ضحية
Flame of Fate

الكاتبة : آن هامبسون
الملخص
يجب أن نرفق بالأشياء الرقيقة الهشة لأنها سهلة الانكسار. هذه القاعدة الصحيحة إنسانيا غير متبوعة دائماً. فالجمال الطاغي غالباً ما يدعو إلى الخدش والتجريح، ولكنه لا يعرف إلا أنه يتمرد إذا وجد نفسه في غابة من المخالب . . . ألانا الجميلة تحاصر في كل مرة، ظروفها تدفعها بشكل أعمى إلى ذراعي المصيدة التي تنتظرها. المرة الأولى نجت بشكل قدري ولكنها في المرة الثانية أدركت أن القدر نفض يديه من قصة حياتها وعليها أن تواجه وضعها المعقد بكل ما أوتيت من دراية . . . وأنوثة. عليها أن تواجه كونون مافيليس، اليوناني الذي أرادها لأسبابه الخاصة واستعمل لذلك نفس الطرق التي يستعملها صياد متمرس للوصول إلى فريسته

تحميل الرواية مكتوبة

الفصل الأول
1-ألانا قررت أن تبقى وحيدة بسبب الصدمات المتتالية التي جعلتها تشك في الزواج وترفض كونون مافيليس وحبه الصادق ، وتتمنى أن تعرف الآن ، ماذا فعلت به الأيام؟ " هل تقبلين الزواج مني؟". كان ماكس هو الذي يسال ، ومن غير ان تدري ، تراءى لآلانا ذلك اليوناني الجميل ، ذو القوام الطويل الرشيق ، الذي مضت ثماني سنوات منذ صدته نهائيا ، وخرج من حياتها الى الأبد. ومع ذلك فهي لا زالت تستعيد صورته ، كان اسمر اللون مهيبا ، بهي الطلعة ، تبدو على وجهه علامات الصدق والقوة ، لم تعبث بفتنته تجاعيد الهموم ، ولا مرارة الخيبة والفشل. أما عيناه الرماديتان فقد كانتا داكنتين تميلان الى السواد ، ثاقبتين يشع منهما الذكاء ، يبدو الصدق في أعماقهما ، والثبات في نظراتهما. فكه كان مشدودا قويا ، ولكن كثيرا ما يتراخى عندما يرسل الضحكات المرحة ، كما أن وجهه كان يبدو فيه اللين والرقة دائما ، خصوصا عندما كانت تداعب الإبتسامة شفتيه. إنه اجمل من شاهدت في حياتها ، لم تره فتاة إلا وتمنت الزواج منه ، هذا ما لم تستطع ألانا أن تنكره ، ولكنها مع ذلك رفضته ، رفضته لا لأي سبب ، إلا لموقف إتخذته هي ضد الزواج ، بسبب فشل زواج أختيها ، فأختاها فتاتان جميلتان فاتنتان ، تزوجت كل منهما زواجا موفقا ، كما كان يبدو في حينه. فقد تزوجت أختها سالي من شخصية مرموقة ، رجل ذي لقب رفيع ، كثير الغنى ، أما أختها الثانية ماجي فقد كان زوجها مخرجا سينمائيا واسع الثراء أيضا. وكانت والدتها السيدة ولتوورث ، تقول لها ، ( أتمنى لك زيجة جيدة مثل اختيك ، وعندئذ أكون اسعد ام في العالم). ولكن على غير ما كانت تتوقع الوالدة ولأسفها الشديد فإن زواج إبنتها ماجي باء بالفشل ، فقد احب الزوج إمرأة أخرى ، مقتنعا ان المال يمكن أن يعوض عن الخيانة الزوجية ، فاعطاها منزلا ودخلا ثابتا تعيش منه مدى الحياة. ولما كانت ماجي تحب هذا الزوج الخائن ، فقد أصيبت عند معرفتها بهذه الكارثة بآلام مبرحة ، أدت الى إصابتها بإنهيار عصبي لازمها أكثر من سنتين. أما الأخت الثانية سالي ، فبعد زواجها بخمسة شهور ، إكتشفت أن لا توافق بين طباعهما ، وتأكدت انهما لا يمكن ان ينجحا في حياتهما معا ، ولذا تم الإنفصال بينهما برضى الطرفين. ولما عرفت آلانا بفشل زواج أختها سالي أيضا ، قالت لأمها: " لن اتزوج يا أمي وسأبقى عزباء، فاي معنى في أن يقيم المرء علاقة ليس لها من الحظ أن تدوم إلا مؤقتا ؟ لا ، لن أفعل ذلك". " على أية حال ، فكلتاهما أثريتا بالزواج ، ولن تضطرا الى العودة الى العمل ثانية ". لم تعلق آلانا على كلام أمها ، ولكن لم يكن الزواج في رأيها وسيلة للإرتزاق ، فهي من هذه الناحية تحظى بوضع جيد كسكرتيرة السيد ماكس نيولاند ، رجل الأعمال الناجح البارز الثري. كانت أعماله الواسعة تحتم عليه التنقل خاصة في أوروبا ، والشرق الأوسط ، وآلانا ترافقه دائما ، ففي ذات يوم المح لها ماكس حول إمكانية زواجها وتركها العمل معه ، ولكنها أخبرته بأنها مقتنعة بحياتها ولا تفكر بالزواج مطلقا. وماكس هذا كان يعيش نمطا من الحياة مليئا بالحيوية والنشاط ، فقد كانت له علاقات متتالية مع فتيات فاتنات ، أولئك اللاتي يصادف ان يلتقي بهن بحكم عمله، أو أثناء رحلاته. وآلانا بوصفها سكرتيرته الخاصة كانت مطلعة على جميع تصرفاته ، وكان عليها ان تكذب في كثير من الأحيان ، لتحرر رئيسها من مواعيد ندم على تحديدها ، كما أنها إعتادت على رئيسها وأساليبه ، فكلاهما يفهم الاخر جيدا. ولم ينس ماكس ان يدعو آلانا نفسها في عديد من المرات ، الى حفلات رقص ، أو فنادق فخمة لتناول طعام العشاء ، حتى أنه قال مرة لصديق له: " إن كنت ساتجاهل آلانا ، وأحتفظ بها للعمل فقط ، فإنها ستتركني بلا شك ، ولا أكتمك فأنا لا أستطيع أن أقوم باعمالي من دونها ، والحقيقة لا يمكن لأية سكرتيرة أن تحل محلها أو تصل الى مستواها في الكفاءة والفعالية ،والبراعة والذوق". ذات مرة ، كان ماكس في اليونان لشراء بعض الأراضي والممتلكات ، ترافقه سكرتيرته الجميلة ، وهي بعد في الثامنة عشرة من العمر حيث إلتقت بذاك الشاب الجميل المهيب كونون مافيليس ، إبن ووريث المليونير مصدّر الفواكه وزيت الزيتون ، كونون وهو في الخامسة والعشرين ، اعجب بآلانا وأحبها حبا عظيما ، ولم يتوان عن طلب الزواج منها. لا شك أن آلانا أخذت بجماله وراقت لها خصاله ، ولولا زواج أختيها الفاشل ، الوهم الذي سيطر عليها ، وجعلها تشك في جميع حالات الزواج ، والقرار الذي إتخذته بان تبقى عزباء ، لكانت قبلت عرضه بلا تردد ، ولكنها رفضت طلب كونون وصدّته بحزم. قابل عذرها بكثير من الغضب المليء بالشك وعدم التصديق ،عندما قالت أنها لا تريد أن تخوض مجازفة بدورها ، وقد رأت ما حل باختيها وزواجهما الذي تحطم. فقال منفجرا ،وهو يحملق بها غاضبا: " أنت تعنين أن رفضك هذا فقط بسبب فشلهما؟". أجابت : " نعم كونون ، هذا ما أعنيه بالضبط". وأخذ كونون يحاول جاهدا إقناعها قائلا : " إنني أحبك آلانا ، وأنا أشعر بأنك ستحبينني أيضا ، زواجنا سيكون موفقا ، وافقي على طلبي ، وسأتجاوزهذا الرفض ، سأعاملك بكل الحب واللطف والرقة كما تحب الفتيات الإنكليزيات ، دعينا نتزوج وأذهب بك الى جزيرتي ، جزيرة رائعة الجمال ، خلابة المناظر ، جزيرتي هي الجنة بعينها ، هناك النخيل والأزهار ، والجبال ، والبحر الأزرق الناعم ، هناك بيتي ، فيللا ليس هناك ما يضاهيها روعة وجمالا". توقف لحظة ثم أضاف بإبتسامة مشجعة: " دعيني أجعلك سيدة تلك الفيللا ، ارجوك يا آلانا ، أنا اطلب منك برجاء أن تقبلي الزواج مني". ولكن آلانا بقيت قاسية القلب لا تلين. لم تحفظ إسم الجزيرة، وكثيرا ما كانت تعجب إن كان كونون يعني بالفعل ما وصف به جزيرته ، أم أنها كباقي الجزر العديدة المنثورة تتألق كالأحجار الكريمة فوق مياه بحر إيجة الزرقاء؟ كم كانت تتمنى ان تعرف ، كيف اصبح كونون الآن ، وما فعلت به السنون ؟ هل تزوج؟ هل كوّن أسرة؟ وإن كانت في نفسها تظن انه قد تزوج ، فهو شاب تتهافت عليه الفتيات ، بالإضافة الى أنه ورث أباه بعد وفاته ، وأصبح واحدا من أغنى أغنياء اليونان ، هذا ما علمته من ماكس الذي كان يعرف حكايتها مع كونون. " الانا.....". قطع صوت ماكس المنخفض الواضح على آلانا تأملاتها فرفعت اليه نظراتها مبتسمة ، وتابع: " لقد سألتك اهم سؤال في حياتي ، آلانا ، هل تقبلين الزواج مني؟". هزت رأسها وهي لا تزال تبتسم له إبتسامة حلوة عذبة ، وقالت : " أأتزوج من مغازل مثلك؟ عليك ألا تبحث في امر الزواج مطلقا ، فمثلك لن يكون زوجا مخلصا ابدا". " حقا لي علاقاتي العاطفية الكثيرة كما تعلمين ، ولكنني الآن اصبحت في السابعة والثلاثين ، ومستعدا للإستقرار ، وإنجاب عدد من الأطفال ، وأنت ، آلانا ، اصبحت في السادسة والعشرين ، وآن الوقت الذي فيه تستقرين ،وتكوّنين أسرة". " انت تعرف رأيي من ناحية الزواج". " يا ألهي ، ألا زلت تتشبثين برايك ، بسبب فشل زواج اختيك؟ دعينا الان من قصتهما ، ولنبحث في أمر أنفسنا ، ولا يجب أن ندع أخطاء الاخرين تنعكس على حياتنا". " انا لا أستطيع ان أتزوج ، ماكس ، أرجوك ، إنس أنك سالتني ذلك ، دع صداقتنا المتينة التي دامت ما يقرب من السنوات التسع ، على ما هي عليه". " كان هناك فاصل في هذه الفترة ، وإن كنت اكره ان أذكّرك به ، ذاك الفاصل هي فترة زواجك". " كفى ! ". صرخت آلانا وقد صعد الدم الى وجنتيها ، وتابعت: " إنه لقبيح منك أن تذكّرني بذلك !". وتوقفت عن الكلام تستعيد بعض المشاهد من حياتها مع ذاك البغيض ، هوارد بيومنت ، ثم أضافت: "كانت مجرد فترة قصيرة حررتني منها رحمة القدر". " تحرر سريع ومحظوظ ". وغرق ماكس في خضم افكاره ، وعيناه الزرقاوان عالقتان بآلانا ، فلاحظ حمرة خديها التي كانت كافية لتزيد من جمال قسمات وجهها ، إرتفاع خديها ، غمازة ذقنها ، نعومة عنقها ، عيناها الزرقاوان الواسعتان ... كل ما فيها في منتهى الروعة. وبعد فترة قصيرة عاد الى الكلام: " إنها اربعة شهور فقط ، نعم لقد كان الحظ حليفك ، آلانا". كانا في قاعةالإنتظار في فندق سافوي ، ينتظران عميلا يأمل ماكس ان يبيعه فيللا في مالطة ، فحدقت آلانا في وجهه وقد ملأت المرارة والكآبة عينيها الجميلتين ، وهي تقول: " هل تظن ذلك يبدو أنك نسيت سبب زواجي ، نسيت أنني أجبرت على ذلك الزواج من ذلك الرجل فاقد الضمير ، المجرد من المبادىء الأخلاقية. قطب ماكس ما بين حاجبيه وقال: " أظن أنني نذل ، في نبش هذه القصة الان ، أو في أي وقت آخر ، ولكنني اردت فقط أن أذكّرك ، أنك تزوجت من قبل...". قاطعته آلانا غاضبة: " هل تظن أنني بحاجة الى تذكير؟". توقفت عن الكلام وقد تمثلت صورة كونون أمام عينيها ، عندما رفضت طلبه الصادق المتحمس ، لا شك أن الأقدار كانت تقف ضدها وتركتها تتمسك بقرارها ، أن تبقى وحيدة ، ثم تساءلت في نفسها ، ترى هل عرف كونون أنها تزوجت أخيرا؟ تملكها شيء من الخوف وهي تتخيل غضبه وهياجه إذا عرف ذلك ، كما إرتجفت لتصورها إدانته المروعة لها ، والتي تستحق في نظره ، الحكم عليها بالموت. الزواج ! يا لها من سخرية ، من البداية حتى النهاية ، سبب رهيب هو الذي إضطرها ان تقبل بما عاهدت نفسها أن ترفضه مدى حياتها ، ولكن القدر يحكم على المرء أحيانا بما لا يطيق. نعم لقد تزوجت آلانا ، تزوجت لأنه لم يكن أمامها إلا أن تفعل ذلك ، من أجل أخيها التوام. حدث مرة ان أخاها كان في عطلة جامعية ، فعمل مع هوارد بيومونت التاجر والممول المشبوه ، وسوس له الشيطان ، فإختلس مبلغا من المال ، وإكتشف هوارد الأمر ، وصمم أن يقدمه للقضاء. جاء داريل الأخ الى اخته بالدموع ، وعلى الفور ، صممت آلانا ان تقابل هذا المدعوهوارد بيومونت. كان هوارد رجلا بدينا ، ذا سمعة معروفة مع النساء ، سرعان ما عرفتها آلانا ، مترهل الجسم ، له أنف منتفخ ، وشفتان غليظتان نتنطقان بالشر ، وعينان ضيقتان مليئتان بالخبث. راته شخصا مثيرا للإشمئزاز ، اكثر من أي مخلوق على وجه الأرض ، وبالتأكيد مقابل طلبها ، طلب من آلانا الزواج...... تطلعت آلانا نحو ماكس ، ورأت تطلعاته المتسائلة ، التي تجاهلتها وهي تتذكر مقابلتها الأولى مع هوارد بيومونت. كم عانت آلانا من المرارة وأحتراق القلب ، والخوف المريع قبل أن تقرر قبولها النهائي لطلبه ، وكانت صحة والدتها المتدهورة سببا في تعجيل إتخاذها ذاك القرار ، فقد كانت تعاني مرضا في القلب ، يمكن ان يقضي عليها إذا تعرضت لصدمة ، وعرف هوارد ذلك وراح يهدد آلانا بالذهاب الى امها وإخبارها بقضية أخيها. اخبرها هوارد أن عقوبة أخيها السجن لمدة خمس سنوات على الأقل فهو قد زوّر أكثر من تسع شيكات ، بالإضافة الى انه إختلس من خزنته الألوف من الجنيهات ، خسرها جميعها في مضاربات هوجاء ، ولا شك أن هذه الرواية ستقضي على الوالدة. آلانا كانت تشك في هذه الألوف التي يقول أنها سرقت من الخزنة التي يملكها ، فأخوها إعترف أنه حقيقة أخذ قليلا من المال لا يعرف مقداره . على أية حال فالأمر لم يعد ذا أهمية كبيرة ، فآلانا تحت ذاك التهديد وافقت على الزواج منه ، ووالدتها فرحت كثيرا لذاك الخبر ، لأن إبنتها الثالثة تزوجت من رجل غني أيضا. جاءت ليلة الزفاف بكثير من السرعة وشعور مقيت من الإشمئزاز ، ليلة أقسى من الموت ، صعدت الى غرفة النوم ، حيث قادتها الخادمة ، وهناك جلست تنتظر بكامل ثيابها. كان الوقت بعد منتصف الليل ، عندما سمعت وقع خطواته الثقيلة على الدرج ، فوقف قلبها ساكنا بين جنبيها ، باردة كالثلج ، ترتجف من شدة ما إعتراها من خوف ورعب. لحظات ، سمعت بعدها صوت جسم ثقيل يتدحرج كصوت الرعد من البعيد خلال المبن الضخم