شفتيها حنقا على آرثر وتدخله السريع بشؤونها وقالت: " كنت سأطلب ذلك بنفسي ولكنني لم أسمع النبأ الا الليلة الماضية". نظر اليها نظرة متفحصة وقال: " أن لك بنادق قوية تقاتل من أجلك , لم أكن أعرف أبدا أنك تحظين بأهتمام رادكليف أو على الأقل بأن لك صلة بالعائلة". فأجابت متلعثمة وقد صعد الدم الى خديها: " أوه... لم يخطر ببالي أن أذكر ذلك". فأبتسم قائلا: " بالطبع لا, فالمسألة شخصية جدا , حسنا يمكنك الذهاب , غريبة هذه الأيام كيف أصبح المرض يفاجىء الناس دون مقدمات! دعينا نسمع أخبارك دائما". " طبعا سأفعل , وشكرا على تفهمك لوضعي". أدركت أنها قد تركت عملها الآن , أرادت ذلك أو لم ترد , أستدارت وخرجت من مكتب السيد دراموند , ولأول مرة في حياتها شعرت بأنها باتت مسلوبة الأرادة , غير مخيرة بما تعمل , قال لها آرثر أنه سيتصل بها وأعرب عن رغبته في السفر ذلك اليوم , ولهذا فمن الأرجح أن لا تراه مدة يومين على الأقل , أذن كان من الأفضل لو بقيت في عملها حتى يحين موعد سفرها الى دلرسبك الذي قد يتأخر بضعة أيام أخرى. وقفت خارج باب المدير تفكر في الرجوع اليه , طالبة البقاء حتى يوم سفرها ,وكانت على وشك أن تفعل عندما سمعت صوتا يناديها , ورأت فتاة المكتب تسرع نحوها قائلة: " حسبتك أنصرفت! أليك هذه الرسالة , تركها أحدهم قبل دقائق معدودة". دفعت الصبية الصغيرة قطعة ورق في يد كارين وتابعت قولها : " أصحيح يا كارين؟ أنك ستتركين؟". أكتفت كارين بأن هزت رأسها , وراحت تحملق في السطر الوحيد : " أتصلي بي هاتفيا قبل العاشرة والنصف صباحا". رسالة بلا توقيع , لكن ما الحاجة الى التوقيع؟". وتابعت الفتاة كلامها: " لشد ما أنا آسفة , سنفتقدك حتما ,هل أستطيع أن أقدم لك أية خدمة؟". شكرتها كارين ودفعت الورقة في جيبها ثم ودعتها وأسرعت بأتجاه المصعد , كانت ترغب بالفرار من المكتب قبل أن يهرع اليها بقية الموظفين الذين ولا شك علموا بتركها العمل الآن , وينهالوا عليها بالأسئلة , كانت متحفظة طيلة مدة عملها , ولما تحدثت عن حياتها الخاصة , المعروف عنها أنها قد تكون أرملة. تركت كارين ما يشاع عنها على حاله , لأنها لم تكن ترغب في كشف الحقيقة وأثارة الأقاوي. لحسن حظها لم تجد أحدا في ردهة الطابق لأرضي عندما تركت المصعد , فخرجت مسرعة الى الشارع وذهبت الى غرفة هاتف كانت في زاويته , ترددت قليلا ثم دخلت , وعندما بدأت تدير قرص الهاتف أخذ قلبها يخفق بشدة من الضيق والقلق. تناهى اليها من الطرف الآخر صوت عميق يقول قبل أن تتلفظ بكلمة: " كارين؟ .... عرفت أنك هي". وردت ببرود: " أخذت رسالتك ... لماذا هذا التصرف؟ لماذا ذهبت الى المكتب؟ لقد أنقطعت عن عملي , وأصبحت الآن بلا وظيفة , وددت لو أنتظرت حت ......". فقاطعها قائلا: " لا تبالغي يا كارين ,كان ذلك ضروريا , أصغي الي الآن وألا فاتنا الوقت , أريدك أن تعودي الى منزلك وتحزمي حاجياتك , سأحضر بعد ساعة لأصطحبك الى بيتي قبل أن أتوجه دلرسبك". فصرخت كارين: " آرثر أنتظر لحظة! لا أستطيع أن أرتب أموري بمدة ساعة فقط ... وأذا كنت تعتقد أنني سأعود لأعيش معك فأن وقاحتك لا تطاق ,وافقت أن أذهب معك الى دلرسبك ولكن ليس....". فقاطعها بصوت حازم: " لا خيار لك في ذلك ,ولا حتى لي , سألتني أليزابيت لماذا لم تكوني معي البارحة , أنها قادمة لتراك بعد ظهر اليوم , والأفضل أن تكوني هناك". وأنقطع الأتصال , همت أن تتصل ثانية ولكنها ترددت لأنها كانت على ثقة بأن آرثر لا يمكن أن يبدل رأيه. خرجت من غرفة االهاتف الى الشارع, ثم وقفت مترددة يغالبها شعور بأن تتصل بأليزابيت , قد تكون طريحة الفراش الآن وقد لا تكون , ليتها لم تكثر من الجدال مع آرثر في الليلة الماضية , وأستعلمت منه أكثر عن أليزابيت ,وفجأة غيرت رأيها وعدلت عن الأتصال بها , لقد قال آرثر(ساعة) وذلك يعني بالدقة ساعة! ولن لن تكون الساعة كافية لحزم أغراضها ومحاسبة السيدة بيجنز والأيضاحات التي عليها أن تقدمها أجابة على أسئلتها الفضولية! أسرعت الى شقتها وتنفست الصعداء أذ ألفت السيدة بيجنز غائبة عن المنزل , ذلك سيفسح لها مجالا لحزم حاجياتها بأسرع ما تستطيع , أخذت كارين تطوي ثيابها وتضعها في الحقيبة التي ما لبثت أن أمتلأت , أنتابها الفرع فالوقت يمر بسرعة وأغراضها كثيرة لا تستوعبها حقيبتها الثانية , وقد تتأخر السيدة بيجنز أن تبقي الشقة محجوزة بأسمها لمدة غير محدودة؟ ذلك يعني أن تصبح معتمدة كليا على آرثر. أخذت أعصابها تخونها , كانت قد أقسمت ألا تمد يدها الى النفقة التي خصصها لها آرثر , وشعرت الآن بأنه لن يكون أمامها أي خيار , آه لو أن هناك سبيلا آخر ! أطبقت غطاء حقيبتها الأولى وهي تغالب دموعها.. وفجأة فطنت الى شيء ... لكم هي أنانية! تفكر فقط في مشاكلها وتنسى أليزابيت , أرتعشت شفتاها من التأثر الشديد ,رباه! لماذا حصل لأليزابيت ما حصل؟ تلك المرأة الرقيقة الطيبة القلب التي لم تضمر الحقد ولا الكراهية في حياتها حتى لألد أعدائها . فركت كارين عينيها ونظرت الى ساعتها ,حوالي العاشرة والنصف , سيكون هنا في أية لحظة , من الأفضل أن تخط كلمتين الى السيدة بيجنز تضمنها بعض النقود وتعلمها أنها ستتصل بها. لم تكن أنهت رسالتها القصيرة حين سمعت أنصفاق باب سيارة في الخرج , أسرعت الى النافذة حيث شاهدت رأس آرثر المعتم وهو يتوارى داخل الباب الخارجي , تملكها دوار مفاجىء وراحت تبلل شفتيها الجافتين بطرف لسانها , أنتظرت متوقعة أن تسمع وقع أقدامه على الدرج , ولكنها سمعت رنين الجرس الخارجي يرن بألحاح , لم يكن أحد في البيت ليفتح له الباب! نزلت تركض بأتجاه الباب الخارجي , وراحت أصابعها ترتجف وهي تتلمس مقبضه ,نظر اليها آرثر نظرة أتهام وهو يقول: " ظننت لحظة..". قاطعته قائلة: " لا يوجد أحد في الدار , يبدو أنها خرجت الى السوق وكنت....". خطا الى الداخل مقاطعا كلماتها المرتبكة: " أستلمت رسالتي , ذلك هو المهم , هل أنت مستعدة؟". فأستدارت تسرع أمامه وهي تقول: " كلا لم أنته بعد , عليّ القيام بكثير من الترتيبات ,وحزم الكثير من الأمتعة ..... ولم.". " أتركي كل شيء , سأتدبر أمر أمتعتك فيما بعد , أحزمي فقط بعض الحاجيات الضرورية". وصلا باب الشقة وعندما فتحته لمحت على وجه آرثر علائم الأمتعاض , وهو يجول بعينيه يتفحص ما في الداخل: " أهذا أفضل ما أستطعت أن تفعليه؟ بيت رث في شارع خلفي وضيع ... يا ألهي لن أستطيع سبر غورك يا كارين". فرمقته بنظرة باردة وقالت: " قد يبدو لك رثا , لكنه نظيف ومحترم , ومريح بالنسبة لعملي وهذا كل ما يعنيني ,ويظهر أنك نسيت بأنه كان من المفروض أن أكون خارج البلاد السنتين الماضيتين , ألم يخطر ببالك أنني لو أقمت في مكان قريب من منطقتنا لكنت عرضة لأن يراني بعض معارفنا؟". " ليس من الضروري أن تقيمي في مكان قريب من منطقتن ,لندن مدينة كبيرة!". " والدنيا صغيرة!". دخلت أمامه الى الشقة وتبعها , وحاولت أن تحمل حقيبتها الكبيرة ولكنها كانت ثقيلة , فمد آرثر يده القوية وحملها عنها , وحملت هي حقيبتها الصغيرة , وخرجا من الشقة وهو يقول: " حسنا تذكري دائما الأتفاق الذي عقدنا بيننا ,وحاولي ألا تنسيه". وبصمت نزلا الى السيارة , وبينما كان آرثر يضع الحقائب في صندوقها , تركت كارين الرسالة الصغيرة الى السيدة بيجنز في مكان من مدخل الردهة بحيث تستطيع رؤيتها عند عودتها الى البيت , ثم أغلقت الباب خلفها ...... أخذت مكانها على مقعد السيارة بالقرب من آرثر , وفجأة أنتابها أحساس غريب , فوجودها بالقرب منه بعد هذا الأنفصال الطويل أيقظ في داخلها طل الذكريات النائمة.... وبحركة سريعة أدارت رأسها وراحت تنظر من النافذة , لقد قررت المحافظة على أستقلاليتها , فالماضي هو الماضي , أختطت طريقها ولن تسمح لنفسها أن تتراجع عنها مهما كانت الظروف. لم يقطع عليها آرثر تأملاتها وأستمر يقود السيارة بصمت حتى بلغ السوبر ماركت حيث أوقفها في مكان شاغر وقال بأيجاز: " تعالي ........ خزائن الطعام فارغة". وكما أعتاد آرثر سابقا , أخذ يجر العربة الصغيرة بين الصفوف المتراصة بأنواع الأطعمة ويعبئها بما يشاء من المواد الغذائة وكارين تراقب ما يفعل شاردة الفكر , لقد عاشت سنتين كاملتين وحيدة, تتسوق حاجياتها بمفردها وتدبر أمورها بنفسها , والآن فقد تلاشت السنتان بأقل من يوم واحد. أخذ آرثر قائمة الحساب من المحاسبة , وتمتم متذمرا من الأسعار التي أزدادت كثيرا عما كانت عليه قبل سنتين , وكارين الى جانبه تتأرجح بها العاطفة بين تيارات أفكارها المضطربة , أذن فقد أصبحت متزوجة من جديد. أنبعثت من داخلها همسة ساخرة تناهت الى مسامعها : ولكنك متزوجة ولا يزال آرثر زوجك ... وأستمر الصوت يهمس والسيارة تنطلق بهما من جديد ,جعلتها تلك الهمسات تجلس متشنجة في مقعدها الى جواره , جعلتها تلك الهمسات تجلس متشنجة في مقعدها الى جواره , وبينما الأمكنة والطرقات المألوفة التي تقود الى فالنتين كريف تعبر أمام عينيها , أخذت تشد يديها على حقيبتها تمنعهما من الأرتجاف , رأت الوميض القرمزي المنبعث من عامود العلبة البريدية في زاوية الشارع , ثم الخضرة الداكنة للطريق المحفوفة بالأشجار والتي تحجب جزءا من الدار المهيبة القائمة وسط الحدائق. شعرت كارين بأنها تعود الى ما قبل عامين ونصف , عندما عادت برفقة آرثر من شهر العسل بالسيارة التي تباطأت عند البوابة الخامسة , ثم مرت تصرصر على الممر المغطى بالحصى لتقف أمام العتبة التي تنتظر العروس , منذ عامين ونصف , أرتفع أصوات الضحك والمزاح لأستقبالهما , وصدحت الموسيقى في أجواء الدار تتخللها أصوات شغب المستقبلين وهم يأكلون ويشربون ... أما الآن فلم يكن هناك سوى عصفور دوري يراقب من فوق أحد الأغصان قطعة صغيرة من الخبز تلاشت تحت دواليب السيارة الغاشمة , نزلا من السيارة ودفع آرثر الباب الذي أنفتح الى الداخل , حيث الصمت والبرودة , كأن الدار ذاتها كانت تنتظر بشيء من الشك , أن تعود كما كانت بيتا معمورا. وقف آرثر وأومأ لها بالدخول بشيء من نفاذ الصبر , ودخلت كارين ببطء. كان صندوق السنديان المعتم , هدية زواجها , لا يزال في مكانه من الفاعة بالقرب من كوة الهاتف التي صنعها آرثر بنفسه من الزجاج وخشب السنديان. والباب في نهاية القاعة مفتوح جزئيا , ومن خلاله أستطاعت كارين أن ترى رفوف الأواني البيضاء والسوداء اللامعة في المطبخ العصري الكبير. دخلت كارين المطبخ يتبعها آرثر الذي راح يتفقد الخزائن , وقال: " سأجلب ما تسوقناه من مواد وستتولين ترتيبها في أماكنها". أستدار ليخرج ولكنه توقف عندما سمعها تنادي: " آرثر ... لا يوجد في المطبخ أي شيء على الأطلاق... ألم تكن هنا ليلة البارحة؟". " كلا.... ذهبت الى الفندق". قطبت حاجبيها قليلا وقالت: "ولكنك ذكرت في رسالتك أنك ستكون في البيت!". فنظر الى وجهها وقال: " لم أجد ذلك ضروريا بعدما رأيتك ,أنبأت أليزابيت بأننا أقمنا في الفندق بضعة أيام , لأن مستأجري البيت لم يغادروه الا اليوم". " ولكن لماذا؟". بدا عليه نفاذ الصبر وهو يقول: " بالله عليك كفي عن هذه الأسئلة , أليزابيت ستتصل بنا هاتفيا الآن وتريد أن تكلمك , أخبرتها بالأمس أنك ذهبت الى مكتب الشحن لتستفسري عن فقدان أحد الصناديق الذي كنا قد شحناه قبل مجيئنا , وهي واحدة من سلسلة الأكاذيب التي كان عليّ أن أشرح بواسطتها سبب عدم وجودك معي البارحة". أبيض وجه كارين وهي تقول: " لا تنظر اليّ نظرة أتهام, أنت تعرف أنها ليست فكرتي". فأجابها عابسا: " أنا أعرف ذلك, ولكنني أريدك أن تعتادي على هذه الفكرة , وما دمنا نتكلم في هذا الموضوع , فقد كتبت بعض النقاط التي عليك أن تذكريها جيدا". حملقت كارين في وجهه بينما أخرج دفتر مذكراته من جيبه وأنتزع منه ورقة ناولها أياها وقال: " العنوان الذي كنا نقيم فيه... أي العنوان الذي من المفروض أنك كنت تقيمين فيه معي في سان باولو , وأسماء بعض معارفي , وكذلك موقع مشروع العمل ,وبعض التفاصيل القليلة الأخرى , ولقد أحضرت مع أمتعتي دليلا سأعطيك أياه لتدرسيه بأمعان , وسأساعدك على تفهمه عندما أعود ,يجب أن يبدو عليك معرفة الأماكن والأشخاص الذين من الممكن أن يمر ذكرهم في أحاديثنا , عندما نجتمع جميعا مرة ثانية". أدركت بوضوح ما كان يعنيه , فأجابت واليأس يتجلى في عينيها: " ولكنني لم أكن قط في أميركا الجنوبية , ولا أعرف عنها أية معلومات أولية , فكيف أستطيع التحدث عن مدينة وبلاد كأنني عشت هناك مدة سنتين ؟ لا أستطيع ذلك يا آرثر". فقال بفظاظة: " لا أتوقع منك ذلك , فقط أسكتي وأومئي برأسك موافقة على ما أقول, سأجعل الأمر سهلا بالنسبة لك بقدر أستطاعتي , وعليك أن تستمري في هذه اللعبة ما دامت أليزابيت بحاجة الينا وسأجزل لك العطاء , وبعد ذلك.... وبعد ذلك لا يعنيني لو ذهبت الى الشيطان". تراجعت كارين لاهثة أمام قسوة كلماته , وأمتلأت عيناها بالدموع وصاحت بصوت مختنق: " كيف تستطيع أن تقول كلمة( بعد ذلك) كأنك تقيس الزمن المتبقي من عمر أليزابيت؟". " ولماذا لا؟ هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها ". فصرخت: "أنك عديم الأنسانية! وقولك أنك ستجزل لي العطاء , يعني أنك تريد أن تستأجرني لتنفيذ فكرتك!أنك.....". فقاطعها صائحا: "نعم, ذلك صحيح أيضا أذا رغبت في تفسير ما قلته على هذا النحو , فأنا على أستعداد أن أستأجرك , أستطاع ذلك رجل آخر , فلماذا لا يستطيع زوجك؟". هزتها كلماته هزة أودت بكل أثر للون في خديها , ومن غير أن تدري ما تفعل عبرت الغرفة ورفعت يدها كأنها عصا السوط, وصرخت: " كيف تجرؤ........". ودوت صفعة راحة يدها على خده كالطلقة ثم خيّم الصمت , وبحركة بطيئة كرجل أصابه الدوار , رفع آرثر يده يتلمس أثر الصفعة على خده, ثم أستجمع قوته وأطلق ذراعه بأتجاهها وهو يصيح: " أيتها الثعلبة الماكرة! أيتها الكلبة الحقيرة! أستطيع أن أقتلك.". وأمسكت أصابعه بعنقها والشرر يتطاير من عينيه. وفجأة رن جرس الهاتف فقطع الجو المشحون وأعاد شيئا من الهدوء , سقطت يدا آرثر الى جانبه , وتراجعت كارين مرتجفة الى الوراء واضعة يديها على عنقها , أستمر الرنين فهرع آرثر الى القاعة , سمعت كارين صوته خشنا غير متزن ثم بدأ يهدأ تدريجيا وهو يقول: " نعم, نحن هنا , لقد وصلنا منذ قليل..... نعم يا عزيزتي , هي هنا..". راقبته كارين وهو يعود صامتا , ينظر اليها ويمد يده بالسماعة , أحست بساقيها تكادان أن تخذلاها وهي تتجه نحوه , وأستندت الى الطاولة , أخذت منه الآلة وهمست: " هالو!". وتناهى اليها صوت أليزابيت الناعم : " كارين يا عزيزتي . أخيرا! ما أجمل أن أسمع صوتك ثانية , كيف حالك؟". راحت كارين تبحث عن الكلمات وهي تشعر بجسم آرثر الطويل , الممشوق الى جانبها , وكادت تلعت نفسها لكلماتها الجافة المتكلفة التي خرجت من بين شفتيها: "أنا بخير , كيف حالك أنت؟". وبدا أن أليزابيت لم تلاحظ التكلف في كلماتها فأجابت بحيوية: " أحسن بكثير بعد عطلت الطويلة , ولكن عودتك أفضل من أي منشط أتناوله , هل أنت سعيدة بعودتك الى البيت يا حبيبتي؟". وكأنما سمع آرثر ما كانت تقول , فتحرك من مكانه محذرا , وردت كارين بنفس همستها المختنقة: " أوه نعم , لقد أفتقدتك كثيرا ... وأشتاق لرؤيتك , وكذلك آرثر". فقالت أليزابيت بصوت حاد: " باركك الله , لن أطيل الحديث معك فأمامك عمل كثير , في الواقع أتصلت بك لأن آرثر طائش ,كيف يرى أن نذهب جميعا الى يورك شاير؟ لا أرى ذلك عدلا , تشرعين بالرحيل ثانية قبل أن يتسع لك الوقت لأن تلتقطي أنفاسك , أخبريه أن هذه العجلة ليست ضرورية , أنه لا يسمع مني!". " لا يسمع منك ؟". وتنهدت كارين تحدث نفسها: " ... ولا مني أيضا....". ثم أزدردت لعابها وتبعت: " لا تقلقي ...... سنعتني بك وبنفس الوقت نمنح نفسينا قسطا من الراحة , فلماذا لا نترك كل شيء الى آرثر يتصرف حسب رأيه؟". فأجابت أليزابيت وفي صوتها لهجة أحتجاج طفيفة: " نعم يا عزيزتي, حاولت أن أفهمه بأنني لم أعد بحاجة للعناية , ولكن أستحالة عليه فهم ذلك , أنا أحسن حالا الآن , صدقيني , وعلى الأنسان ألا يعتبر كل كلمة يقولها الأطباء صحيحة , هم أنفسهم يعترفون بأنهم يخطئون أحيانا , حقا حذروني بأنني لست على ما يرام, ولكن لن أدع هذا الأمر يزعجني , وأريد منكما , أنت وآرثر أن تعداني بألا تقلقا من أجلي ,على أية حال فأن ما يهم هو ما أشعر به أنا شخصيا , ألا تعتقدين ذلك؟". لم تستطع كارين ألا أن تهز رأسها وتعبر عن موافقتها بصوت مكبوت. تكلمت أليزابيت بصوت أكثر حدة: " هل أنت بخير يا كارين؟ يبدو صوتك متوترا , هل أنت مريضة يا عزيزتي؟". "كلا...كلا لا شيء , أنا.....". أختطف آرثر السماعة من يدها وقال بصوت حاول أن يجعله هادئا: " أمي , المرض الوحيد هو أن فاتولاة الهاتف التي سوف نستلمها ستكون مرتفعة أرتفاع البرج أن لم تكفي عن هذه الأحاديث الصبيانية , ستحضر كارين لتراك حالما ترتب أمورها , وسأراك أنا بعد يومين أو ثلاثة , هل هذا حسن؟". من خلال غشاوة الدموه رأت كارين عبوسا غريبا على وجه آرثر وهو يستمع الى ما كانت تقوله أليزابيت , ثم ودعها ووضع السماعة ونظر الى كارين فشاهد دموعها التي لم تحاول أخفاءها , فتأوه بصوت ناعم: " كفى بالله , يجب ألا تستسلمي". هزت رأسها دون أن تنطق بحرف واحد, وهمت أن تتحرك مبتعدة , فأحست بيده تمسك بكتفها , حاولت أن تتملص فقال: " كلا...... كلا يا كارين.......". وشدها بعنف لتواجهه وتابع كلامه: " أنني آسف , ما كان يجب أن أتفوه بما قلت قبل قليل.. كان ذلك...". توقف عن الكلام ونظر اليها وعلائم العذاب تلوح في عينيه المظلمتين: " وأنا آسفة أيضا ... آسفة أنني صفعتك, أنا لم.". أشتدت قبضته على كتفها وقال: " لا تقولي أي كلمة أخرى, علينا أن نحاول نسيان خلافاتنا. لن يكون ذلك سهلا ولكن يجب أن نحاول من أجل أليزابيت". أرخى يديه وأستدار بحركة مفاجئة , ثم سار بخطى متثاقلة الى القاعة الخارجية , ووقفت كارين تراقب قوامه الطويل وهو يفتح الباب الخارجي ويتجه نحو السيارة , وعندما عاد بحقيبتها الأولى كانت قد تمالكت شيئا من رباطة جأشها ,ولكنها كانت تحس داخلها بقلق غريب , لقد ظنت منذ لحظات وهي تقف قرب الهاتف , بأن آرثر على وشك أن يضمها بذراعيه , ولكنه لم يفعل .... لم تكن تتوقع ذلك الفيض من الشوق المفاجىء .... لقد كانت قريبة منه وما كان عليه ألا أن يميل قليلا الى الأمام...... أخمدت جاهدة تلك الأفكار المزعجة , وأندفعت بحماس لتساعد في أدخال الأغراض من السيارة , لم يستغرق ذلك وقتا طويلا , وفي غمرة نشاطها راحت تبحث في صندوق المعلبات عن القهوة وعلبة الحليب , دخل آرثر الى المطبخ لا يبدو عليه أي أثر من آثار العاصفة العاطفية التي مرت قبل قليل , ورأها منحنية تجاهد لتفتح حنفية الماء فقال: " دعيني". أستقامت تاركة أياه يفتح الحنفية المستعصية بأصابعه القوية وقالت: " سوف أعد قدحا من القهوة". نفض الغبار من يديه وأصلح ربطة عنقه وقال: " في الحقيقة لم يعد أمامي متسع من الوقت, علي أن أصل الى دلرسبك في الرابعة لتفقد المكان هناك, وأقوم ببعض الأتصالات الضرورية قبل أقفال الحوانيت". " وماذا عن العشاء؟". " سأتناول شطيرة في الطريق". بدت عليه الرغبة في الأنصراف فرضخت على مضض , كانت تتوق الى تزويده ببعض الطعام يتناوله في الطريق , ولكنها آثرت الصمت , قاومت رغبتها في تجاوز حدود الكلفة بينهما , ما زال الوقت مبكرا , أو لعله فات الأوان ... ولاحت على وجهها علائم الحسرة وهي تفكر في ذلك , فجأة قال: " هل تريدين شيئا قبل أن أذهب؟". " لا أظن ذلك". فرفع حاجبيه بأستخفاف وألقى على الطاولة بعض الأشياء وقال: " لا تظنين ؟ وماذا عن هذه؟ مفاتيح أضافية للبيت .... في حال مفاتيحك لم تعد بحوزتك , بعض النقود , رقم هاتف دلرسبك ..... لقد غيروا الأرقام مؤخرا , وذلك الدليل!". نظرت الى الأشياء الملقاة أمامها وألتقطت منها الأوراق النقدية وقالت: " لست بحاجة الى هذه". هز كتفيه وقال: " ألقيها في الدرج أذن , ستجدينها هناك عند اللزوم". بدا أنه لم يعد هناك ما يقال , وأحست بالألم من حاجتها الى بصيص من التفاهم , جسر واه للقاء في هذه العلاقة المنفصلة الغريبة التي أختار القدر أن يقحمها فيها. خطا آرثر الى السيارة بعد أن ذكّرها بلهجة فاترة , أنها تستطيع الأتصال به على رقم دلرسبك أن جد شيء ما , والآن بعد أن أنهى المرحلة الأولى من خطته , لم يظهر عليه أنه يكترث بمشاعرها وهواجسها , ولكن لماذا يكترث؟ سألت كارين نفسها بعد أن أقفلت الباب , وأستدارت ببطء لتواجه الصمت الفارغ للدار التي كانت بيتها يوما ما , أن الأهتمام والمراعاة يتأتيان عن الحب , وآرثر لم تبدر منه أية بادرة عن شيء من ذلك , أنه لم يعد يحبها ,وتساءلت أن كان قد أحبها أصلا....
3_ زيارة في الليل
دخلت كارين المطبخ وأعدت لنفسها فنجان قهوة , المشهد العاصف مع آرثر هزها وأوهى قواها , أستندت الى أحد المقاعد الصفراء وراحت تهز الفنجان بأصابعها , كيف تواجه هذه المحنة؟ تعيش الكذبة من أجل أليزابيت , تددعي أنها وآرثر ما زالا يتقاسمان نشوة السعادة المفرطة التي عرفاها لفترة قصيرة , وتنتبه لكل صغيرة أو كبيرة من تصرفاتها خشية أن تفضح زواجهما المهشم على حقيقته . أحست بحرارة القهوة تصل الى أصابعها , فتركت الفنجان ليبرد وراحت تحملق بعينين شاردتين في النقوش الشهباء والخضراء والصفراء على آجر الحائط , الجزء الوحيد الذي لم تحبه , كانت ترى عيونا متوارية في تلك النقوش الحلزونية الغريبة تبعث ومضات من الشر , ليزا هي التي أختارتها تقدمة منها للبيت , وأحبها آرثر لأنسجام ألوانها مع الألوان الأخرى , لذلك فأن ليزا عندما حضرت ذلك الصباح تحمل قطعة من ذلك الآجر , نموذجا للهدية التي أصرت على أن تقدمها ,وافق آرثر بقوله أنه لا يمكن أن يوجد بديلا أجمل منها . ليت الزمن يعود الى الوراء , الى ذلك الصباح , الى ثلاثة أيام قبل يوم الزفاف.. أرتجفت كارين وأخذت جرعة من القهوة , ما فائدة العودة الى ليت والى المرارة؟ الى الترجي بأن معجزة بشكل ما , قد تبطل ذلك القرار المأساوي الخاطىء الذي شاء القدر أن يوقعها في شركه , لقد أعطت وعدها , ولو أنها عرفت ما سوف يقود اليه وعدها الصامت.... هبت كارين منسلة من المقعد وغسلت الفنجان الذي بيدها , لقد صممت على أن تكف عن التفكير في أستعادة ذكريات الماضي التي لا جدوى منها , فطالما ستقضي الأيام القادمة وحيدة عليها أن ترتب غرفة لها , وترى ما يجب عمله للبيت الذي كان مشغولا من قبل مستأجرين لمدة سنتين. عند أسفل الدرج أحست بمقاومة غريبة للصعود , أطياف مسرات الماضي وأشباح التعاسة كانت تنتظرها في ذلك البيت الصامت , كا خطوة تبعث ذكرى , فهناك الدلفين الفضي الذي جلباه معهما عند رجوعهما من شهر العسل في فلوريدا , لا يزال محفوظا في كرته الزجاجية ذات اللون الأزرق الموشح بالأخضر , على رف مقوس صغير , ذكّها ذلك الرف يوم قام آرثر بتثبيته في الحائط فجرح يده بالأزميل جرحا عميقا , وكيف أصابها الهلع عند رؤية الدم في كل مكان , ولم تعد تدري أتستدعي الطبيب أو تقوم بتضميد الجرح , وكيف ربطت منشفة حول الجرح وأخذت آرثر بالسيارة رغم أحتجاجاته الى طبيب , كانت في غاية القلق عند رجوعهما الى البيت , أذ أخذت تذكر قصص العجائز عن الأصابة بمرض الكزاز أذا أصيبت قاعدة الأبهام بجرح , مما أثار ضحك آرثر , فسخطت عليه وعندهاسحبها اليه قائلا بأنه يستطيع منحها الحب بيد واحدة... رجعت كارين بتفكيرها ثانية الى حاضرها ,وتابعت جولة التفتيش , لقد ترك المستأجرون البيت نظيفا للغاية , والشيء الوحيد الذي خلفوه وراءهم هو صرة نظيفة على ظهر صندوق البياضات تحوي كيسي وسادة , ولحافا مزدوجا وزوجا من المناشف , كانت رسالة صغيرة مثبتة بالمنشفة العلوية وورقة نقدية مطوية من فئة الجنيه , مكتوب في الرسالة : " جزيل الشكر لتأمينكم أيانا على بيتكم , حاولنا جهدنا أن نتركه بالشكل الذي نرغب على أن نجد بيتنا بعد رجوعنا اليه , عفوا لتركنا هذا الجنيه , آملين أن يغطي نفقة الغسيل , سوجلبرن". شعرت كارين بالشكر لأولئك المستأجرين , وهبطت بالأشياء فوضعتها في الغسالة , لم يكن أمامها عمل كثير , أذ لا حاجة لأعداد البيت بشكل كامل , حيث أنهما على وشك أن يغلقاه ثانية لأمد غير محدود. بعدما نشرت الغسيل ليجف في الحديقة الخلفية , أعدت لنفسها غداء خفيفا , ثم صعدت الى غرفة النوم الصغيرة التي قررت أن تنام فيها لتهيء بعض البطانيات , كانت أشد غرف البيت برودة , ولكنها أختارتها لتتجنب فيها ذكريات غرفة النوم الرئيسية. تنهدت , ولم تستطع مقاومة أنفتاح خيالها على فيض الذكريات , لقد عاشت هناك فترة غرام عنيف , قبل يوم واحد من زفافهما تم توقيع عقد شراء البيت الذي غادروه فورا الى شهر العسل , وعند عودتهما ألفيا البيت في فوضى من الطين وكسارة الحجارة ,كانت أشرطة الكهرباء متدلية في كل مكان , وحنفيات الماء معطلة , وفي غمرة تلك الفوضى أقاما حفلة صاخبة , وتمثلت أمام عينيها أحداث تلك الحفلة التي حضرها بعض الأصدقاء ,كانت ليلة حافلة بالمرح والبهجة والنكات , وكم ضحكت هي وآرثر.... ولكن ما كانت تلك الليلة السعيدة الا مقدمة للكارثة! في تلك الليلة قابلا طوني فوستر , ذلك الغريب الذي كان يرافق أحد أصدقاء آرثر , الغريب الذي وضع الحلقة الأولى في السلسلة التي قادت الى لقاء فينس كاين الفنان الشهير , وكان بداية الأنحدار الى المأساة التي حطمت سعادة فتاة بريئة , وهمست كارين : سعادتي أنا! أمتلأت عيناها بالدموع , فكفكفتها ساخطة , وصاحت بصوت كاد أن يكون عايا طالبة من نفسها أن تكف عن التفكير : كل شيء أنتهى وفات الأوان , ولكن كيف يمكنها أن تكف عن التفكير وقلبها يصرخ من المرارة والعذاب ضد ظلم القدر؟ لماذا يجب عليها أن تعاني تلاشي أحلامها ؟ وثقت بحب آرثر لها , ولكنها بعد حين أكتشفت عدم ثقته بها , لقد صدّق عنها أسوأ الأمور ولم يعطها فرصة واحدة كي تدافع عن نفسها ما أتهمها ... آلمها ذلك أكثر بكثير من كلماته الجارحة التي صبّها عليها عندما... أفاقت من ذكرياتها على رنين جرس الباب الذي عكّر السكون من حولها , من يكون القادم يا ترى؟ هل.؟ وفجأة تشنجت مفاصلها , فهل يمكن أن يكون آرثر؟ أستخفت كارين بنفسها للرعشات الصغيرة المجنونة التي أنتابتها وهي تهبط الدرج , لا بد أن يكون الطارق أحد البائعين , أو قارىء عداد الكهرباء ... لا أحد يدري أنها عادت الى البيت , وعندما فتحت باب البيت صاحت وقد تملتها الدهشة , فهناك كانت تقف أليزابيت. حملقت كارين طويلا بشيء من الشك في القوام النحيل الجذّاب لوالدة آرثر بالتبني , ثم فتحت أليزابيت ذراعيها وضمت كارين اليها بقوة وهي تقول: " أرجو ألا أكون قد أزعجتك , لكنني لم أستطع ألا أن آتي لرؤيتك , أن كنت مشغولة فقولي ذلك يا حبيبتي!". " كلا! سوى أنني .... أنا.........". فضحكت أليزابيت وقاطعتها : " لم تتوقعي حضوري؟ شكرا للسماء فأنا ما زلت قادرة على الحركة". شهقت كارين شهقة عميقة , فلم تكن تعرق كيف سيكون لقاؤها الأول مع أليزابيت بعد سنتين من الفراق , بالطبع لم تكن تتوقع أن ترى أليزابيت تختلف كثيرا عن المرأة التي عرفتها , ربما أنحف قليلا ,والشعر الناعم الأشقر غلب عليه البياض , أما عيناها الزرقاوان فلا زالتا صافيتين لامعتين , وبشرتها الوردية البيضاء لا زالت بضّة ناعمة , وشخصيتها الدافئة لا زالت في تمام حيويتها ,ولكن أذا دقق المرء النظر أليها , يستطيع أن يلمح ظلال الألم تحت عينيها , وعلائم الضعف تبدو أكثر جلاء مما كانت عليه. وتابعت أليزابيت كلامها: " ظننت أن بأستطاعتي مد يد المساعدة , أن الأبتعاد عن البيت مدو سنتين , يجعله محتاجا الى عمل كثير لأعادته الى ما كان عليه". أستمرت أليزابيت في حديثها وقد غلبتها عواطفها التي ظهرت واضحة في عينيها : " أنه لرائع أن تعودي الينا ثانية , فالمدة التي غبتها عني كانت أطول سنتين في حياتي". أحست كارين بغصة في حلقها , ولكنها تمكنت من الأبتسام , وأفسحت المدخل بلطف وشدت أليزابيت الى الداخل وهي تقول: " رائع أن أراك ....أدخلي وسأعد الشاي". قادت أليزابيت الى غرفة الجلوس وأسرعت تعد الشاي , وأعطاها هذا العمل البسيط الفرصة لأستعادة رباطة جأشها ,وعندما عادت بالصينية كانت قادرة أن تقول بلهجة عادية لا تكلف فيها : " خرج آرثر منذ قليل , لو كنت بكرت قليلا لرأيته". أخذت أليزابيت قدح الشاي وقالت: " لم أكن أريد رؤيته , أريد التحدث اليك, وهذا في الواقع سبب قدومي الآن". هوى قلب كارين بين جنبيها , ماذا حدث؟ هل عرفت أليزابيت الحقيقة؟ وجلست قبالتها تنظر اليها في شيء ن القلق وسألت: " لماذا ... هل هناك خطأ ما؟". أخذت أليزابيت تحرك السكر في كأسها وقد غلب عليها التفكير ثم نظرت الى كارين وقالت: "كلا يا حبيبتي , ليس تماما , ولكنني قلقة عليك بسبب مشروع الأنتقال هذا , أنا لست مسرورة أبدا من فكرة آرثر هذه , عن أنتقالنا جميعا الى دلرسبك , وطبعا لست بحاجة لأخبرك عن آرثر , فهو أذا عزم على أمر لا تستطيع أية قوة أن تغير رأيه , ولكن ما أخشاه هو أن تشعري بأنك مكرهة على هذا الأنتقال". تنفست كارين الصعداء , وقالت بسرعة: " كلا بالطبع! أعتقد أنها فكرة رائعة". فقالت أليزابيت بهدوء: " أتعتقدين ذلك؟ حسنا , أما أنا فلا , هذا منتهى الظلم , أنه لا يعطيك فرصة للنزول من الطائرة حتى يطلب منك الأستعداد للرحيل من جديد". أجابت كارين بحزم: " هذا أقل ما يزعجني , أرجو ألا تعطي هذا الأمر شيئا من أهتمامك". تنهدت أليزابيت وقالت: " أخشى أن ليزا لن توافقك على هذا الرأي ,فأنت تعرفين كما أعرف أنا أنها ستتبرم من الضجر قبل أن تمضي عليها خمس دقائق في دلرسبك , وهذا يعني أن على كليفورد تبديل وجهته الى يورك شاير في عطل نهاية الأأسبوع , وهذا متعب جدا بالنسبة له , كما عليه أن يعود الى شقة لا أنسان فها خلال الأسبوع ,والمشكلة أن آرثر يرفض أن يصغي , وأنا أتساءل أن كان بوسعك أنت أن تثنيه عن فكرته ". كادت كارين أن تنفجر ضاحكة , لوأن أليزابيت ندتدري! فلقد أكرهها آرثر هي نفسها على أن تتخلى عن شقتها , أن تفقد عملها الجيد , وتركب متن خديعة تحمل بين طياتها تهديدا دائما بكارثة مدمرة , قالت بصوت عال: "أنا؟ لقد عقد آرثر عزمه وأنتهى". فقالت أليزابيت منزعجة: " نعم , كنت أخشى ذلك , ولكن المشكلة هي أنني لست متأكدة من أن رأيه هو الأفضل , أعلم أنه يفعل ذلك من أجلي , وأنني أشكره من أعماقي على ذلك , ولكن الغريب أنه لم يحدث أن تدخل من قبل بهذه الصورة للعمل على أسعاد أمه!". تقوّس فمها الجميل وتابعت بسخرية: " دعينا نواجه الموضوع , فلو أنك مكاني , هل تشعرين بالحماس الشديد لأن يتجمع أهلك حولك ينتظرون موتك؟" أرتفعت يد كارين الى عنقها وتمتمت: " كلا, كلا! أنا متأكدة أن آرثر لا يقصد.......". فقاطعتها أليزابيت بصوت جاف: " لا يقصد؟ ولكن تلك هي الحقيقة , أليس كذلك؟ آرثر لا يريد أن يرى الأمر على هذا النحو , أنه يعتبره أجتماعا جميلا حميما لشمل العائلة , الجميع يتقرب من الوالدة محاولا أن يجعل ما تبقى من عمرها هانئا وسالما معافى بقدر الأمكان". توقفت أليزابيت عن الكلام وعيناها تشعان بالعاطفة الصادقة , أفترت شفتاها عن أبتسامة خفيفة وهي تنظر الى الأسى الذي تجلى على وجه كارين , وقالت: " لا تتألمي يا عزيزتي , لن أسمح بمستقبل بارد سلبي كهذا , أنني أعرف الأمور التي يجب أن أتغلب عليها , وما يهمني الآن هو أن أقنع الناس بأنني في تمام الصحة وأفضل بكثير مما كنت عليه قبل بضعة شهور , ولن أسمح لأي أنسان بعد اليوم أن يلفني بالقطن الطبي حتى ولو كان هذا الأنسان أحد أفراد عائلتي الحبيبة , لا شك سينهكهم التعب قبل مدة طويلة من تحقق ما يخشونه". لم تدر كارين ما تقول , كان في وجه أليزابيت الشجاع أمل متوهج يصعب أخماده , فهل أخطأ الأطباء؟ وهل يمكن تخمين ذلك؟ كانت أليزابيت قد طلبت من آرثر أن يعلمها حقيقة رأي الأطباء بصدق , وجاء قرارهم تكهنا مغايرا لذلك التخمين , لو أن أليزابيت أختارت طريقها الخاص للتفاهم مع القدر , فما على الجميع ألا أن يحترموا رغباتها. سكبت أليزابيت لنفسها كأسا ثانية من الشاي وألتفتت الى كارين قائلة: " لقد أعلمت آرثر بأنني أحب دلرسبك في الربيع والصيف وحتى في الخريف , ولكنه أذا كان يتصور بأنني سأقضي الشتاء القادم هناك فالأجدر به أن يحرر نفسه من هذا الوهم , أنا ذاهبة الى ماريبللا في شهر تشرين الثاني( نوفمبر ) أن شاء الله". عضت كارين شفتيها وقالت: " يعتقد آرثر أنك غير سعيدة في تلك الشقة ". "حسنا , أنا لست سعيدة هناك , ولست أدّعيأنني لم أكن أعاني من الشوق اللاهب لرؤية دلرسبك , ولكنني بدأت أشعر بالندم الآن لأنني لم أكن أحس نحوها بمثل هذه اللامبالاة من قبل , لقد أنطلق بي آرثر اليها بسرعة البرق , وفي خلال ساعات جعل الحركة تدب في كل شيء". نعم بوسع آرثر أن يفعل ذلك , حدّثت كارين نفسها بمرارة وقد شرد ذهنها , على الرغم من الوحشية التي عاملها بها , وعلى الرغم من قساوة عمله , فقد كان يكن أحتراما وأخلاصا بالغين للمرأة التي منحته حبها وعنايتها في الوقت الذي حرمه العالم من أي عطف.... كثيرا ما أنتابها شيء من الفضول لمعرفة ذلك السر.. الجزء المغلق من حياة آرثر المبكرة ... ما لم يتحدث عنه ولو بكلمة واحدة حتى في أكثر الأوقات قربا ومحبة , الشيء الوحيد الذي كانت تعرفه هو أنه كان يتيما , وأن أليزابيت وزوجها أدخلاه بيتهما عندما كان في الحادية عشرة من عمره , وأن تلك اللحظات كانت المرة الأولى التي أحس بها بالحب والحنان في حياته , وفجأة هبّت كارين واقفة وأتجهت نحو أليزابيت , أنحنت وأحاطت كتفيها بذراعيها وقالت: " أرجوك يا أليزابيت , حاولي ألا تشغلي بالك بهذه المسألة , وأتركي كل شيء لنا , وأنني أعدك ألا أدخر وسعا في جعل آرثر يتركك تعالجين الأمور بالطريقة التي تريدينها , سترين أن كل شيء يجري على ما يرام , أنا متأكدة من ذلك". أبتسمت أليزابيت أبتسامة مرتعشة وقالت: "باركك الليه , أنني أمرأة محظوظة أن يكون لدي أبن وكنة رائعان مثلكما". وتناولت قفازيها وحقيبتها وتابعت: " والآن يجب أن أعود وألا فأن ماجدا ستثور كالدجاجة العجوز". " ماجدا لا زالت معك؟". " نعم , بالطبع , لقد آن لها أن تتقاعد وترتاح , ولكنها ترفض أن تتركني ". رافقتها كارين الى الباب وهي تؤاخذ نفسها لأنها أكتفت بسؤال لا مبال عن (ماجدا)تلك المرأة الأمينة التي بقيت في خدمة أليزابيت منذ زواجها قبل أربع وثلاثين سنة. فجأة أستدارت أليزابيت وقالت: " على فكرة يا عزيزتي , أود أن أشكرك على رسائلك الطويلة الجميلة التي كتبتها لي أثناء غيابك , أمتعني جدا أن أتلقى أخباركما بأستمرار , كانت مطبوعة بشكل أنيق , لا أدري لماذا يعتقد الناس أن طباعة الرسائل تجعلها أقل خصوصية وأقرب الى الرسمية , أنا أرى عكس ذلك , فهي أسهل للقراءة وخصوصا أن البعض تصعب قراءة خطهم". أحست كارين بشيء من الحرج وهي تتلقى الثناء على شيء لا تستحقه , فماذا كان آرثر يكتب في تلك الرسائل يا ترى؟". وقفت تراقب أليزابيت حتى توارت في سيارتها عن الأنظار ثم أغلقت الباب , أخيرا كانت قادرة أن تنزع قناع الحذر عن وجهها , لم يعد لديها أدنى شك بعد لقائها بأليزابيت في صحة ما أخبرها به آرثر , لقد أجتازت تجربتها الأولى بنجاح مع أليزابيت , ولكن ما يخبئه لها الأيام القريبة القادمة سيكون ولا شك أشد خطورة , ففي الأسبوع المقبل سيجتمعون جميعا في دلرسبك مع شبح المرض الماثل أبدا في وجه أليزابيت , ومع شظايا الزواج المحطم التي عليها أن تخفيها, وذلك بالأضافة الى ليزا ... أحست كاترين بالبرودة تتسرب الى قلبها المتوجس خيفة من المستقبل ,ولكن هل من مفر؟ لقد أعطت وعدا وهي تشعر في قرارة نفسها أن ليس لديها الرغبة بأن تنكث بوعدها ,وهناك أمر آخر , فأنها شعرت بما كانت تقنع نفسهابه من أنها لم تعد تبالي بآرثر غير صحيح , وهذا معناه أنها ستعيش كذبة أخرى... كانت الأيام الثلاثة التالية أشد أثارة للقلق من كل ما مر عليها من أيام , لم تسمع كلمة من آرثر ... وهذا طبيعي فهو لا يكلف نفسه بالأتصال الا أذا كان هناك شبب جديد.... ولا سؤال من ليزا ,وهذا لم يدهشها لأنها كانت تحس بالحاجز الذي يمنعهما من التقرب أحداهما الى الأخرى لتصبحا صديقتين حميمتين. أتصلت أليزابيت مرتين أو ثلاثا , وفي المكالمة الثانية أعلمتها أن ليزا وزوجها سيحضران للعشاء معها في ذلك المساء , وتود لو أنها تحضر أيضا , شعرت كارين بهلع لا مبرر له ,وأعتذرت بأنها مرتبطة بموعد آخر , وقبلت أليزابيت أعتذارها : أرخت كارين السماعة من يدها وهي تشعر بحرارة خديها للكذب الذي بدأ ت تألف ممارسته , ومع ذلك كانت مرتاحة الباب لتأجيل أجتماعها بليزا الى أمد أبعد , ولكنها أحست بسخف عملها أذ ليس هناك سبب يحدوها الى تجنب ليزا . قامت كارين بجولة أشترت أثناءها بعض الحاجيات ,وما أن عادت الى المنزل حتى فوجئت برنين جرس الهاتف , هرعت الى السماعة يخامرها شعور أنه آرثر , فسمعته يصيح متبرما: " أين كنت؟ هذه المرة الثالثة التي أحاول فيها الأتصال بك". فأجابته لاهثة: " آسفة ,كنت في السوق , وكنت أتوقع أن تتصل بي في وقت متأخر من هذا المساء , هل الأمور تسير حسب الخطة؟". " لا بأس , سأرجع الليلة , وأنا لا أرى سببا يحول دون أن نأخذ أليزابيت الى هناك غدا". عبست كارين وقالت: " هذا لا يعطيها وقتا كافيا لتستعد للأنتقال الى هناك يا آرثر , والساعة الآن قد جاوزت السابعة". أجاب ببرود: "يمكن أن نبدأ بعد الغداء ,والآن أسمعي , لديّ موعد في الثامنة , لا تنتظريني.... سأتأخر بعض الوقت , لهذا أستعدي أنت لأننا سنذهب صباحا الى أليزابيت لمساعدتها , أتصلي بها الآن وأعلميها , أن ذلك يوفر عليّ بعض الوقت". أجابته كارين بالأيجاب وهي تسمعه يودعها ويضع السماعة . أتصلت بأليزابيت وأعلمتها بما طلبه آرثر , ثم أخذت حوائجها اللازمة للأنتقال , وراحت تفكر , من الذي سيؤخر آرثر هذه الليلة؟ من المحتمل أن تكون أمرأة! ولكن هل هذا معقول؟ لا يمكن أن يكون أمضى السنتين بعيدا عن الجنس الآخر , لكنه لم يعد الا منذ أسبوع فقط, أمضى منها ثلاثة أيام في يورك شاير , وهي مدة غير كافية لأن يبني علاقة مع أحداهن. هدأت أرجوحة عواطفها قليلا , ثم ما لبثت أن بدأت تتأرجح من جديد , أن مدة سنتين كافية لأنشاء علاقات كثيرة , ولكن لماذا تناقش نفسها بمثل هذه الأمور؟ حقا أن آرثر لا يزال زوجها ولكن أسميا فقط , وهذه العلاقة الجزئية ما هي ألا لمصلحة أليزابيت , ولهذا فكلما أسرعت في أثبات هذه الحقيقة , كلما كان أملها أكبر في الوصول الى راحة البال. لم يجد النوم سبيلا الى عينيها مع أنها أطفأت النور , وأظلم البيت وخيم السكون خارج البيت , وعندما أنتصف الليل أشعلت النور وأخذت تقرأ في أحد الكتب , ولما أتمت قراءته كانت الساعة الواحدة وعشر دقائق , فركت عينيها المتعبتين وأستلقت تحاول أن تنام , وأذا بها تسمع الصوت الذي كانت تنتظره , صوت سيارة تدخل المرآب .المفتاح يدور في قفل الباب , ولكنها لم تر نورا ولم تسمع صوتا , كانت متأكدة من أنها لم تعد وحيدة في البيت , مرت خمس عشرة دقيقة وتلتها خمس أخر ,وبدأت أعصابها تخونها , لماذا لا يبدي آرثر أية حركة؟ لماذا لا يذهب الى سريره وينام حتى تتمكن هي أن تنام بسلام ؟ وفجأة نهضت من سريرها وهبطت بهدوء الى القاعة الخالية , لم تشاهد نورا في المطبخ ولا في غرفة الطعام , فأتجهت الى غرفة الجلوس ودفعت الباب بلطف , وهناك وجدته مستلقيا على أحد المقاعد , مستغرقا في النوم قرب الطاولة ,كان قدح الشرلب قريبا من مرفقه , وخصلة من سعره تتدلى على أحدى عينيه. وقفت مكانها لحظة تتملكها الحيرة , أتتركه نائما هناك؟ وأن فعلت فقد يستيقظ في الصباح متشنج العضلات من البرد في حالة لا تسمح له بقيادة السيارة مسافة طويلة الى الشمال. خطت خطوة مترددة الى الأمام , ثم قفزت مجفلة , رأت عينيه مفتوحتين تحملقان فيها وعلائم خفيفة من السخرية تشع من أعماقهما. أبتسم لها وقال: " حسنا يا كارين لم أمن أتوقع ترحيب الزوجة في هذا الوقت من الصباح". فتلعثمت قائلة: "ظننتك نائما". " كنت كذلك حتى تسللت كالقطة الى الداخل , وتأكدت أنني لم أكن أحلم , ماذا بك؟ أتشعرين بشيء من أهتمام الزوجة؟". تجاهلت اللهجة الساخرة وقالت: " آرثر , أتعرف ما الوقت الآن ؟ أن كنت تنوي السفر غدا الى دلرسبك , أليس من الأفضل أن تأوي الى سريرك؟". جلس وهو يعبث بربطة عنقه المتدلية أسفل ياقة قميصه المفتوحة وقال: " أذا فأنت قلقة ! أو أن لديك أفكارا أخرى؟". حملقت فيه لحظة ثم فهمت ما يعنيه , فتراجعت خطوة الى الوراء وبشكل غريزي شدت قميص نومها على جسمها النحيل وقالت: " أفكار أخرى ؟ حقا أنك مغرور بنفسك". هب من مقعده وأمتدت يده وأمسكت برسغها تمنعها من الفرار , فأحست أنه طويل جدا ,وقوي جدا ويكاد يلتصق بها . وأنطلقت منه الكلمات ناعمة : " أخبريني يا كارو , ماذا تقولين لو أخبرتك بأنني أكتشفت في نفسي فجأة رغبات كنت أظنها ميتة بالنسبة اليك؟". " أقول بأن تنساها". أخذت خفقات قلبها تتسارع , كان وجهه محتجبا في الظل وأنفاسه الحارة تلفح وجهها , وراح يشدها اليه , فبعث ذلك في نفسها ذكريات الحب , ذكريات الوعود ... حاولت التملص منه قائلة: " آرثر ,كن عاقلا بحق السماء , لم يكن هذا جزءا من الأتفاقية وأنت تعرف ذلك". لم يبد عليه أنه يرغب في أن يخلي سبيلها وقال: " أنا أعرف ذلك؟ أظن أننا عقدنا هدنة". قالت وهي تناضل للمحافظة على أتزانها: "نعم , ولمن تذكر أنها كانت من أجل أليزابيت فقط". أنطلقت منه شهقة وفجأة أحست بأنها أصبحت طليقة ... أبتعد عنها وهو يصلح ربطة عنقه , وسمعته يقول بصوت مكبوت: " نعم أنا أذكر ذلك , بالله, لقد تعبت". أجابت وهي تحكم الحزام حول قميصها: " وأنا تعبت أيضا, أتريدني أن أعد لك شرابا , شوكولا أو حليب , لعل ذلك يساعد على تهدئتك". أدار لها ظهره وأمسك كأس الشراب الذي كان بجانبه وجرع منه جرعة كبيرة , أنتظر لحظة ثم صب ما تبقى في فمه , وأستدار , وأذ رآها ما زالت واقفة وعلائم القلق بادية في عينيها , قال وقد ضاقتعيناه: " أذهبي الى فراشك وأتركيني لوحدي , وألا...". لعقت كارين شفتيها الجافتين , كان ما تعنيه كلماته واضحا وشعرت بأن ما يمنعه عنها خيط رفيع سرعان ما ينقطع , فأختنقت الكلمات في حلقها وأتجهت كالعمياء الى الباب , وأنسلت خارجة وأغلقته خلفها ,وعندما وصلت الى غرفتها دسّت نفسها في سريرها الضيق البارد وهي ترتعش من رأسها الى أخمص قدميها. أخذت تراجع نفسها ... ما أشد غباءها! كيف نزلت اليه بهذا الشكل ...؟ وأي شيء آخر يمكن أن تتوقعه عندما تتصرف بنزوات الطفل الساذج؟ لم يكن ثملا , لكنه كان متعاطيا شيئا من الشراب , وأذ بها تدخل عليه كالشبح , تغزوه وهو في غفوته ... حمقاء! ولكمت وسادتها غاضبة وهي تحاول حبس الدموع التي تجمعت بين أجفانها المغلقة , وأحست بشيء من العزاء لأن كبرياءها وقوة أرادتها تمكنتا من كبح ذلك الدافع الطاغي المحموم الذي كان يعتمل في أعماقها , يحضّها على الأستسلام له عندما حاول أن يعانقها , وعندها يكون الأوان قد فات....
4_حديث على الجسر
في اليوم التالي بدأ السفر الى الشمال وكأن ليس له نهاية , أنطلقوا تحت شمس ساطعة بعد غداء مبكر , وبعد أقل من أربعين ميلا الى الشمال من لندن , تلبّدت السماء بالغيوم وأنهمر المطر مدردرا , وأخذت قطراته تتناثر على نوافذ السيارة بلا توقف ,وبعد ذلك بقليل وجدوا أنفسهم يعبرون سيلا أعترض طريقهم وجعل السيارة تخفف من سرعتها وتتباطأ شيئا فشيئا". صعوبة القيادة في هذه الأحوال منعت آرثر عن الكلام ,لكن لحسن الحظ لم يظهر على أليزابيت وماجدا اللتين جلستا على المقعد الخلفي أي أثر للأنزعاج , ماجدا المرأة البدينة الممتلئة حيوية التي كانت في الستينات من عمرها أنعشتها فكرة العودة الى موطنها في يورك شاير , وكانت تتحادث مع أليزابيت بسعادة ألهتها ن الوحل في الطريق وعتمة الجو في الخارج , وغاصت كارين في مقعدها الأمامي فريسة لوحشة أفكارها التعسة. حاولت كارين كبت تثاؤبها , أذ جعلها دفء السيارة تدرك مقدار ما تعني من الأرهاق وما تقاسي من أنهيار معنوياتها , نظرت من النافذة الجانبية , فلاحظت أن المطر بدأ يخف , وأن الجو أخذ يميل الى الصحو , وتلون الأفق بلون نحاسي , فأذعنت للتعب وتركت جفنيها يتهدلان , لكن ذلك لم يدم سوى لحظات , أجفلت بعدها على صوت قرقعة مجلجلة وسمعت أليزابيت تصيح: " لا تكن عنيدا هكذا يا آرثر... لا يمكنك الأستمرار في هذا الجو!". كانت تهب عليهم في تلك الأثناء عاصفة عاتية جعلت السماء سوداء كأنما لفها ليل دامس , تشقها بين الحين والحين شروخ هائلة من البرق تقطعها أصوات الرعد المنذرة بالتشاؤم. أجاب آرثر: " لا يمكنني التوقف هنا , ضعوا أيديكن على آذانكن مسافة بضعة أميال أخرى". تحولت الطريق الى نهر هادر يتألق تحت أنعكاسات أنوار السيارة الأمامية , جلست النساء يخيم عليهن الصمت الى أن لاحت بعد بضع دقائق أنوار محطة للوقود , أنحرف آرثر الى الطريق الجانبية المؤدية اليها , وأندفع الجميع للألتجاء في مقهى المحطة , شربوا الشاي هناك وتسلوا ببعض قطع البسكويت لينتظروا خمود العاصفة. وتكلمت أليزابيت قاطعة جمود العاصفة: " يبدو على كارين التعب ". لم تنتبه كارين الى ما قالته اليزابيت ,ولكنها سمعت آرثر يجيب بغير أكتراث: " كارين بخير , أليس كذلك يا كارو؟". فأنّبته اليزابيت قائلة: " لم تتغير يا آرثر فما زلت عديم الرحمة! ألا ترى أنها شاحبة كالشمع ؟". ضحك آرثر ضحكة فاترة وألقى ذراعه حول كتفي كارين وقال: " هل خفت من الرعد يا حلوتي؟". كان بود كارين أن تتخلص من ذراعه , ولكن كان عليها أيضا أن تستمر بتمثيل دورها , فأصطنعت أبتسامة وقالت: " كلا يا آرثر .... أنما قيادتك هي التي أخافتني ". ضحكت أليزابيت , وسحب آرثر ذراعه بشيء من العجلة وقال: "حان الوقت للتحرك , هل ترغب أحداكن بشيء آخر؟". لم تبد على أحداهن الرغبة في أية حاجة , وتحرك الجميع ليواجهوا هبات الريح الماطرة. كانت الساعة تقارب الخامسة عندما ظهرت أمامهم اللوحة البيضاء القديمة التي تشير الى دلرسبك , وبعد معاناة شاقة برزت الشمس عندما كانت السيارة تعلة قمة المرتفع عند رأس الوادي ,وهناك , غير بعيد عن الأرض المنخفضة كانت تستلقي دلرسبك الخضراء الوادعة ,وبدأت الطريق الشهباء المتموجة بين الحقول والبساتين الخضراء تتلوى أمامهم , ثم تجاوزوا الدور المبنية من الحجارة , ذات السطوح المبلطة بالبلاط الأزرق ,وبعدها مروا بالبيوت الريفية البيضاء المنثورة على الوادي , وهبطوا الى القرية التي كانت بيوتها تلتف حول الفندق الأسود القديم المسقوف بالخشب الأبيض ,ثم عبروا الجسر المحدّب فوق النهر. كانت أليزابيت تحدق ذاهلة بالأماكن التي أحبتها , ثم أشارت بيدها الى المنزل المربع الأشهب الذي ولدت فيه , وعندما أنعطفت السيارة نحو الممر الضيق على الجانب الآخر من الجسر قالت بشوق: " آه , قف آرثر , أرجوك دعني أنظر". ومن دون أن يتكلم أوقف آرثر السيارة وتأوهت أليزابيت قائلة: " ما أجملها , كيف تمكنت من ترك هذه الأمكنة". وفجأة فتحت باب السيارة وراحت تشق طريقها وهي تقول: " تابع يا آرثر , أريد أن أقطع الدرب على قدمي مارة بالسد". فأحتج آرثر قائلا: " كلا , ليس الآن , دعي ذلك الى الغد". أنحنت أليزابيت ونظرت خلفها الى السيارة وهي تقول: " لن أضيع , هي مسيرة عشر دقائق فقط". رأت كارين علامات الفزع الحقيقي في عيني آرثر , ومن دون أن تتريث , أمسكت حقيبتها وهبت من مقعدها وهي تقول: " سأذهب مع أليزابيت". فقال آرثر مغتبطا: " ستذهبين معها؟ شكرا كارو". ولأول مرة في ذلك اليوم رأته يومىء اليها بحرارة وهي تغلق باب السيارة , فأحست بطعنة مريرة ذلك أن أيماءة المجاملة العرضية تلك كانت هي الوحيدة التي تمكنت أن تخترق جدار عدم أكتراثه بعواطفها ,مع أنها كانت تدرك أن موقفه منها لن يكون أفضل, وعليها أن تروّض نفسها على تقبل هذا الموقف . نفضت عنها تلك الأفكار وأسرعت خلف أليزابيت التي كانت تحث السير على الممر الضيق الى ضفة النهر ألتفتت أليزابيت الىالوراء بأبتسامة ما عتمت أن تخللتها الكآبة وقالت: " لا تقولي أنه طلب منك أن تلحقي بي؟". " كلا ... لكن أطرافي تخشبت في السيارة". " صحيح! جلسنا وقتا طويلا". تابعت أليزابيت السير وهي تتنشق رائحة الهواء الطيبة النقية , ثم قالت: " أحببت السير على هذه الدرب". لم تفقه كارين معنى لما قالته أليزابيت , لكنها أحست أن هناك مغزى وراء كلماتها وعادت أليزابيت تقول: " هذا الأسبوع ذكرى المرة الأولى التي أتيت فيها الى مبنى دلرسبك , وهذه هي نفس الدرب التي سلكناها بعد أن غادرنا السيارة كما فعلنا الآن". ألتفتت كارين اليها مستفهمة: " تقولين سلكناها؟ تعنين أنت وزوجك؟". هزت أليزابيت رأسها بالأيجاب وقالت: " كان يوما من أيام آذار , تماما مثل هذا الوقت الذي أخذت فيه الخضرة الفاهية تظهر على الأغصان , والطبيعة الجميلة تبدأ حياتها من جديد مع أنحسار فصل الشتاء ,كنت ألتقيت مع جيمس للمرة الأولى قبل ذلك ببضعة أسابيع , وعرفنا كلانا أن ذلك اللقاء قد بتّ في أمرنا , أتفقنا عل اليقيام بجولة الى يورك , وفجأة طلب مني أن آتي معه الى البيت , وأدار وجهة السيارة ورجع بي الى هنا". كفت أليزابيت عن الكلام , وأستمرت تشق طريقها فوق الدرب التي أصبحت تضيق تدريجيا وترتفع متثاقلة تحت أغصان الأشجار المتشابكة , ثم قادهما الممر الى تلة من الأرض الفضاء , حيث شاهدنا جسرا ريفيا صغيرا تحول لونه بفعل الطحلب الى أخضر باهت, كان يصل بين ضفتي النهر تماما فوق الشفير الصخري , حيث المياه تندفع الى البحيرة المزبدة في الأسفل , كانت النباتات تكسو الجانب الأول للجسر بينما راح شجر الصفصاف يمد أغصانه المحرومة بأتجاه الضفة البعيدة , وعلى مسافة أبعد قليلا , حيث كان صف من الحجارة يبرز عند الطرف الضيق للبحيرة يستعمله المارة للعبور . ألقت أليزابيت يديها على الحاجز المعوج وشردت بعينيها الى الذكريات البعيدة: " على هذا الجسر طلب مني جيمس الزواج ,ومن ثم مشينا الى البيت لأعلام والديه بالنبأ ... كنا سعداء جدا". وقفت كارين صامتة فلم يكن لديها ما تقوله , وتابعت أليزابيت حديثها: " توفي والد جيمس بعد ست سنوات من زواجنا , ومن ثم جعلنا بيتنا هنا ,كانت أمه غاية في اللطف , لها جناحها الخاص بالبيت , حقا كان بيتا مكتمل السعادة". كانت كارين تنظر الى المياه ... هذه هي زيارتها الأولى الى دلرسبك , في الأشهر الأولى من زواجها سمعت كثيرا عن هذا المكان من العائلة , ولقد أرتها أليزابيت صورا كثيرة للبيت ولزوجها جيمس الذي توفي قبل سنة بتعرفها بآرثر , سألت ببطء: " هل البيت من أملاك العائلة منذ مدة طويلة ؟". أجابت أليزابيت ويدها تتحسس عقد خشب الحاجز: " حوالي ثلمثائة سنة , وأنا أدرك أن من المستحيل على آرثر في هذا العصر أن يعيش فيه , لكنني أتمنى ألا يبيعه بعد رحيلي". عضت كارين على شفتيها وهي تتمنى لو أنها تستطيع الكلام بحرية أكثر: " أوه , أنا متأكدة بأنه لن يفعل ذلك, أن آرثر يحب دلرسبك". كانت أليزابيت تحملق بالجدول المتعرج والخضرة الملتفة وقالت: " أنا أعرف ذلك , وأنه لأمر غريب أن يكون آرثر هو أبني الذي لم ألده أشد أحساسا بالقربى الى دلرسبك من ليزا نفسها , ليزا لن تقبل أبدا أن تعيش هنا, فهي ما أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها حتى تركناها تفر الى المدينة , أما آرثر فأنه أستوعب منذ البداية كيفية تسير العمل في الxxxx وما يتوجب على ذلك من مسؤولية ,وعندما أصيب جيمس بنوبته الأولى أراد آرثر , وكان آنذاك كالبرج قوة , أن يترك الجامعة ويعود نهائيا الى البيت , ولكننا لم نرضى بذلك وألححنا عليه كي يكمل دراسته , ففعل, وبعدها أذا أردت مثالا للعقل النابغ والكذاب البارع فأن آرثر هو ذلك المثال". لاتخالف كارين أبدا تلك الحقيقة , وعلى الرغم من المرارة التي تحس بها بسبب تحطيم حبهما , فأنها لا تزال تشعر بالحسرة والتأثر لطفولته المشردة , عندما تتذكر طفولتها الوادعة المحاطة بحب والديها , وعقبت قائلة: " نعم... وأنني أعتقد أنه لا يمكن لمن ولد وترعرع بين أحضان عائلة سعيدة أن يدرك تماما معنى أن ينشأ الأنسان في ميتم ليس له من أحد يخصه بالذات". ألتفتت أليزابيت الى كارين مستغربة: " ميتم؟ ولكن يا عزيزتي آرثر لم يكن أبدا في ميتم". حملقت كارين بدهشة وقالت: " ولكنني حسبت .... كنت دائما أظن ....". " تقصدين أنه لم يحدثك أبدا؟". هزت كارين رأسها وقالت: " أعرف أنه كان يتيما وعاش طفولة بائسة حتى تبنيتماه أنت وجيمس , عندما كان في الحادية عشرة من عمره , وأعرف أنه يفكر بك كثيرا وهو على أستعداد أن يضحي بكل شيء من أجلك ,ولكنه لم يحدثني أبدا عن حياته الأولى , مرة واحدة بعد زواجنا سألته عن طفولته فغيّر الحديث بسرعة , وعندما ألححت عليه أقفل البحث نهائيا قائلا بأنه لا يريد الخوض أبدا في ذلك الموضوع". أخذت أليزابيت نفسا عميقا ولاحت الكآبة في عينيها وهي تقول: " لا أفهم.... ماذا حصل لآرثر ؟ أعني أن يجعله......". تردت كارين , خشية أن تكره أليزابيت على البوح بأمر لا ترغب فيه , ولكنها أحست فجأة برغبة جامحة لمعرفة الأسرار التي أخفاها آرثر , ليس عن أخته بالتبني فحسب بل حتى عن زوجته أيضا. فتنهدت أليزابيت وقال: " أمر محزن , بل وأكثر من محزن , أنها مأساة , أشك أحيانا في أنني شخصيا أعرف كل شيء , آرثر لم يعرف والديه قط , ولا حتى ظروف ولادته , أعلمووه فقط بأن أمه تركته مذ كان رضيعا , وأن أباه كان ضابطا بحريا توفي في البحر , ثم علم وهو في الثامن بأن أمه كانت في السابعة عشر ة من عمرها عندما هجرته بعد ولادته ماشرة ,وأختفت في لندن , وأن أباه لم يكن ألا بحار عادي مجهول ,عاش آرث عند والدي أمه وكانا يعطفان عليه ويحبانه , ثم ترملت جدته وتزوجت من آخر بعد سنة من ذلك , وأنتقل الجميع الى ناحية أخرى من المدينة ومنذ ذلك اليوم عاش آرثر كابوسا مخيفا من القساوة والوحشية على يد زوج جدته". تريثت أليزابيت قليلا ثم تابعت: " لا مجال للشك أن زوج جدته كان رجلا مخيفا , وأن جدته أصبحت تخاف زوجها أيضا , قد توحي اليك كلمة جدة أنها كانت عجوزا , ولكنها في الواقع لم تكن كذلك ,كانت في حوالي الأربعين من عمرها , وما لبثت أن حملت , وكان لزوجها الجديد ثلاثة من زوجته السابقة , كأنهم نسخ طبق الأصل عن والدهم الفظ الرهيب , ولذا لم يكن لديها القدرة على حماية آرثر الذي تمكن أخيرا أن يفر هاربا". تريثت أليزابيت مرة ثانية وهزت رأسها هزة خفيفة وتابعت : " وجدوه في درهام عندما أمسكوا به يسرق قطعة من البسكويت ليأكلها في السوبر ماركت , وأرجعوه الى جدته , ولكنه بعد أسبوعين هرب ثانية الى ليدز هذه المرة ,حيث وجده أحد رجال الشرطة في منتصف الليل نائما في سيارة ,مسكين ذلك الصغير , كم صرخ وقاتل عندما علم أنهم سيعيدونه الى البيت , وأهتمت الشرطة بأمره عندما شاهدوا آثار الكدمات والضرب على جسده , وأستدعوا زوج جدته وهددوه بالسجن أن هو عاد الى ضرب الطفل وتعذيبه , ولكن هذا الزوج عاد الى نفس أسلوبه الأول في معاملة الطفل , مما أدى الى أن تأخذ الشرطة آرثر الصغير وتضعه تحت الحماية". نظرت كارين مشدوهة وصاحت: " لم أحلم في حياتي أن يحدث شيء مثل هذا!". توقفت عن الكلام تحاول أن تتصور في مخيلتها آرثر الذي تعرفه , طفلا صغيرا لا حول له ولا قوة تحت رحمة عالم لا يحبه ,وحيدا من غير أصدقاء , لماذا لم يحدثها بكل هذا يا ترى؟". تنهدت أليزابيت وأكملت حديثها قائلة: " كان آرثر يشعر أن العالم بأسره يقف ضده , وعادت المشاكل من جديد : تشرد .... تخريب الآثار القديمة ... سرقات , حتى يئست منه سلطات الجمعيات الخيرية , كان زوجي قاضيا في ذلك الحين , فعلم بقصته , وساهم بأيجاد عائلة ترعاه , كان آنذاك في التاسعة من عمره , وعندما بدأنا نشعر أن مشكلة آرثر الصغير قد حلت , بعد أن أنقطعت أخباره عنا مدة ثلاثة أشهر , أذ بنا نعود بأنه وقع في المشاكل مرة أخرى, كنت أعمل في ذلك الوقت في جمعيات رعاية المنحرفين , فذهبنا نتقصى أخباره من تلك العائلة التي تبنت رعايته , فأقسموا أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا أي شيء لأصلاحه , فهو ولد عنيد الى أبعد الحدود , تمرد آرثر الصغير وقال أنه لا يريد أن يعيش مع تلك العائلة , التي كان أفرادها يكرهونه ويعاملونه بقسوة. كان زوجي يعتقد عكس كل ما يعتقده الآخرون بالنسبة الى آرثر , كان الصغير بأعتقاده ذكيا للغاية , وذا مهارات كامنة غير محدودة , ولكن المشكلة الأساسية هي في كيفية توجيه مهارات تلك ووضعها في مسارها القويم بدلا من تركها على هواها تتخذ أتجاهات فيها كل معاني التمرد ومخالفة القوانين. مضت الأيام وأنا وزوجي لا تنقطع أخبار آرثر ومقدار ما كان يعانيه من شقاء وعذاب , وفي أحدى الليالي بعد العشاء , سألني جيمس فجأة أن كنت لا أزال أهتم بذلك الطفل , فلما أجبته بالأيجاب قال أنه دائم التفكير به ولا يستطيع أن يبعده عن مخيلته ,وفي صباح اليوم التالي سألني عن رأيي في تبني آرثر الصغير , كان قرارنا قاطعا , ولم ننتظر أستكمال الأجراءات القانونية ومنها أقتفاء أثر أمه الحقيقية خشية أن تظهر فجأة وتطالب بأبنها ,ولم نستمع لنصائح أصدقائنا الذين حذرونا من أننا قد نسبب لأنفسنا مشاكل نحن في غنى عنها , وأن علينا سؤال أبنتنا ليزا عن رأيها وكانت آنذاك في الرابعة من عمرها , وأن رأي الأطباء في أنني لم أعد قادرة على أنجاب طفل آخر قد يكون خاطئا , ولكننا لم نصغ لأحد , ونجحنا في مهمتنا وكنا نشكر الله في جميع صلواتنا لأنه يسر لنا سبيل النجاح". وصمتت أليزابيت ,وراحت كارين تحملق على غير هدى في ظلمة الغسق التي كانت تستعد لأسدال ستائرها , كان لديها الكثير لتقوله ولكن الكلمات خانتها عليها الآن أن تفكر في آرثر على ضوء هذه المعلومات الجديدة , ترى ماذا يمكن أن يؤول اليه مصيره لو لم يهيء له الله هذه المرأة الرحوم الواعية التي تجلس الآن الى جانبها. وتحركت أليزابيت من جديد وقد أحكمت ياقة سترتها حول عنقها وقالت: " أريدك أن تخفي كطل ما حدثتك عنه خشية أن يعتقد آرثر بأنني خنت ثقته , ولكنني أحببت أن تعرفي ذلك , فقد تساعدك هذه المعرفة على تفهم وضعه عندما تعريه بعض الحالات الأنطوائية". عضت كارين على شفتها وقالت: " أشكرك على أعلامي بكل ذلك". وأكملت أليزابيت: "ترك ماضيه البائس أثرا عميقا في نفسه , وهذا على ما أعتقد السبب الذي يجعله يتأنى طويلا قبل أن يمنح ثقته للآخرين , كان له دائما الكثير من الأصدقاء ولكنه كان يبقي هؤلاء بعيدين عن مكنونات قلبه , حتى ليزا التي كانت مولعة به وهي بعد طفلى... كان شديد التحفظ معها ... ولم تنجح أبدا في التقرب اليه , ولكن لا يستطيع أحد أن يقضي حياته منعزلا بعواطفه , مانعا ثقته عن كل الناس خوفا من الغدر أو الخيانة , ولهذا السبب حدثتك عن ماضي آرثر لأنني عندما أرحل سيكون في حاجة اليك أكثر مما تتصورين , فلن يكون له أحد غيرك". وضعت كارين ذراعها حول أليزابيت بمودة وقالت: " هل تصدقين لو قلت لك بأنني ما أحببت أحدا في حياتي غير آرثر ؟ وأن كل ما كنت أريده هو الأستمرار في حبي له والعناية به ما دام هو في حاجة الي". ألتقطت كارين أنفاسها وهي تعلم أنها كانت صادقة في كل كلمة قالتها ,ولكنها لم تجرؤ أن تضع تأكيداتها الحارة في صيغة الفعل الحاضر حيث وجب أن تكون ,هل لاحظت أليزابيت ذلك؟ ضغطت أليزابيت بأصابعها على أصابع كارين شاكرة , ثم قالت مستغربة: " أصابعك متجمدة , أليس من الأفضل أن نتحرك , لقد حل الظلام". شبكت أليزابيت ذراعها بذراع كارين , وبدأتا تشقان طريقهما على طول الممر الملتوي الضيق , كانت كارين على الرغم من تظاهرها بالمرح والغبطة تحس في داخلها بالحزن الثقيل ,وتعرف أنه سيمر وقت طويل قبل أن تكف عن التفكير في كثير من الألم والمشقة بما قاساه آرثر في طفولته البائسة ,ولا ريب في أن هذه المعرفة الجديدة عن ماضيه وضعتها أمام تصور جديد لشخصيته قد يؤثر في علاقتهما , أو على الأقل فيما تبقى من تلك العلاقة . آه لو أنها تعرف كيف ستجري الأمور!