الواسع وكان هوارد قد سقط ، وإرتمى عند أسفل الدرج. وبعد أسبوعين من ذاك الحادث ، خرج هوارد من المستشفى ، أقل بدانة مما كان عليه ، وقد وضع الضرر الذي لحق به من جراء تلك الإصابة ، حدا لحياته المليئة بالعشق والهيام والى الأبد. ولو كان ذلك بعيدا عن الروح الإنسانية ، إلا أن آلانا أحست انها تريد أن تجثو على ركبتيها ، وتشكر الله الذي خلصها منه ، ان تكون انانية ، قاسية القلب ، فهذا لم يكن يزعجها ابدا ، فهو الذي فرض عليها هذا الزواج عنوة ، وبالتهديد ، حيث لم يكن بإستطاعتها مطلقا أن تمنحه ولو شيئا قليلا من الحنان. لقد كان يهددها بقسوة وهو يقول: " لا تظني انه بإمكانك أن تتركيني ، فإن فعلت فسوف يعود أخوك مباشرة الى القضاء". وكانت تنظر اليه بإزدراء ، ولكن بإذعان وهي تجيب ببرود: " لن أتركك ، فلا تخشى ذلك". كانت أمواله أكثر من أن تحصى ،حتى أن مساعديه كانوا يرهبون التفكير فيها ، ولكن بعد اربعة من شهور من يوم الزفاف ، يوم توفي هوارد ، ترك في وصيته جميع ثروته للمؤسسات الخيرية. يحق لالانا ان تطعن في الوصية ، ولكنها لم تفعل ، ولم تأبه لذلك ، وكانت فرحتها غنية عن الوصف ، وكذلك شكرها للقدر الذي سبق وقسا عليها ثم عاد وحررها مما أوقعها فيه ، وكل ما كانت ترغب وتتمنى ، هو أن تنزع ذاك الفاصل البغيض من حياتها وتعود الى حيث كانت. كان ماكس سعيدا جدا بعودتها ، ولكن بشكل طبيعي كان أول ما سألها هو الثروة التي كان يجب أن تكون من نصيبها. " لم يترك لي شيئا ، يا ماكس ، وما كنت أريده أن يفعل ، وكل ما أبتغيه الآن هو أن تعيدني الى وظيفتي ، وعندها أكون سعيدة جدا". في ذاك الوقت آلانا وماكس لم يكونا أكثر من رئيس ومرؤوس ، ولم يمض على عملها معه أكثر من سنة يوم تم زواجها ، على أية حال فقد برهنت تلك العلاقة أنها قاعدة متينة لبدء تلك الصداقة التي إستمرت حتى تلك الساعة التي كان ماكس يطلب فيها الزواج من آلانا. كان ماكس قد تعب من حياة اللهو والمرح وتاق الى حياة الأستقرار ، ولذا جاء يعرض على آلانا الزواج مما أثار دهشتها ، ولكن رفضها ذاك لا يمت بصلة الى زواجها السابق ، فهو لم يكن من إختيارها ، ولم يكن الحب هو الدافع اليه ، ولا من أي من الطرفين ، وإصرارها على البقاء عزباء ، بقي متعلقا بما حصل لأختيها ، ولن يستطيع أي رجل ان يبعدها عن الطريق التي إختارتها لنفسها.... اخذ ماكس يعتذر لأقحامه موضوع زواجها قائلا: " كان يجب ان أكون أكثر ذوقا ، أتسامحينني ، آلانا؟". إبتسمت له واحست ان ذاك الفصل الثقيل قد أزيح من مخيلتها وقالت : " بالتأكيد ، ماكس". وقف ليشكرها بطريقة غريبة ، ثم قال : " هل تذكرين ، بعد الجنازة......". توقف فجأة وقطب حاجبيه ثم عاد الى الكلام : " لقد عدت الى الموضوع ثانية !". " لا بأس ، ماذا عن الجنازة؟". " لم ارد ان اواسيك بالكلمات التي كان يرددها الآخرون ، لأنني منذ البدء كنت أشعر أن هناك خطأ خطيرا قد إرتكب ، عندما أعلمتني بقرارك الذي إتخذته ، موافقتك على الزواج من رجل مثل هوارد ، وأيقنت ان موته امر مفرح. أحنت آلانا راسها ، فهي تذكر أن ماكس سالها لماذا قبلت الزواج من هذا الرجل؟ شملها بنظرة إعجاب وهو يتامل جمالها ، وتابع يقول أنه كان بإمكانها ان تختار ، ومما حير الكثيرين من الناس أنها قبلت أن تتزوج ذاك الرجل الثري. ومرة أخرى أحنت راسها ، ولأسباب غريبة شردت أفكارها نحو كونون مافيليس ، ذاك اليوناني الذي دفعه حبه الملتهب الى طلب يدها للزواج. وخطر ببال آلانا انه لا بد قد تزوج ما دام على هذا النحو من الجمال والأناقة والجاذبية ، لدرجة يستطيع معها ان يجتذب اعين النساء كيفما توجه ، وتفتخر أية فتاة ان ترى معه ، وتساءلت ، ترى ، كيف يبدو الان ؟ كما تساءلت عن السبب الذي جعله يقتحم عليها أفكارها ، وقالت في نفسها ، لعل ذلك بسبب ما أخبرها به ماكس ، عن قرب ذهابهما الى اليونان لشراء أرض كبيرة من أحد الثرياء هناك ، وايقنت أن ذاك هو السبب الحقيقي ، فاليونان وكونون مرتبطان ببعضهما إرتباطا وثيقا. كان ماكس يتحرك بقلق ينتظر ردا على سؤاله الذي طرحه عليها ، وعاد يسألها: " أنا أسالك لماذا تزوجت من هذا الرجل؟". " أظن أنني المحت لك عن ذلك". " تلميح ! قلت انك أجبرت على الزواج ، وهذا كل شيء ، أما لماذا أجبرت ، فأنا لا زلت اجهل ذلك". لاحظت آلانا شيئا من الإستياء والغضب في نغمة صوته ، وتذكرت رفضها الخوض في مسألة زواجها ، بعد ان المحت له بالسبب ، ولكن يبدو ان تلميح آلانا لم يكن سهل القراءة ، ولذا أجابت: " اخي هو السبب". قررت آلانا أن تخبره بكل شيء ، خصوصا أن أخاها الان في أميركا ، يعمل كمستشار في مؤسسة مرموقة ، وعلى اية حال فإن آلانا تثق بماكس وتأتمنه على أهم اسارها ، وتابعت: " مرة عمل أخي مع هوارد اثناء إحدى العطل الجامعية ، فسرق منه بعض المال ، واسوا من ذلك فقد زور بعض الشيكات". " يا الله ! لم أكن أوقع شيئا من هذا ! ولو عرفت لكنت قدمت المساعدة ". سكت لحظة ثم تابع وفي صوته رنة عتاب: " آلانا لماذا لم تأتي الي؟". " كنت أتيت لو حصل ذلك الآن ، اما في ذاك الحين... ماكس ، كنت موظفة جديدة عندك". ظل الغضب والإستياء باديين على وجهه ، وقال : " لماذا بحق السماء لم أصر على معرفة السبب في حينه؟". هزت ألانا كتفيها وقالت : " لم يعد الأمر مهما". " الان ليس مهما ، ولكنه كان كذلك في ذاك الحين ، فكري فط لو أنه لم يصب بذاك الحادث.... او أنه لم يمت ، كم كنت ستعانين ، مع أنه كان يمكنني ان أمنع ذلك". " ماكس لم كل ذلك ؟ فالقصة إنتهت ومضت وأصبحت الان تاريخا ، فلماذا تلوم نفسك الى هذا الحد؟". إنطلقت من ماكس ضحكة رقيقة وقال: لا لشيء ، الحق معك". سكت ماكس لحظة ، اشار خلالها لأحد المستخدمين يطلب بعض المرطبات ثم قال يذكّر آلانا: " إنك لم تجيبيني على سؤالي الأساسي ، ألانا ، حقا إنها غلطتي ، فانا الذي خرجت عن الموضوع ، ومرة أخرى ، هل تقبلين الزواج مني ؟ فكلانا يعرف الآخر معرفة تؤكد أن زواجنا سيكون موفقا". سألت آلانا بإستغراب: " وهل هذه المعرفة تكفي ؟ ألا يجب أن يحب أحدنا الاخر؟". " أظن انني احبك.....". أفترت شفتا آلانا عن إبتسامة حلوة عذبة وهي تقول: " تظن ؟ إنني أتساءل كم من الزيجات نجحت في مثل هذه الحال؟". " على الأقل أنا صادق". ثم سكت برهة ، وقد أشرق وجهه بإبتسامة رقيقة ، نظرت آلانا اليه متفحصة ، فقد كان وجهه مريحا كالمعتاد ... عريض الجبين ، ذا شعر اشقر خفيف ، ولم تستطع آلانا ان تنكر ولو بينها وبين نفسها أنه رجل جذاب مما جعله محبوبا عند النساء ، كان أنيقا في ملبسه ، يملك سيارة فخمة فضية اللون وبيتا على أحدث طراز مفروشا بأجمل الأثاث ، تحف به جنائن فسيحة رائعة الجمال ، كما أن هناك مسبحا فسيحا رائق المياه مدهونة أرضه وجوانبه بلون أزرق صاف أخاذ ، وهو يمتلك ايضا كثيرا من العقارات الأخرى هنا وهناك. تابع ماكس كلامه قائلا: وماذا عن مشاعرك نحوي ؟ أنت لا شك تميلين الي ، ألا تظنين أنه بشيء من المحاولة ، يمكنك أن تشعري نحوي بنوع من العاطفة؟". بقيت الإبتسامة تعلو شفتيه ، وأيقنت ان رفضها سيغضبه أكثر مما يؤلمه ، فقالت : " لن أتزوج أحدا يا ماكس". كان صوتها هادئا كعادته وهي تضيف ، أنه يضيع وقته سدى ، وإذا كان بالفعل يريد الزواج ، فهناك عشرات النساء ، يمكنها أن تسميهن له ، يسعدهن أن يتقدم اليهن بهذا الطلب. " هل أنت جادة برفضك؟". فأجابت بشيء من الغضب: " عزيزي ماكس ، لا شك أنك ترى ذلك". أخذا يشربان ما قدم لهما ، وماكس ينظر الى الكأس التي بيده ، متفاديا نظرات آلانا ثم قال : " إذا تزوجت إمرأة أخرى ، فإنها ستعترض على وجود سكرتيرة جميلة جذابة مثلك معي". نظرت ألانا اليه بإرتياب وقالت : " هناك إمرأة في ذهنك". صمتت لحظة ثم تابعت : " وأنا لدي فكرة عمن تكون ". " حاليا أنت المرأة التي في ذهني". " ولكن هناك أخرى تاتي في المرتبة الثانية ، اليس كذلك؟". خرجت من صدر ماكس تنهيدة خفيفة ، ورفع الكأس الى شفتيه ، وفجاة نظر الى ساعة يده ، وقال بإنفعال: " أين ذاك العميل الذي ننتظره ؟ لماذا تتأخر النساء هكذا دوما عن مواعيدهن؟". " لأنهن يبذلن وقتا أطول في العناية بمظهرهن". " في هذه الحالة عليهن ان يبدأن بالإستعداد في وقت مبكر". كان إقتراحه منطقيا ، ولكنه عاد يقول: " على اية حال ، دعينا نعود مرة أخرى الى السؤال الهام في قضية زواجي ، فقط كنت اقول ... أنه إذا تزوجت من غيرك فساقع في مشكلة إذا إحتفظت بك". " عندئذ ستستغني عني ، أليس كذلك؟". نطقت بتلك الكلمات بهدوء ، ولكن فكرة تركها ماكس أزعجتها كثيرا ، فهي لم يسبق أن قامت بعمل آخر ، ومن الممكن ألا تعرف شيئا من أعمال المكاتب الأخرى. لقد سافرت آلانا كثيرا مع مديرها ، مما هيأ لها معرف بلدان عديدة، فكان ذلك ممتعا لها وباعثا على إسعادها ، وماكس لم يحدث مطلقا أنه وجد خطأ في أي عمل قامت به . كان يستشيرها ويعتمد عليها في أمور كثيرة ، حتى انه كان يقول انه لن يرى أية سكرتيرة أخرى تستطيع أن تمل مكانها بنجاح. وبعد فترة صمت قصيرة ، عادت تقول : " أنا لا ارغب في التفكير بانك ستتزوج إمرأة تغار مني". " إذن إقبلي بي ، آلانا ، ودعينا نستمر معا الى الأبد". رفعت آلانا حاجبها المقوس الناعم ، ونظرت اليه قائلة: " الى الأبد؟ظننت انك تريد أن تنشىء اسرة". " بالتأكيد ، وسيكون لنا طفل أو إثنان ، إن رغبت". " آسفة ماكس ، لن يغريني أي شيء ". قطب ماكس حاجبيه وتأوه ، ثم قال بيأس : " أظن انه من الأفضل ان اتخلى عن فكرة الزواج". نظر اليها ، الى شعرها العسلي الطويل ، وعينيها الأخاذتين ، ووجهها الذي يفيض نضارة وجمالا ، الى يديها الناعمتين ، أظافرها اللامعة ، ثم اضاف: " شيء جميل ان يكون لي إبن وريث ، فأنا املك مالا وفيرا ، ولكن ليس لي من أتركه له ". " قلت الحق ، شيء جميل أن يكون لك إبن". قالت ذلك توافقه على رأيه ، وهي تذكر أنها في كثير من المرات كانت ترى ماكس يداعب ابناء الآخرين ، وتابعت: " الواقع كما قلت ، فليس لك من تترك له أموالك". " والأعمال العظيمة التي حققتها ، وبنيتها بنفسي ، حتى أصبحت من أفضل الشركات التي من نوعها وأكثرها إحتراما في لندن ، أفليس من المحزن أن تنهار بعد رحيلي؟". فقالت له بلطف: " أمامك متسع من الوقت ، فانت لا زلت في أوج الشباب ، وستبقى فتيا ولو بعد عشر من السنين". لوى شفتيه ، وقال: " لن أكون فتيا بالقدر الذي تظنين ، سأكون في السابعة والأربعين ، يا عزيزتي". " هذا العمر ليس متقدما بالنسبة للرجل ، فهذه الأيام تختلف عن أيام القرون الوسطى". " شكرا لك على مجاملتك ولو أنني أشك فيها". لم تقل ألانا شيئا ، وبعد فترة صمت عاد ماكس يقول لها ، أن هناك في ذهنه إمرأة أخرى يمكن ان يتزوجها ، إذا إستمرت هي على رفضه ، وتابع وقلبه يخفق بالأمل: " ولكن سأنتظر ن فمن المؤكد ان تغيري رأيك". ولكن أمله مات والى الأبد عندما هزت راسها بالنفي ، وهي تؤكد له قائلة: " لن يكون الزواج من نصيبي ، ماكس ، فأنا فتاة عزباء ، واريد أن أبقى كذلك على الدوام". والآن جاء دور ماكس ليهز راسه ، وكأنه كان مكرها على تلك الإيماءة ، وكذلك الكلمات التي فاه بها بعد ذلك ، كانت تبدو كأنها تخرج من فمه عنوة ، وهو يقول: " سوف تقعين في الشبك في يوم من الأيام، يا فتاتي ، وبما انني متأكد من ذلك ، فعلي أن أخطط منذ الان ، لليوم الذي ستتركينني فيه". " ماكس ، ارجوك ، كن عمليا ، أنت تعرف جيدا أنني لا أريد أن أتركك ، وإذا حصل وذهبت ، فهذا يعني أنك أنت الذي تريد ذلك ، وهذا ما ستفعله إذا تزوجت من مارلين تشاندلر...". " كيف عرفت ان هذه هي التي اعنيها؟". " لأنها هي التي ما زالت تحوم حولك ، ولأنها الوحيدة التي تظهر غيرة مني ، أما الأخريات فقد كن يقبلن بي منذ البداية ويقتنعن بوجودي هنا ، ويبدين لي المودة في كثير من الأحيان". توقفت ألانا قليلا عن الكلام ،وهي تطيل النظر في وجهه ، ثم تابعت: " ماكس ، أنا لا أقصد ان اقول شيئا ينتقص من قيمة مارلين ، ولكن كل ما أريد قوله ان غيرتها كانت دائما بادية للعيان". " أظن أنك لا تعتقدين أنها مناسبة لتكون المرأة الثانية في ذهني". إبتسمت ألانا وهي تفكر في مارلين الفاتنة ، وتتساءل ، ماذا سيكون تأثير هذه المناقشة عليها لو كان بإمكانها أن تسمعها ؟ وقالت: " ماكس ، إنها مشكلتك ، انت الذي تعرف إن كانت مارلين مناسبة لك أم لا ". صمت قصير مر بينهما ، ثم تابعت: " إن نظرة النساء للنساء تختلف عنها عند الرجال ، مارلين لا تحبني ، وهذا لا يعني أنها خبيثة أو حقودة ، او أي شيء آخر من هذا القبيل، من الممكن ان احس نحوها بالمثل ، لو كنت مكانها". سكتت ألانا برهة ، ولما لم تسمع منه تعليقا على كلامها ، اضافت قائلة: " نعم ، يجب أن نفترق إذا تزوجت منها ، وكذلك يجب ان أبدأ بالبحث عن وظيفة". قطب ماكس حاجبيه ، وخرجت من صدره تنهيدة حرّى ، ثم قال : " لا بد انني ساتزوج في يوم من الأيام". " إنك لم تجبني على سؤالي". خرج صوتها لطيفا ناعما ، وهي تتابع وتسأله: " هل أبحث عن وظيفة أخرى؟". خيّم عليهما صمت طويل ، ثم قال متذمرا : " إذا جاء أحد ، فلن أقف في طريقك ، ولكنني أريدك ان تبقي أطول مدة ممكنة". " إذن ستتزوج مارلين ، أليس كذلك؟". " نعم ، أظن ذلك". " في هذه الحالة ، من الأفضل أن أبحث عن وظيفة منذ الآن ، لأنه في اللحظة التي ستلبس فيها مارلين خاتم الخطوبة ستطلب منك ان تتخلص مني". ولما لم يبد ماكس إحتجاجا سريعا على ذلك ، كان من الواضح انها لم تخطىء الحكم ، بالنسبة الى إمتعاض مارلين من مكانة ألانا عند ماكس وصداقته لها. وبعد برهة صمت ن قال : " ليس مباشرة ، فأمامنا متسع من الوقت ، لن أتزوج إلا بعد مدة ليست قصيرة ، سوف نعلن الخطوبة اولا بالطبع ، وهناك بعض الأمور يجب ان انهيها قبل أن أدعك تذهبين ، خصوصا موضوع تلك الأرض التي الاحقها وأريد أن أشتريها ، تلك الأرض التي أخبرتك عنها". " في اليونان؟". " تماما". تردد ماكس قليلا ، والانا تنظر اليه بحيرة ،ولكنه تابع: " الرجل الذي آمل ان اشتري منه الرض ، يعيش في جزيرة كاليمنوس ، بينما مصانعه وكروم العنب ، وغيرها ، وغيرها جميعا في أماكن أخرى من البلاد". " حسنا ، هل ستذهب الى كاليمنوس هذه؟". أحنى راسه والقلق باد عليه ، والحيرة التي تكتنفه كانت غير عادية ، وبعد تردد قال : " نعم سنذهب الى هناك....". " ماكس ، ماذا هناك؟ أكمل". " لقد إلتقيت مرة بالرجل الذي أتوقع ان اتعامل معه". سرى الشحوب في وجه آلانا وقالت على الفور: " كونون مافيليس". كانت الحقيقة ، ومعرفتها إسم الشخص ، لم يكن أمرا صعبا ن طالما أن كونون هو اليوناني الوحيد الذي إلتقت به في حياتها. " نعم ، هذا صحيح ، الرجل الذي أراد مرة ان تتزوجيه ، هل تذكرين؟". " نعم ، إنني أذكر ". كان مستحيلا عليها أن تنساه ، شخصيته الساحرة كانت معها في تلك اللحظة ، وكانه في كل مكان من غرفة الإستراحة التي تجلس فيها في الفندق. وبعد وقفة قصيرة ، تابعت كلامها: " بالتأكيد ، إنني أذكر ، هل رايته مؤخرا؟". " لم اره منذ رايته انت، ولكننا نتبادل الرسائل بإنتظام خلال الأسابيع القليلة الماضية.....". قاطعته الانا بإستغراب: " تتبادلان الرسائل ؟ولكنني لم أر اية رسالة منه !". تطلع ماكس بعيدا في الفضاء متفاديا نظراتها ، ثم قال معتذرا: " إنه هو الذي أراد أن يتم هذا العمل سرا ، وهكذا أجبت على رسائله بنفسي". نظرت اليه بحيرة ، فقد كان من مهمتها أن تطلع على جميع مراسلاته ، على اية حال فله الحرية أن يخفي عنها بعض الأمور ، إن كان يريد ذلك ". وتابع ماكس كلامه فقال: " لقد عرض علي جزءا من اراضيه ، فهو يعرف انه يسرني أن أشتري ارضا في اليونان". قطبت الانا حاجبيها وإنتابها شعور لم تستطع تفسيره ، فهناك رائحة سر غامض في هذه العملية. فهي لا تستطيع ان تتخيل انك ونون يعرض ارضا للبيع ، لن في هذا حطّا لكرامته ، بالإضافة الى أن كونون ليس بحاجة الى بيع أرضه. قالت ألانا: " إن الأمر يبدو غريبا بالنسبة الي ، هو طلب منك أن تسافر اليه لتعاين الأرض". " أنا اعرف الأرض ، ورايتها منذ سنوات ، ولكنني ذاهب لأشتري الأرض إذا تم الإتفاق على السعر ، هذا كل ما في الأمر". لم تقل ألانا شيئا ، ولم تدر لم اخذ قلبها يخفق بسرعة، فاللغز يبدو اكثر عمقا. وأما ماكس فقد اضاف: " لقد سال عنك ، فهو يبدو...". " سال عني؟ كيف عرف أنني لا زلت أعمل معك؟". " رسالته الأولى كانت تحوي إستفسارا عنك ، فقد سالني إن كنت لا زلت تعملين معي ، وإذا كان كذلك ، فهلا زلت ترافقينني في اسفاري العملية البعيدة ؟ أخبرته أنك لا زلت تعملين معي ، وإنك ستسافرين برفقتي إذا انا ذهبت لمقابلته". تحذير داخلي جعلها تقول بإندفاع : " هل يهمك إذا كنت لا اريد ان أرافقك ، ماكس ؟ إنني افضل الا ارى كونون ثانية.....". ولكنها توقفت مدركة سخف طلبها ، فهو يحتاجها في مثل هذ العمليات. وعلى اية حال ، فلماذا تخشى لقاء كونون مرة أخرى ؟ولذا تداركت الأمر ، وعادت تعتذر. " إنني اسفة ، انا لا أدري ما الذي جعلني أقول ذلك ، بالتأكيد سأرافقك". حدّق ماكس النظر فيها ، وقال : " من الطبيعي ان أحتاج اليك هناك". وتردد لحظة قبيل أن يضيف: " إنها فرصة لا تعوض ، أنت تعرفين ذلك ، لسن كثيران من يجعلن مثل هذه الفرصة تفوتهن ، ويرفضن مثل هذا الرجل". " كنت معارضة لفكرة الزواج في ذاك الحين". " في ذاك الحين؟". ردد ماكس كلماتها ورنة أمل تبدو في صوته . " تماما كما أنا الان ". قالت ذلك وكانها تواصل كلامه ، وراته يهز كتفيه بإذعان ، عندما إستدار بناظريه الى القنطرة الواسعة التي بدت عميلته آتية منها في تلك اللحظة، وأصبح أكثر إهتماما بالعمل الذي سيناقشه مع السيدة التي تركته ينتظر مدة طويلة ، اما ألانا فقد عادت في افكارها الى كونون وتساءلت : " هل هو متزوج؟". إنطلق السؤال من بين شفتيها قبل ان تستطيع حبسه. " لم يخطر لي ببال ان أسأله". أجابها رفيقها بجفاء ، ثم أضاف: " على أية حال ستكتشفين ذلك عندما تصبحين هناك". صعد الدم الى وجهها ملونا إياه بلون الورود ، ولحسن حظها تقدمت العميلة منهما في تلك اللحظة وهي تعتذر: " إنني آسفة ". بدأت القادمة في الكلام ، عندما هبّ ماكس واقفا لإستقبالها: " أخشى أن اكون قد تأخرت عليك قليلا ، إنها دقيقتان ، أو ما يقارب ذلك ". ثم نظرت الى ساعة يدها ، وهي تؤكد : " لا أكثر ، أليس كذلك؟". " لا اكثر من ذلك !". ردد ماكس كلماتها موافقا ، بطريقته الجذابة المعتادة التي يؤثر بها على الزبائن ، ويجعلهم يحسون بالإرتياح ، ثم تابع كلامه : " على اية حال ، إنه لمن دواعي سروري ان أنتظرك". نظر الى آلانا وهو يغمز بطرف عينه ، ثم رفع يده يدعو المستخدم ، ويسأل القادمة عما تريد أن تشرب......