5_السريران التوأمان
أثبتت نبوءة كارين أنها ليست من دون أساس. كان آرثر يقف في ساحة البيت الأمامية المغطاة بالحصى عندما وصلت كارين وأليزابيت الى نهاية الممر حيث يلتقي بالطريق الرئيسية , ومع أن الظلام كان مخيما في ذلك الوقت , فأن النور المنبعث من مصباح واجهة الدار كان كافيا لكي يكشف خطوط القلق المتوترة في وجه آرثر , غاص قلب كارين بين جنبيها وهو يهرع نحوها صائحا: " أين كنتما بحق السماء ؟ كنت على وشك أن أرسل جماعة للبحث عنكما". ضحكت أليزابيت وهي تجيب : " كلام فارغ... هل تعتقد أننا يمكن أن نضيع؟ كنا نتحدث على الجسر الصغير .... آه يا عزيزي , أريد كارين أن تتمتع بمشهد البيت في ضوء النهار". أمسك آرثر بذراع أليزابيت وراح يقودا الى داخل الرواق الحجري وهو يقول: " تستطيع أن تشاهده غدا... تجمدت أطرافك ولا شك أليس كذلك؟". ثم ألتفت وصاح بصوت غاضب: " حقا يا كارين ,كان يجب أن تكوني أعقل من أن تتركيها واقفة تتحدث في هذه الريح الباردة , لماذا لم......". قاطعته أليزابيت وأستدارت لتواجهه: " آرثر ! لم تكن خطيئة كارين , أنها غلطتي , لا أدري ما فعلت جنوب أمريكا بطباعك , لكنها بكل تأكيد لم تحسّن منها !". عضت كارين على شفتها وأستولى على قلبها أحساسها المألوف بالظلم والقنوط , رأت أن التوتر بينها وبين آرثر بدأ يهدد فرحة أليزابيت بعودتها الى البيت , فماتت رغبتها الفطرية في الرد على أهانته , قالت بسرعة وهي ترغم نفسها على مجاراة الغضب البارد الذي كان ينبعث من عينيه: " أنني ذاهبة في الحال لأعداد شراب ساخن لأليزابيت". أجابها دون أن تهدأ حدة غضبه: " ماجدا أعدت الشاي... أنه في غرفة الجلوس , لكنني أظن أنه أمسى باردا كالثلج الآن , تأخرتما كثر من ساعة". تنهدت أليزابيت قائلة: " أخبرتك يا حبيبي , بدأت أستذكر الأيام القديمة ولم أشعر بالبرد". ثم أستدارت ولمست ذراع كارين قائلة: " تعالي , دعينا نتناول الشاي ولو كان باردا , وبعد ذلك أظن أنه سيغفر لنا". دخلتا غرفة الجلوس حيث كانت ماجدا بأنتظارهما , وقد أعدّت الشاي وبعض الشطائر , كانت غرفة الجلوس آية في الروعة والجمال , والنار تشتعل في الموقد ناشرة الدفء والطمأنينة في المكان . جلست كارين صامتة تحملق في النار , تسائل نفسها عن آرثر الذي لم يتبعهما , أتعرض عليه الآن أن تطبخ شيئا لللعشاء , من الواضح أن ماجدا متعبة الآن لكنها قد لا ترحب بأن يتدخل أحد في مناطق نفوذها , ولو كان قصده التعاون ومد يد المساعدة. وضعت كارين قدح الشاي على الصينية وتنهدت , وأحت بالتعب يتسرب الى جميع أعضائها , جعلها الدفء المنبعث من الموقد تتوق الى الأسترخاء وأغماض عينيها , وفجأة دخل آرثر في اللحظة التي كانت تحاول أن تكبت تثاؤبة تلح على فمها , قبل أن ينطق بكلمة واحدة قالت أليزابيت: " أعتقد أن لا حاجة لنا بالعشاء فنحن جميعا متعبون". رفع آرثر أحدى يديه وقال: " لكنني أريد أن أتعشى , أن كنتن جميعا قد أكتفين بالشاي والشطاءر فأنا لست مثلكن". وخطا بضع خطوات عبر الغرفة ثم قال: " لا تقلقن , رتبت كل شيء , سنتعشى في الثامنة والنصف , لكنني لا أريد أي تدخل من أحداكن في المطبخ". قال ذلك وهو يوجه نظرة تهكمية الى ماجدا التي قهقهت ضاحكة وسألته: " ماذا ستطعمنا أذن سيد آرثر ؟ لحم عجل غير ناضج وبطاطس شبه مشوية على انار؟". نظر اليها متحديا وقال: " أستغرب منك يا ماجي , فأن الغيرة تأكلك دائما". " أنا ؟ أغار؟ من ماذا؟". " لا تتجاهلي , ماجي فأن أفضل الطباخين هم من الرجال". وأقترب من الموقد ماسا ركبتي كارين عند مروره بجانبها , وألقى بقطعة حطب في النار ثم أستدار ملتفتا الى ماجدا التي شعرت بأنها قد أهينت وقال: "ومن سيقوم بتنظيف وغسل الأواني والأطباق بعد ذلك؟". " ماجدا طبعا". قالت أليزابيت محتجة : " آه , كلا , أن ماجدا لا يمكنها غسل ذلك الجبل من الأوعية والأطباق الذي ستتركه بعد أن تمتع نفسك في المطبخ". " سنترك كل شيء الى الغد , تمزي ستقوم بذلك". أتسعت عينا أليزابيت وأختلط في وجهها السرور وعدم التصديق : " تمزي! آرثر أنك لا تقصد.........". ظهرت علامات الأرتياح على وجه آرثر لردة الفعل التي تجلت على وجه أليزابيت قال: " نعم, كانت ستأتي اليوم للترحيب بك , لكن ظروفها أقعدتها عن ذلك وستحضر غدا". قفزت أليزابيت وطوقت ولدها بذراعيها: " أظن أن هذه أجمل مفاجأة تقدمها لي!". " أذن فقد غفرت لي ذنبي ؟". " الفظاظة التي صدرت طيلة هذا اليوم!". عادت أليزابيت الى مقعدها وهي تقول: " العاصفة هي السبب , أثارت أنفعال الجميع , والآن أنظر أذا كانت كارين غفرت لك أيضا , أنهكها التعب ولم تعد قادرة على فتح عينيها". للمرة الأولى منذ دخل الغرفة ألتفت آرثر ونظر الى زوجته , كانت متعبة حقا وحرارة النار المنبعثة من الموقد تلقي ظلا معتما على عينيها , أهتز فمها برعشة وهي تنتظر ردة فعله على طلب أليزابيت. تقدم نحوها وجلس على ذراع مقعدها , أدخل يده خلف رأسها وراحت أصابعه تداعب جدائل شعرها الحريري الناعم أسفل عنقها , ثم شدها اليه وقال: "أمتعبة يا حبيبتي؟". غضب مفاجىء كاد يجعلها تبعد نفسها عن مداعباته , هل يظن أنها دمية يلتقطها أو يهملها كيف ومتى شاء؟ لكنها أمتعت عن ذلك عندما رأت أليزابيت تراقبها , تحكمت بدوافعها المريرة وهمست: " نعم , قليلا , تعب عابر ". وغيرت الموضوع وسألت: " من هي تمزي؟". أضاف وهو مستمر بمداعباته المثيرة للأعصاب:... " هي العمود الفقري لدرسبك , مربية ليزا ثم مدبرة المنزل كانت ماجدا تعمل طاهية عندنا في تلك الأيام , عندما أنتقلنا الى لندن لم تشأ أن تفارق عائلتها , أما زوجها فكان يعمل عند والدي ساشا لجياده لمدة طويلة". توقفت أصابع آرثر عن الحركة , ونهض متجها الى المطبخ لأعداد العشاء , تبعته كارين فأدركته عند باب المطبخ: " سأساعدك". " ألست متعبة؟". أغلقت باب المطبخ خلفهما وقالت: " بحق السماء , كف عن وخزي بأبرك , أنني أحاول أن أتصرف بأفضل ما أستطيع". أجابها بعدم أكتراث: " آسف يبدو أن أعصاب الجميع متوترة نوعا ما". فقالت بمرارة: " سيكون أهون علي وأنت تمثل هذه التمثيلية لو أنك تخفف من محاولة أتقانك لدورك". فأجابها دون أن ينظر اليها: " أنك لا تبذلين أي جهد لتمثيل دورك بنجاح". أمضيا بعض الوقت صامتين وهما يعدان وجبة العشاء , وعندما أوشكا على الأنتهاء قالت كارين: " لا يزال أمامنا ربع ساعة للموعد الذي حددته لتناول العشاء , سوف أغتسل وأبدل ثيابي في هذا الوقت , أين الغرفة التي أعددتها من أجلي؟". " في الطابق العلوي , الباب الأول الى اليسار , في الغرفة حمام , حقائبك هناك". عبرت الرواق الى القاعة الرئيسية وصعدت السلم القديم المصنوع من خشب السنديان , كان كل شيء حولها لا يزال محافظا على طرازه القديم ذي الجمال الأخاذ , بلغت أعلى الدرج حيث يمتد رواق طويل على جانبه ستة أبواب , فتحت كارين الباب الأول الى اليسار , وتلمست زر المصباح فأضاءت الغرفة , رأت حقائبها داخلها بالقرب من الباب , أغلقته خلفها وراحت تنظر بشيء من الفضول متفحصة داخل الغرفة , كانت فسيحة عالية السقف كغيرها من غرف البيت , ذات أفاريز مرتفعة مزخرفة ولها نافذتان تمتد ستائرهما المخملية الزرقاء الفاهية من أعلى السقف حتى الأرض , تتدلى منها أهداب مزركشة بلون أشد زرقة يتناسب ولون السجادة الصينية التي كانت تفرش الأرض , وفي أحد الجوانب موقد أبيض اللون مزخرف الحاجز , كان الأثاث من الطراز الملكي الأبيض كله مقابض مذهبة وأطراف الخشبية مرصعة بالخرز البيضاوي اللامع. تلمست كارين بأطراف أصابعها ورق الجدران الحريري ذا الزرقة السماوية , وراحت في شبه غيبوبة تتذكر أهلها في كنت , لم يكن يضاهي دلرسبك من حيث الحجم والقدم , لكنه كان يشبهه بجوه الهادىء المريح ذي الطابع الريفي القديم الطراز وهنا كما هناك , لم يكن يربط البيت القديم بالعصر الحديث ألا شبكات التدفئة المركزية الشديد البرودة. أحست فجأة بالحنين الى أيام طفولتها , والى الملاذ الأمين بين أحضان أهلها , شعرت بالوحدة في هذه الغرفة التي فقدت كل معنى من معاني الحياة. هزت كارين رأسها أذ لم يعد أمامها متسع من الوقت , فتحت حقيبتها الكبيرة وأخرجت منها المنشفة وعلبة الأسفنج , وخلعت ثوبها وألقت به على أحد السريرن التوأمين , وأدارت الحنفية التي كانت في الغرفة , وفجأة فطنت الى شيء لم يخطر على بالها من قبل! هذه الغرفة الواسعة والسريران التوأمان...... أستدارت وهي تكبت صرخة كادت تخرج من بين شفتيها وقد غمرها فيض من الشك , أسرعت الى خزانة الثياب وفتحتها على مصراعيها فتأكدت أن شكها الرهيب كان حقيقة واقعة , نعم فأمامها كانت ثياب آرثر , قمصانه , جواربه , ربطات عنقه ... ركضت بأتجاه الباب الثاني حيث غرفة الحمام , وهناك شاهدت كل ما يدل على أنها كانت مشغولة من قبل أنسان , من قبل رجل , منشفة الحمام , عدة الحلاقة , زجاجة كولونيا , فرشاة أسنان ... وتسللت الى أنفها رائحة المواد التي يستعملها الرجال لزينتهم. مسح الفراغ كل لون من خديها , فهل تخيّل ...؟ هل أعتقد أنها ستمضي في التمثيلية الى هذا المدى؟ أغلقت فمها بقوة , وأجتاحها الغضب , صممت أن تتحداه , رجعت الى غرفة النوم وقد تبخر من ذهنها أي تفكير لتبديل ثيابها , أمسكت بيدها الفستان الذي خلعته قبل قليل , لكنها أحست بحركة في الغرفة وشاهدت ظلا على السجادة , أستدارت وأذا بثوبها يسقط من يدها , فهناك قرب النافذة كان يقف آرثر , رفع حاجبيه مستغربا وقال: " هل شاهدت شبحا في الحمام؟". عثرت كارين أخيرا على صوتها فقالت: " ماذا تفعل هنا؟". أجابها ببرود: " أقفلت الحنفية التي تركتها مفتوحة , وأرخيت الستائر". وعندما رآها لا تكف عن الحملقة في وجهه قال: " ماذا؟ هل هناك خطأ ما؟". ثارت ثائرة كارين وصاحت: " خطأ! أخرج من هنا !". " ماذا ؟ أخرج من غرفتي؟". " غرفتك؟". " أنا أشغلها منذ الأسبوع الماضي". صاحت وقد أستثارتها لهجة صوته المتعجرفة: " أذن لماذا أحضرت حقائبي الى هنا؟". " أن ذلك يبدو واضحا". تراجعت كارين خطوة الى الوراء وهي تقول: " ماذا تعني بما قلت؟". توجه ببرود الى مرآة الزينة في زاوية الغرفة ونظر اليها من خلال المرآة قائلا: " أليس من الطبيعي أن يشارك الزوج زوجته في غرفة النوم؟". فصرخت بحدة: " لكن ليس في هذه الحالة! لم يكن هذا جزءا من الصفقة التي أتفقنا عليها!". ألتفت اليها وقال: " لا أذكر أننا بحثنا هذا الأمر أو أوردناه بشكل خاص في أتفاقنا , لكنني أعتبرته أمرا مفروغا منه". " أنك ... أنك وقح ! كيف تجرؤ...؟". فقاطعها قائلا: " كيف يمكن أن تكوني شديدة الغباوة الى مثل هذا الحد؟ماذا ستقول أليزابيت لو أنها عرفت بأننا ننام في غرفتين منفصلتين؟". لمحت القسوة تستقر في عينيه وأحست بالبرودة تنتشر في جسدها , رفعت يديها ولمست كتفيها , شعرت بجلد بشرتها يرتعش تحت لمساتها ,وبشيء من الدهشة أنحنت تلتقط ثوبها الذي سقط منها وأخذت تحاول أن ترتديه , أثاها الغضب فعميت عن وضع الكمين ولم تعد تدري كيف ترتدي الثوب , فقال لها ساخرا: " هل تريدين مساعدة؟". " ليس منك". " ولماذا لا؟ هل تخشين أن أمتع نظري بمفاتن جسمك؟". تصاعد الدم الى خديها وقالت: " وهل أتركك تفعل ذلك؟". ألقت ثوبها جانبا وتناولت من حقيبتها عباءة ألقتها على جسمها, وواجهته قائلة والغضب يلتمع في عينيها: " أنا اعني ما أقول يا آرثر , أريد غرفة أخرى". " ذلك مستحيل , وأنت تعرفين السبب". " لن أقبل أسبابك بعد الآن". " لن أقبل أسبابك بعد الآن". فقابلها بلهجة واضحة : " أخشى ألا يكون لك خيار". " آرثر ! أنا لن أنام معك في غرفة واحدة!". أطبق فمه بقوة ثم فتحه قائلا: " لقد أوضحت لك أكثر ! أنا لن أقبل أن نكون زوجين حقيقين". " لا أعتقد أنني طلبت منك ذلك, أسمعيني ...". " لا أريد أن أسمع شيئا , أذا.......". فأمسك كتفيها بقوة وصاح: " بل يجب أن تسمعيني , هل تظنين بأنني أحضرتك الى هنا لأكرهك على شيء؟ بعد كل ما حدث قبل سنتين؟ هل تظنين بأنني غفرت لك فعلتك بهذه السهولة؟". " آرثر ......... أ دعني أنصرف!". لم يبد عليه أنه سمع ما تقول , أقتمت ملامحه بالمرارة وهي تحاول أن تتملص من قبضته , لكن ذلك لم يساعد الا في زيادة أنغراس أصابعه في بشرة كتفيها الناعمة , وصر أسنانه صائحا: " كيف تظنين أنني كنت أشعر خىل هاتين السنتين , كنت أتذكر دائما فعلتك الشنيعة ,حتى في جنوب أميركا لم أستطع أن أفر منها , في أول يوم وطئت قدماي أحد شوارع سان باولو ................ في أول مرة أدخل فيها بيت أحد الناس , أحد الغرباء..... في آخر مكان أتوقع أن أرى فيه ذلك .......ذلك.". قطع عليه حديثه صوت تناهى من الخارج يقول : " هالو.........". وتلا الكلمة الناعمة نقرة على الباب , سقطت ذراعا آرثر عن كتفي كارين , وأزدرد لعابه وقال: " نعم! أدخلي". كان صوته غير متزن , تحرك الى الباب بينما رفعت كارين يدا مرتعشة الى عنقها . دخلت أليزابيت وعلى وجهها أبتسامة ما لبثت أن تلاشت عندما لاحظت وجهي آرثر وكارين شاحبين شحوب الموتى , لم تعلق بأي كلمة وأنما أكتفت بالنظر الى ولدها ثم قالت: "حضرت لأعلمكما أن كل شيء جاهز للعشاء الآن , شممنا رائحة البطاطس المحروقة ولكن ماجدا أنقذت اللحمة". فقال آرثر بصوت غلب عليه الذهول: " ولكنني قلت بأنني سأعد العشاء بنفسي , ونحن...". فقاطعته أليزابيت بصوت لطيف ولكنه حازم: " جيد أنني لم آخذ بكلمتك , هل ستتأخران؟". " أننا نازلان على الفور". راح آرثر يتخلل شعر رأسه بأصابعه بينما أمسكت كارين بمشط وأخذت تسرح شعرها الأشعث وكأنما لعبت به ريح عاصفة , ثم ما لبثت أن قالت: " أنا جاهزة الآن". أسرعت نحو الباب وهي تدرك أنها لم تعد تحتمل أن تبقى لحظة بمفردها مع آرثر , قبل أن تستعيد رباطة جأشها قليلا , ظلت أليزابيت صامتة وهم يهبطون الدرج بينما كان آرثر يجر قدميه المتثاقلتين جرا وهو يتبعها ويسائل نفسه أذا كانت شعرت بجو التنافر الذي يسود الغرفة عندما دخلتها. كانت جلسة العشاء تلك بالنسبة الى كارين من أشد ما تحملته في حياتها تعاسة وتكلفا , تمنت بمرارة لو كان بمقدورها أن تخفي مشاعرها الحقيقية تحت ستار من الدماثة وحلاوة الحديث , كما فعل آرثر , بغض النظر عما كان يجيش في داخله من أحاسيس في تلك اللحظة... أذ جعل الحديث من السهولة بحيث لم يكن مطلوبا منها الا أن تجيب بنعم أو لا على بعض الأسئلة التي كان يوجهها اليها بين الفينة والفينة , بخصوص عمله في جنوب أمريكا. أنتهزت كارين فرصة أنهماك أليزابيت بالحديث وأنسلت لتعد القهوة . أستأثرت أليزابيت بتعاطف كارين , كانت تعتقد أن صحتها تحتاج الى حماية تامة , وأن مبالغة آرثر برعايتها قد تسبب لها الضرر أكثر من المنفعة , ذلك أن أليزابيت كانت من النوعية التي تفضل أن تخوض معركتها المقيتة مع المرض بطريقتها الخاصة , لذلك فأن تدخل آرثر قد يقوض ثقتها بنفسها. عندما أنتهت من أعداد القهوة دخلت بالصينية الى غرفة الجلوس , وأشعلت النور ثم وضعت قطعة من الحطب في الموقد المتوهج باللهب , كان الآخرون لا يزالون في غرفة الطعام , وأذ كانت تهم بالذهاب لمناداتهم رن جرس الهاتف ,ترددت لحظة , هل ترد بنفسها أم تنادي أليزابيت أو آرثر ؟ لكنها رفعت السماعة وأعطت رقم الهاتف من دون أن تذكر أسمها , وسمعت صوت المتكلم يسأل بشيء من الحيرة: " من هناك؟". أجابت كارين وقد عرفت الفتاة من صوتها : " هنا كارين, كيف حالك يا ليزا؟". تغيرت لهجة ليزا وقالت: " آه أنا بخير , لم أستطع أن أميز صوتك". " مر وقت طويل منذ سمعته آخر مرة , أنتظري فسوف أنادي أمك". " مهلا لحظة! هل كل شيء على ما يرام؟". " أمك في غاية السعادة لعودتها الى البيت , وعلى الرغم من تعبها من الرحلة الشاقة فقد تمتعت بها كثيرا". " آه حسنا ...... هل آرثر هناك؟". " نعم هل تودين أن تتحدثي معه؟". " كلا, كلا , أرجو فقط أن أكلم أمي ولن أزعجها طويلا أن كانت تشعر بالتعب". فتحت كارين باب غرفة الطعام ومدت يدها بالسماعة الى أليزابيت قائلة بأنها ليزا , ثم ذهبت متباطئة الى غرفة الجلوس ,حيث صبت القهوة لماجدا وآرثرو لها , وأنسحبت الى كرسي بعيد عن النور ,لقد خف شعورها بالتعب والكآبة الآن , وما أحوجها الى أن تنفرد بنفسها , شعرت كأنها أمضت يوما طويلا في دلرسبك وليس مجرد ساعات قليلة , كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل ولم يكن الوقت مناسبا للأستئذان بحجة النوم , خاصة وأن أمامها تلك المشكلة المخفية التي عليها أن تواجهها , على أية حال.... ستجد لها حلا هذه الليلة بطريقتها الخاصة , عليها أن تفهم آرثر أن فعلته التنكرية تلك يجب أن تقف بعيدا عن العلاقات الزوجية , أن الألم والمرارة والأتهامات تحول بينهما بالأضافة الى سنتين طويلتين من الفراق , كم سألت نفسها هل كانت تلك الأشهر القليلة من السعادة التي قضتها مع آرثر حلما , حلما عاشته معه يد بيد , ثملين بفرحة أمتشاف أحدهما للآخر , ثم تلاشى ذلك الحلم الجميل فجأة بفعل قوة قاهرة لا دافع لها , تعرفت على آرثر فأحبته بكل ذرة من ذرات قلبها , عقلا وجسدا , وأذ بها تجده رجلا عديم الثقة بها يتهمها بكل قسوة , ثم لا يمنحها فرصة للدفاع عن نفسها , والآن كما في السابق تواجه الحقيقة الرهيبة , أن آرثر ما أحبها قط , فلو كان يحبها فعلا لأكتفى بكلمتها ولم يطلب منها أيضاحات ما كان بوسعها أن تعطيها.. أحست كارين بحرارة الموقد التي كانت تلفح وجهها , غامت ألسنة اللهب أمام عينيها اللتين أخذتا ترمشان بسرعة وهي ترفع رأسها لتقابل نظرات آرثر المتفحصة , شعرت بنبضات قلبها تتوقف لحظة , ثم تعود لتخفق متألمة تحت حدة تلك النظرات المنبعثة من عيني آرثر السوداوين , كأنما تلتمس بعمق سبيلا للأتصال . تحرك أخيرا وعادت القسوة القديمة تغمر عينيه من جديد , كلا كانت واهمة فلم تر في عينيه ألا تلك القساوة المعهودة ! النار المتوهجة هي التي جعلت ذلك النور الدافىء ينعكس من عينيه فتومت أنها رأت فيهما تلك النظرات الواعدة , تلك النظرات التي كانت تحمل في طياتها يوما رسالة سرية , رائعة لا يجيد قرائتها أحد كما تجيدها هي. في تلك اللحظة دخلت أليزابيت تعتذر لأنها تأخرت حتى بردت قهوتها , كان في لهجتها لون من القلق , قالت أنها ليزا التي كانت على الهاتف , لا تستطيع الحضور في اليوم التالي كما وعدت , حضر أحد رجال الأعمال مع زوجته من نيويورك وعليها أن تشارك زوجها كليف بأستقبالهما , تأمل أن تحضر بعد ظهر يوم الجمعة . ظل آرثر جامدا في مكانه حتى أنهت أليزابيت كلامها , ثم تمتم تمتمة غير مفهومة وخرج من الغرفة , غاصت أليزابيت في مقعدها بصمت تام , وأخذت تهز قدح القهوة وهي تحملق في النار , منذ اللحظة التي تكلمت فيها مع أبنتها بالهاتف تغيرت حالتها , وتلاشت كل السعادة التي كانت تمتلكها بسبب عودتها الى بيتها القديم , وتفحصتها كارين وأحست بالقلق , كان من السهل الآن أن ترى تأثير المرض عليها ... شحب وجهها وأثقل الكلل عنيها الزرقاوين , وتجلى التوتر في أصابعها النحيلة التي كانت تشد على القدح , ترى ما سبب فقدانها المفاجىء لمرحها وحيويتها ؟ هل حدثتها أبنتها ليزا بما أزعجها , أم أن خيبة الأمل من جراء تأخير أجتماع شمل العائلة هو السبب في ما ألم بها؟ قالت كارين بلطف: " لماذا لا تأوين الى فراشك......... لا شك أنه كان يوما طويلا متعبا بالنسبة اليك". أجابت أليزابيت بصوت ضعيف: " حقا أشعر بالأرهاق , هل تسمحين أن أتركك؟". " الطبع! هل أستطيع أن أساعدك بشيء؟". همت كارين بالوقوف , لكن ماجدا كانت أسبق منها فأخذت بيد أليزابيت وخرجت بها من الغرفة. أعادت كارين ترتيب طاولة الطعام ثم أنتقلت الى المطبخ وأخذت تغسل الأطبا التي تراكمت هناك بعد وجبة العشاء , عادت ماجدا بعد قليل عاتبة , فما كان على كارين أن تتعب نفسها بذلك العمل ,لكن كارين رفضت أن تقدم لها يد المساعدة في عملها البيتي , فشكرتها ماجدا وقالت ضاحكة: " أشكر الله على وجودك معنا ولكم تساءلت كيف يمكنني وحدي أن أقوم بكل أعمال المنزل بدون مساعدة أحد , أنه بيت كبير كما ترين وليزا ليست من النوعية التي تحب تقديم المساعدة , بل بالعكس أنها ترغب أن أقف على خدمتها بكل صغيرة وكبيرة , خاصة بعد أن تزوجت أنسانا عالي المرتبة... وبعد فماذا يهم أن تزوجت الفتاة أبن أمير أو أبن فلاح ماداما سعيدين معا؟". أصطنعت كارين أبتسامة وقالت: " ذلك صحيح , وألان يحسن بي أن أنصرف فقد يكون آرثر بأنتظاري". " أوه أنه خرج قبل مدة وجيزة , أعتاد أن يتجول قليلا بعد العشاء , وأحيانا يأخذ معه أحد الكلاب , أنصتي , أنه هو ولا شك". أتجهت كارين بنظرها ناحية االباب الذي فتح وظهر آرثر على عتبته , أرتفع صوته آمرا: " تعالي يا كارو , رافيقني في جولتي الصغيرة , وسنعود بعد قليل". حاولت كارين أن ترفض لكن ماجدا ألحت قائلة: " أخرجي معه , أن قليلا من الهواء الطلق يحرر النفس من الهم والتعب ". كان آخر ما تريده كارين في تلك اللحظة أن تخرج مع آرثر , لكن بدا أن ليس أمامها مفر , خاصة وأن ماجدا أستمرت في ألحاحها . وتحركت كارين أخيرا بأتجاه آرثر.
6_الصورة المظلمة
ألقى آرثر الشال الذي كان يحمله على كتفي كارن وشده عليها بقوة , لو أن أحدا شاهدهما في تلك اللحظة لحسب أنه حب الزوج لزوجته وعنايته بها , أما بالنسبة اليها فلم تر في تلك الا أحدى صور علاقتهما الحالية الزائفة. لم يتكلم وهو يغلق الباب خلفها ويقودها بعيدا عن مرمى النور الأصفر المنبعث من مصباح الباب الخارجي , كان الليل باردا معكرا يوحي بأقتراب موجة من الصقيع , لكن الظلال الداكنة للشجيرات القريبة كانت تغري المرء بالتجول بينها , قادها آرثر بجانب جدار البيت الحاجب للريح حتى لاح لهما من خلال الظلام سياج الروضة الشائك , توقف آرثر هناك وقال: " لا أريد أن أبقيك هنا طويلا , لكنني أريد أن أتحدث اليك قليلا حيث لا يسمعنا أحد". أقتربت منه ونظرت في قسمات وجهه المعتمة وسألته: " ألم تحدثني بكل شيء بعد؟ مشكلة واحدة لا تزال تحتاج الى حل وأنت تعرف ما هي". هز كتفيه متنهدا وقال: " أعتقد أننا لم ننجح حتى الآن في تنفيذ أتفاقيتنا كما يجب , أليس كذلك ؟". تصلب جسم كارين وقالت بهدوء: " أنني أحذرك يا آرثر ! لا تحاولي أن تلومني على ذلك , أنك لا تجعل الأمر يسيرا بالنسبة الي". " وأنت أيضا لا تجعليه يسيرا بالنسبة الي! بالتأكيد أنت تدركين...". قاطعته قائلة: " لحظة , لحظة , دعنا نوضح كل شيء , أنا لم آت الى هنا لنبدأ مجادلة أخرى أو لأسمع أتهامات جديدة , لم يعد بأستطاعتي أن أتحمل أكثر ما تحملت , بحق السماء حاول أن تفهم الأمور وتعقل يا آرثر ". " لكن هل تعرفين شعوري أنا؟ هل تحسنين أن الأمر أيس بالنسبة الي؟". قالت بائسة: " لا أعرف , لكن الذي أعرفه أن الأمر يزداد صعوبة كما أتصور , في الواقع بت أظن أنه من الأفضل لكلينا أن أغادر...". قاطعها وقد ثارت ثائرته: " كلا! كلا! يجب ألا تذهبي , سيهدم ذلك كل ما أريد بناءه , أصغي يا كارين يجب أن نسوي هذا الأمر قبل أن تسوء الحالة وتكتشف أليزابيت الحقيقة". قالت كارين بمرارة: " أخشى أن تكتشف الحقيقة بسبب بقائي هنا". " لن تكتشف ذلك أذا تجاوزنا خلافاتنا وكففت أنت عن أصرارك العنيد بخصوص الغرفتين المنفصلتين ". " أنا مستعدة أن أحافظ على وعدي , لكن ليس...". أمسك بذراعها وقال: " كارو أسمعيني جيدا , أنا أعرف بماذا تفكرين , لكن علينا أن نحل هذه المشكلة الآن أصغي الي , سأبقى هنا مدة يومين فقط أو يمكن أن أقول ليلتين , سأذهب بعد ذلك ولن أعود حتى يوم الثلاثاء , ومن ثم سأذهب ثانية بعد ذلك في الأسبوع التالي وهكذا , على هذا فأن وقتي هنا سيكون محدودا , تذكري هذا وأتركي الأمور على ما هي عليه , وأنا أعدك بأن لا أتطفل على حرية خلوتك". وقفت صامتة غير قادرة على تقدير مدى الثقة التي تجرؤ أن تمنحها للوعد الذي قطعه على نفسه , كانت لهجته صادقة , لكن غزيرتها حذرتها بأن المسألة ليست بتلك السهولة , خاصة عندما يكونان قريبين جدا من بعضهما البعض وبينهما كراهية يمكن أن تثور لأي كلمة , تذكرت مشهد تلك الليلة التي أتى فيها الى البيت متأخرا , فنزلت اليه في محاولة ودية بريئة ضمن حدود الأتفاقية المعقودة بينهما ,كما تذكرت ما حدث بينهما منذ ساعة تقريبا في غرفة النوم قبل دخول أليزابيت عليهما ,كيف يستطيع آرثر أن يتصور أمكانية مشاركتها أشد الغرف ألفة , وهي غرفة النوم , كشخصين غريبين؟ أحس كارتر بشكوكها فأرخى يده عن ذراعها وقال بلهجة واثقة: " أسمعي , كل شيء كان بيننا أنتهى , مات ولا يمكن أسترجاعه , فهل تثقين بي على هذا الأساس؟". هز كتفيه بيأس وراح ينظر في وجهها الذي غلبت عليه اليرة , للحظة رهيبة طغت عليها رغبة جرفة في أن تلين وتستسلم , أرادت أن تصرخ طالبة منه ألا يدع ما كان بينهما ينتهي , أرادت أن تقترب منه وتلمس خده ,وتلتمس منه بصوت مجنون ملح , أليس بوسعنا أن نحاول من جديد؟ لكنها كبحت جماح نفسها عندما تكلم عابسا , تسري برودة حقده الدفين في كلماته. " أنني أعدك أيضا , لأهون عليك الأمر , أن أعمل كل ما أستطيع للأسراع في أجراءات الطلاق ,وأؤكد لك أنني لن أجعلك تعانين من الحاجة الى المال في مستقبل أيامك". أجابته ببرود: " لا تحاول أن ترشوني فأنا لا أريد أي شيء منك ". " أنا لا أفعل ذلك من أجلك ... أو من أجلي , وأنما من أجل أليزابيت". في ذلك الوقت كانت ولولة الريح وحركة أوراق الشجيرات قد سكنت تماما , أحتوى كارين وآرثر صمت مخيف يحمل بين طياته صدى قرع أجراس الموت ,موت زواجهما , وتناهى الى سمعها صوتها المتشنج وكأنه آت من مكان سحيق: " أنا كذلك... أعتقد أن هذا الأمر بات مفهوما بشكل واضح". أستدارت بسرعة , فلم يعد بأمكانها أن تحتمل أكثر من ذلك , وراحت تتعثر على طول الممر المعتم بأتجاه النور , وشعرت بخطوات آرثر خلفها فأخذت توسع خطاها , يائسة , لكنه لحق بها قبل أن تبلغ الباب : " لحظة يا كارو , لا يكفي ما قلناه". "ماذا تعني ؟". " لا يجوز أن تندفعي هكذا الى داخل البيت وكأنني أبغض مخلوق بالنسبة اليك , بالله عليك تذكري ماجدا !". نظرت اليه بأستغراب وسألت: " وما شأن ماجدا في الموضوع؟". " ألم تدركي بعد أي نوع من النساء هي؟". " لم أفهم ما تقصد , ما علاقة ماجدا بأمرنا؟". " يجب ألا تلاحظ شيئا غير طبيعي في علاقتنا , أنها شديدة الملاحظة وتنقل بأخلاص كل صغيرة وكبيرة لأليزابيت". كان نور المصباح في تلك اللحظة قد سقط على وجهه فكشف مقدار التةتر في تقاطيعه , وسمعته يتابع حديثه: " وهل علي أن أذكرك وأنت أعرف الناس , بحق السماء هل نسيت؟". تملكتها الحيرة وسرت في أوصالها قشعريرة من الخوف: " وما ذلك الذي نسيته , أتعني أن ماجدا على بعض العلم بأمرنا؟". قال عابثا : " لا أرجو ذلك ,عملت جهدي لأقناعها بأن تلك التي كانت في الصورة ليست أنت , ولكنها.......". فقاطعته : " الصورة!". نظر اليها آرثر بأمعان وخطوط القسوة تبدو على فمه: " دعك من هذا يا كارين , لا تحاولي أيهامي بأنك لا تعرفين شيئا عن تلك الصورة , أستطيع تقبل الكثير منك ولكن لا...". " حسنت , ولكن كيف عرفت ماجدا بالصورة؟". قال لها بشراسة: " وقعت عليها صدفة , فأتصلت بي تستفسر أن كنت أنت التي تظهرين فيها". جمدت كارين في مكانها م ترنحت وأوشكت على السقوط , أحاط آرثر كتفيها بيدين من الفولاذ , همست بيأس وهي تحاول أن تتمالك رشدها : " لكنني لا أعتقد أن كائنا من الممكن أن يتعرف عليّ , فالصورة كانت غير واضحة..... أنزلقت يداه تحت مرفقيها يسندها اليه: " كارن تمالكي نفسك , أردت ببساطة أن أحذرك فقط , كان ذلك الصباح كابوسا بالنسبة الي , أخبرت ماجدا بأن هناك آلاف الفتيات في لندن لهن شعر طويل يرف على وجوههن , ويرتدين معاطف بأرادان من الفرو , أعرف أنني أقنعتها في ذلك الحين , أما بالنسبة لي فعلى الرغم من أن ملامح وجهك لم تكن واضحة في الصورة , ألا أن حقيبة يدك ذات الأبريم البارز التي كنت قد أهديتك أياها قبل ذلك بيومين أو ثلاثة , وسلة التسوق الفخمة التي كنت وحدك تستعملينها .... أحمد الله أن ماجدا لم تنتب الى ذلك". أجتاحت كارين موجة من الدوار , قامت بمحاولة يائسة لتستعيد سيطرتها على نفسها وتنسحب من بين يدي آرثر , فسقط الشال على الأرض , ترنحت وهي تستدير منحنية تتلمسه , لكنه كان أسرع منها فألتقطه ووضعه على كتفيها المتعشتين وهمس: " الأفضل أن تدخلي فأنت ترتعشين , وتذكري يجب أن تحترسي لنفسك دائما". دخلت تتعثر كالعمياء , كان النور لا يزال يشع من المطبخ حيث شاهدت ماجدا تقف أمام المغسلة , ألتفتت ماجدا مبتسمة وقالت: " الجو أصبح باردا , بالطبع أنه هنا أبرد منه في لندن , أتريدان مني أن أعد لكما شيئا حارا؟". لكن كارين لم تكن تريد الا أن تهرب بنفسها فهزت رأسها وقالت: " كلا شكرا , أريد أن أنهي ترتيب ملابسي". وأرتفع صوت آرثر قائلا: " أن كنت متعبة فلا تنتظرينني يا حبيبتي , سأنشغل قليلا ببعض الأمور التي يجب أن أقوم بها قبل أن آوي الى الفراش". أصطنعت كارين أبتسامة وتمنت لماجدا ليلة طيبة وصعدت الى غرفتها , أمضت نصف ساعة قبل أن تدب يائسة في فراشها , وأخذت تحدث نفسها : " ماذا لو تذكرت ماجدا أمر تلك الصورة ؟ لكن ما يهم لو تذكرت؟ أن آرثر سيتولى منعها من أعلام أليزابيت أي شيء بخصوصها , أليس كل ما يعمله من أجل أليزابيت؟". أما بالنسبة اليها فليس عندها ما تخسر ه , خسرت أهم ما يهمها منذ سنتين , خسرت آرثر وأحترامه وثقته , أستلقت على سريرها فريسة لآلآم أنفعالاتها التي أستفاقت من جديد , كان من السهولة بمكان تجنب تلك الحماقة القديمة لو أنها عملت بموجب خطتها لذلك الصباح المشؤوم فذهبت الى السوق لشراء بعض الحاجيات على الرغم من هطول المطر , لو علمت ذلك لفاتها الأستماع الى تلك المكالمة الهاتفية ...... الى ذلك النداء الذي دعاها بأنفعال طالبا المساعدة ... لو أنها فقط لم تدع ستيفان أسي يؤخرها بأصراره على تقديم ذلك الشراب الذي لم تكن ترغب فيه , لكانت خرجت قبل وصول المراسل والمصور الصحفي الى المشهد , دعتها غريزتها لأن تندفع هاربة من ذلك المكان , فأثار هربها أهتمامهما , فأقتنعا بأنها ولا ريب تلك الفتاة الغامضة التي ما زالت هويتها تشغل بال بعض الأوساط والعالم الفني على وجه الخصوص , لكن ماذا كان بمقدورها أن تفعل؟ لقد قطعت على نفسها وعدا أن تلوذ بالصمت وكيف يمكنها أن تنكث بذلك العهد؟ مضى وقت طويل قبل أن تخلد الى نوم مضطرب , أفضل ما فيه أن آرثر وفى بوعده , فتركت المصباح القريب من السرير الآخر مضاء حتى لا يتخبط آرثر عند دخول الغرفة في الظلام ,دخل بهدوء , لم يصدر عنه أي صوت سوى صوت الحركات الخفيفة وهو ينزع ملابسه ويتجه الى غرفة الحمام , عندما عاد تريث هنيهة حين مر بجانب سريرها , وبعد لحظات أطفأ النور وخيم السكون ألا من صوت تنفسه الخافت. قربه الشديد منها جعل النوم عليها مستحيلا , كم مرة في منامها ويقظتها نقلتها أحلامها الى أيام سعادتها الماضية تعيشها بخيالها فتتمنى وتشتاق .. وها هو القدر , بشكل ما , جعل حلمها حقيقة واقعة لكن أقرب ما يكون الى الكابوس , لم تتصور قط أن تشارك آرثر ليلة أخرى على هذا النحو بقلب موجع يفصل بينهما واد سحيق من الحقد والضغينة , ما أقربه منها وما أبعده عنها. بعد ساعات أيقظتها لمسة يد على كتفها فهبت مجفلة , كان الوت صباحا وأشعة الشمس تنساب عبر الكوة الزرقاء , كان آرثر يجلس على طرف سريرها مرتديا ثيابه , والى جانبها على الطاولة الصغيرة كان قدح من الشاي. ما أن رآها تفتح عينيها حتى قال: " أحضرت ماجدا الشاي قبل قليل , لكنني طلبت منها ألا توقظك لأنك نمت متعبة". " نعم كنت كذلك .... شكرا". أتكأت على الوسادة وسحبت الأغطية فوق كتفيها المكشوفتين , شعرت بالأحراج الشديد أذ كانت ترتدي قميصا شفافا للنوم فلو نزلت من السرير لن يكون بمقدورها الكثير لتفعله دفاعا عن نفسها , لكن مخاوفها سرعان ما تبددت عندما سمعته يقول بخشونة : "تبدين مخيفة". أرتعشت يدها وهي ترفع قدح الشاي , فأعادته مكانه وقالت بصوت غير متزن: " لم أنم جيدا". " هل كنت تصرخين في نومك؟". " أصرخ؟". " نعم ,لماذا؟". " لم أصرخ أبدا , أظنك كنت واهما". " أذا فأن وهمي أيقظني من نومي , فنهضت من سريري وأتيت اليك خشية أن تكوني مريضة أ و بحاجة الى شيء ما , لكن يبدو أن أهتمامي لم يكن له مدعاة للترحيب". فسألته وهي تتجنب النظر الى عينيه: " هل كنت مهتما حقا؟". " أنا لست عديم الأحساس كما تعرفين". " حسنا , أرجو ألا يذهب بك الظن بعيدا فتتوهم أنني كنت أذرف الدموع من أجلك". وقف وهز رأسه ساخرا: " نعم لم يعد هناك مجال لمثل هذا الظن يا كارين , أشربي الشاي قبل أن يبرد , سأراك عند الأفطار". تدفق الدمع من عينيها عندما خرج من دون أن يلقي نظرة الى الوراء , ليته كان في مقدورها أن تحصن نفسها ضد قسوته , جرعت الشاي وهي تشعر بعدم الرغبة لمواجهة ذلك اليوم الذي ينتظرها , دخلت الحمام , فأصابها هزة من الصورة التي عكستها المرآة , وجه ممتقع اللون , وعينان بللهما الدمع غارتا في تجويفتين معتمي الظلال ,وفم لا يقل شحوبا عن صفرة خديها . خطرت لها فكرة الرجوع الى سريرها وعدم النزول الى الأفطار ,لكنها سرعان ما طرحت هذه الفكرة جانبا , لأن ذلك لن ينقذها من مضايقات الجميع الذين سيهرعون للأطمئنان عليها . لكن لم كل هذا القلق الذي ينتابها؟ ألم تقنع نفسها خلال السنتين الماضيتين بأن آرثر لا يستحق أن تحطم قلبها من أجله؟ لقد أراحت ضميرها عندما أخبرته بأنها لم تقابل ستيفن أسي ألا في ذلك اليوم وأنها لن تقابله مرة أخرى , أخبرته أنها لم تقابل مطلقا صديقه الفنان الشهير فينس كاين الذي قتل بحادث مفجع فرّ السائق على أثره , لكن آرثر لم يصدقها ...الأنسان الوحيد الذي يستطيع أن يؤكد صحة أقوالها لا يستطيع بل لا يجرؤ أن يتكلم.... كان آرثر قد غادر البيت عندما نزلت الى غرفة الطعام الكبيرة , تناولت الأفطار وحيدة , وما أن أنتهت حتى دخلت أليزابيت بأبتسامة عريضة تبدو عليها السعادة ... وقبلت كارين بحرارة وحنان وقالت: "سأتناول معك قدحا آخر من القهوة , لن أقبل بعد اليوم أن يجبرني أحد على تناول وجبة الأفطار في السرير". تكلمت أليزابيت كثيرا عما يجب أن تجريه من أصلاح أو تعديل في البيت قبل وصول أبنتها ليزا ثم قالت: "يجب أن أنقل حوائجي من غرفتي وأعدها من أجل ليزا وكليف". " غرفتك؟ غرفتك أنت؟". " نعم , سوف أنتقل الى غرفة النوم الصغيرة المجاورة لغرفتك , لأنني أريد أن أهيء لهما غرفة نوم واسعة ومريحة وذات حمام مستقل حتى لا يضطر الى مشاركة ماجدا وتمزي الخادمتين غرفة حمام واحدة ". أنحنت كارين قليلا الى الأمام وقالت: " كلا لن تفعلي ذلك آرثر لن يقبل أن تتركي غرفتك, لماذا لا نترك نحن غرفتنا الى ليزا وزوجها ؟ أنا مستعدة أن أستعمل غرفة الحمام العامة". لم توافق أليزابيت على أقتراح كارين وأصرت على أن تنتقل هي من غرفتها , فقالت كارين: " أعتقد أن آرثر سوف يعارض خطتك". " كلا , لا أظن ذلك وسوف يوافق على خطتي المعقولة". رن جرس الباب الخارجي وأرتفعت أصوات الترحيب , وصلت تمزي . أقبلت تمزي على أليزابيت تعانقها بحرارة , كانت أمرأة ضخمة الجسم , صلبة العود , كثيرة الكلام والحركة , ونظرات عينيها الزرقاوين تنم عن حيوية وطيبة , وأبتسامتها كانت دافئة ودودة . قدمتها أليزابيت الى كارين فمدت اليها يدها مصافحة , أسرعت ماجدا تعد الشاي , بينما أنتقلت أليزابيت وتمزي الى غرفة الجلوس , أما كارين فأعتذرت وظلت مكانها تفكر في غرفة النوم , صممت أن تخليها الى ليزا وزوجها ظنا منها أن ذلك لن يزعج آرثر الذي تهمه صحة أليزابيت وراحتها , لم تضيع وقتا بل أتجهت الى السلم صاعدة الى غرفتها. لم يستغرق منها أعادة حوائجها وحوائج آرثر الى الحقائب أكثر من ساعة , وعندما أوشكت على الأنتهاء دخل آرثر الغرفة ثائرا: " ماذا تفعلين بحق الشيطان؟". وقبل أن تفوه بكلمة تقدم منها وأمسكها بكتفيها وتابع قوله: " ما معنى هذا لا تقولي بأنك رجعت عن كلمتك التي قطعتها على نفسك , هل...". كان يهزها بعنف فأمسكته من صدره وصرخت بصوت مكبوت: "أصغ الي يا آرثر , أنا لن .... دعني أشرح لك!". أرخى يديه عنها قليلا لكن عينيه ظلتا تقدحان شررا: " أذن لماذا حزمت أمتعتك؟ أظن أننا ناقشنا الأمر بشكل جلي ! هل تحاولين تهديم كل شيء؟". " عندما تهدأ أشرح لك الموضوع". فهم آرثر حقيقة الأمر وبان عليه الأرتياح , سره أهتمام كارين وتضحيتها بغرفتها الكبيرة والمريحة من أجل أليزابيت , وافق على رأيها وقادها الى الطابق الأرضي ليريها غرف النوم القديمة الموجودة هناك , أتفقا على الأنتقال الى أحداها , كانت غرفة مقبولة تطل على الحديقة , فتح آرثر النافذة لتهوية الغرفة فتطاير الغبار من النافذة التي مر عليها زمن طويل لم تفتح درفتاها للهواء الطلق , وأذا بكارين تصرخ متألمة وقد أصابت ذرات الغبار عينها. أقبل آرثر مسرعا وأمسك كتفيها قائلا: " دعيني أرى". أطاعت بشيء من عدم الرغبة , وأختلست لحظة من لحظات الألفة عندما وضع يده تحت خدها ورفع وجهها وراح ينظر في عينيها , شاهد عينها المحمرة الدامعة , ففتح جفنيها بأصابعه وقال: " رأيتها ... لا تتحركي". أحست بألم حاد وهو يحاول أزالة ذرة سوداء من عينيها بطرف منديله وأفلح في النهاية. " أحسن؟". " نعم .... أظن ذلك". كانت أنفاسه الناعمة تلفح خديها , وأصابعه تداعب برفق صفحة ذقنها , ومرفقه يضغط على صدرها , أخذت منه المنديل لتمسح قطرة سالت من عينها الدامعة وتنفست متنهدة قبل أن تنسل مبتعدة عنه , غير أنه ظل ممسكا بذراعها ملزما أياها لتنظر اليه وقال: " آسف يا كارو , أنني أدرك بأن ما يحدث ليس سهلا بالنسبة لك كما أنه ليس سهلا بالنسبة لي , وأقول الحق لم أكن واثقا من أنك ستوافقين على القدوم معي الى هنا ". أجابت بهدوء : " لم تترك لي فرصة للأختيار". " أنت تعرفين , أنا مستعد أن أفعل أي شيء من أجل أليزابيت , فأعذريني يا كارو". خفضت كارين نظراتها لتخفي ضعفها الذي كاد يخونها , وحنينها الذي كاد يفضح ذاته , كانت تعرف تماما مدى أخلاصه لأليزابيت وتفانيه بالعناية بها , لذا فعليها أن تتذكر فقط الدافع الحقيقي الذي حدا به أن يأتي بها الى هذا المكان , وأن تعرف كيف تهرب من تأثيره عليها , تأثير نظراته ,كلماته , لمساته , وقت أن تكون في أشد حالات أستسلامها لعذاب لحظات مثل هذه التي تعانيها الآن , لن يؤدي بها في النهاية الا الى مزيد من أوجاع القلب والأوهام الكاذبة . قد يهم بها آرثر في أية لحظة , أن النظرات التي تطل من عينيه أشعرتها بذلك , وفي أية لحظة أيضا .... قد تكتسح الرغبة عندها جدران كبريائها الباردة كما تكتسح العاصفة نبتة ضعيفة , لكن بعد ذلك , بعد أن تنحسر النشوة , فأن آرثر سوف يتذكر ... وسينصرف عنها محتقرا ذاته وحاقدا عليها... سرت قشعريرة باردة في أوصالها فخلت يديه عنها ووقفت قرب النافذة وظهرها اليه , راحت تجاهد للتغلب على ضعفها , أزدردت ريقها بصعوبة وقالت بصوت منخفض: " أعتقد بأنني أفهمك ,وأشكرك لأعتذارك لي". أقترب من كتفها وقال بصوت ضعيف: " عندما دخلت الغرفة ورأيت الحقائب ظننت....". " نعم , حسنا , لا تقلق , ثق بأنني لن أرجع عن كلمتي بهذه الطريقة من دون أي أنذار". أستدارت كارين خارجة من الغرفة فتبعها آرثر قائلا: "هل ترغبين في رؤية بقية غرف البيت ؟ تعالي.....". رافقته الى غرفة أخرى فشاهدت مطرقة صغيرة معلقة على الحائط .... عندما سألته عنها قال: " أوه , أنها مطرقة أثرية , يوجد واحدة أخرى مثلها". نظر الى البعيد ثم ضحك وقال: " لو تعرفين , كنت أنا وليزا نستعملها قديما , كانت تصيب ليزا الكوابيس الليلية فتستيقظ مرتعبة , وغالبا ما كانت تصرخ عاليا .... خطرت لي فكرة , طلبت منها أن تطرق على الحائط ثلاث طرقات عندما تستيقظ فزعة من نومها أثر كابوس , فأستيقظ أنا , وكنت أنام في غرفة مجاورة لغرفتها , فأطرق بدوري على الحائط فيهدأ روعها , وكثيرا ما كنا نعاود الطرق مستأنسين بالأنغام التي تحدثها الطرقات.أستمر بنا الأمر على هذه الحال مدة طويلة الى أن تخلصت ليزا نهائيا من كوابيسها". " ألم يكن صوت الطرق يزعج بقية أهل البيت؟". " لا أظن ذلك , هاتان الغرفتان كانتا في القسم الخلفي من المنزل وجدرانهما صلبة , كم كانت أليزابيت تشكرني لأنني أكتشفت شيئا يعيد الثقة الى نفس أبنتها ليزا ويخفف عنها تأثير كوابيسها المزعجة". وتريث قليلا يتذكر الماضي ثم تابع: " لا يمكنني أن أنسى تجاربي الآولى مع كوابيس ليزا , بدأت وهي بعد في السابعة من عمرها , أستفاقت مرة من نومها مذعورة ودخلت غرفة والديها تصرخ قائلة بأنها رأت نفسها وسط نار متأججة ,وأخذت تنفض قميص نومها متوهمة أن النار لا زالت عالقة به". أستدار آرثر وأنتقل برفقة كارين الى الغرفة التي كانت في يوم من الأيام غرفة ليزا ,وأصبحت الآن غرفة ماجدا , كانت كارين تعرف الكوابيس لكن ليس بالبشاعة التي صورها لها آرثر , وقفت بالبا ونظرت الى داخل الغرفة النظيفة , فلم تشاهد أي أثر من آثار ليزا ألا لوحة صغيرة ذات أطار مرصع بالخرز معلقة على الحائط , وأبتسم آرثر قائلا: " على أية حال , أذا أصاب الكابوس ماجدا أو تمزي فأن لديهما وسيلة تشفيهما منه". لم تبتسم كارين , بل أنهمكت تتخيل ليزا وآرثر يطرقان على الجدار بمطرقتيهما , لكن لماذا كل هذا الحديث عن ليزا؟
7_أبرة الشك
من حظ كارين أن ذلك اليوم كان يوم عمل للجميع , أذ أنشغل كل أنسان في ما يخصه من عمل , أنهمك آرثر في أصلاح ستائر النافذة , فجأة عبس وهو ينظر من زجاج النافذة المغبرة وسمعته يقول: " أرجو ألا تتجمد وهي تعمل في الخارج , يا ألهي ... أنها تركع على ركبتيها تنتزع الأعشاب الضارة!". أقتربت كارين من النافذة , كانت أليزابيت حقاتعمل في نزع الأعشاب الضارة التي نبتت بين شجيرات الورد المحيطة بالحوض الدائري في الناحية البعيدة من الحديقة , وكانت تمزي تقف الى جوارها تتفحص شجيرات الورد , وتقدم النصائح الى أليزابيت الراكعة على ركبتيها . راقب آرثر المشهد لعدة لحظات ثم نظر الى كارين قائلا: " هل تعدينني شيئا يا كارو؟". " أذا كنت أستطيع". " أعرف أن آخر شيء يمكن أن تشكرني أليزابيت عليه هو أن أعاملها كطفلة مدللة , ولكن ليس بوسعي الكف عن القلق من أجلها , فهل تحاولين أقناعها بأن تعتني بنفسها ولا تعمل فوق طاقتها عندما أكون غائبا عن البيت؟". " بالطبع سأفعل .... ولست بحاجة للتوصية , لكن هل تظن من الحكمة أن نفعل ذلك؟ أنها ولا شك أفضل من يحكم على مدى أحتمالها لما تقوم به من أعمال , وأعتقد أن عليك أدراك ذلك يا آرثر , وألا فأنك ستقوض ثقتها بنفسها والشجاعة العظيمة التي تمتلكها". تنهد آرثر وسأل: "كانت تحدثك بشؤونها , أليس كذلك؟". " نعم". " هكذا ظننت , حسنا , لن ألزمك بأن تخسري الثقة التي وضعتها فيك , لكن تذكري ... أنا أعتمد عليك يا كارو". كان في لهجته شيء من التحذير ,ولمحت ذلك التحذير ثانية في عينيه صبيحة اليوم التالي قبل مغادرته البيت ,عندما عانق أليزابيت وألتفت اليها. أحست بالتوتر , خشيت أن يمثل دور الزوج المحب فيودعها توديعا حارا أمام أليزابيت , وكأنما تكهن بما كانت به , فلم يشأ أن يحرجها وأكتفى بأن أمسك ذراعها وأبتعد بها نحو السيارة قائلا: " لا تنسي تعليماتي ". أومأت برأسها قائلة: " لا حاجة بك الى القلق". " سأتصل بك هاتفيا هذه الليلة , أنهم جميعا ينتظرون مني أن أفعل ذلك , وينتظرون مني الآن أن أفعل هكذا ...". وقبل أن تفطن الى ما يعنيه , أحنى رأسه وشدها الى صدره بقوة وعانقها بحرارة , وعندما أبتعد عنها تمتمت من دون أن تنظر الى عينيه : " لا تقلق , سوف نعتني بأليزابيت". ألقى حقيبة يده داخل السيارة وجلس وراء المقود قائلا: " سأعود يوم الثلاثاء على أبعد حد". بعد لحظة كانت السيارة تنطلق به , وقفت كارين التي فاجأتها معانقته , تراقب السيارة حتى أختفت عن الأنظار , ثم تمالكت نفسها ورجعت الى البيت. شعرت بالفراغ منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدماها دلرسبك , والآن سيطر عليها شعور بالوحدة بسبب ذهاب آرثر , لكنها حاولت أن تقنع نفسها أن أمامها بضعة أيام من الطمأنينة تستطيع فيها أن تعوّد نفسها على معايشة محيطها الجديد ,وتستقر فيه بغض النظر عن نصل العذاب المغروس أبدا في جسمها , ألا أنها كانت تتمنى في قرارة نفسها لو أن آرثر لم يغادر البيت , أو على الأقل لو بقي حتى وصول أخته واللقاء الأول بعد سنتين من الغياب. حاولت كارين أن تسيطر على القلق الذي تملكها بأقتراب يوم الجمعة , أذ ليس من سبب يدعوها أن تخشى الألتقاء بأبنة أليزابيت ,أن ليزا لا تدري شيئا عن الصدع الذي أصاب زواج أخيها بالتبني , حتى لو علمت فليس من المحتمل أن توصل هذه الحقيقة الى أمها , ذلك أنه مهما كانت أخطاؤها فحبها وأحترامها لأمها لم يكونا موضع شك , وآخر ما يمكن أن تتمناه هو أن تسبب لها الأذى , مع أنها كانت مطمئنة , لذلك ... ألا أنها أحست بالبرودة تسري في يديها ,وبالرعشة تتمشى في أوصالها عندما شاهدت سيارة المرسيدس البيضاء الكبيرة تقترب من البيت بعد السادسة من مساء يوم الجمعة. كان كليف طويل القامة نحيلا له شعر فضي ووجه نحيف ,نزل من السيارة يراقب زوجته التي كانت تفتح ذراعيها لملاقاة الجميع وهي تصيح: " ماما يا حبيبتي". كانت لا تزال جذابة كعهدها , طويلة ,رشيقة ,نحيلة القد , ترتدي ثوبا صوفيا قرمزي اللون , وعلى شعرها القصير الأشقر قبعة جلدية بلون ثوبها. تقدمت ليزا من كارين فاتحة ذراعيها وعانقتها وهي تقول: " هالو.... كارو حبيبتي ,ما أجمل أن أراك ثانية". ثم نظرت حولها وسألتها: " لكن أين آرثر؟". " رجع الى لندن". " كيف يجرؤ أن يغيب وهو يعلم أنني قادمة؟". أسرعت أليزابيت بالجواب قائلة: "توقع ألا تتأخري حتى اليوم , لكن تأخرت فأضطر الى الذهاب وسيعودالثلاثاء". دخل الجميع الى البيت وتطوعت كارين بأرشاد كليف وزوجته الى غرفتهما التي أخلتها هي وآرثر من أجلهما . كانت نهاية الأسبوع متعبة بالنسبة الى كارين , في مساء السبت أتصل آرثر بالهاتف , فأخبرته كارين بمجيء أخته وزوجها وعن خيبة الأمل التي أصابت أخته بسبب تغيبه عن البيت , فقال: " أوه , لم يكن لدي متسع من الوقت لأعلامها عن أضطراري للسفر , هل هي عندك الآن؟". " كلا , ذهبت برفقة كليف في جولة قصيرة". " هل بدأت تشعر بالضيق في دلرسبك؟". " لا أعتقد ذلك , يبدو أنها سعيدة جدا لكونها في البيت ". " حسنا يكفي هذا الآن والى اللقاء يوم الثلاثاء". كان ذلك كل شيء , وضعت كارين السماعة ببطء , لم يكن لمشاعرها أية أهمية لدى آرثر ,حتى ولم يتظاهر بذلك على الهاتف أثناء مكالمته , لكن أليس من الحماقة أن تتوقع منه شيئا من هذا القبيل ؟ تغير الطقس يوم الأحد , هبت رياح شديدة وأنهمر المطر , كان كليفورد وزوجته برفقة كارين يجلسون في غرفة الجلوس عندما نظرت ليزا فجأة نحو كارين وسألت: " كارين, هل تظنين أن أمي على وشك أن تموت؟". " لا أعرف ... أرجو وأصلي ألا يحدث ذلك". أستطردت ليزا بصوت مكمود: " لم أكن أصدق حتى عندما سمعت ما قاله الأطباء , لكنني الآن بت أظن ذلك". تخلى كليفورد عن هدوئه وقال: " لماذا أنت متشائمة الى هذا الحد يا ليزا؟". " لأن ما أقوله صحيح". قفز كليفورد من مكانه وأقترب من زوجته واضعا يديه على كتفيها , وقال منفعلا: " من الصعب أن تتأكدي مما تقولين! أصغي يا ليزا , لا شيء صحيح حتى يحدث ,ولم يحدث شيء حتى الآن , هل ترغبين في قدح من الشراب؟". " كلا , شكرا!". " وأنت يا كارين؟". " أنا كذلك , شكرا". " أذن فأنا ذاهب لأعد لي كأسا". خرج من الغرفة تاركا ليزا تحملق في الباب بذهول , أحست كارين برعشة فزع وهي تنظر الى وجه ليزا الممتقع , فنهضت من مقعدها وأقتربت منها قائلة: " هل أنت بخير؟". أجفلت ليزا مستفيقة من حالة الشرود التي سيطرت عليها هنيهة وقالت: " نعم أنا بخير , لا تشغلي بالك بي , أظن أنني بحاجة الآن الى كأس من الشراب". هبت ليزا مسرعة وخرجت من الغرفة تاركة كارين في تفكير عميق ,لم تكن تلك المرة الوحيدة التي تخرج فيها ليزا بمثل هذه السرعة عندما تجد نفسها وحيدة مع كارين , في الواقع فأن ليزا كانت تتجنبها كأنما تخاف شيئا ... غاصت كارين في مقعدها وراحت تحدق في نار الموقد , لا شك أنها مخطئة في تخمينها , لا يمكن أن تتهرب ليزا من الأنفراد بها عن عمد, لا بد أن يكون ذلك بمحض الصدفة , بالتأكيد فأن ليزا لا يمكن أن تتصور بعد هذا الوقت الطويل أن كارين من الممكن أن... وبحركة مفاجئة تناولت الصحيفة التي كان كليفورد تركها على الطاولة , وراحت تقلب صفحاتها لتهرب من تخيلاتها وتعيد الى أعصابها الهدوء والسكينة . قبل أنقضاء يوم آخر أقتنعت كارين تماما بأنها لم تكن مخطئة في تخيلاتها , وجدت نفسها وحيدة مع ليزا في مناسبتين , وفي كلتيهما كانت ليزا تختلق لنفسها عذرا للأنصراف بسرعة , فلم يعد لديها مجال للشك في أن ليزا تتجنبها عمدا. تنهدت كارين عميقا وقررت أن تصرف تلك الحقيقة عن تفكيرها , فأنها منذ المرة الأولى التي قابلت فيها ليزا شعرت بأن هناك حاجزا غير مرئي يحول بينهما ويمنع تقرب الواحدة من الأخرى , كان بأستطاعة ليزا أن تكون حلوة دمثة عندما يتطلب الظرف , ويمكنها أن تكون لطيفة عندما تريد شيئا , لكنها لم تكن تحس بعاطفة صادقة الى أي من بنات جنسها , كانت ميولها محصورة بالجنس الآخر , تفضل أن تميل اليها قلوب الرجال , ونقطة ضعف أمها الوحيدة , أنها لم تكن ترى في أبنتها أي خطأ على الأطلاق , كانت بالنسبة لأمها أغلى ما في الوجود , مرجع ذلك أن أليزابيت فقدت قدرتها علىالأنجاب أثر ولادتها لأبنتها , تلك الولادة التي كادت تودي بحياتها , والتي أيقنت من بعدها , هي وزوجها جيمس , أن الصبي الذي طالما تشوقا الى أن يرزقا به , لن يكون ... حتى ذلك اليوم الذي دخل فيه ذلك الصبي الصغير , البائس , المنبوذ الى بيتهما وقلبهما. لأول مرة تساءلت كارين في نفسها عن شعور ليزا أتجاه ذلك الصبي الغريب الذي أقتحم دنياها طيلة السنين الماضية , هل أمتعضت منه ؟ هل أغتاظت من تطفل ذلك المخلوق الذي بات يشاركها الحب والحظوة اللذين كانا من حقها وحدها؟ لكن مهما كان رأيها في أتخاذ أخ أكبر منها سنا كواقع دائم في حياتها , فأنها سرعان ما قبلت به كواحد من رعايا مملكتها , وسرعان ما منحها هو التدليل والحماية , حتى بعد زواجها ظلت على صلتها الوثيقة بأخيها بالتبني , تلجأ اليه كلما أعترضتها مشكلة طالبة منه النصيحة والمساعدة اللتين لم تكن تطلبهما من زوجها , سرحت كارين بأفكارها الى تلك الأشهر القليلة التي عاشتها مع آرثر , وأستذكرت تلك المناسبات العديدة التي كانت تظهر ليزا فيها فجأة ... قائلة بأنها ستخطف منها أخاها بعض الوقت فتنفرد به تستمع الى نصحه وأرشاده , كانت تعتبره معصوما عن الخطأ , وكان آرثر بدوره يعاملها بالحب والحنان , ويسيغ عليها جوا من الحماية كأنه شقيقها المولود من أبويها , مع ذلك ... هل كان شعور ليزا نحو آرثر أعمق من مجرد شعور نحو أخ؟ شعور لم تدرك حقيقة كنهه حتى الآن؟ سرت في جسدها قشعريرة باردة , وراحت بيأس تحاول جاهدة أن تقصي تلك الفكرة التي سيطرت على مخيلتها , فكرة أن ليزا لم تكن تحب آرثر حبا أخويا وأنما كانت تعشقه كرجل. أبت تلك الفكرة المخيفة أن تفارقها , علما أن ليس في الأمر غرابة أو شذوذ , فالقربى التي تربط بينهما ليست صلة دم لتحرم ذلك الحب , فأذا صح ظنها لأتضحت لها أمور كثيرة حيرتها وأربكتها في أعقاب تلك الأيام المريرة التي مرت عليها سنتان..... تساءلت في نفسها ماذا عن آرثر؟ هل خطر بباله ما كانت ليزا تحس به نحوه ؟ أرتعشت من جديد وهي تشعر من أعماقها بأنه مهما كانت طبيعة ما تحس به ليزا نحو آرثر , فأن ذلك لم يلق من قبله أي أستجابة مماثلة , أن آرثر أحبها هي حبا عنيفا أدى الى زواجهما , على الرغم من أن ذلك الحب لم يدم طويلا.. أنهارت قطعة حطب وسط الجمرات المغطاة بالرماد , فتطاير منها شرر متوهج عبر الموقد , مما جعل كارين تجفل وتعود من شرودها الى الحاضر , أخذت الملقط وأنهمكت تعيد الشظايا التي أنبعث منها الدخان الى وسط الموقد , وفجأة أستدارت الى الخلف عندما سمعت صوت تمزي التي دخلت قائلة: " شكرا لله أنني وجدت أحدا في المنزل , أتعرفين أين يمكن أن أجد بعض أقراص الأسبرين؟". أمعنت كارين النظر في وجه تمزي الذي كانت تبدو عليه علائم القلق , وقالت: "أظن أن لدي بعض الأقراص , هل تشعرين بصداع يا تمزي؟". " كلا , لكن السيدة أليزابيت تعاني من قشعريرة برد شديدة". أصفر لون كارين وهتفت بفزع: " آه ,كلا , متى كان ذلك؟". " ذهب الجميع الى القرية وظننت أنك معهم , صعدت الى السيدة لأسألها أن كانت لديها الرغبة في قدح من الشاي , فوجدتها محمرة الوجه محمومة لا تقوى على الكلام , كان صوتها مبحوحا في الصباح , لكنها قالت أنها بخير". صعدت كارين بسرعة ورجعت ببعض أقراص الأسبرين , فوجدت تمزي تعد كأسا من الليمون ثم صعدتا الى غرفة أليزابيت . كانت مستلقية في سريرها وعلى كتفيها شال من الصوف , ممتقعة الوجه تتوسط كلا من خديها بقعة دائرية شديدة الأحمرار . أبتسمت أليزابيت عندما رأت كارين وأستندت متعبة على الوسائد , وقالت بصوت غلبت عليه البحة: " سأكون أحس حالا في الصباح". نظرت اليها كارين متفحصة ولمست بظهر يدها جبينها الحار الجاف , وأمسكت برسغها تعد النبضات. همست أليزابيت: " أنك تبدين محترفة , لم أكن أدري أنك ممرضة يا حبيبتي". " أمي كانت ممرضة وتعلمت منها بعض الأسعافات الأولية , حرارتك مرتفعة وأود لو يفحصك الطبيب , على الأقل لندرأ عنا غضب آرثر عندما يعود غدا". وافقت أليزابيت وحضر الطبيب بعد السادسة بقليل , كان طبيب القرية منذ أكثر من ثلاثين عاما , وأليزابيت تعرفه معرفة جيدة , أعطاها بعض الحبوب , وقال بأنه سيعود في الصباح التالي. رجع الجميع من القرية وعندما علمت ليزا بالنبأ أصابتها هزة شديدة , صعدت تركض الى غرفة أمها , أمضت طيلة المساء تصعد وتهبط الدرجات بين غرفة والدتها وغرفة االجلوس , حتى نفد صبر زوجها وقال: " بالله عليك يا حبيبتي , أما أن تجلسي بهدوء الى جانب والدتك أو تبقين هنا وتتركين لها فرصة لتنام , أن تصرفك هذا يجعلها عشر مرات أسوأ مما هي عليه الآن". أقتنعت ليزا بما قاله زوجها , جلست معه برفقة كارين وماجدا يلعبون بالورق حتى العاشرة , ثم أنصرف كل منهم الى شأنه , وآثرت كارين أن تنام مبكرة فتوجهت الى غرفتها. كانت ساعات تلك الليلة طويلة معتمة , لكنها شعرت بالأرتياح عندما أستفاقت من نومها المتقطع لترى نور الفجر وقد أخذ يرفع ستائر الظلام عن الأفق الفسيح , كان الوقت يقارب السادسة صباحا عندما سمعت أول حركة تدل على أن البيت بدأ يستيقظ من سباته العميق. دخلت الى الحمام لتريح نفسها من آثار تلك الليلة المضنية ,وعندما خرجت رأت ماجدا تظهر من أحد جوانب البيت , فتقدمت منها وسألتها بقلق عن حال أليزابيت فأجابتها قائلة: "أمضت ليلة هادئة , وهي تظن أن بأستطاعتها تناول قطعة من الخبز والمربى , أدخلي وأطمئني بنفسك". غمرت كارين موجة من الأرتياح وبدون تردد توجهت نحو غرفة أليزابيت , طرقت الباب بلطف ثم دخلت , كان يبدو على المريضة شيء من التحسن , لكن صوتها كان لا يزال مبحوحا وأن بدا أكثر قوة عندما قالت: " أراك أستيقظت مبكرة يا حبيبتي , هل أنت على ما يرام؟". هزت كارين رأسها وأنحنت بأندفاع لتقبل أليزابيت التي أشاحت بوجهها قائلة: " لا تقتربي مني يا حبيبتي ... كنت أخبرت ماجدا قبل قليل أنه من الخير للجميع لو يبتعدون عني حتى أتخلص من هذه الحمى ولا تنتقل اليهم العدوى , ستعتني بي تمزي فالجراثيم لا تؤثر بها!". أبتسمت كارين قائلة: " هل أستطيع أن أقدم لك أية خدمة؟". " كلا يا حبيبتي , تمزي غسلت وجهي ويديّ وأعتنت بي كأنني طفلة صغيرة , ستقدم لي ماجدا طعام الأفطار ,أذهبي أنت وتناولي طعامك". شعرت كارين بالسعادة وهي تستمع الى كلمات أليزابيت التي تجلى فيها حنان الأمومة , وقبل أن ترد بكلمة سمعت صوت سيارة تقف أمام البيت , أزاحت الستائر بشيء من الدهشة , وكتمت صرخة ضعيفة كادت تنبعث من حلقها الجاف , كانت سيارة حمراء داكنة تقف في الباحة , سيارة مألوفة , سيارة آرثر! نزل آرثر من السيارة وصفق بابها خلفه وبدأ يعبر الباحة الأمامية ثم توقف فجأة حينما أنطلقت فتاة من البيت تركض بأتجاهه وخصلات شعرها الذهبية تهفهف مع هبات نسيم الصباح , وألقت بنفسها بين ذراعيه. كانت تلك الفتاة هي ليزا. أرتفعت يد كارين المرتعشة الى عنقها , وسمعت أليزابيت تسألها : " ماذا هناك؟". " أنه آرثر ... عاد مبكرا". نطقت بصوت متهدج كأنه لم يكن صوتها , وأحست بألم حاد في معدتها كأنما أصيبت بطعنة , أستطاعت أن ترى وجه ليزا وهو يلتصق بكتف آرثر وقد أنعكس عنه وهج عاطفة طاغية , وراحت يداها الناعمتان تتلمسان عنقه , أما آرثر فكان بدوره يطوقها بيديه القويتين ويشدها الى صدره.. أحست كارين بالغرفة تدور بها , وأمسكت بطرف الطاولة خشية السقوط , سقط آخر حجاب عن عينيها , أن شكها المحموم غير القابل للتصديق كان حقيقة واقعة. كانت ليزا تهوى آرثر........
8_تحت شلال الغيرة
لم تعد كارين تذكر كيف أنتقلت من غرفة أليزابيت الى غرفتها , كل ما تذكره هو ذلك الغضب الذي صدع رأسها وتركها منهوكة مرتعدة , كل ما باتت تراه هو صورة ذنيك الشخصين المتعانقين التي حفرتها نار الغيظ في مخيلتها , كيف تجرؤ ليزا أن تحتضن آرثر بتلك الطريقة الخليعة التي تسخر من كل ما كانت تبديه سابقا من مظاهر الحياء لأخيها وأعجابها به , أليس لديها ذرة من وازع أو ضمير؟ أطبقت يديها بشدة فأنغرست أظافرها براحتي يدها من شدة الغضب , لا فائدة ترجى من أقناع نفسها أن ما شاهدته في الخارج كان نتيجة لألم ليزا وقلقها على أمها , أو تعبيرا عن شعورها بالطمأنينة في هذا الظرف لوجود آرثر الى جانبها , وثقتها بقوته التي يمكن أن تستند اليها عند الأزمات. كان الأمر أسوأ من ذلك بكثير , فالبعد بين هذه العواطف لأنسانية والعفوية وبين تلك التي أرتسمت على وجه ليزا عند أحتضانها آرثر ... يتجاوز بعد القطبين , وماذا عن آرثر ؟ جلست على طرف السرير وأستغرقت في التفكير , لو أن آرثر كان يجهل طبيعة شعور ليزا نحوه , فأنه ولا شك أصبح يفهمه الآن بعد لقائه بها هذا الصباح. بغتة أرتفع صوت يناديها ثم أنفتح الباب ,وظهر آرثر على عتبته تتجلى على وجهه معالم الغضب وصاح: " أذن أنت هنا! لماذا لم تعلميني؟". هبت كارين واقفة وأنفجرت تقول: " لماذا لم أعلمك؟ كيف تجرؤ أن تقتحم عليّ الغرفة وتصرخ في وجهي كأنني أحدى تابعاتك ؟ بعد....". قطع عليها الحديث قائلا وهو يلقي بمحفظته وسترته فوق السرير : " أما أنك لم تعتبري الأمر خطيرا أو أنك لم تهتمي به أصلا , لو لم تتصل بي ليزا هاتفيا الليلة الماضية.......". " أذن كانت ليزا! كان عليّ أن أعرف ذلك!". لأول مرة منذ أقتحامه غرفتها وقف يمعن النظر وكأنه فهم قصدها وسأل: " كان عليك أن تعرفي ذلك! تعرفين ماذا؟". " لا حاجة بك الى أن تسأل , أرجع بذاكرتك خمس دقائق الى الوراء لتعرف الجواب". أفلتت الكلمات المريرة غير المحترسة من فمها دون أن تقوى على كبتها , حملق فيها آرثر وصاح: " عما تتحدثين بحق الشيطان؟". " أتحدث عن ليزا ! عن تسللها الى الهاتف بعد أن ناقشنا الموضوع جميعا وقررنا أن الأمر ليس بالخطورة التي تستوجب أستدعاءك". على الرغم من محاولاتها للمحافظة على أتزانها فأن صوتها كان يرتفع تدريجيا وأردفت تقول: " وأنا أتحدث عن ليزا التي ألقت بنفسها بين ذراعيك قبل قليل على مشهد من الجميع ! كأنها..... كأنها.....". لم يقو على الصبر فأتخذ خطوة الى الأمام وأظلمت عيناه ولوى فمه بأحتقار: "يالله ! أذن هكذا! تعنين أنك رأيت ... أنك أعتقدن...!". وشهق مهتاجا وأفلتت منه ضحكة خشنة وتابع : " من المستحيل تصديق ذلك". " أحقا؟". صر بأسنانه وقال: " لماذا لا تقولينها أذن؟ لماذا لا تتهمنينني صراحة بحب ليزا ؟". أحست بالخوف من العنف الذي تجلى في صوته , لكنها واجهته بكبرياء وقالت: " لم أذكر ذلك". " لكن كلماتك تتضمن ذلك". جمع قبضة يده كأنه يهم بضربها وأردف: " يا ألهي! كثير أن يصدر عنك أنت بالذات من دون كل الناس مثل هذا القول!". تراجعت كارين ,كانت كلماته أشد وقعا عليها من السياط وأستدارت خوفا من أن يرى دموعها , لكنه أدركها وأمسك بذراعها ثم أرغمها على الأستدارة نحوه , نظر اليها مليا يتفحص تقاطيع وجهها المتألمة , شفتيها اللتين تلاشى لونهما ,عينيها اللتين تتجنبان مقابلة عينيه , عنقها الذي ترتعش نبضاتها في عروقه , ثم خلى سبيلها بغتة فترنحت موشكة على السقوط ,وقال: " يا للشيطان! الغيرة أعمت بصيرتك!". " ممن ؟ من ليزا؟ أبدا!". ثم نظرت اليه بقوة وصاحت: " لما كانت ليزا قد أستدعتك بهذه السرعة , أليس من الأفضل أن تذهب لرؤية أليزابيت وتطمئن عليها بنفسك؟". " هل أستيقظت؟". " ستجدها تتناول أفطارها , لم نهملها لحظة منذ أدرت لنا ظهرك , أننا نحب أليزابيت كما تعرف". لم ينطق آرثر بكلمة ,لكن وجهه أزداد تجهما , وأضافت تقول: " كنت في غرفتها عند وصولك , ولا أظن أنك ستساهم كثيرا في تأمين الراحة لها لو أعلمتها بأنك أمضيت طيلة الليلة الماضية تسابق الريح بسيارتك". " هل يقلقك ذلك؟". " يقلقني أذا لم يكن ما يدعو لتلك السرعة". مشى يود مغادرة الغرفة ثم توقف وقال بصوت حازم: " حسنا , أنا هنا الآن , أسمعيني قليلا , أليزابيت هي الوحيدة التي يهمها أمرها , هي الوحيدة التي منحتني كل ثقتها , هي الوحيدة التي منحتني الفرصة لأبني نفسي من العدم , أدخلتني بيتها وعاملتني كولدها , لا أستطيع أن أفيها بعض جميلها ... أدين لها بالكثير ,بل ليس لدينها عليّ حدود , أسمعي , سأقتل كل من يسبب لها الأذى". هيمن عنفه على جو الغرفة فسادها الهدوء , نظر بقسوة في وجه كارين ثم تحرك نحو الباب , وقبل أن ينصرف ألتفت خلفه ثتنية وأضاف: " من أجل أليزابيت تهون علي حياتي , أنها لم تلدني حقا , لكنها وهبتني الحياة". أستنفدت كارين كل قوتها بعد صدامها العنيف مع آرثر , أرتدت أحد فساتينها أمام المرآة لتتزين , وسرعان ما ألقت جانبا أحمر الشفاه الذي كان بيدها , فهل يهمها مظهرها بعد الآن؟ ماذا يهم؟ نزلت تجر نفسها جرا لتناول الأفطار وحمدت الله أنها لم تجد أثرا لليزا هناك , ما أن جلست الى المائدة حتى ظهر آرثر , قالأنه سيخلد الى النوم حتى موعد الغداء , وأردف بأنه لن يغادر دلرسبك مدة ثلاثة أسابيع متتالية لأنه بحاجة الى راحة طويلة. ظلت كارين صامتة , لم تكن في حالتها الراهنة قادرة على أبداء بهجتها لمثل هذا النبأ , كان يحتل قلبها غيظ مرير يقرب في خطورته من الكراهية , لو لم تظهر ليزا على المسرح لكان من المستطاع أن تصل مع آرثر الى تفاهم ضمني وقبول بالوضع الراهن ,لكن الآن وبضربة واحدة نسفت ليزا أي أمل في ذلك. طال ذلك اليوم البائس يشوبهالتخوف من أنكشاف الجو المشحون بينها وبين آرثر والآخرين , ألا أن مرض أليزابيت وأنهماك الجميع في بعض الأمور المنزلية أثبت أن تخوفها لم يكن في محله , وعندما حان الوقت الذي ترهبه ,وقت أنفرادها مع آرثر في غرفتهما الخاصة , رأته يستغرق في صمت كئيب , كان مبعث أطمئنان لها . أقبل صباح اليوم التالي يحمل معه أنباء الحمى التي بدأت تجتاح القرية بأسرها , أستيقظت ماجدا وليزا من نومها وعليهما كل الأعراض التعيسة , حتى تمزي الجبارة التي أستطاعت أن تدرأ عن نفسها الهجوم ذلك اليوم , لم تلبث أن سلمت بالهزيمة في اليوم الذي تلاه , وبعد يومين كان آرثر يستسلم للمرض. كارين الوحيدة التي سلمت من الداء , لكن العناية بالمرضى وأعمال البيت التي ألقيت على عاتقها أثقلت كاهلها , وجعلتها ترحب بألتهاب الحنجرة الذي أصابها مع حلول نهاية الأسبوع , ومع ذلك لم تجد لديها الوقت الكافي للعناية بنفسها. بينما كانت أليزابيت تتماثل للشفاء كانت ليزا طريحة الفراش تعاني من شدة وطأته , فقدت كل شهية للطعام ولم تنجح محاولات الجميع في دفعها لتناول أي شيء. كانت ليزا أثناء مرضها محط عناية كارين التي كثيرا ما نظرت اليها تتأمل وجهها الممتقع المثير للشفقة , فتحس في داخلها وخزات تأنيب الضمير , ترى هل كانت مخطئة في ظنها؟ هل كانت التحية الحارة التي شاهدتها وأثارت غيرتها مجرد تعبير عن شوق ليزا الشديد للقاء آرثر ؟ وتذكرت أمرا لم يخطر ببالها من قبل , أن ليزا كانت تعمل سابقا عارضة أزياء , فكيف لم تضع في حسابها أن طبيعة عملها أكسبتها ولا شك جرأة وبشاشة فتعودت أن تقابل الناس بحرارة مفتعلة لا تنبع عن عاطفة صادقة؟ لم تتوقف كارين عن العمل في البيت طيلة فترة الحمى التي لم يسلم منها أحد سواها , مضى أسبوع وليزا طريحة الفراش , نزلت كارين من عندها تحمل صينية الطعام الذي رفضت أن تتناول منه ألا عصير الفاكهة , وعندما دخلت الى المطبخ نظرت تمزي الى الصينية وقالت: " أصبحت نحيلة جدا , من الغباء أن تبقى نحيفة هكذا بعد أن تركت عملها كعارضة أزياء , فلماذا لا تتناول ما نقدمه لها من غذاء حتى تتحسن صحتها؟". تمتمت حانقة وهي تخرج من المطبخ تحمل أناء فيه بعض الزهور , بينما بدأت كارين في غسل الأطباق , وأليزابيت الى جانبها تود مساعدتها , تنهدت كارين... لو أن أليزابيت تغادر المطبخ فتنال قسطا من الراحة , كانت تعرف أنها لن تذعن لذلك , أنها في اليومين اللذين تركت فيهما فراش المرض لم تكف لحظة واحدة عن العمل , على الرغم من الضعف الذي ألم بها , كانت الآثار التي خلفها المرض واضحة على جسمها , أمست هزيلة الى حد مخيف , غار خدّاها وغاصت عيناها في محجريهما تحت ظلال داكنة الزرقة , ونحلت يداها حتى بات الجلد يشف عما خلفه , بحركة تدل على نفاذ صبر سحبت كارين كرسيا وألحت على أليزابيت أن تجلس قائلة: " يمكنك تجفيف الأطباق وأنت جالسة تماما مثلما تجففينها وأنت واقفة". تأففت أليزابيت وقالت: " بالله عليك يا كارين , يكفي ما ألقاه من آرثر وتمزي وماجدا , لم أعد أحتمل هذه الرعاية الزائدة وهذا الأهتمام البالغ من حولي , بدأت أشعر بأنني أكاد أختنق!". أعتذرت كارين وهي تعض على شفتيها , وقررت ألا تنطق بحرف , خيم صمت كئيب ثم تنهدت أليزابيت ونظرت الى كارين نظرة تحمل معنى التوسل وقالت: " كارين أنني قلقة على ليزا ". ترددت كارين لتختار كلماتها بحذر ثم قالت: " أعرف أنه من الصعب ألا تقلقي من أجلها , لكن حاولي ألا تشغلي بالك كثيرا , أنا متأكدة بأنها ستتحسن سريعا , قال الطبيب أن هذه الحمى تسبب أنحطاطا بالقوى لا يلبث أن يزول". زفرت أليزابيت زفرة وقالت: " كلا , ليس ذلك ما تعاني منه أبنتي فأنا أعرفها جيدا , مرضت عدة مرات قبل الآن وفي معظمها كانت تحتاج الى فترات أطول من هذه لتشفى , لكنها ما كانت تبدو ألا باسمة ضاحكة تحب أن ترى الجميع من حولها يرقصون ويحيطونها بالرعاية , أما الآن فأنني أرى الأمر مختلفا جدا , أنه أكثر عمقا ... ليزا ليست سعيدة". " لماذا تظنين ذلك؟". " لا أعرف لماذا , أنه حس غريزي أحس به منذ فترة , أخشى أنها غير موفقة أبدا بزواجها". " هل تحدثت مع ليزا بهذا الخصوص؟". " كلا , يبدو أنها لم تعد تبوح لي بأسرارها". " ربما ليس لديها ما تبوح به". " أتمنى أن يكون ذلك..". وراحت أليزابيت تنظر من النافذة , وبغتة أستدارت قائلة: " كارين , ألم يلفت أنتباهك أي تغيير في ليزا بعد غيابك عنها هذه المدة الطويلة؟". " ليس تماما , فأنا لا أعرف ليزا الى المدى الذي تجعلني أكون مصيبة في حكمي , هل بحثت الأمر مع آرثر؟". " بالطبع , قال أن ما يشغلني بالنسبة الى ليزا ما هو الا محض أوهام , وأن ليزا بخير , وأذا أصابها شيء لا سمح الله , فأنه سيتكفل بالعناية بها وحده". وتابعت أليزابيت حديثها بصوت متهدج: " لكن ألا ترين أن ذلك كله بحجة الحرص على صحتي ؟ لا يجب أن أقلق! لا يجب أن أعلم! لا أحد يدرك بشاعة هذه المعاملة!". قالت ذلك والرجفة تهزها هزا عنيفا , ثم أنّت أنّة خافتة ودفنت رأسها في راحتيها. أسرعت كارين اليها وراحت تربت على كتفيها النحيلتين المرتجفتين وتحاول أن تجد الكلمات المناسبة لتهدئتها , لم تسمع وقع الخطوات القادمة من الخارج , ولا صوت أنفتاح الباب الذي دخل منه آرثر صائحا: "ما هذا؟". عبر الغرفة مسرعا ودفع كارين جانبا ثم أحتضن أليزابيت بين ذراعيه , وأخذ يربت بيده على رأسها برقة متناهية وقال: " أمي , أمي ما الخبر؟". نظر من فوق شعرها الفضي نحو كارين وسألها عما حدث فأجابته ببرود: " أنها قلقة بخصوص ليزا". نظر الى كارين نظرة ضمنها كل معاني الأتهام , ولم تلبث أليزابيت أن سحبت نفسها من بين ذراعيه مسحت عينيها بيديها وقالت: " أنا بخير , لكن بالله دعني وحدي قليلا...". لم يستمع آرثر لطلبها بل أصطحبها الى غرفة الجلوس قائلا: " أجلسي وأخبريني بكل شيء". ثم ألتفت الى كارين طالبا منها أعداد قدح من الشاي , فأستدارت تلبي طلبه والأفكار تزدحم في رأسها , أن مخاوف أليزابيت هي مخاوفها , فهل كانت ليزا غير موفقة في زواجها ؟لم تهتم كارين مطلقا بمثل هذا الأمر من قبل , ولم تكن تعرف كليفورد الى الحد الذي يمكنها أن تكوّن فكرة صادقة عن شخصيته , كانت قد ألتقت به مرات قليلة خلال الأشهر الأولى التي عاشتها مع آرثر , كان دائما لطيفا مع شيء من التحفظ , مضيافا دمث الأخلاق , وعلى ما تذكر فأنه كان يذعن لآراء ليزا ولا يخالفها في أمر , أما بالنسبة الى الحب ... فذلك شأن لا تستطيع أن تصدر فيه حكما. أعدت الشاي وحملت الصينية الى غرفة الجلوس , وعندما وقع نظرها على أليزابيت شعرت بالطمأنينة , كانت تجلس قرب الموقد وقد أستعادت هدوءها ورباطة جأشها , لكنها رأت معالم التجهم واضحة على وجه آرثر عندما أخذ منها الصينية , ثم تمتم قائلا وهو يغادر الغرفة أنه سيعود بعد لحظات , أبتسمت أليزابيت بوجه كارين أبتسامة مرتعشة وقالت: " لا ريب أنك تجدين عائلتنا متعبة". " بالطبع لا أجدها كذلك". كانت كارين تقدم الشاي الى أليزابيت عندما عاد آرثر ومعه حقيبته ,وضعها على كرسي قريب وهو يقول: " أخذت الى ليزا بعض العنب.... فبدا عليها السرور". ثم أخرج من الحقيبة رزمة وضعها أما أليزابيت وقال بلهجة عادية: " ربما تبعث هذه فيك بعض البهجة". قبلته أليزابيت وهي تفتح الرزمة وتخرج منها علبة من الشوكولا الفاخرة , قالت مبتسمة : " آه آرثر ! أيها المحبوب المسرف ... أنك تفرط في تدليلي , لكن أين حصة كارين؟ ألا تستحق معاملة خاصة على العناية الفائقة التي أحاطتنا بها أثناء مرضنا؟". " هل تعتقدين أنني يمكن أن أنساها؟". قال ذلك وهو يخرج علبة أخرى ويتوجه بها الى كارين , لم يرخ قبضته عنها حتى أقتربت منه فألقى يده حول كتفها وعانقها , كانت معانقته حارة , كأنما يحاول أن يؤكد لأليزابيت مقدار حبه لزوجته , راحت نبضات قلب كارين تتسارع , وبيدين مرتعشتين بدأت تحل رباط العلبة يتقاسم فيها أحساسان, أحدهما يبكي لعلمها أن العاطفة التي تجلت في معانقته لها ما هي ألا أحد أدوار التمثيلية المتفق عليها , والثاني يبتسم لهذه الهدية غير المتوقعة. كانت الهدية عبارة عن علبة بيضاء ثمينة تحتوي على شوكولا من النوع الذي تحبه كارين , وسمعته يقول بصوت ناعم تتخلله لهجة ساخرة: " أرأيت كيف لا زلت أذكر ما تحبين؟ ألا أستحق شيئا بالمقابل؟". أين المفر؟ وضعت كارين ذراعيها حول عنقه وتظاهرت بفرحة الزوجة مستسلمة لذراعيه تطوقان خصرها بشدة , وعانقها ثانية بحرارة أشد من المرة الأولى , فهمست منفعلة: " آرث ! أليزابيت تراقبنا.". أخلى سبيلها وراح يمعن النظر في وجهها الممتقع , وقال بشيء من السخرية: "عليك يا حلوتي أن تعرفي بأنني دائما أتقاضى حقي كاملا مقابل هداياي!". فقالت أليزابيت معاتبة: " مسكينة كارين! لقد أحرجتها يا آرثر ,عليك أن تكون أكثر حشمة!". رن جرس الهاتف بغتة , فهمت أليزابيت بالقيام لكن آرثر قال: " أنت أقرب منا .... ردي يا حبيبتي!". أتجهت نحو الهاتف وهي تعجب كيف تنطلق منه الكلمات بهذه السهولة, وكأن الأمور طبيعية لم يطرأ ما قلبها رأسا على عقب؟ وأشتعلت عيناها غيظا , يا للخسة ! أنه يستغل عدم قدرتها على المقاومة أمام أليزابيت , أنه لكثير ما تبذله لتفي بوعدها ,يا لها من صفقة! كانت المكالمة من أحد معارف أليزابيت التي أسرعت وتناولت السماعة من يد كارين والفرحة تشع من عينيها , أما آرثر فبان الأنزعاج على وجهه وهمس الى كارين عابسا: "لا أحب أن تنخرط أليزابيت كثيرا في علاقاتها الأجتماعية , أن صحتها لا تساعد على ذلك". أجابته كارين بنفاذ صبر: " ألا تعتقد أنه من الحكمة أن تترك أليزابيت تقرر ذلك بنفسها؟ أو أنك ترغب في أن تجعلها حبيسة مرضها؟". وقبل أن ترك له مجالا للأجابة ألقت شالا على كتفيها وخرجت من البيت , طفح الكيل , فلن تسمح لآرثر أن ينال من كرامتها بعد الآن! أتجهت نحو بوابة الحديقة غير مبالية برطوبة الهواء وبرودة الجو , وهبات الضباب , وعندما بلغت البوابة , أنحرفت الى اليسار وأنطلقت تسير بجانب النهر لتقطع الأميال الثلاثة التي تصلها بشلالات دلرسبك. في الصيف يحب المرء أن يقوم بمثل هذه الجولة , تحت أقواس من الأغصان الشائكة حيث تتراقص على الدرب أشعة الشمس المتسللة من بين أوراق الشجر , وتتجاوب في الآفاق موسيقى النهر , أما الآن فالنهر معكر المياه , والأشجار كئيبة ترتجف من برد الشتاء , والسماء مغطاة بستائر الضباب الرمادية. لم تلتق كارين بأحد , بعد المنعطف الأول من الطريق بدأت تحس بقشعريرة في جسمها وأنقباض في نفسها , لكنها أستمرت في دربها يحثها العناد والمكابرة , الى أن سمعت دوي المياه المنحدرة الآتي من بعيد فعلمت أنها باتت قريبة من وجهتها , ثم ما لبثت الدرب أن بدأت تتسع وتنعطف , وما أن أنعطفت معها حتى وقعت الشلالات تحت مرمى بصرها , بعد قليل وجدت نفسها في بقعة من الأرض الفضاء والى جانبها مقعد من الخشب القديم , يقبع خلفه صندوق أمتلأ بالقش والأعواد المهشمة. جلست كارين على المقعد المتداعي الرطب تنظر بكآبة الى ألسنة المياه من الأعلى , والى الزبد الأبيض المتلاطم في الأسفل , لم يكن الشلال يرتفع أكثر من خمسة عشر قدما , لكنه كان يهوي عموديا في بطن فجوة متشعبة أحدثها تآكل قلب الصخر بفعل أرتطام كتل المياه بسطحه عبر تعاقب القرون. مضى عليها بعض الوقت وهي جالسة هناك , بدأت الرطوبة الباردة تتغلغل داخل ثيابها , لكنها لم تحرك ساكنا لمغادرة مكانها , فالوحدة التي كانت تلفها وتعزلها عن بقية العالم لاءمت مزاجها المنقبض الكئيب ... وفاجأها صوت من خلفها يقول: " أما زلت منزعجة , أم أنك تفكرين ؟". أجفلت كارين , فهدير المياه حال دون سماعها وقع خطوات آرثر وهو يقترب منها , ظلت جالسة تنظر أمامها وأجابت ببرود: "لا هذا ولا ذاك". جلس آرثر الى جانبها وسأل: " ما الذي جاء بك الى هنا؟". " لماذا تبعتني؟". " لعدة أسباب". لم يكن جوابه كافيا , فشبكت يديها الباردتين بقوة وصممت على ألا تستسلم للبرد المتزايد , ولا تتحرك من مكانها حتى تشاء , مهما كانت معارضته لها , فليتجمد في مكانه أذا شاء. وأردف آرثر بصوت جاف: " رأتك أليزابيت وأنت تغادرين البيت فتظاهرت باللحاق بك لأدركك , وعندما رأيتك تتجهين الى اليسار بجانب ضفة النهر , لم أجد أمامي أي خيار ألا أن أتبعك خوفا عليك من الضباب". أجابت هازئة: " أذن خفت علي أن أضيع في الضباب , ما أرق شعورك!". " أنك تتصرفين كالأطفال , جميع أهل المنطقة هنا يخشون على صحتهم في الضباب , وعليك أن تحذي حذوهم". " آسفة حقا , أنه ليس كثيفا الى الدرجة التي يحجبك عني فلا أعود أراك!". كانت كلماتها لاذعة , لكنه أكتفى بأن طوى ذراعيه وأتكأ على ظهر المقعد وقال: " أظن أنك لا زلت منفعلة بسبب تصرفي الطائش". " تجاوزت حد الأنفعال , أن السأم يتملكني الآن , لقد تعديت حدودك وأنت تعرف ذلك". " ربما , لكن ذلك يمنعني". " لكنه يثير أشمئزازي ". لوى فمه أستهزاء وقال: "لم أكن أعرفك بهذه الحشمة يا حلوتي , بالله عليك خففي من أنفعالك !". " لم تحرجني وحدي فحسب وأنما أحرجت أليزابيت كذلك". " أرجو أن أكون أحرجتها حقا". لم تصدق كارين أذنيها فحملقت في وجهه مذهولة وقالت: " هل تعني أن ما فعلته اليوم أمام أليزابيت كان عن عمد؟". " بالطبع". " لماذا؟ ". " لأسباب أظنها واضحة ". " ما دمت حققت غايتك , لا تجرؤ أن تكرر ما فعلته معي بعد اليوم!". " ليس ذلك ضروريا". " أرجو ذلك , وألا فأنك ستكرهني على أن أتجاهل دوري في هذه الصفقة". " لم يكن أتفاقنا صفقة وأنما وعدا , لا تحاولي أن تنسي ذلك". " أنك لا تمنحني الفرصة الكافية لأفي بوعدي!". هبّ أرثر على قدميه بحركة سريعة كأنما تعب من المشاحنة , وقال: " أحسب أننا أرحنا بال أليزابيت بالنسبة الى أحد مخاوفها ". " تعني بالنسبة الينا؟". هز رأسه أيجابا. وقفت كارين تشدد كتفيها من البرد وقالت: " لم ألحظ أن أليزابيت تشعر بأي خوف علينا". " حتى هذه اللحظة أعتقد ذلك, وأنا مصمم على أن تبقى كذلك". " أذن توقف عن تصرفاتك الجائرة , حتى أتذكر دائما وعدي , أليزابيت لن تعرف الحقيقة مني أذا كان ذلك ما يقلقك". " ليس بمقدوري أن أكف عن القلق! لعنة الله على الجميع , أسمعي يا كارين! ألا تدركين أن مخاوف أليزابيت من ناحية ليزا في محلها؟". أنفرجت شفتا كارين وتراجعت قليلا الى الوراء وقالت: " أنك لا تعني..؟". " نعم , أن زواج ليزا معلق بخيط رفيع!". " كنت أظن دائما أنها سعيدة مع كلفورد". " كنت مخطئة أذن, صحيح أنه أعطاها البيت الفخم , المال , الثياب , المجوهرات والمركز, كان بأمكان ليزا أن تصبح أميرة في قصر , لو أن ذلك فقط ما كانت تتمناه من زواجها". " لكنني أعتقدت أن كليفورد يحبها , أعرف أنه متحفظ وأنه..". " وأنه سمكة مثلجة , أعرف أن مظهره يعطي مثل هذا الأنطباع بالنسبة للمرأة , لكن لا تحكمي عليه خطأ , كليفورد ليس من النوع الذي ينم مظهره على حقيقته , فهو مجنون بحب ليزا الى درجة أنه يحترق غيرة لمجرد أن يرى رجلا يكثر من نظراته اليها , لكن ليزا تريد أكثر من ذلك". بعد لحظة صمت أستطرد آرثر ببطء: " كان زواجهما محكوما عليه منذ اللحظة التي تم فيها , فهما لا يصلحان لبعضهما مطلقا , وأعجب كيف أنه دام هذه المدة الطويلة ". " أذن لماذا رضيت بالزواج منه؟". " لأن ليزا أرتكبت الخطأ الذي ترتكبه الكثير من الفتيات ". أستدار بغتة وبدأ يمشي عائدا فوق الممر وهو يتابع كلامه : " أعتقدت أنه يكفيها رجل مستعد أن يسبغ عليها المال والمجوهرات , ثم أكتشفت بعد فوات الأوان أن شيئا لا يزال مفقودا , أكتشفت أنها لا تحبه".