الفصل الثاني 2-ماذا حل بهذا الرجل الذي وصفته آلانا ذات يوم بانه أجمل من رأته في حياتها ؟ هذا التحول المفاجىء لا يمكن أن يكون إلا نتيجة صدمة عميقة..... كانت السماء لا تزال تتشح بالظلام عندما بدأت الطائرة رحيلها نحو مطار رودس ، فماكس وألانا إضطرا للسفر على أول طائرة تقلع قبل أن يبزع الفجر ، لأنه لم يكن هناك متسع لهما على الطائرة التالية ، ولذا كان عليهما ان يقضيا في رودس طيلة بعد ظهر ذاك اليوم وليلته. لم يزعجهما ذاك السفر المبكر مطلقا ، فرؤية جزيرة مثل جزيرة رودس شيء ممتع وجميل. سارا على طول شاطىء ماندراكي ، وإستمتعا بنسيم البحر العليل ، كما تجولا في الحدائق المليئة بالأزهار ذات الأريج العطر آملين ألا ينزل المطر . ثم تناولا عشاءهما في الفندق الذي قررا أن يقضيا الليل فيه ، وفي صباح اليوم التالي ، في تمام العاشرة ، ابحرت السفينة بهما الى جزيرة كاليمنوس . كانت الشمس تتوهج في كبد السماء ، بينما كان ماكس يمضي بعض الوقت في التحدث مع رجل إلتقى به ، أما ألانا فقد جلست على ظهر المركب ، محاولة القراءة. لكنه كان من الصعب عليها أن تفعل ، فصورة كونون كانت تتراءى أمام عينيها ، فتحجب ما بينهما والصفحة المكتوبة ، فها هي ستلتقي بكونون مرة أخرى ، ولا شك سيشعران بالحرج والإرتباك عندما يلتقيان ، او ربما هي التي ستشعر بعدم الإرتياح لذاك اللقاء. فهي تذكر ولن تنسى كم كان يتمتع بالثقة ورباطة الجأش ، حتى وهو في الخامسة والعشرين ، مما كان يجعلها وهي في الثامنة عشرة تحس أنها اقل منه شأنا ، ربما لأنها كانت صغيرة ، أما بماذا ستشعر الان فهذا ما تجهله. إستعادت في مخيلتها ما أصابها من خجل عند لقائها الأول يكونون ، على مأدبة غداء صغيرة اقامها أبوه لبعض رجال العمال ، كان ماكس أحد المدعوين ، وإصطحب معه سكرتيرته ، وهناك وقعت عينا كونون على وجه الانا. لاحظت ألانا التغيير المفاجىء الذي طرأ على تعابير وجهه ، على نظرته ، فقد كانت ثابتة باردة تلك النظرات التي كان ينتقل بها من شخص الى آخر متفحصا ، حتى تحولت الى نظرات تشع بالحيوية مليئة بالإعجاب . أغضت الانا حياء ، وقد سرى الإحمرار في وجنتيها آنذاك ، نعم إنها لتذكر ، وتذكر ذلك جيدا ، ولما إتجه نحوها بخطواته الواسعة، إزداد خفرها وإزداد إحمرار وجهها ، وصدرت عنها حركة كمن يريد ان يهرب ، ولكنه كان اسبق اليها قبل ان تفعل. إبتسم لها بعذوبة ، وأحنى راسه أمامها بلطف محييا ،وهكذا بقيت ألانا حيث كانت ، صامتة ، وكونون ينظر اليها من غير أن تفارق البسمة شفتيه . جاء ابوه على الفور ،وكذلك فعل ماكس ، وتم التعارف ولكن بعد قليل كان كونون وألانا وحيدين يجلسان في زاوية من غرفة الإستراحة ، في الفندق الذي اقيمت فيه المأدبة ، تحدث اليها بمودة كأنه صديق حميم ،وبعد تناول الغداء ن إقترح عليها التجول في أنحاء الفندق. سالت هالانا: " هل لديك من الأعمال ما تقوم به هنا؟". اما كونون فقدهز راسه وأعلمها أنه جاء فقط كي يبعث الفرحة في قلب ابيه ، غير أنه الآن مطلق الحرية يمكنه ان يفعل ما يشاء ، وأنه لا يستطيع مقاومة الغربة في موافقتها ، ووجدت الانا نفسها توافق على طلبه. إنها لا تزال تذكر جمال الحدائق التي مرت بها تتالق بألوان الأزهار الغريبة ، واريجها يعطر الهواء ، والأشجار تتمايل بصمت نشوى بتلك الرائحة. كان لهذه المشاهد الساحرة أثرها على نفس ألانا فهزت عواطفها وشعرت بقلق يخامر صدرها ، فما لاحظته في هذه الفترة القصيرة في كونون انه سريع في إتخاذ قراراته ،ومع أن ما بينهما كان بداية بسيطة لنشوء صداقة ، إلا أنها توقعت ان يطلب منها الزواج ، أذهلتها هذه الفكرة ، وخشيت من نتائجها ، ولذا نجحت في التهرب منه في الأيام القليلة التي تلت ، الى أن قبلوا دعوة أخرى الى إجتماع يبحثون فيه بعض الأعمال. أراد ماكس ان يصحب ألانا معه ، وكان على ألانا أن تكذب ، فإعتذرت عن الذهاب بحجة مرض ألمّ بها ، وهي تعرف أنه يحسن القيام بالعمل من دونها ، وعند عودته بلّغها سؤال كونون عنها ، وما بدا عليه من قلق عندما علم انها على غير ما يرام. ضحك ماكس وكان في ضحكه شيء من التلميح ، لم يرق لألانا ، ثم اخذ يحدثها عن كونون ، فعرفت منه ، أنه إبن أغنى رجل من أصحاب المصانع في أنحاء اليونان ، لم تبالي الانا بهذه الأخبار وكل ما يهمها أن يعود بها ماكس سريعا الى أنكلترا ، قبل ان تلتقي بكونون ثانية. ولكن ما حدث كان غير ذلك ، فإن كونون إتصل بالفندق الذي تنزل فيه يسال عنها، ولما كان ماكس قد خرج مع فتاة يونانية جذابة ، صدف أن إلتقى بها ، دعا ألانا الى العشاء وقضاء سهرة راقصة ، وهكذا قبلت الدعوة ، وبالرغم من أن قوة خفية في داخلها كانت تدفع بكلمات الرفض الى شفتيها إلا ان هاتين الشفتين حورتا الكلام ، وتبدل الرفض بالقبول ، فشخصية كونون كانت قوية جدا ، وجاذبيته لا تقاوم. لا تنكر الانا أنها إستمتعت بتلك الأمسية كثيرا ، فقد رافقت كونون الى فندق على شاطىء البحر ، حيث تناولا طعامهما تحت السماء المتألقة في ضوء القمر ، وكذلك أخذت النجوم تسترق النظر اليهما وهما يرقصان على شرفة واسعة مزدانة بالأزهار. خفق قلب كونون فترك له العنان ، ولكنه لم يتكلم ، وظل صامتا ، وبقيت ألانا صامتة. وكان اليوم التالي وظهر كونون ثانية ، وطلب من ماكس أن يصطحب الانا معه ، ولما كان الرد بالإيجاب ، إلتفت اليها ، وبمنتهى الثقة بالنفس وروح التملك قال : " إذهبي وإستعدي للخروج". رفع ماكس حاجبيه دهشة ، والانا تقف هناك غير مصدقة ما تسمع ، إن أي إنسان يرى سلوك كونون هذا لا بد أن يظن أن لديه السيطرة الكاملة عليها ، رفعت وجهها اليه ، ولكن بدل أن تنطق بكلمات الرفض التي قفزت الى لسانها ، وجدت نفسها وبطريقة ما ، تقبل دعوته وتحدق فيه بنظرات مليئة بالتعجب وكلمات القبول تخرج من بين شفتيها. إرتدت ألانا ثوبا أبيض مزركشا بشريط لامع ، وأزرار صغيرة أرجوانية ، لم تزين وجهها بأكثر من قليل من حمرة الشفاه. خرجا معا وكان الوقت مساء ، والقمر يتهادى في الفضاء ، والنسيم لطيف عليل وشعر ألانا البراق ينساب برقة على كتفيها ، ناعما كالحرير ، اخذ كونون بجماله ، ولم يتردد ، فتناول برفق خصلة منه ثم ضمها بقوة الى وجهه ، وقال: " ألانا ، أنا أحبك". قال ذلك بصوت نابض بالحيوية ، وقرّبها منه وهو يردد: " الانا ، أنني احبك ، فانا أستعيد القليل الذي أعرفه الإنكليزية ، لأقول لك أنني احبك ، هل تتزوجينني؟". " الانا ! بحق السماء ، أين أنت؟". قال ماكس صائحا وهو يقف قربها على ظهر المركب ، فاعادها صوته من شرودها العميق في ذكرياتها عن البداية." لقد دق جرس الغداء منذ مدة طويلة ، وبقيت أنتظرك في غرفة الطعام". نظر اليها بشيء من الإستغراب وتابع: " ما بك ؟ هل كنت تحلمين؟". " إنني آسفة جدا ، ماكس". فضحكت ضحكة عالية بعد الإعتذار المختصر ، ولكنها تابعت : " حقا ، لقد ذهبت بافكاري أميالا بعيدة كما قلت". ثم وقفت ، ووضعت الكتاب تحت ذراعيها ، متجنبة التعابير الغريبة التي بدت على وجه رفيقها. " تفكرين بكونون؟". تمتم ماكس بهذه الكلمات وهو ينظر اليها ، ومما اقلقها أنها أحست بالدم يصعد الى وجهها يوشيه بحمرة خفيفة. " أنا.......انا.........". " إذن كنت تفكرين فيه، أليس كذلك؟ حسنا ، فقد كنت اتوقع ذلك ، وإنه لمن الممتع حقا أن ارى ما سيحدث عندما تلتقيان ثانية". " لا شك أنه تزوج أثناء هذه المدة". تحركت آلانا ، وسار ماكس الى جانبها ينزلان الدرج ، ويقودها الى حجرتها ، ومرة اخرى إعتذرت لتاخرها ، ووعدت أن تصرف أقصر وقت ممكن في غسل وجهها وتسريح شعرها ، وقالت: " أرجوك ان تبدا بتناول طعامك ، حتى لا يبرد". " لم أطلبه بعد". وإستمر ينظر اليها نظرات غريبة ، فإصطنعت إبتسامة ن وقالت : لا تقلق علي ،ماكس ، لن أشعر باي إرتباك عندما التقي بكونون.". كانت متأكدة مما تقول ، ولكنها أرادت ان تؤكده لماكس ، فهي لا تشعر بأية عاطفة نحو كونون ، فقد مضت مدة طويلة على ذاك اللقاء البعيد الذي لم تسمح فيه لنفسها أن تتخلى عن قرارها ، ان تبقى عزباء ، حقا أنها لا تشعر بأية عاطفة ، حينما تفكر بلقاء الرجل الذي كان غضبه مخيفا عندما رفضت طلبه. وبعد لحظات تكلم ماكس: " إن قلقي ليس عليك يا آلانا ، إنه على نفسي". " على نفسك؟". سالت وقد علا العبوس جبينها ، ثم أضافت: " ماذا تعني؟". تخيل ماكس شيئا من غبار على كمه النظيف ، فنفضه وقال : " بدأت أحس انه ما كان علي ان أصطحبك معي في هذه المرة....". فقاطعته وقد زاد عبوس وجهها: " ماكس... ما الذي تحاول ان تقوله؟". أجاب وفي صوته رنة الم: " من الممكن ان أخسرك ، ومن الممكن أيضا ان يكون قد تزوج ، لكن..". صمت قليلا وهو ينظر اليها ثم تابع: " اراهن بكل ما عندي ، أنه ليس متزوجا". إتسعت عينا ألانا ، وقالت: " اتريد ان تؤكد أنه يعيش وحيدا بسببي ؟ الحقيقة أنك تقول اشياء مضحكة". أجاب ببطء ولكن بجراة : " أنا متأكد لو انه صبر قليلا لنجح في إقناعك بالزواج منه". " انه لا يستطيع أن يفعل لإقناعي اكثر مما فعلت أنت ، ويبدو انك لا زلت تشك بإجابتي القطعية الحازمة ، إنني لن أتزوج من أي إنسان ". " انت كثيرة الثقة بنفسك ، ألانا ، متأكدة من السلاح الذي يحميك ، ولكنني متأكد ، كما سبق وقلت لك ، انك في يوم من الأيام سوف تلتقين بمن يلائمك وتتزوجين منه....". إنقطع عن الكلام فجأة ، وسار في طريقه وهو يتمتم بأنه سينتظرها في المطعم. وقفت جامدة في مكانها ، تنظر الى ظهر ماكس وهو ينطلق ، وتساءلت في نفسها ، ترى ما الذي كان يريد قوله ومن الذي يعنيه؟ لقد عرفت ألانا الجواب ، حتى قبل أن تدخل غرفتها ، لا شك انه كان يريد أن يقول أن كونون هو نصيبها... اخذت جزيرة كاليمنوس تظهر شيئا فشيئا للعيان ، خلال ضباب البحر الكثيف ، وقفت ألانا وحيدة قرب الحاجز ، تتطلع الى ذاك المشهد الذي يبعث في الكآبة ، لمتر مثله في حياتها من قبل. جزيرة صغيرة ملقاة وسط بحر غارق في الضباب ، يرتفع أكواما أكواما ، كتلك التي يتخيلها المرء فوق سطح القمر ، وبصعوبة كبيرة إستطاعت ألانا أن تميز الساحل المتعرج ، فقد راته سلسلة من الظلال ، وقد توشح الفراغ بالسواد حتى بدا غامضا للعيان ، أكثر غموضا من المكان الذي كانت تطل منه . لماذا ؟ سألت ألانا نفسها ، لماذا يختار كونون أن يعيش على جزيرة مثل هذه خالية من الجمال ، بينما يمكنه ان ينتقي أيا من أكثر من مائة جزيرة يونانية غير مأهولة؟ " أنه منظر يدعو الى الكىبة ، أليس كذلك؟". كان صوت ماكس الى جانبها ، فإستدارت نحوه ، وأحنت رأسها موافقة على كلامه ، وقالت: " إنني لأعجب لماذا إختار كونون هذه الجزيرة لسكناه ، يا ترى ؟". هز ماكس كتفيه ،وهو يقول: " لكل إمرىء إختياره ، لا شك أنه يجد في هذا المكان ما يجعله يحبذ العيش فيه ، فمن جهتي أنا قد اعيش قريبا في صحراء!". منحته ألانا إبتسامة ن ولم تعلق بشيء. أطلقت الباخرة صفارتها تنذر بوصولها الى المرفأ ، ومن خلال الضباب إستطاعت الانا ان ترى اناسا يقفون الى جانب الرصيف ، وتساءلت ، ترى من يكون هؤلاء الناس؟ أتراهم ينتظرون ليقلعوا على الباخرة ؟ ام أصدقاء واقرباء جاؤوا ليستقبلوا القادمين ؟ ولكن كونون ليس بينهم ، وهي تعرف ذلك ، فقد اخبرها ماكس من قبل ان الترتيبات قد أعدت لتكون المناقشة في منزله. كانت تفضّل أن يكون اللقاء بينهما في قاعة الفندق مثلا ، ولكن ما دام الأمر ليس كما تريد فعليها ان تذعن للواقع. إستاجر ماكس سيارة في الحال سارت بهما على طول الطريق المحاذي للميناء قبل ان تبدأ بالصعود الى التلال. كان السائق يقود بشكل جنوني ، وسط شوارع ضيقة ، حيث المنازل جميلة مزدانة بالأزهار ، وألانا تنظر الى ما ترى بإستغراب. " حسنا ، الشمس بدات أولى محاولاتها للظهور على الاقل". القى ماكس ملاحظته تلك وهو ينظر الى بيت ابيض يتربع على سفح التل الذي كانوا يتوجهون نحوه. ثم تابع حديثه: " جبذا لو أن السائق يخفف من سرعته حتى استمتع بهذه الرحلة". فقالت الانا وما زالت علامات الدهشة بادية على وجهها: " وانا أيضا ، يبدو أنها جزيرة جميلة ، أخيرا....". في تلك اللحظة ، في اللحظة التي تكلمت فيها ألانا ، اشرقت اشعة الشمس على الجبال العالية ، والغيوم أخذت تنقشع بسرعة عبر السماء ، تاركة وراءها سلسلة من اللوان الزرقاء البراقة. " جميل ، رائع ، أليس كذلك ؟ فقط ، ألقي نظرة هناك !". إلتفتت الانا حيث اشار لتحدق بدهشة الى المشهد الذي امامها ، لقد القت الشمس اشعتها برقة على سطح البحر الممتد ، فوشحته بزرقة سماوية اخّاذة ، ولانت قسوت الجبال ، فبدت كأنها تنثني بلطف تحت الخيوط الذهبية التي تتسلل من الشمس فتزيل عنها آخر ما تبقّى من ضباب ، وبينها وبين كل هذا ، الحدائق التي تخلب اللب وتجتذب الأنظار موشاة بأروع اللوان . تحدثت الانا الى رفيقها وهي ماخوذة بما ترى ومن غير أن تلتفت اليه: " أي تحول هو هذا ، وفي غضون دقائق قليلة ؟ ترى هل الطقس متقلّب ايضا كما الحال في المناظر؟". " إنه أكثر دفئا". اخذت عينا الانا تنتقلان من الجبال الى النهر الجاف الذي كان يرى من تلك البقعة ، يشق طريقه نحو الخليج الذهبي العميق تزين شاطئيه اشجار الدقل بأزهار بيضاء اللون وزهرية ، ثم الى بساتين الليمون والبرتقال تنعكس عليها اشعة الشمس فتبدو وضّاءة نضرة ، تكتنف تلك البيوت البيضاء من كل جانب. والى اشجار الزيتون التي ولو عبث بها الزمان ، وبدا لونها اقل توهجا ، إلا أنه بقي أخاذا رغم مرور السنين ، وبقيت أوراقها الرمادية الفضية تتراقص تحت ضياء السماء كلما داعبها النسيم. وإستمرت السيارة بالصعود ، حتى غدت الجبال اقل كثافة ، وبدت الأشجار في اعاليها جرداء تماما. ثم اخذت السيارة في الهبوط ، فأحسا بشيء من الإرتياح ، ومرة اخرى عادت الأرض تبدو ناعمة رقيقة ملوّنة بالورود على أنواعها ، تتوجها اشجار السرو الشامخة التي تشتهر بها بلاد اليونان. وهناك في اسفل التلال عبر الطريق التي كانوا يمرون فيها كانت تستلقي مياه بحر إيجه ، تماوج بدلال ، وتمتد نحو الأفق البعيد. " ذاك هو البيت". أخيرا نطق السائق ، وهو يشير نحو فيللا كبيرة الحجم تبهر النظر ، تقف بجلال على رابية سهلة نصبت فيها الشجار وفي وسطها جدول ماء صغير عرّج عليها في طريقه قبل ان يصب في شلال صغير ، تتلألأ مياهه تحت وهج الشمس ، فيقف الرائي أمامه مذهولا ، ثم يسكب ماءه في النهر . أما الفيللا نفسها ، فكانت كلما إقتربوا منها تبدو أكثر روعة وفخامة لا شك أنها فريدة في رونقها وجمالها ، ولا يمكن أن يكون لها مثيل في أنحاء الجزيرة كلها ، زخرفت كما لم تزخرف اية فيللا اخرى ، ولم تتمكن الانا إلا ان تعترف بأن المنزل كان تحفة رائعة. وفي إتجاه البحر وعلى صخرة شاهقة كان يقوم قصر عظيم غني عن الوصف ، أشار اليه السائق وقال: " هناك يعيش الثري اليوناني مع زوجته الإنكليزية". وبالرغم من عظمة القصر وغرابة موقعه ، وسحر المناظر التي تحيط به ، بالرغم من سماعها ان فتاة إنكليزية تسكن هناك فإن إهتمام ألانا كان منصبا على فيللا كونون ، تلك الفيللا التي كان يمكن أن تكون هي صاحبتها ، وهي التي تعيش فيها ، تتمتع بكل هذا السحر والجمال لو أنها فقط قبلت أن تكون زوجة مالكها ، وزوجته المحبوبة ، وتذكرت ، كم أحبها كونون وكم كان حبه صادقا وعميقا. كان ماكس يتفحصها بنظرة جانبية ، فنحت وجهها عنه لتخفي إحمراره ، متمنية لو أن الصفقة التي جاءامن أجلها ألغيت من أصلها وكانت هي وماكس في طريق العودة الى بلدهما. " هنا!". قاد السائق السيارة ببطء ، ثم توقف وقفز يفتح الباب لألانا كي تنول وعلق قائلا: " إنه بيت جميل ، أليس كذلك؟". إبتسمت ألانا وثنت على قوله: " نعم إنه جميل جدا". " لقد كلّف السيد كونون مبالغ طائلة من المال ، فهو رجل ثري جدا ، وكذلك جميع ذويه". كان ماكس يتلمس جبينه ، واعطى السائق أجرته ، ومرة أخرى إبتسمت ألانا عندما لاحظت عينيه تشعان سرورا. قال السائق: " شكرا سيدي! هذا هو رقم هاتفي.". اعطاه الرقم ثم تابع: " سوف اعيدك الى المدينة عندما تطلب مني ذلك". " نعم ، ارى أنك أنت ، وانت فقط الذي سيرجعنا الى المدينة". فقال قبل أن يعود ثانية الى السيارة: " يوما سعيدا سيدي ، سيدتي!". فخرج جوابهما معا: الى اللقاء وشكرا". وبعد ان ودعته ألانا بنظراتها ايضا إلتفتت لتنظر الى الفيللا من قرب ، بيضاء ، برّاقة ، تستلقي وسط جنائن أخاذة الألوان والرائحة. إستطاعت الانا أن ترى من خلال شجيرات مزهرة بركة سباحة فسيحة ، ترتفع وراءها أشجار السرو العالية تتمايل بخفة كلما داعبها نسيم البحر العليل. ومضت السيارة في طريقها تحدث صوتا مزعجا. فتح باب الفيللا حتى قبل ان تصعد ألانا وماكس الدرجات الرخامية البيضاء التي تؤدي اليه ، حيث كان منعطف يوصل الى فناء واسع مرصوف ، فيه أحواض أزهار تمتد على طول الواجهة الأمامية للفيللا ، كما كانت ترتفع أعمدة عالية بيضاء على جانبي الدرجات ، يلتف حولها نبات غريب المنظر ، رائع الشكل بأزهار بنفسجية اللون. لا شك أن الرجل الذي فتح الباب كان خادما فإبتسم لهما بلطف، وقال بلغة إنكليزية ممتازة: " تفضلا بالدخول ، فسيدي يتوقع قدومكما". وبهدوء دعا ماكس للدخول قبل السكرتيرة ، ولكن ماكس تنحى قليلا ، ولمس كتفيها يقدمها امامه ، مما جعل الخادم يعتذر بلطف: " إنني آسف سيدتي ، كان يجب علي ان ادعوك الى الدخول أولا ، عفوا ! والآن سآخذكما الى سيدي". كان المدخل عبارة عن قاعة واسعة ، مؤثثة بأجمل الرياش وافخرها تدل على ذوق رفيع ، وقيمة غالية ، القطع الأثرية النادرة موضوعة في كل مكان مناسب من القاعة ، وفي إحدى الزوايا وعاء كبير فضي وضع على قاعدة واسعة فضية أيضا ممتلىء بالورود الصفراء والحمراء. وقف رجل عند دخولهما ، وتقدم نحوهما ، ألانا سمّرت مكانها وحدقت فيه ، لا تكاد تصدق اذنيها ، عندما قدم نفسه الى ماكس. " كونون". رددت ألانا في نفسها ، كونون ! لا ، لا يمكن أن يكون ، لا يمكن أن يكون كونون هذا الرجل الضخم الخشن ، بهاتين العينين اللتين تشع منهما القسوة ، والخطوط القاسية العميقة التي تبدو على وجهه. هزت راسها بألم ، وكان عليها ان تصدق ان هذا هو نفس الرجل الذي عرفته من