9 _السهم يصيب الهدف
خيم الصمت عليهما خلال الأميال الثلاثة في طريق عودتهما الى البيت , وشعرت كارين لذلك براحة نفسية تامة , لم يبق ما يقوله أحدهما للآخر ,خاصة وأنها بلغت مرحلة يمكن للصمت أن يمنحها فيها الأمان من أن تبتلي بجروح أخرى , لكن آرثر قطع حبل الصمت , عندما لاح لهما من بعيد شبح البيت يكتنفه الضباب : " قد تدوم هذه الحال عدة أيام". صدقت النبؤة , فالضباب الذي يزحف من الأرض الجرداء الشمالية أستقر كالستارة البيضاء فوق الوادي وأستمر ثلاثة أيام , كان يرق أحيانا فيسمح لتسلل بعض اللوحات المضيئة ثم ما يلبث أن يتكاثف ليلف دلرسبك في عزلة قاتمة . وصل كليفورد ظهيرة يوم الجمعة , بشرهم بأن الشمس كانت ساطعة معظم الطريق الى يورك , كانت البشرى كافية لأيقاظ ليزا من خمولها , خاصة وأن كليفورد جلب لها مجموعة من كراسات الدعاية للأماكن الجميلة التي يجدر بالمرء أن يقضي فيها أيام العطل , وأقترح عليها أن تبدأ بالتخطيط للعطلة الصيفية , أستعادت ليزا بعض حيويتها القديمة وتربعت فوق سجادة بالقرب من النار , والمشاهد المغرية لامكنة اللهو البعيدة تنتشر من حولها , موضوع العطل والرحلات التي جاء بها كليفورد أثار معظمم أهل البيت الذين كانوا قد سئموا الضباب الذي خيم على محيطهم , فأخذ كل منهم يحدد المكان الذي سيمضي فيه عطلته السنوية , ألا آرثر , فأنه ظل بمعزل عن المشاركة في الحديث , فسألته ليزا: " ألا تنوي أن تأخذ عطلة في هذه السنة؟". " أنا أقضي عطلتي الآن". نظرت اليه أليزابيت قائلة: "أنا لا أعتبر البقاء هنا عطلة يا عزيزتي , ثم ماذا عن كارين؟". " كارين تعلم بأنني لن أعارض أبدا أن تذهب أينما تشاء بدوني .... أذا أرادت". لم تكن كارين الوحيدة التي ظهرت على وجهها علائم الدهشة لجواب آرثر , وقبل أن تعقب بكلمة سبقتها أليزابيت وليزا بالكلام معا , ثم توقفتا ونظرت كل منهما الى الأخرى , أبتسمت أليزابيت لأبنتها وقالت: " تكلمي يا حبيبتي , أنني متأكدة بأنك كنت ستقولين بالضبط ما كنت أنوي قوله ". أبتسمت ليزا أبتسامة خبيثة وقالت: " لا أطن ذلك يا ماما , كنت ستستغربين فكرة ذهاب كارين لقضاء عطلة بدون آرثر , لكنني أخالفك في ذلك أعتقد أنه من الضروري أن يأخذ الأزواج عطلا منفصلة , يكفي أنهم معا باقي أيام السنة". وألتفتت الى زوجها مبتسمة وأردفت: " أعرف أن كليفورد سيعتبر فكرتي هذه في منتهى القباحة , فهو ذو عقلية جامدة , ألا يوافقني أحد على فكرتي؟". أجاب آرثر: " هذا يعتمد على الشخص الذي يصاحبك في العطلة ". ضحك الجميع لجواب آرثر , بأستثناء كليفورد الذي ألقى بكراسة الرحلات من يده وقال: " ما ترمون اليه خيانة زوجية صريحة". أنفجرت ليزا قائلة , بدون أن تنظر الى وجه زوجها الذي بدا عليه الأنزعاج: " كليفورد! أنك لن تتغير أبدا! وبعد فأنا لم أقل كلمة حول مصاحبة أي أنسان آخر في العطلة , لكنها خاطرة طرحتها , ثم لماذا لا تتحدثون عن تلك الرحلات التي يقوم بها الرجال بدون نسائهم , ويدعونها رحلات عمل؟". أستدارت برأسها لتواجه آرثر وقالت: " أما أنت يا آرثر فأعتقد أنك غيرت وجهة نظرك بالنسبة الى فكرتي". " غيرت وجهة نظري؟ من أية ناحية؟ لا أظن أنني علقت على فكرتك تعليقا شائنا". قهقهت ليزا ضاحكة وقالت: " لكنك ظننت أنني عنيت من تلك الفكرة مصاحبة شخص آخر أثناء العطلة". " مجرد تلميح لا يحتاج الى كل هذا الجدل". ألتفتت ليزا الى كارين بنظرة فضولية وقالت: " أنك فتاة محظوظة يا كارو ! يبدو أن أخي ألتحق بالمجتمع المتسامح , فالعطل بدون قيود ألآن! أنتهزي الفرصة قبل أن يرجع عن رأيه!". نهض آرثر بخفة عن كرسيه ورمق ليزا بنظرة تأنيب وقال: " أنا عدلت عن رأيي". ثم أتجه الى التلفزيون وأخذ يستمع الى الأخبار , توقف الحديث عند ذلك الحد , وشعرت كارين أن الأنظار تتجه نحوها , ألتقت عينيها بعيني آرثر , كانتا تنظران اليها بحدة وكأنهما تستفزانها ,ولكنها لم تجرؤ على قبول التحدي. أحست بالملل الشديد وتمنت لو أنها تستطيع النجاة من تيارات العداوة الجياشة المستترة التي بدأت تنبعث من ليزا ... النجاة من تخوفها أن تعرف أليزابيت الحقيقة , النجاة من العذاب الذي تعانيه بسبب تلك الليالي التي كانت ملزمة أن تقضيها مع آرثر ,ذلك الزوج شرعا , والغريب فعلا , والذي كان يقبع صامتا في السرير الى جوارها , كانت تعيش كل دقيقة من دقائق تلك الساعة المعتمة في رعب قاتل , حتى متى تستطيع التحكم بأرادتها؟ وألى متى يستطيع آرثر ذلك... أنبلج فجر الأسبوع الجديد جالبا معه الفرج من الضباب , ومن كآبته , لم يكد كليفورد ينطلق بسيارته الى مقر عمله في المدينة حتى بدأ الحجاب الأبيض ينقشع تدريجيا , ومشاهد الأحراج تظهر من جديد , وعند الظهر كانت الشمس تشرق ساطعة في كبد السماء والسحب تتلاشى , ألا من بضع بقع منشورة هنا وهناك... أنقلب الجو فجأة كأنما حل الربيع. أزاء هذا الطقس الجميل , المغري أتفق الجميع على القيام بجولة في الريف , يجلون أنفسهم الخمول الذي سببته الضباب طيلة الأيام الثقيلة الماضية , أنطلقوا في الصباح الباكر ضمن سيارتين , الأولى يقودها آرثر ومعه كارين وأليزابيت وليزا , والثانية تقودها تمزي ومعها ماجدا. كانت مشاهد الريف التي يمرون بها في غاية الروعة والجمال , الخضرة الغضة بدأت تكسو المنخفضات والمرتفعات وتطلق أوائل براعمها للحياة , النرجس ينتشر في كل مكان ,وأزهار الربيع ترقط خدود البراري بألوانها الرائعة. توقفوا بالقرب من أحدى القرى المسترخية بدلال على كتف هضبة وتفرقوا كل على هواه مسحورين بمناظر الطبيعة الأخاذة. أستحوذ جمال الطبيعة على كارين , وجعلها تنفرد وحيدة تمتع عينيها بما حولها , فجأة رنت ضحكة ليزا كالجرس تتردد مع النسمات , ألتفتت كارين نحو مصدر الضحكة , فرأت ليزا مع آرثر يتمشيان غير بعيد , تقدمت كارين منهما خطوة ثم وقفت جامدة , أذ أنطلقت من ليزا صرخة فزع حادة ,ورأتها تترنح وهي توشك على السقوط بعد أن تعثرت بمشيتها , لكن آرثر الذي كان قريبا منها أسرع فأمسك بها , أرتفعت ضحة ليزا ثانية وهي تتشبث به .... يحيطها بذراعه ورأسها يلامس كتفه. صرفت كارين نظرها عنهما , وأستدارت عمدا في الأتجاه المضاد , كان جسمها يرتعش على الرغم من أن الشمس تسطع دافئة من السماء الصافية الزرقاء , تلاشت البهجة التي كانت تغمرها قبل قليل , وأخذت تنظر أمامها كالعمياء تحاول أن تقنع نفسها بأن ما قام به آرث حيال ليزا , ما هو ألا مجرد ردة فعل طبيعية يمكن أن تصدر عن أي شخص يواجه موقفا مشابها , لكن ما الذي يهمها من كل هذه الأمور , حتى ولو كانت شكوكها مبنية على أساس من الواقع ؟ ألم ينته زواجها من آرثر؟ أغمضت كارين عينيها والألم يعصر فؤادها , ثم توجهت عائدة الى السيارة , أقبل الجميع بعد قليل , وأنطلقوا من جديد فوق الطريق الضيقة المتعرجة التي تصل بين القرى المنتشرة في تلك البقاع. أخيرا توقفوا أمام أحد المطاعم ونزلوا لتناول الغداء , أحست كارين برغبة جامحة لألقء نظرة متفحصة على ليزا , رأت في ملامحها تغيرا واضحا ,ولمحت في عينيها الزرقاوين علامات قلق عميق, بغتة ألتقت نظراتهما , فرفعت ليزا حاجبيها بتحد ظاهر , ثم أشاحت بوجهها جانبا , هل كانت تلك الأشاحة بسبب الشعور بالأثم وتكبيت الضمير؟ أحست كارين بيد أليزابيت تلمس ذراعها وسمعتها تقول: " هل أنت بخير يا حبيبتي؟". " أحس بصداع خفيف , لكنني بخير". توقف الجميع عن الحديث , وتركز أهتمامهم بكارن... أحست بالدم يتصاعد الى خديها , نظرت الى الطبق أمامها , وألتقطت ملعقتها متظاهرة بالأكل , على أنها كانت فاقد الشهية تماما . مالت ماجدا نحوها وعرضت عليها قرصين من الأسبرين , فتقبلتهما شاكرة. سألتها أليزابيت التي كان الأهتمام ما زال باديا على وجهها: "أتفضلين العودة الى البيت يا حبيبتي؟". هزت كارين رأسها بالنفي , وقالت: " كلا! أن ذلك يقطع عليكم بهجة هذا اليوم الجميل , صدقيني أنا بخير". أصطنعت أبتسامة , ثم رفعت رأسها ووجهت نظرها مباشرة الى عيني آرثر الذي كان بدوره ينظر الى عينيها نظرات نفاذة , كأنما يحاول أن يخترق بها جدار مظهرها الخارجي ويصل الى أعماق أعماقها, وأخيرا سأل: " هل أنت بخير يا كارو؟". أومأت برأسها من غير كلام فتظاهر بالأققتناع وطلب القهوة , فارقها أرتباكها وهي تتناول قهوتها , وشعرت بشيء من الراحة , لكنها كانت تدرك أيضا أنها بحاجة الى كثير من المران في المستقبل ,والى دراية أفضل بكيفية أخفاء مشاعرها. غادروا المطعم وأستمروا في تنقلهم من مكان الى آخر حتى قاربت الرابعة , توقفوا في بلدة سياحية , ودخلوا أحد المقاهي لينعموا ببعض الراحة وتناول الشاي , بعد أستراحة قصيرة أبدت النساء رغبتهن بالتجول في سوق البلدة لشراء بعض الحاجيات ... بأستثناء كارين التي لم تذهب معهن , بل ظلت واقفة الى جانب الطريق مع آرثر ينتظرن عودتهن, فجأة مد يده كالطلقة , وشدها اليه بقوة في اللحظة التي مرت بجوارها سيارة ضخمة كانت مقبلة من الأتجاه المقابل بسرعة هائلة , أرتعش جسمها بشدة , ليس من الخطر الذي أحدق بها منذ هنيهة , وكاد يودي بحياتها تحت عجلات السيارة الضخمة ,وأنما من تطويق آرثر لها بذراعيه القويتين , أزدردت ريقها بصعوبة بينما أرخى آرثر يديه عنها وهو يقول: " أنتبهي لنفسك ! الشارع ضيق لا يسمح بأحلام اليقظة". أستعادت رشدها قليلا... وردت عليه بكبريائ: "لم أكن أحلم". " حسنا , مهما كنت تفعلين فقد أشرفت على الهلاك". سترت كارين دمعتين كانتا تسيلان من عينيها , وقالت بأنفعال: " لم أكن أتوقع مرور السيارة بتلك السرعة ". " حسنا , دعينا من ذلك". " أرجو ألا تكلمني بعد الآن وكأنني ساذجة قاصرة العقل". " أنا لم أقل كذلك". " ولا تصرخ في وجهي!". قالت ذلك وحاول الأبتعاد عنه بسرعة , فأمسك بها وقال: " أنا لا أصرخ في وجهك ... أرجو أن تخفضي صوتك , أذا كنت تريدين الشجار , أرجئي ذلك حتى نعود الى البيت ". " أوه , كم أنت عنيد!". " يمكن أن أصفك بالصفة ذاتها , ماذا دهاك اليوم بحق الشيطان؟". " وهل أنت بحاجة للسؤال؟". في تلك اللحظة ظهرت أليزابيت من بعيد , فأردفت كارين : " تلك أليزابيت , أنظر!". " أسمعي , أكون شاكرا جدا لو أنك حاولت أحتمال وجودي بشيء من الليباقة والكياسة حتى نصل الى دلرسبك ... من أجلها هي أن لم يكن من أجلي". أجابت بصوت أبرد من الجليد: "لاتشغل بالك فأنا لم أنس دوري , لكنني لسوء الحظ لا أجيد التمثيل كما تجيده أنت". سمعته يشهق فأدركت أن سهمها أصاب الهدف . لم يجبها بشيء , بل تأبط ذراعها فلم تعارض , لكنها هذه المرة لم تشعر بالحرارة تسري في أوصالها , أنما ببرودة الحقد والكراهية . كانت أليزابيت تقف أمام واجهة أحد المحلات التجارية الكبيرة , أدارت وجهها فرأتهما وأبتسمت , أقتربا منها وأذا بها تشير الى واجهة المحل وتقول: " أنظري , أليست تلك الحقيبة الهندية جميلة؟ هل تعجبك؟ أو ندخل الى الداخل ونرى كل ما فيه؟". ترددت كارين , بينما لوى فمه بشبه أبتسامة تدل على تبرم الرجال من عملية أختيار النساء لمشترياتهن وقال: " حسنا , أدخلا أنتما , سأنتظركما هنا". لكن أليزابيت لم توافق على ذلك وقالت: " كلا , أريدك أن تساهم بأختيار شيء". دخلت كارين المحل التجاري في أثر أليزابيت ,من دون أن تنذرها حاستها السادسة بشيء , كان همها الوحيد أن تبذل قصارى جهدها لمنع أليزابيت من أختيار هدية لها باهظة الثمن , ذلك أن المحل التجاري كان ضخما , يحوي الكثير من القطع الثمينة النادرة , ألتقطت كارين أنفاسها عندما سمعت من البائعة سعر الحقيبة , وحمدت الله على أن الحقيبة أو شبيهاتها لم تحظ بأستحسان أحد , وأخذت تختلس النظر الى القطع المعروضة علها تجد قطعة متوسطة الثمن لا تثقل كاهلها بالمنة , وتحظى في الوقت ذاته برضى أليزابيت الفائقة الكرم , وفجأة أدركت بحسها الخفي المأساة التي تجري أمامها ,أن أليزابيت كانت تريد أن تشتري هدايا تذكارية بمناسبة الذكرى الثالثة لزواجها من آرثر , ويا لها من ذكرى! أنتقت هدية ثمينة أشترتها لآرثر , ثم أشترت محفظتين لكل من ماجدا وامزي , وعلبة فضية مزركشة لليزا , ثم ألتفتت الى كارين مبتسمة وقالت: " والآن أختاري يا حبيبتي شيئا يعجبك أنت , أذ من الممكن أن أختار لك هدية لا تناسب ذوقك". تدخلت البائعة هذه المرة ,وقالت موجهة حديثها الى أليزابيت : " في الطابق العلوي مجموعة جميلة من الهدايا , وأنا متأكدة يا سيدتي أنكم ستجدون هناك ما يرضي السيدة". لم تنتظر أليزابيت رأي أحد بل بدأت تصعد الدرجات الى الأعلى قائلة: " أتبعوني , أنني أشعر بالبهجة هذا اليوم". قال آرثر وهو يتبعها: " أنك دائما تشعرين بالبهجة وأنت تصرفين نقودك على عائلتك , لكن أرجو ألا تبذريها أكثر من اللازم". أجابت أليزابيت ببساطة: " لن آخذ شيئا معي , أنت تعرف ذلك". صمت آرثر ولم يجب بحرف ,بينما أخذت أليزابيت تنقل بصرها من رف الى رف حتى وقع على طائر أزرق من الكريستال , نظر الجميع الى الطائر , كان متقن الصنع جميلا , فارشا جناحيه كأنما يهم بالطيران عن غصنه الكريستالي ,وعندما ألتفتت أليزابيت الى كارين بنظرة جانبية: " لم يعد أمامنا أي سؤال , رائع جدا وأريد أن أهديك أياه دون أي أعتراض يا عزيزتي". لم تنتظر أليزابيت منها جواب , بل طلبت من البائعة أن تضعه في علبته , تحرك آرثر بأتجاه الدرج , ثم توقف عندما رأى ليزا وماجدا تصعدان الى الأعلى , أقبلت ليزا بأنشراح تقول: " ما أجمل هذه المعروضات , هل أشتريت شيئا ماما؟ شيئا من أجلي ". رد عليها آرثر قائلا: " أيتها الحسودة اللعوب , أنتظري قليلا وسترين". نظرت ليزا اليه بدلال , ثم بدأت تتجول بين الرفوف متفحصة القطع الجميلة , أما كارين فأنا أمسكت جرسا زجاجيا لفت أنتباهها بروعة صنعه , كان بجوار جرس أكبر حجما , لكن كارين تذكرت بأنها لا تحمل من النقود ما يمكنها من شراء الجرس الكبير , فآثرت شراء الصغيرة هدية منها لأليزابيت , وردا على هديتها , حملت الجرس الصغير الى البائعة التي كانت ما تزال تبحث عن علبة كبيرة تستوعب الطائر الأزرق , فجأة سمعت صوت ليزا وهي تشير الى غرفة جانبية تسأل عن محتوياتها , كانت غرفة اللوحات ... أتجهت كارين نحو الغرفة التي أشارت اليها ليزا وتبعها الجميع , وأذ بها تجمد في مكانها وقد سمرها الرعب , غامت كل اللوحات التي كانت معلقة على الجدران أمام عينيها ألا لوحة وحيدة في أطار أبيض. بدا لها أن اللوحة تكبر تدريجيا , حتى غطت الجدار بأكمله وكأنها تشير اليها بأصبع الأتهام , وقفت مكانها مشدودة ترتعش من الفزع ,لا تقوى على الحركة , لم يعد أمامها متسع من الوقت للفرار , ولم تجرؤ أن تلتفت الى الوراء حيث كان يقف آرثر , سمعت صوت أليزابيت ينبعث وكأنه من مكان سحيق : " في اللوحة خروج عن العفة , لكنها رائعة , ألا يحق للفنان أن يصور المرأة وهي عارية؟". صاح آرثر بصوت خشن منفعل: " كلا أنها تجارية رخيصة .... أنا....". لكنه توقف فجأة أذ أنبعث من جانبه صرخة متحشرجة , فألتفت ليرى ليزا تتكوم على نفسها , وفي اللحظة التالية كانت تهوى على الأ رض غائبة عن الوعي.
10_لا تدعي الطائر يحلق
هرعت البائعة راكضة , شهقت أليزابيت وسقطت على ركبتيها وأطلقت ماجدا وتمزي صرختي فزع , بينما صاح آرثر: " أرجعوا الى الخلف ! أعطوني كرسيا". أسرعت البائعة الخائفة تحضر كرسيا , بينما جثا آرثر على ركبتيه بجانب ليزا وفتح ياقة معطفها , ثم حضنها بين ذراعيه وحملها وأجلسها على الكرسي , أخذ يقوم ببعض الأسعافات لأعادتها الى وعيها , أخيرا تنفس الصعداء عندما تحركت بين يديه وأطلقت أنة ألم طويلة. همس قائلا: " هل أنت بخير؟ لا تخافي يا حبيبتي". أقتربت ماجدا تحمل زجاجة بيدها وتقول: " أليك بعض الأملاح المنعشة". تناول آرثر الزجاجة , فتحها وقربها من أنف ليزا... أطلقت أنة ثانية وأبعدت الزجاجة عنها وهمست بصوت ضعيف: " ماذا حدث؟ هل أغمي عليّ؟". قال آرثر وهو يقرب منها كأس ماء: " أظن ذلك , أشربي بعض الماء ". بعد لحظات أخذت ليزا نفسا طويلا وهي ترتعش بقوة وقالت متلعثمة: " خذني الى البيت يا آرثر ... أشعر بأنني مريضة .... أنا خائفة". " لا تخافي , سنأخذك الى البيت حالما تستطيعين الوقوف على قدميك ,لولا ضيق السلم لحملتك بين يدي الى الأسفل". بعد قليل تحاملت على نفسها وأخذت تجر قدميها جرا , مستندة على كتف آرثر الذي نزل بها الى الطابق الأرضي بتأن ولطف , جمعت كارين الحقيبة والرزمة اللتين سقطتا من ليزا , وتبعت الجميع وهي تهتز وتوشك أن تهار , تمنت لو أنها تستطيع الهرب من المتجر تحمل معها كآبتها وتشاؤمها. أبدت صاحبة المحل التجاري أهتماما شديدا بما حدث , وعرضت عليهم أستدعاء الطبيب , غير أن آرثر أعتذر قائلا أن من الأفضل نقلها الى البيت بسرعة. كانت ليزا بحاجة شديدة الى الراحة , فأستلقت على المقعد الخلفي للسيارة , وأنطلق آرثر ترافقه أليزابيت , على أن تتبعهم كارين برفقة ماجدا وتمزي. وصلت كارين الى البيت بعد ساعة من وصول آرثر وهي لا تزال تشعر بالخوف والكآبة , الخوف من لقائها به , دخلت القاعة بخطى متباطئة متوجهة الى غرفة االجلوس , كان آرثر يجلس بجوار الموقد , لا يبدو على ملامحه شيء مما يعتمل في صدره , وعندما رآها قال بصوت لا يبعث على الراحة: " بدأنا نقلق عليك". أشاحت كارين بنظرها عنه وسألت: " كيف حال ليزا؟". أجابتها أليزابيت التي كانت غارقة في مقعدها المريح بجوار النار : " أظنها نائمة الآن , أتجهت الى سريرها حال وصولنا ولم ترض أن تتناول طعاما أو شرابا , كذلك لم توافق على أستدعاء طبيب , أقلقني جدا ما أصابها اليوم". هزت كارين رأسها وتابعت أليزابيت حديثها: " ما أصاب ليزا مثير للقلق حقا , أنطفأت فجأة كأنطفاء النور , وعندما أستفاقت من أغمائها بدت مخيفة ... وجه أبيض كوجوه الموتى , ليتها تسمح بأجراء فحص شامل لها". تنهد آرثر وقال: "أصبحت ليزا كبيرة الآن , دعيها تفعل ما يناسبها , أعرف أن من الصعب عليك ألا تتدخلي بشؤون بالرغم أن من الصعب عليك ألا تتدخلي بشؤون أولادك بالرغم من أنهم غدوا كبارا , لكن عليك أن تحاولي". ثم ألتفت الى كارين وشملها بنظرة ساخرة وفاجأها بقوله: " ألا تودين أن يكون لك طفل صغير يا حبيبتي؟". أحست كارين بأنقباض شديد , ودت لو تضربه , ودت لو تستطيع أن تعيد اليه بعض تلك الكلمات اللاذعة المؤلمة التي يوجهها اليها دائما , جمعت قبضة يدها وأرتجف صوتها عندما أجابته قائلة: " في الوقت الحاضر لا, وأظن أنك تشاركني مثل هذا الشعور". تدخلت أليزابيت بالحديث وقالت: " آرثر ! هل أنت مشتاق لأن تجعلني جدة؟". " ألا تروق لك الفكرة؟". " بالطبع! أنني أحب كثيرا أن أحضن حفيدي الأول بين ذراعي قبل....". لم تكمل أليزابيت قولها بل غيرت الموضوع وسألت: " آرثر , هل أدخلت جميع الأغراض التي جلبناها معنا؟". " كلا , لا تزال في السيارة , سأذهب لأحضارها". خرج من الغرفة وخيم الصمت , شعرت كارين أن الجو مناسب لأن تقدم الهدية الى أليزابيت , أخرجت الجرس الزجاجي من حقيبتها وقدمته اليها. تجلت السعادة على وجه أليزابيت التي وقفت لتقبل كارين...وصاحت: " آه يا عزيزتي ! ما هذه المفاجأة السارة! كم أنا محظوظة بهذه العائلة المنحبة". كانت كارين تعرف أنه من الصعب ألا يحب الأنسان أليزابيت , أحست بدموع المودة تتسرب من عينيها عندما أمسكت بدورها هدية أليزابيت , الطائر الزجاجي الأزرق , وقالت: "أنه طائر أسطوري !". أجفلت فجأة عندما شعرت بحركة خلفها , لم تسمع خطوات آرثر الخفيفة على السجادة , بل أحست بأنفاسه على شعرها , وقف ينظر الى الطائر الأزرق الذي كانت تمسكه بكلتا يديها , وسمعته يقول: " أحذري أن يطير منك". نظرت اليه أليزابيت موبخة: " ألا تستحي أيها الساخر الماكر!". ثم ألتفتت الى كارين قائلة: " تجاهليه عندما يضايقك يا كارين ". لم تقل كارين شيئا , بل تقدمت الى الكوة الصغيرة بجانب الموقد حيث تضع أليزابيت قطعها الثمينة ,ووضعت الطائر الأزرق فيها , وعندما أستدارت شاهدت آرثر يقف بجوار أليزابيت وعلائم التجهم بادية على وجهه , وهو يقول: " من الأفضل أن تنامي مبكرة هذه الليلة , لتكوني مستعدة لأجراء الفحوصات اللازمة كما تعلمين". كست الكآبة وجه أليزابيت , تنهدت ثم قالت: " أخصائي جديد؟ هل هذا ضروري؟". " نعم". كانت لهجة آرثر حازمة , تردد قليلا ونظر الى ساعته , بغتة قال : " يجب أن أغادر البيت الآن". " لكن لماذا.......؟". هز رأسه , وأنحنى يقيب أليزابيت المستغربة من مغادرته المفاجئة وقال: " أرجو معذرتك يا ماما , أنا في حالة تدعوني الى الخروج قليلا". وقبل أن يغادر الغرفة ألتفت الى كارين وأردف: " لا تنتظرينني , من الممكن أن أتأخر". لم تستطع كارين مغادرة الغرفة مباشرة بعد خروج آرثر ,كانت تشعر بالحرج من نظرات أليزابيت الأستفسارية حول السبب الذي دفع آرثر للخروج من البيت في تلك الساعة , أذا كان مزاجه لا يسمح له بالبقاء , فهل كان بأستطاعتها منعه من الخروج ؟ أنها آخر من يفكر آرثر بالأذعان له , ثم لماذا تحاول منعه من الخروج ؟ أن خروجه يسبب لها كثيرا من الراحة , خاصة اليوم وقد عانت ما فيه الكفاية. أعدت ماجدا عشاء خفيفا , لم تأكل منه أليزابيت ألا القليل , أما كارين فلم تكن لها شهية للطعام , حوالي التاسعة أوت أليزابيت الى سريرها , بعد أن أوصتها بأبنتها ليزا التي ما تزال نائمة , فتطوعت كارين للسهر على راحتها. بعد أن تأكدت كارين من نوم أليزابيت , دخلت المطبخ لتعد طعاما تحمله الى ليزا , فسألتها ماجدا : " هل ستنتظرين عودة آرثر؟". " بعد أطعام ليزا سأدخل المام وأغسل شعري , من المحتمل أن يعود بعد أن أنتهي من ذلك , أذا كنت تريدين أن تأوي الى سريرك فلا تتأخري , كان اليوم متعبا كما تعلمين". عملت ماجدا بنصيحة كارين وذهبت لتنام , أما هي فأنها حملت صينية الطعام وأتجهت الى غرفة ليزا وطرقت على الباب , لم تسمع جوابا , بل سمعت أنينا ينبعث من الداخل , فتحت الباب يسرعة مستفهمة: " ليزا....؟". " من هناك؟". " أنا كارين أتيتك بعشاء خفيف , يجب أن تأكلي شيئا ". " أبعديه عني , لا أريد أن آكل شيئا". نظرت كارين الى الجسم المكوم في الفراش , أحست برغبة شديدة أن تتركها وشأنها من غير مبالاة ,لكنها قاومت تلك الرغبة ولمست رأس ليزا الأشقر المستلقي على الوسادة الليلكية .... وسألت: " ليزا , ماذا بك؟". تفرست ليزا بوجه كارين منفعلة وقالت: " ماذا بي؟ لم أعد أحتمل! أتمنى لو أموت وأستريح!". " هل بمقدور أحد أن يقدم لك يد المساعدة؟". مدت ليزا يدها الى كأس الحليب , جرعت منه جرعة ثم صاحت: " بالله عليك... أتركين وسأني!". لم تيأس كارين , كانت ترغب في سبر غور هذه الأزمة الجديدة , والتخفيف من حدتها , من أجل أليزابيت على الأقل , أن لم يكن من أجل أي شيء آخر , قالت: " لكنني لا أستطيع أن أتركك على هذه الحال , أخبريني ما بك؟". تنهدت ليزا وأطلقت أنة طويلة , ثم غاصت في فراشها وقالت: " ليس لي خلاص مما أنا فيه , ستعرفين ما بي مهما بالغت في أخفاء ذلك الآن ... أنا حامل" أنفرجت شفتا كارين دهشة , تصورت عدة أحتمالات لحالة الشقاء التي تعاني منها ليزا ,لكن هذا لم يخطر على بالها أبدا , تلعثمت كارين قللا عندما سألت: " لكن ألست سعيدة؟". أجابت ليزا مهتاجة: "سعيدة! قولي محطمة ! آخر ما أتمناه في حياتي هو الطفل". " لكن أمك وكليف! كم سيسعدهما هذا النبأ , أوه ليزا , ألا تتصورين ماذا يعني هذا بالنسبة الى أمك ؟ ألم خبريها؟". " كلا , لم أكن متأكدة , بل لم أكن أريد أن أصدق نفسي , لكنني متأكدة الآن , كارين , أنا خائفة , من الألم , من تأثير الحمل على شكلي , من أن يتمخض الحمل عن أنثى , ومعنى ذلك أن أحمل مرة أخرى , لأن كليف يريد ذكرا , أن له أخا غنيا لم يتزوج, ولا يريد أن يتزوج , وكليف يريد وريثا له ولأخيه , يا ألهي ليتني لم أتزوج! لم أتزوج كليف!". نسيت كارين مشاكلها وأخذت ليزا بين ذراعيها , وتمتمت تهدىء من روعها: " لا بأس يا عزيزتي , أنت خائفة لأنها المرة الأولى , ولأنك كنت مريضة بتلك الحمى ... لكن لا تفزعي , الأمر لا يستدعي كل هذا الخوف". أجهشت ليزا باكية وقالت: " لكنك تجهلين مشاكل الحمل...لم تمري بهذه التجربة بعد". " لا تزعجي نفسك بهذا الأمر الآن , فكري فقط بنفسك وبالسعادة التي سيجلبها هذا النبأ الى أمك التي طالما تمنت أن ترى لك طفلا, أنها تحبك أكثر من أي أنسان آخر في الوجود , ومن يدري , فقد يطيل هذا من عمرها!". كفكفت ليزا دموعها المنسابة على خديها , وقالت: " حدثت نفسي بذلك ,آه كم أنا أنانية يا كارين! لكن ما العمل؟ أنا لا أستطيع تحمل هذه المعاناة". أدهش كارين أعتراف ليزا بأنانيتها , لكنها قالت بهدوء: " الأنانيون الحقيقين لا يعترفون بأنانيتهم". قالت ليزا بأنفعال: " ثقي بأنني أحاول تحمل ما أنا فيه ,لكنني أشك في قدرتي على الأحتمال... الجميع كانوا ينظرون الي نظرة خاصة , أحبني والدي حبا شدبدا , وكنت في عيني أمي معصومة عن الخطأ , قدم لي آرثر وكليف الحماية والرعاية , ومع ذلك فأنا لا أستطيع أن أظل ليزا التي يعرفونها , تفهمينني يا كارين؟ أنا لا أستطيع أن أعيش التقاليد التي أعتادوا عليها , مثلا أنا أحب أمي , لكنني لا أستطيع أن أكون مثلها , لا أستطيع أن أسلك الطريق ذاتها التي سلكتها وتسلكها , أن أحافظ على التقاليد ذاتها التي تتمسك بها , الأخلاص لرجل واحد حتى ساعة الموت , الطلاق منسوخ من قاموس العائلة , أما بالنسبة لعائلة كليف فالمسألة أدهى وأمر , أن مجرد التفكير بالطلاق غير مسموح به على الأطلاق". أحست كارين بقشعريرة باردة تسري في أوصالها للكلمات الثائرة التي كانت تنطلق من فم ليزا , سألت هامسة: " هل يعني هذا أنك ترغبين الأنفصال عن كليف؟". " كيف أستطيع ذلك الآن؟ بعد أن حملت". " لكنني متأكدة من أن كليف يحبك". " يحبني؟ قولي يمتلكني , يحاول ما لا يمكن أن أكون... زوجة مثالية ,المشكلة أنني لا أملك الشجاعة الكافية لأتركه وأحصل على حريتي , لأعيش الحياة التي أريدها أنا , لا التي تريدني عائلتي أن أعيشها , لا أستطيع أن أحطم الأوهام التي بنوها من حولي , يا ألهي ,حاولت أن أكون كما أراد أبي وأمي وآرثر وكليف أن أكون , ولكن.......". أغرقت رأسها في الوسادة شاحبة منهكة , مرت لحظات طويلة وكارين صامتة , ثم تنهدت قائلة: " آسفة يا ليزا , لا أدري ما أقول ". " لا يوجد ما يقال , وقعت في الشرك وأنتهى". كان لكلمات ليزا صدى حزين في قلب كارين , هي نفسها وقعت في شرك الظروف , أحست بأن المسافة التي كانت تبعدها عن ليزا بدأت تتقلص , قالت بهدوء: " لا تعتقدي أن الأمر خطير الى هذا الحد , ستعتادين على فكرة الطفل ... عديني أنك ستخبرين أمك عاجلا". نظرت ليزا الى كارين بعينين دامعتين وهمست: " أشعر بالراحة الآن لأنني أخبرتك". مدت يدها وتناولت شطرة , وأخذت تأكلها بشهية , ثم قالت: " كارين , لا تخبري أحدا بما حدثتك". " بالتأكيد لن أفعل". " ولا حتى آرثر , خاصة آرثر , عديني". " أعدك". هدأت ليزا أخيرا ومالت جفونها للنوم , أخذت كارين تهبط درجات السلم بخطوات ثقيلة متجهة نحو المطبخ , كانت الساعة تدق الحادية عشرة معكرة صفو السكون في البيت المعتم , عندما أنهت عملها في المطبخ , وراحت تصعد من جديد بأتجاه غرفتها. دخلت غرفة الحمام حيث خلعت ثيابها وجلست على طرف الحوض , كان البيت الكبير ساكنا لا صوت فيه ولا حركة , فجأة سمعت صوتا جعلها ترتعش ثم تجمد في مكانها , تردد الصوت مرة ثانية , لم يكن صوت عجلات السيارة وهي تقف أمام البيت , لكن صوت صرخة يائسة أطلقها حيوان ضعيف من الغابة البعيدة , ضحية لا حول لها ولا قو وقعت فريسة بين أنياب وحش كاسر .... كم من الضحايا البريئة في هذا العالم! بغتة أدارت الحنفية كي يطغى صوت الماء على تلك الصرخات المفزعة اليائسة. راحت تحدث نفسها وهي تستمتع بالماء الساخن المنهمر على جسمها : " أذن ليزا ستلد طفلا , كم ستبتهج أليزابيت عند سماعها النبأ , لكم من سيزف لها البشرى؟ لا يمكنها أن تفعل ذلك هي , فقد قطعت على نفسها عهدا ألا تخبر أحدا ," وسألت نفسها , ترى لماذا ألحت عليها ليزا ألا يعلم آرثر شيئا؟ .... بغتة قفزت من مكانها وأرتدت عباءة الحمام وهي تحس بالرعشة تهز أوصالها من جديد , أنتابها خوف مبهم لن يزوا ألا بعد مجيء آرثر أو بالأحرى حتى تفسح ساعات الليل الطويلة المجال للفجر الجديد , خرجت من الحمام الى غرفتها , وعلى سريرها رأت ما جعلها تجمد في مكانها , رأت لوحة مستطيلة كبيرة , لم تكن موجودة هناك من قبل , حملقت في اللوحة يساورها خاطر رهيب ... من جاء بهذه اللوحة الى هنا؟ فجأة رفعت يدها الى عنقها مجفلة عندما سمعت صوت آرثر: " هذه لك , لماذا لا تنظرين اليها جيدا؟". أستدارت تريد الهرب , ألا أنه كان أسبق منها فسد الباب بجسمه الطويل ,ثم دفعها الى الداخل ,وأمسك باللوحة ووضعها أمام عينيها , كانت نسخة طبق الأصل من الصورة التي غيرت مجرى حياتها , رفعت يديها المرتجفتين الى وجهها ,أرادت أن تهرب الى أي مكان طلبا للنجدة , لكنه كان يسد الطريق أمامها صائحا: " أنظري اليها , أنظري!". " لا!". " لماذا؟ العالم كله ينظر اليها الآن , العالم كله يعلقها في الصالات!". نظرت متوسلة الى عينيه الخاليتين من الرحمة وتمتمت: " أرجوك ... لا تفتح الموضوع ثانية! لا...". أجاب وخطوط القسوة تطوق فمه والأتهام يشتعل في عينيه: " تخجلين! فات أوان الخجل , أرى من الواجب أن نعلقها على جدرلننا , ألا توافقين؟". مدت يديها ضارعة وهي تقول: " آرثر , آرثر كفى ! لم أعد أقوى على الأحتمال!". " وماذا عني أنا؟ كيف تظنينني أشعر وأنا على هذه الحال؟ كيف أشعر وأنا أعلم أنك وفنيس كاين .....؟ سنتان كاماتان وأنا أتعذب وأحترق, أعلم وأتساءل.... كم مرة خنتني معه؟". أغمضت عينيها يمزقها العذاب , لكنه كان قاسيا عديم الأحساس , وأمسك بكتفيها ولوى جسمها النحيل مكرها أياها على مواجهته , وأردف ثائرا: " أخبريني , أخبريني الحقيقة , أذا كنت تتذكرين! وستيفان أسي هل كان يحضر جلستكما ؟ أخبريني هل خنتني معه هو الآخر؟ ". تحركت تحت قبضته الحديدية وتأوهت: " أخبرتك الحقيقة مرات ومرات! لم أكن عشيقة فنيس كاين أبدا!لماذا لا تصدقني ؟ وستيفان أسي لم أقابله ألا مرة واحدة في حياتي , أنا لم أخنك أبدا , صدقني!". أنفجر كالعاصفة:؟ " يا ألهي! كيف تستطيعين الأصرار على تلك القصة الملفقة؟ كيف تنكرين هذه الصورة؟". وهز رأسه بأتجاه الصورة , ثم صاح وقد أمتقع لونه من الغضب : " يا ألهي! زوجتي أنا تعرض جسمها ليراه العالم كله! ليتفرس فيه كل فاسق على هذه الأرض! ثم تأتين وتنكرين فعلتك القذرة بهذه البساطة! ومع من؟ مع رجلين يعرف الجميع أنهما لا يتورعان عن أقتراف كل رذيبة وفجور , هل تظنين بأنني مغل مجنون؟". صاحت بأنفعال عصبي: " نعم , أنا أنكر ذلك ... لا أستطيع أن أوضح الأمر أكثر , لكن كل كلمة صدرت مني كانت صادقة , الرجل الوحيد الذي عرفته في حياتي هو أنت , آه , كيف أستطيع أن أجعلك تصدقني؟". " أصدقك؟". قال ذلك بقوة جعلتها تصرخ من الألم وأردف: " كنت أحمق فيما مضى , لكنني صحوت الآن , صحوت من كابوس سنتين في الجحيم , في النار, كيف خنتني؟ كيف منحت ذلك الفاجر ما هو حق زوجك فقط , حقي أنا؟". جرها اليه بعنف فصاحت متألمة: " أنك تؤلمني ... دعني , دعني!". " أؤلمك؟ أنك زوجتي , أنك من حقي ,لن تفلتي مني هذه المرة!". حاولت أن تتملص من بين يديه ,لكن ذراعيه كانتا تطبقان عليها بلا حمة وقال: لا أظنك ستصرخين , لأنك لا ترغبين بأن يحضر الجميع ليروا صورتك الجميلة ويعرفوا حقيقتك". أستماتت في الدفاع عن نفسها وأستمر في هجومه العنيف , تعثرت بطرف السرير فأفلتت منه وهوت على الأرض ... وقفت ثانية ليبدأ هجومه من جديد , غمرت الدموع خديها من الألم والغضب معا , الغضب لكبريائها الجريحة! لم تخفف دموعها من حدة هجومه الشرس , أحست بضعفها أمام قوته الهائلة , لكنها لم تيأس , وأخيرا بدأت تتلاشى , غامت عيناها وشعرت بالغرفة تدور من حولها ثم تهاوت متداعية وغابت عن الوعي....
11_فات أوان التمني
أستيقظت كارين في وقت متأخر من صبيحة اليوم التالي لتجد نفسها في سريرها والى جانبها قدح من الشاي. كانت وحيدة في الغرفة فالسرير المجاور كان خاليا من صاحبه , تذكرت حادثة ليلة أمس فشعرت بالأشمئزاز وغالبت في نفسها الميل الى الغثيان , أحست ببعض الرضوض المؤلمة وبصداع في رأسها , وبأنحطاط شامل في معنوياتها. نزلت عن سريرها وأرتدت ثيابها , وأخذت تسرح شعرها بدون أعتناء , نظرت الى المرآة فهالتها الزرقة تحت عينيها , لا يمكنها حتما أن تنزل الى القاعة وهي على تلك الحال! تبدو مخيفة! جلست أمام المرآة تغلبها الحيرة , ماذا تفعل لتزيل آثار الكدمات عن وجهها ؟ فجأة سمعت طرقا خفيفا على الباب. لا يمكن أن يكون الطارق آرثر , فهو ليس من الدماثة بحيث يطرق على الباب ... نظرت الى الباب وأنتظرت هنيهة ,من الطارق يا ترى؟ أخيرا هزت كتفيها وهتفت بصوت متعب: " أدخل". كانت ليزا , تقف بوجه شاحب ويدين نحيلتين تمسكان بطرفي عباءة نومها , نظرت خلفها قبل أن تغلق الباب , كأنما تخشى أن يراها أحد , حملقت كارين مستغربة وسألتها: " ماذا بك؟ هل تحسين بشيء؟". هزت ليزا رأسها وقالت متجهمة: " ليس أكثر من المعتاد ... رغبت أن أتحرك قليلا , رباه لو بأمكاني أن...". أسرعت كارين نحوها تتجلى في عينيها تعابير الخوف: "ليزا ! هل تفكرين أن.....". " كلا , أنا لا أفكر بشيء ما تتوهمين". وجلست ليزا على طرف السرير ودفنت وجها بين راحتي يديها وتابعت حديثها: "أنا خائفة جدا , تعرفين بأنني من أولئك الناس الذين يتركون الأمور مهما كانت سيئة تسير على هواها , أملا في أن تتحسن في النهاية , لذلك فأن خوفي الآن ليس على نفسي... هل أنت بخير يا كارين؟". نظرت كارين مستغربة: " ماذا تعنين يا ليزا؟". وقفت ليزا وأخذت تذرع الغرفة جيئة وذهابا ثم قالت: " سمعتكما الليلة الماضية , وتساءلت ... هل كان آرثر ثملا؟". حاولت كارين أن تخفي الرعشة التي ألمت بها , ورفعت رأسها بكبرياء تدوعو الى الشفقة وقالت: " بالطبع لا! لا شك أنك تخيلت ما تظنين أنك سمعته". أجابت ليزا بصراحة: " كلا لم أخيل , بعد أن تركتني ليلة أمس لم أستطع النوم , نزلت من غرفتي والألم يعصر معدتي والبرد يتغلغل في أطرافي , فكرت أن أتناول شرابا حارا , وأذا بآرثر يدخل فشعرت بخوف شديد". " خفت؟ لماذا؟". " كان ثملا , وأنا أعرفه جيدا , أنه عنيف لا يتورع عن أرتكاب أي فعل وهو على تلك الحال ... تركته وصعدت الى غرفتي , وبعد ذلك... كارين عل الأمور على ما يرام؟". حاولت كارين جاهدة أن تحافظ على هدوء صوتها وهي تجيب : " لماذا لا تكون كذلك؟ حدثت مشادة بسيطة بيننا , هذا كل ما هناك". " أتمنى أن يكون ما تقولينه صحيحا". " ليزا ما الذي ترمين اليه؟". أدرات ليزا ظهرها الى كارين ووقفت أزاء النافذة وسألت: " كارين هل حدث شيء بينكما وأنتما في جنوب أميركا؟ لأنك على ما أعتقد تركته هناك ورجعت الى لندن". " ماذا تقولين؟ هذا غير صحيح". أستدارت ليزا وقالت: " رأيتك في أحد الأيام , منذ سنة تقريبا , وحاولت اللحاق بك لكن الشارع كان مزدحما فغبت عن نظري". أحست كارين بأرهاق شديد , أخذت شفتها ترتجف فحاولت أن تتغلب على ضعفها , لماذا تصر على الأنكار بعد كل ما حصل؟ نظرت الى ليزا وقالت: " أن كنت لا تعرفين القصة بعد ,فأنا لم أذهب الى جنوب أميركا قط , لكن آرثر أصر أن يظل الأمر سرا , لأنه لا يريد أليزابيت أن تعرف بأننا أفترقنا ولالماذا أفترقنا , نحن هنا فقط لأن الأطباء قالوا.......". صمتت كارين ولم تكمل جملتها الأخيرة , شهقت ليزا ورفعت يدها الى فمها ثم قالت: " أذن فالمسألة تتعلق ..... تقصدين......". " أقصد أن كل شيء أنتهى , زواجنا أنتهى , كل ما بيني وبين آرث أنتهى". نظرت ليزا بعينين مرتعبتين الى كارين وقالت: "لماذا ... لماذا لم خبريني؟". " ما الفائدة؟ هل كان بمقدورك أن تفعلي شيئا؟". أستدارت ليزا ثانية وأخذت تنظر من النافذة , ظلت صامتة ثم همست: " هل أكتشف آرثر شيئا؟". " تقصدين الصورة التي نشرت في الصحيفة؟". " ألم تخبريه؟". " كلا , سألني فأنكرت , لكنه لم يصدقني". أرتجفت ليزا وهي تقول: " يا ألهي , أية مصيبة هذه! ماذا بأمكاننا أن نفعل؟". أجابت كارين بصوت ثابت: " لا شيء". ردت ليزا بصوت مختنق: " كارين , أنا آسفة جدا , أتمنى لو أن بأمكاني......". لم تعد كارين تقوى على الأحتمال , فقاطعتها قائلة: " فات أوان التمني , ليس بمقدور أحد أن يفعل شيئا الآن , لم يعد آرثر يحبني أو يثق بي , وأنا لا أعتقد أن بأستطاعتي أن أحبه من جديد". قالت ذلك وهبت الى معطفها ومحفظتها فحملتهما , وغادرت الغرفة بسرعة تاركة ليزا تقف يائسة أزاء النافذة. هبطت درجات السلم وهي ترجو ألا تصادف أحدا في طريقها , لحسن الحظ لم يرها أحد وهي تغادر الباب الخارجي وتسير متجهة نحو القرية , ركبت أول باص صادفها دون أن تعرف الجهة التي تقصدها , كل همها ألأبتعاد عن دلرسبك الى أرض غريبة ووجوه غريبة لا حاجة الى التظاهر والتمثيل.... راح الباص يتلوى وينعطف في طريقه المتعرجة بين الروابي والسهول,كارين تنظر من النافذة لكنها لا ترى شيئا , كانت تفكر فقط بأشمئزاز في الحالة التي وصلت اليها , لماذا عليها أن تضحي؟ لماذا عليها أن تقبل الأهانة والمذلة , من أجل آرثر , وأليزابيت , وليزا؟كم كانت غبية عندما سمعت كلام آرثر ووافقت على المشاركة في تلك المهزلة , والعودة الى دلرسبك.. بعد خمسين دقيقة وصب الباص الى بلدة صغيرة , وعلمت أن الباص الثاني سيقلع بعد ساعتين , أخذت تتجول في سوق البلدة على غير هدى , فجأة تلبدت السماء بالغيوم وبدأ الرذاذ يتساقط خفيفا , منذرا بأقتراب هطول المطر ,ألتفتت حولها فشاهدت مقهى صغيرا على مسافة قريبة , أتجهت تلتجىء فيه من قطرات المطر التي بدأت تكبر تدريجيا , كان المقهى دافئا تتصاعد منه الأبخرة , جلست الى أحدى الطاولات وطلبت قدحا من الشاي وبعض الشطائر. لم تكن تتوقع أن تأكل ربع شطيرة , لكنها وجدت الشطائر والشاي معشا , فأخذت تأكل بشهية فائقة , كان بودها أن تبقى هناك حتى موعد مغادرة الباص , ألا أن المقهى بدأ يحتشد بالناس , فوجدت من الأفضل أن تسرع بالخروج مفسحة المجال لغيرها من رواد المقهى , جرعت ما تبقى في قدحها من الشاي , ثم دفعت حستبها وخرجت. بقي على موعد أنطلاق الباص ساعة أخرى , فكرت بالأنتظار داخل الباص , وتحركت بأتجاهه ,وأذ بقدمها تنزلق أمام قناة صغيرة كانت تعترض طريقها , فأرتدت الى الوراء فاتحة ذراعيها في محاولة يائسة لتجنب السقوط في القناة , ترنحت متعثرة وقد فقدت توازنها , وأخذت تسمع صيحات من حولها وأصوات خطوات تهرع بأتجاهها ,فجأة أحست بصدمة شديدة تطوح بها في الهواء , وراحت تهوي الى الأرض المبتلة بماء المطر , كانت الصدمة قوية لدرجة أنها فقدت القدرة على التحرك والتنفس , وبذلت جهدها لتقف على قدميها من جديد , لكنها في الواقع كانت تنبطح على وجهها هامدة , وما هي الا لحظات حتى أظلمت الدنيا أمام عينيها وغابت عن الوجود... تجمع حولها جمع غفير من المارة الذين شهدوا الحادث , بينهم سائق السيارة الذي وقف بجانبها ينظر اليها بعينين ذاهلتين , أسرع شرطي فألقى عليها معطفه وأسند رأسها بيديه الى أن وصلت سيارة الأسعاف , ونقلتها الى مستشفى البلدة حيث فحصها الطبيب المناوب , وأزالت الممرضات الوحل عن وجهها ثم أدخلوها غرفة الأشعة. عندما فتحت عينيها ألقت نفسها في سرير نظيف , وسمعت صوتا ناعما يقول: " أستيقظت الآن؟ حسنا , كيف تشعرين؟". رفعت كارين عينيها الى الأعلى فرأت ممرضة صبية تقف الى جوار سريرها , فهمست تسألها: " ماذا حدث؟ أين أنا؟". " أنت في المستشفى, سيصل الطبيب بعد لحظات". أخذت تستعيد وعيها بسرعة , أحست بصداع شديد في رأسها وبألم حاد في يدها اليمنى , وبضعضعة في بقية أعضاء جسمها , أدركت أن أشياء كثيرة حدثت لكنها كانت قاصرة عن أدراك طبيعتها , أحست كأنها عاشت كابوسا لم تستفق منه بعد... وتذكرت أنها ركبت باصا , ثم دخلت مقهى , ثم... سمعت صوتا يناديها بأسمها: " كيف أنت الآن سيدة رادكليف؟". نظرت الى صاحب الصوت الذي كان يقف بجانب سريرها , وأدركت أنه طبيب المستشفى الذي تابع يقول: " ألا زلت قلقة؟ متى أكلت آخر مرة هل تتذكرين؟". همست قائلة: " كيف عرفت أسمس؟". كان معتادا على مثل هذه التساؤلات فأبتسم قائلا: " كان علينا أن نبحث في حاجياتك لمعرفة هويتك , حتى نتصل بأهلك أو أقربائك الذين ولا شك سيقلقون من جراء تأخرك عليهم". حاولت كارين أن تجلس وقد تملكها خوف مفاجىء , تخيلت وجه أليزابيت الممتقع وهي تستقبل الشرطة في دلرسبك , لأعلامها عن الحادث فقالت بصوت يشوبه القلق: "أرجوك , يجب أن أتصل هاتفيا , يجب أن أخبر...". وضع الطبيب يده على كتفها يمنعها من الجلوس وقال مبتسما: " أهدأي , سنقوم بذلك , أظن أنك زوجة آرثر؟". أستسلمت كارين وأستلقت هادئة في سريرها , كيف عرف الطبيب أسم زوجها ؟ بدأت تتذكر لماذا هربت من دلرسبك هذا الصباح , هل كان هذا الصباح ,كم مضى عليها من الوقت في المستشفى؟ كم هي الساعة الآن؟ حاولت رفع ذراعها لتنظر الى ساعتها , ومرة أخرى هو الطبيب رأسه قائلا: " لا تقلقي أيتها السيدة الشابة , أخبريني الآن منى تناولت الطعام آخر مرة؟". " حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر". " هذا حسن , نستطيع نقلك الى غرفة التجبير فورا". أنفرجت شفتا كارين الجافتان وهمست: " أريد أن أشرب من فضلك". نظر الى الممرضة قائلا: " دعيها تبلل شفتيها فقط". ثم نظر الى كارين وأردف: " يجب تخديرك الآن حتى نتمكن من تجبير ذراعك , وعندما تعودين الى سريرك سنقدم لك قدحا من الشاي". سألت قائلة: " ذراعي فقط؟". " ألا يكفي ذلك؟ بعد أن أجرينا فحص الأشعة , تبين لنا أنه بأستثناء ذراعك وبعض الرضوض , فأنت لا تزالين ولله الحمد قطعة واحدة , ستبقين في المستشفى يوما أو أثنين ثم سنسمح لك بلخروج , أحمدي الله أنك نجوت بأعجوبة هذه المرة". بعد أقل من ساعة كانت كارين ثانية في سريرها تستفيق من تأثير المخدر , بين اليقظة والغفوة ,شربت الشاي الذي قدمته اليها الممرضة , كان مذاقه شهيا كرحيق الأزهار , ثم أحست برغبة في الأستغراق في النوم , لكنعا لم تستطع أذ دخل الشرطي الذي شهد الحادث , يطلب منها الأجابة على بعض الأسئلة ,لم يكن لديها الكثير لتدلي به , قالت بأن قدمها زلت فوقعت , ذلك كل ما تذكره , لم يرد الشرطي أزعاجهت أكثر فسألها سؤاله الأخير: " هل شاهدت السيارة؟". " أذن سيارة تلك التي صدمتني ! لكن أرجو أن تصغي الي , تلك لم تكن خبطة السائق , لا بد أنني وقعت تماما أمام السيارة فلم يستطع أن يتجنبني". " نعم , يبدو أنك وقعت على مقدمة السيارة , فقذفت بك جانبا , حمدا لله على سلامتك". ما كاد الشرطي ينصرف حتى أستغرقت في ثبات عميق , صحت بعد مدة على صوت الممرضة وهي توقظها بوجه بشوش قائلة: " هوذا زوجك سيدة رادكليف". فتحت كارين عينيها لترى آرثر واقفا قرب السرير والى جانبه أليزابيت. نظرت اليه مليا وقد تذكرت كل شيء , كان بودها لو تصرخ طالبة منه ألا يريها وجهه بعد اليوم , لكن أليزابيت كانت هناك الى جانبه وعلائم الأسى والألم بادية على وجهها الحنون ... أقترب آرثر منها لا تبدو على وجهه تعابير الندم والحسرة , بل لاح متجهما عابسا وقال: " كيف أنت كارين؟ كيف تشعرين؟". قم أنحنى عليها بقبلة باردة كالثلج , أرادت أن تصرخ به مرة ثانية , لكن أليزابيت أقتربت منها وقبلتها هب الأخرى , فلم تملك الا أن تجيب ببصوت منخفض: " لا بأس , صداع طفيف, لا زلت غير متأكدة مما حدث". جلست أليزابيت بجوارها على السرير , ونظرت الى كارين بعينين شديدتي التأثر وقالت: " يا حبيبتي المسكينة ! كنت على وشك أن تقتلي , عندما دخل علينا الشرطي..". قاطعها آرثر موجها حديثه الى كارين قائلا: " لا أستطيع أن أفهم ما الذي كنت تفعلينه هنا , لا أحد منا يعرف السبب....". قاطعته أليزابيت بصوت صارم: " آرثر , هذا ليس وقتا لمثل هذه الأسئلة , وبعد فأن كارين حرة في أن تذهب حيث ترغب ,ولا أظن أنه من الواجب عليها أعلامك عن كل خطوة تخطوها". تمتم معتذرا بصوت أجوف: " آسف". أرتاحت أليزابيت لأعتذاره , دون أن تلاحظ اللهجة الباردة التي عبر فيها عن أعتذاره". بعد فترة صمت قصيرة تكلم آرثر ببروده المعهود قائلا: " هل تحتجين أي شيء؟". أجابت بهدوء: " كلا شكرا , أليزابيت تعرف ما أريد". " هل يعتنون بك جيدا؟". " كل العناية". " توجد غرفة خاصة , سأعمل على أن ينقلوك اليها". " لا اريد غرفة خاصة , لن أمكث أكثر من يوم أو أثنين". وسادت فترة صمت أخرى قطعتها أليزابيت بقولها: " أظن من الأفضل أن نترك كارين تنال قسطا من الراحة , يبدو أنها شديدة التعب". أحتج آرثر بقوله: " لم ينته وقت الزيارة بعد". لكن أليزابيت أصرت على ترك كارين لراحتها وقالت: "سنتصل بك غدا هاتفيا لنسأل عن صحتك , أتمنى أن تكوني أحسن بكثير يا حبيبتي". وقفت أليزابيت وقبلت كارين ... وأتجهت نحو الباب قائلة: " سأنتظرك عند الباب يا آرثر". غاص قلب كارين عندما يقيت وحدها مع آرثر , أقترب منها قائلا: " أعتقد أنه لا يوجد ما نقوله". " أعتقد ذلك". " أذن الى اللقاء ". وأستدار متجها نحو الباب , تاركا الغرفة وراءه تغرق في صمت كئيب.
12 _هل تغفرين لي؟
أمضت كارين ليلة أرق مضنية بدت وكأن ليس لها نهاية , تلاشى فيها كل أمل بالنوم , حتى حبة المنوم التي أعطتها أياها الممرضة الليلية كان تأثيرها محدودا , فلم تنم كارين أكثر من ثلاث أو أربع ساعات نوما متقطعا لم يقو على التخفيف من وطأة ما كان ينتابها من أرهاق جسدي وأجهاد عقلي , في بعض لحظات سباتها كانت تطوف في مخيلتها صور تعاسة زواجها , وفي لحظات أخرى كان ينقلها خب=يالها الى عالم مستقبلها المجهول , حيث لم تلحظ فيه الا النزر اليسير من الصور المليئة بالوعود ,وعندما حضر الطبيب في الصباح ورأى اللون المحموم الذي يضرج خديها , تلاشت أبتسامته , وقال: " سمعت أنك أمضيت ليلة مضنية". حاولت أن تبتسم , وأشارت بيدها الى يدها المجبسة قائلة: " لم أعتد على هذا بعد". " سيعوق حركة يدك بعض الوقت". ثم فحص أصابعها المتورمة وسأل: " هل تشعرين بتصلبها ؟ سنعمد الى شق الجبس عنها أحيانا , الآن دعيني أفحص بقية الأصابة". بعد أن أنهى فحوصه أعاد الأغطية عليها , وعبس قائلا: " هل هناك ما يقلقك؟ سيدة رادكليف؟". وجه سؤاله بلهجة ذات مغزى , فألتفتت اليه وهزت رأسها بالنفي , ما الفائدة من أخباره بقصة زواجها المهشم؟ وبأن كل يوم مر ويمر عليها مع آرثر ما هو ألا دور في تمثيلية مزيفة؟ وتابع حديثه بلطف: " غالبا ما يعاني المريض من بعض المشاكل كما تعرفين , وأكثر ما نخشاه هو أن تكون تلك المشاكل سببا من أسباب أعاقة سرعة الشفاء , لا تترددي في طلب أية مساعدة تشعرين أن في أستطاعتنا تقديمها". أثرت فيها كلماته الرقيقة الدمثة , فوجمت عن الكلام لعدة لحظات وقد غصت عيناها بالدموع فأشاحت بوجهها عنه , آلمها كثيرا أن يهتم أنسان غريب بما يقلقها ويخيفها بينما آرثر , زوجها , لم يبد ذرة مهما كانت ضئيلة من الأسف والأهتمام. سمعت صوت الطبيب يكلمها: " أسمعي , نحن لا نجعل مرضانا يبكون !". مسحت عينيها وهي تقول: " أذن لن أسمح لنفسي أن أخرق تقاليدكم". " حسنا , ستتحسنين بسرعة على ما أعتقد , وسننقلك الى القاعة الكبيرة الآن , وجودك مع مجموعة من المريضات سيفيدك جدا ". أبتسم لها مشجعا , وأنصرف تاركا الممرضة تساعد كارين على الأنتقال الى القاعة. حضر آرثر في المساء لزيارة كارين يحمل بعض الزهور والفواكه , وتصحبه ليزا , ألتفتت اليها عيون الممرضات وهي تسير ببطء بين صفوف الأسرة , كانت في كامل زينتها لا يبدو عليها أي أثر من آثار المرض الذي كانت تعني منه خلال الأسبوع المنصرم , مشت يتبعها آرثر يحمل في يده معطفها الجميل . قبلت كارين قبلو مجاملة , وتبادلت معها بعض عبارات الممازحة التقليدية ... أما آرثر فأنه وقف قليلا ثم بدا عليه الأنزعاج من الأصوات العالية التي كانت تصدر عن زائري المريضات الآخر , فأعتذر قائلا: " سأترككما تتحدثان , حسنا؟". هزت كارين رأسها , لم تكن ترغب أن يمكث معها ويبادلها الحديث , خاصة في غياب أليزابيت , أما ليزا فأنها جلست الى جانبها يبدو عليها الضيق , تحدثت عن الأيام المملة التي أنقضت في دلرسبك , وتجنبت الحديث عن مشكلة الحمل التي كانت تعاني منها , فسألتها كارين: " هل أخبرت أمك بالأمر؟". رمشت عينا ليزا ثم بان عليها العبوس وهي تقول: " ماذا؟ نعم أخبرتها هذا الصباح , حادثتك المؤسفة وزيارتها الخاصة للمستشفى أستأثرا بكل حديثها أمس , كما شغلتها زيارة صديقها هيرلندنر بعد الظهر". " هل أستثارها الفرح؟". " لزيارة صديقها الألماني؟". " كلا , أقصد الطفل طبعا". " تستطيعين القول أنها كادت تطير من الفرح , أما بالنسبة لي فأنه سيدهشني كثيرا أذا أستطعت أن أتحمل هذه الحالة مدة أسبوع أو أثنين ". ثم نظرت حولها بنفاذ صبر وسألت: " أين ذهب آرثر ؟". لم تجبها كارين على سؤالها , بل أختلست نظرة الى ساعة القاعة , مع أن ساعات الزيارة كانت أحلى الساعات بالنسبة الى المريضات , غير أنها تمنت لو أن هذه الزيارة أنقضت قبل أن تبدأ , كما أنها كانت متأكدة بأن ليزا تمنت الأمنية ذاتها. أنحنت ليزا أخيرا نحو كارين وهمست: " هل تتأثرين لو أن آرثر أعادني الى البيت قبل أنتهاء وقت الزيارة؟ المستشفيات تثير أعصابي". هزت كارين رأسها , وأندست متعبة تحت أغطية سريرها , ثم أدارت وجهها على ليزا قائلة: " بدأت أشعر بالأعياء , أشكرك لهذه الزيارة , أبحثي عن آرثر فقد تجدينه يتحدث الى الممرضة , أو يقف بجوار سارته , أخبريه بألا حاجة لأزعاج نفسه بالدخول ليقول لي طابت ليلتك". أغمضت عينيها , وترددت ليزا قليلا قبل أن تحمل محفظتها نحو باب القاعة , وظلت كارين مصرة على أغماض عينيها فلم تشاهد ليزا وهي تلتقي بآرثر عند الباب , ولم ترها وهي تدس يدها تحت ذراعه تحثه على الأبتعاد. لم تد كارين أتكون آسفة أم شاكرة عندما قرر الطبيب , في صبيحة اليوم التالي , تمديد مدة بقائهايوما آخر , كانت تشعر بتحسن واضح في جميع الأجزاء المصابة من جسمها , وأستعادت حالتها الطبيعية بسرعة , ومع ذلك شعرت بأرتياح شديد لبقائها أربعا وعشرين ساعة أخرى. كان أحساسها بالقلق يتزايد مع أنقضاء كل ساعة من النهار , فراحت تحاول جاهدة أقصاء الأفكار الموجعة بسبب أقتراب عودتها الى دلرسبك في اليوم التالي , لو أن أمامها أية وسيلة للخلاص! لم تعد تحتمل أحتقار آرثر وأهماله القاسي لمشاعرها , لماذا يحب أن يكرهها ...؟ فكرت كثيرا , لكنها لم تخلص الى حل شاف لمشاكلها , الحل الوحيد برأيها هو أخبار أليزابيت بالحقيقة , وكان ذلك مستحيلا , كم تمنت لو أن لديها بعض الأقارب تبثهم همومها وآلامها ... توفي والداها منذ مدة وأمست وحيدة في هذا العالم الذي لا يرحم. عندما بدأ موعد الزيارة المسائية بالأقتراب , وعاودها شعور الأنقباض المألوف وتمنت لو أن تلك الساعة التي كانت ترتقبها المريضات بنفاذ صبر أتت وأنقضت ... لكنها أستفاقت من تمنياتها بعد قليل , على صوت أنفتاح الباب ودخول الزائرين , نظرت بأتجاه الباب ودهشت لرؤية زائريها ,لم يحضر آرثر هذه المرة , بل أليزابيت يرافقها صديقها الألماني هيرلندنر. بدت أليزابيت بكامل حيويتها ونشاطها وهي تقترب من سرير كارين , وقد تلاشى عن محياها البشوش كل أثر من آثار المرض , أية معجزة غيّرتها بهذه السرعة ! ظهر الأرتياح جليا على وجه أليزابيت وهي تقول: "هذا رائع! كنت أنتظر بفارغ الصبر أمتثالك للشفاء , والآن وقد تأكدت من ذلك يأزف الك هذا النبأ , سأسافر الى ألمانيا بعد يومين". تملكت الدهشة كارين وتمتمت: " ألمانيا!". تطوع هيرلندنر بالجواب قائلا: " سأصطحب أليزابيت معي عند عودتي الى هناك ". لم تصدق كارين أذنيها وقالت بذهول شديد: " بعد يومين! هل أنت ذاهبة لقضاء عطلة؟". أبتسمت أليزابيت وهي ترمق صديقها وقالت: " كلا , هلا أخبرتها أنت بالأمر؟". تبادل الألماني مع أليزابيت النظرا ت ثم ألتفت الى كارين قائلا: " لا تدهشي كثيرايا عزيزتي , أنني أتمنى كل خير للسيدة أليزابيت... فقدت زوجتي الحبيبة منذ خمس سنوات , كانت تعاني من المرض ذاته , لم يستطع الأطباء يومذاك أن يقدموا الا اليسير من المساعدة وما كان علينا ألا أن نقعد ونراقب ذلك الداء الرهيب وهو يلتهم تدريجيا حياتها الغالية , لو كان بالمستطاع أبقاؤها على قيد الحياة بضع سنوات أخرى , لكان أنقاذها ممكنا ... ذلك أن أحدى العيادات المشهورة على الحدود النمساوية , قريبا من المدينة التي أسكن فيها , أعلنت مؤخرا أنها تمكنت من أيجاد العلاج الشافي لهذا الشك الى مدى فعالية هذا العلاج بالنسبة الى الداء المذكور ,فأنني رأيت بأم عيني بعض المرضى المصابين بالداء ذاته يخرجون من تلك العيادة وقلوبهم تطفح بسعادة الشفاء , وعيونهم تتطلع الى المستقبل بمنظار الأمل والرجاء ". سألت كارين وقد أعتراها بعض القلق: "هل تعتقد أن لا مجال للخوف؟". هز هيرلندنر رأسه وقال: " لا مجال للخوف البتة , العيادة ذات سمعة عالية وأطباؤها أصحاب شهرة معروفة". تدخلت أليزابيت قائلة: " ـنهم يخططون كل صغيرة وكبيرة في الجسم , طبعا تختلف طبيعة الداء بين جسم وآخر , والأطباء مستمرون في أبحاثهم الهاممة , غير أنهم مقتنعون بأن ما توصلوا اليه من علاج يصلح لأستئصال ذلك الداء اللعين في أكثر الحالات". توقفت قليلا ثم تابعت بلهجة حازمة: " مهما يكن من أمر , فقد عقدت عزمي على السفر , لن أخسر الا القليل لكنني قد أربح الكثير , وافقت على أقتراح هيرلندنر , سيرافقني الى هناك ويزورني من يشاء أن يأتي لزيارتي هناك , آرثر, ليزا , أنت ,وفي أي وقت كان , ذلك أن أمد أقامتي في العيادة قد يستغرق مدة ليست بالقصيرة". أخذت كارين نفسا عميقا وسألت: " ما رأي آرثر حول هذا الموضوع؟". أجابت أليزابيت بشيء من الحسرة: " أبدى أمتعاضه وعدم رضاه , غير أنه لن يجعلني أعدل عن قراري هذه المرة". قال هيرلندنر : " ولدك ينظر الى الموضوع بالريبة والشك يا عزيزتي , وأنا أفهم مشاعره بالنسبة الى ذلك , لو كنت مكانه لساورتني الشكوك ذاتها , لكنك أنت صاحبة القرار أولا وأخيرا , فأذا كنت ترغبين في أعادة النظر مرة أخرى , أو حتى العدول عن رأيك , فلا تتردي لحظة , سأفهم وضعك". هزت أليزابيت رأسها بأصرار قائلة: " كلا , أنني أعتبر أقتراحك نعمة حلت عليّ من السماء لم أكن أدري ما أنا فاعلة حتى تعرفت عليك , خاصة وأن الطريقة التي أتبعها آرثر لم تفلح في أظهار أية بارقة أمل". نظرت اليها كارين بمزيج من الخوف والأعاب , فأبتسمت أليزابيت وأردفت: " كانت فكرة جميلة , جمع الشمل في دلرسبك , رحبت بها كثيرا مع علمي بمدى الظلامة التي أنطوت عليها , آرثر بعيد جدا من مقر عمله , ووضع كليف يدعو الى الشفقة , وأنت لا أدري مقدار ما لحق بك من ضيم!".\شكتت قليلا ثم أمعنت النظر بكارين وأستطردنت: " أعرف أن الأمور ليست على ما يرام بينك وبين آرثر , على الرغم مما تبديانه لأقناعي عكس ذلك , لا أعرف طبيعة الخلاف لكنني على أستعداد تام لبذل كل ما بوسعي لتسويته , لا أطمع بالتدخل بدون موافقتكما , لكن يجب أن تسويا أموركما بعد عودتك الى البيت , كما يجب أن تفعل ليزا وزوجها ذلك , أنني لست راضية عن هذه الفوضى التي تعيشونها في دلرسبك ,وكأنكم تعدون علي الساعات تنتظرون الوقت الذي أخسر فيه معركتي مع مرضي". توقفت أليزابيت قليلا تستعيد أنفاسها ثم تابعت: "حسنا , سأتابع معركتي لكن بطريقتي الخاصة , ومما يجعل المعركة أكثر يسرا بالنسبة لي معرفتي أن أولادي عادوا الى بيوتهم ليعيدوا تنظيم حياتهم بأنفسهم , وبمشيئة الله سأحمل حفيدي بين ذراعي قريبا". أنهت حديثها وأحتضنت كارين بين ذراعيها التي شعرت بحب أليزابيت الحقيقي فتمتمت هامسة: " سأصلي من أجل في كل لحظة من لحظات غيابك , ضارعة أن تعودي الينا معافاة سالمة". بعد قليل أنتهى وقت الزيارة , فأنصرفت أليزابيت مع صديقها الألماني وأستلقت كارين في سريرها يتملكها شعور غريب , ستسافر أليزابيت الى ألمانيا وتنتهي بذلك التمثيلية التي أكرهت على القيام بدور البطولة فيها , أذن بعد أسبوع على أبعد أحتمال , ستعود الى لندن وربما الى السيد بيجنز , وستتحرر أخيرا من هذا الجو البغيض الذي سيطر على حياتها خلال الأسابيع القليلة الماضية , ستكتب الى أليزابيت ولا شك حتى لا تسبب لها قلقا قد يعوق من فعالية معالجتها الجديدة ,لن يكون من الصعب أخفاء الحقيقة عنها الى أن تشفى , وبعد شفائها لن تسبب معرفتها للحقيقة أي خطر على حياتها , لا يمكن للسر أن يظل مكتوما الى الأبد , أما بالنسبة الى ليزا.... عليها أن تخط مصيرها بنفسها... ما في الأمر أنها ستحرر من آرثر خلال أيام قليلة , وبعد عودتها الى لندت لن تكون بحلجة الى رؤيته على الأطلاق , أي شيء يحتاج الى مناقشة يمكن أن تم بواسطة الهاتف , لن يكون بمقدوره أن يجرحها وبعذبها بعد الآن , لأنها ستصبح حرة!وهذا ما كانت تريده . كان شعورها الغريب لا يزال يتملكها عندما حضر آرثر صبيحة اليوم التالي , ليخرجها من المستشفى , جلب لها ملابس نظيفة وأنتظرها في الردهة الخارجية حتى ترتديها وتودع الممرضات والمريضات , أخيرا خرجت من القاعة الى حيث كان آرثر ينتظرها بنفاذ صبر. نظر اليها متمعنا وهو يأخذ حقيبتها من االممرضة , ثم قال: " أرجو أن تكون الثياب التي أحضرتها لك مناسبة , لم أدر ما أحضر لك بسبب ذراعك". أجابته بأختصار: " أنها على ما يرام". " أخذت ثيابك الملطخة التي كنت ترتدينها أثناء الحادث الى المغسلة لتنظيفها". قالت بصوت جاف: "لا ضرورة لذلك". وسألت نفسها: " كيف يمكنه أن يتحدث بتلك السهولة كأن شيئا لم يتغير ؟ كأنهما لا يزالان يمثلان ... كأنه نسي ما فعل منذ أربع ليال , عندما دخل عليها يكيل اليها الأتهامات ثم يعتدي عليها بوحشية رجال الغابات , هل يتصور أنها نسيت كل ذلك؟ مشت بجانبه الى السيارة , كانت تتمنى لو تستطيع ألا ترافقه وتعود معه الى دلرسبك ,لكن لا بأس في التمثيل بضعة أيام أخرى الى أن تسافر أليزابيت وبعدها , من يدري... فتح لها باب السيارة وساعدها على الدخول , وضع الحقيبة في المؤخرة ثم قاد السيارة دون أن ينطق بحرف , راحت كارين تنظر من النافذة مرتاحة الى صمته , بعد بضعة أميال توقف أمام أحد الفنادق القديمة وقال: " سنتناول شيئا من الشراب ". أجابته بجفاء: " لا أريد شرابا ". لكنه فتح باب السيارة وهو يقول: " لكنني أريد , تعالي يا كارو فأنت أحوج ما تكونين لكأس من الشراب يعيد اليك بعض النشاط". نزلت من السيارة ودخلت معه الفندق حيث جلسا الى أحدى الطاولات في قاعة المطعم , سألها عما تريد أن تشرب لكنها أعتذرت مصرة على عدم تناول أي شيء , ولما أخذ يلح عليها ألحاحا شديدا , وقفت قائلة: " أستدارت خارجة , وبعد قليل خرج آرثر يبدو عليه الغضب وأتجه نحو السيارة , وما هي ألا لحظات حتى كانا ينطلقان من جديد في طريقهما الى دلرسبك. لم ينطق آرثر طوال الطريق بأية كلمة حتى وصلا الى البيت , وقبل أن ينزلا ألتفت الى كارين قائلا: " هل عرفت بأمر أليزابيت؟". " نعم , أخبرتني ليلة أمس". " ما هو رأيك؟". ردت بأقتضاب: " أعتقد أنه من الخير لها أن تذهب , ومن الأفضل لك ألا تحاول منعها". " وبعد أن تذهب؟". هزت كارين كتفيها وقالت: " لا أعرف , لأنني لا أفهم لماذا تسأل". " كارين , يجب أن تصغي اليّ!". " ألا تظن بأنني أصغيت ما فيه الكفاية؟". وبدون أن تنتظر منه جوابا , فتحت باب السيارة وأتجهت الى اللبيت حيث قابلتها أليزابيت بالترحيب الحار ,وقبل أن يدخل آرثر سمعت صوت سيارة أخرى تقف أمام البيت , وبعد لحظات دخل القاعة يتبعه هيرلندنر. كانت الأزهار تزين جميع أرجاء القاعة أبتهاجا بمقدم كارين , كما أعد أهل البيت وجبة غداء فاخرة على شرفها , نظرت كارين حولها فلم تجد ليزا ... وكأنما شعرت أليزابيت بذلك فقالت هامسة: " آسفة , أضطرت للسفر هذا الصباح , لم تستطع الأنتظار هنا حتى مجيء كليفورد , أذ كانت تحب أن تزف له نبأ حملها بأسرع وقت ممكن , فوافقتها على رغبتها وسمحت لها بالسفر". جلس الجميع الى مائدة الغداء , تساءلت كارين بينها وبين نفسها عن السبب الذي دعا ليزا الى السفر بهذه السرعة , لا شك أنها هربت من لقائها , أما آرثر فأنه جلس منكمشا على نفسه , هل كان ذلك بسببرحيل ليزا المفاجىء ؟ أم لأنه كان متحفظا أزاء هيرلندنر؟ لكن أليس من الطبيعي أن يبدو أرثر بمثل هذا التحفظ أتجاه الغريب؟ كان آرثر صاحب الفوذ الرئيسي في حياة أليزابيت منذ وفاة زوجها , فكيف لا يشعر بالغيظ من تطفل هذا الرجل الذي أصبح فجأة صاحب تأثير شديد على أليزابيث؟ ربما لا ينتبه هيرلندنر الى ما يعتمل في داخل آرثر من أحساس أتجاهه , لكن أليزابيت , التي كانت تعرف كل خفايا طبيعة ولدها , لا بد أن تدرك أسباب الكآبة المتجلية على ملامحه. نظرت الى أليزابيت فوجدتها في ذودروة السعادة , كانت مرتاحة لمجاملة هيرلندنر ومغتبطة لأهتمامه البالغ بها , كالزهرة المتفتحة للشمس بعد ليل طويل ,كان وجهها يسطع بنور ساحر أزاح عنه حجاب سنينها المتقدمة , وكشف من جديد جمال الصبا البهيج ,وبغتة أدركت كارين ما كان يحدث لأليزابيت.. يقال أن الحب يصنع المعجزات , فهل كانت تلك بداية معجزة أليزابيت الخاصة؟ بينما كانت كارين غارقة في بحر تأملاتها , سمعت هيرلندنر يسأل أليزابيت أذا كانت ترغب بالخروج برفقته لنزهة قصيرة , وافقت أليزابيت على طلبه بحرارة ووجهها يطفح بالبشر , ألتفتت كارين اليه عندما سمعته يوجه سؤاله اليها قائلا: " هل ترغبين بمصاحبتنا أنت وزوجك؟". تكفل آرثر بالأجابة عنها , قائلا بصوت فيه بعض الخشونة : " لا أظن ذلك , شكرا , زوجتي بحاجة الى الراحة". ما أن خرجت أليزابيت وصديقها الألماني وتواريا عن الأنظار , حتى أنقض آرثر على كارين وحملها بين ذراعيه كالريشة , وأنطلق يصعد بها درجات السلم وهي مذهولة , وراحت تسأله عن سبب تصرفه الغريب , لكنه لم يجبها بحرف , ولم يتوقف ألا بعد أن أدخلها غرفة نومهما وألقى بها بتمهل على السرير , ثم ركع على ركبتيه بجوارها وهو يلهث من التعب , ونظر الى عينيها المرتعبتين وصاح بصوت محموم: " لماذا يا كارين؟ لماذا؟". أرتعشت كارين من الخوف , وراحت تبلل شفتيها الجافتين بطرف لسانها ثم سألت: " لماذا ؟ لماذا ماذا؟ ما الذي تعنيه يا آرثر ؟ ماذا تريد؟". " لماذا لا تخبريني؟". طغى الضعف عليها بغتة , وأشاحت بوجهها بعيدا عنه وهي تحاول النهوض عن السرير قائلة: " أي شيء لم أخبرك به؟ ما الذي نريد أن تعرفه بعد؟ بالله عليك لا تبدأ القصة من جديد , لم أعد أقوى على الأحتمال!". أمسكها من رأسها وأدار وجهها بأتجاهه وراح يتمتم: " ولكن لماذا ؟ لماذا هذا الصمت يا كارين؟ مدة سنتين ... سنتين طولتين.... كل ذلك بسبب تلك الخليعة الأنانية ... بأمكاني أن أقتلها!". أرتجفت كارين وشعرت بالدوار يجتاح كل حواسها , معنى واحد فقط يمكن أن يكون لكلمات آرثر هذه! وهمست: "ماذا؟ من؟ لا أدري ما تقول". زمجر قائلا: " ليزا! من غيرها؟". نظر آرثر الى عيني كارين غير المصدقتين وقال بمرارة: " نعم أخبرتني ... أو بالأحرى أنتزعت منها الحقيقة أنتزاعا". هزت كارين رأسها بأستغراب , لا يمكن أن تعترف ليزا بالحقيقة من تلقاء نفسها , أما أنتزاع الحقيقة منها فذلك أمر جائز , لكن كيف؟ أخيرا تلعثمت هامسة: " لكن كيف كان ذلك؟ ما الذي خطر ببالك حتى سألتها الحقيقة ؟ ولماذا ليزا بالذات؟". وقف آرثر على قدميه وأتجه نحو النافذة , حيث راح ينظر الى البعيد ... وبدأ حديثه قائلا: "عندما زرتك في المستشفى برفقة ليزا , أتذكرين أنني تركتها معك وخرجت , ذهبت آنذاك الى الطبيب أسأله عن صحتك ففاجأني بأشياء غريبة ,قال أنهم أتوا بك الى المستشفى وأنت في حالة غيبوبة , وسمعك تهذين بكلمات وأسماء مبهمة مثل الصورة! ليزا! ثم سمعك تنادين بأسمي مرات عديدة وتتلفظين بكلمات فهم منها أنك تحاولين أقناعي بشيء ما وأنني لا أحاول الأصغاء اليك , وأخيرا نظر الطبيب اليّ نظرة أتهام وقال أنني أستطيع أن أساعدك على الشفاء أذا جعلتك تتحررين من قلق وعذاب غامضين كانا يسيطران عليك". تنهد آرثر وعاد ليقف الى جانبها , نظر اليها بعينين قلقتين وتابع حديثه: " رجعت من غرفة الطبيب فوجدت ليزا أمامي تنتظرني , وتطلب مني أن نسارع بالأنصراف , رافقتها الى السيارة وخلال طريق العودة كنت أفكر بك , رأيتك بعيني خيالي مستلقية على سريرك وشعرك الطويل منهدل على كتفيك , وأذا بي فجأة أجد نفسي أنظر الى شعر ليزا , أجل شعر ليزا... لقد كان في الماضي طويلا حريري الملمس , بني اللون , شديد الشبه بشعرك , تذكرت كم كانت كثيرة الأهتمام به , حتى في طفولتها كانت تجلس ساعات وساعات أمام المرآة تسرحه وتبدي أعجابها به ,لم أكن أتصور أنها في يوم ما يمكن أن تضحي به وتقصه , لكنها فعلت, وصبغته بلون يميل الى البياض , فلماذا؟ لم أسأل نفسي هذا السؤال من قبل , ولكنني وجدت نفسي فجأة أتساءل لماذا فعلت ذلك؟ لماذا قصت شعرها الذي تعجب به؟ لماذا غيرت لونه الجميل ؟ ولأول مرة أدركت شدة الشبه بينكما في الشعر , في الطول , في البنية , أدركت أنكما متماثلتان في ذلك كله , تذكرت أول مرة سمعت بأسم فنيس كاين , كان من فمها هي , أنها أعلمتني بأنها كانت ترغب كثيرا في لقائه , لماذا لم أتذكر كل هذه الأشياء من قبل ؟ لا أدري ... رحت أسائل نفسي , هل من الممكن أن تكون اللوحة لها وليست لك ؟ يا لحماقتي! وعندما وصلنا الى البيت كان صبري قد نفذ ,فأمسكت بها بغتة وفاجأتها بالسؤال , وأذا بوجهها يصفر أصفرار الموتى , وتتملص من بين يدي هاربة وهي تصيح : أذن نكثت بالعهد وخانتني!". صاحت كارين : " لكن لم أفعل!". " لم تفعلي ماذا ؟ لم تخوني الوعد الذي قطعته على نفسك لليزا بأن تحافظي على سرها القذر ,وحتى ولو على حساب زواجك ! أستحلفك بالله يا كارين , أخبريني الحقيقة ! أخبريني ما حدث ؟ كيف ورطتك ليزا بتلك القصة ؟ لماذا بقيت صامتة طيلة تلك المدة تتحملين كل هذا العذاب؟". " ألم تخبرك بكامل القصة؟". " قالت أنها لم تكن تعرف شكوكي , وأعتقادي بأن اللوحة لك , وبالتالي ظننت أنك أنت عشيقة فينيس كاين , وهي لم تعرف ما حل بيننا بسبب ذلك , قالت أنها لم تستطع مقاومة أغراء فينس كاين ,ورضيت أن يرسم لك تلك اللوحة بعد أن وعدها بألا يبيعها لأحد , ذلك كل ما أخبرتني به , والآن أخبريني ما علاقتك بتلك القصة القذرة؟". شعرت كارين بالأعياء , وأخذت أطرافها ترتجف , لم تستطع أن تصدق أن آرثر توصل أخيرا الى معرفة الحقيقة , ولكن متى؟. بعد سنتين طويلتين من العذاب المرير ... تمالكت نفسها وقالت: " لم يبق ما أخبرك به , أظنك أدركت أن ليزا كانت على علاقة مشينة بفينس كاين , وأنه تمكن من أغرائها فوافقت على رسمها شبه عارية , وأخذت تتردد عليه من أجل ذلك , في المرة الأخيرة وقبل مقتله بيوم واحد ,نسيت عنده ساعتها , تلك الساعة الثمينة التي أهداها أياها كليف , وكان أسمها محفورا عليها , تملكها رعب شديد خشية أن يعثر أحدهم عليها , لم يكن بوسعها الذهاب بنفسها لأسترجاعها , لأن كليف كان يرغب في أصطحابها معه لموعد هام , لذلك أضطرت أن تتصل بي هاتفيا ترجوني أن أذهب الى شقة فينس كاين , حيث ألتقي هناك بستفان أسي الذي كانت قد أتصلت به وطلبت منه أن يسلمني الساعة". " يا لتلك الخبيثة , كيف رتبت الأمور!". أرتاحت كارين قليلا ثم تابعت: " ذهبت تلبية لطلبها , فأخذت الساعة وقميص نوم لها كانت تحتفظ به في غرفة فينس , ولسوء الحظ وصل المصور الصحفي في تلك اللحظة فألتقط لي صورة وأنا أخرج مسرعة من هناك , وفي اليوم التالي كانت الصحف تنشر الصورة مع بعض التفاصيل عن مقتل فينس , وعن عشيقته الغامضة... يا ألهي ! ما كنت أحسب أن تلك الصورة ستنشر , وأن تراها أنت ,وتعتقد أنني أنا تلك العشيقة الغامضة!". صاح آرثر بصوت محموم: " لكن لماذا لم تخبريني بكل ذلك؟". " لأنني وعدت ليزا , وجعلتني أعدها بألا أخبر أحدا , رجتني , توسلت الي ألا أخبرك أنت على وجه الخصوص ,كانت تخاف.....". ومجر آرثر قائلا: " ليزا تخاف! يا رب السموات ! أمن أجل تلك الكلبة الأنانية التافهة تجعلينني أعتقد بأن زوجتي أنا ... لماذا يا كارين تركتني أتعذب كل ذلك العذاب ؟ لماذا يا كارين تركتني أتعذب كل ذلك العذاب؟ لماذا يا كارين؟ كيف أمكنك أن تخلصي لتلك الحقيرة أكثر من أخلاصك لي ؟ أنا لا أفهم كل هذا.". أصفر لون كارين , لكن صوتها بدا هادئا عندما قالت: " أنت لا تفهم؟ كنت على أستعداد لأن تصدق كل شيء عني يا آرثر , عندما دخلت ذلك اليوم ثائرا تنظر اليّ بعينين يملؤهما الشك والغضب , ورحت تكيل لي الأتهامات جزافا , لم تصغ الي أي كلمة من كلماتي , لقد دمرت ثقتي بك , كنت أعتقد أنك لا يمكن أن تشك بحبي وأخلاصي تحت أي ظرف من الظروف , لم تصدق أنكاري أية علاقة لي مع فينس , لم تصدق أنكاري أية صلة لي بستيفان , أقسمت لك بشرفي فلم تصدق , أكدت لك بأنني لم أخنك في أي يوم من الأيام , فلم تقتنع , عندها علمت أنك لم تكن تثق بي وبالتالي لا تحبني , أية فائدة أجنيها أذن من الفضيحة التي كنت سأثيرها حول أختك , وكشف سرها الذي أئتمنتني عليه؟". أنهت حديثها ... وراحت الدموع تتساقط من عينيها لتغمر خديها الصفراوين , فمال آرثر اليها وأحتضنها هامسا: " لا تبكي يا كارين وحاولي أن تفهميني , لقد تعرضت للخيانة مرات كثيرة في حياتي , أحببت فتاة قبل ثلاث سنوات من لقائي بك , جعلتني أثق بها وبحبها وأخلاصها , وأذ بي أجد فجأة أنها كانت طيلة الوقت عشيقة رجل آخر بدأت أعتقد أن من المستحيل وجود تلك التي أتجرأ فأمنحها قلبي ,قابلتك قبل فترة وجيزة من الزواج لم تكن كافية لتمحو من رأسي ما قاسيته من خيانة الآخرين .... في ذلك اليوم , اليوم الذي شاهدت فيه صورتك كنت أريد أن أنتقم ... أنتقم لكل ما أصابني من أذى ولحق بي من قسوة منذ أيام طفولتي , أنتقم لكل ذلك منك أنت!..". أحست كارين بالعطف عليه , تذكرت ما قالته أليزابيت لها فوق الجسر , يوم أن قدمت لدلرسبك لأول مرة عن طفولته المعذبة وما قاساه من ألم ومرارة في حياته , وسمعته يقول بألم ظاهر: " كارين , هل تصفحين عني , هل تغفرين لي عدم ثقتي بك وما سببته من أذى وأساءة؟". " لا تقل هذا يا آرثر ! كان كابوسا وأنقضى". " نعم , أنقضى يا حبيبتي , لا أستطيع أن أصدق بأنني أستعدتك ثانية , وأنني لست في حلم". نظرت بعينين حالمتين الى وجهه المبلل بالدموع وقالت: " أنك لست في حلم يا حبيبتي , لكن أخبريني , هل لا زلت تحبني؟". لم يجبها بالكلمات ,لكنه طوقها بشدة , وبعد قليل كان الحب يرخي عليهما عباءته الحريرية. بعد ستة أشهر أقام آرثر وكارين حفلة خاصة أقتصرت على الأقرباء فقط ,كانت ليزا هناك يرافقها كليفورد ومعهماطفلاهما التوأمان , وهما أبن وبنت , لكن الشيء الذي أسعد كارين كان أليزابيت , التي رجعت الى البيت أمرأة متفتحة للحب والحياة , مع هيرلندنر زوجها! جلست سعيدة تتحدث عن بيتها الجديد في ألمانيا , مع الرجل الذي لم يبخل بشيء ليحقق لها أمنيتها بالشفاء. أنقضت الحفلة , وطلبت أليزابيت محفظتها التي كانت تركتها في غرفة الطعام , دخلت كارين لتأتي بها ,وراحت تعيد النظر في اللوحة الثمينة التي كان آرثر قد علّقها هناك , اللوحة المثيرة... فاجأها آرثر وهو يقول: "هل لا زالت تقلقك؟". أستدارت كارين قائلة: " كلا يا حبيبي , أنها لا تقلقني ألا عندما أتذكر المبلغ الباهظ الذي دفعته ثمنا لها , آرثر , قل لي , لماذا أشتريتها ؟". " أشتريتها لأشعر دائما بالنعمة التي أعادتها الي , النعمة التي هي أنت يا حبيبتي , وكذلك لأنني أرى شيئا حبيسا في تلك اللوحة". أتسعت عيناها من الدهشة لكلماته المبهمة , فقال موضحا: " الجانب المعتم من زواجنا كاد أن يدمرنا , أنه سجين في اللوحة". تمتمت كارين قائلة: "على أية حال , لا أحد يعرف صاحبة الصورة ألا ليزا". ضمها آرثر الى صدره وقال: " لا تظني يا حبيبتي أنني أشتريتها , لأني أكن لصاحبتها عاطفة هوى عميق في صدري". أبتسمت كارين بحرارة قائلة: " لن يخطر ذلك على بالي أبدا , لأني متأكدة من العكس يا حبيبي".
تمت بحمدلله

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا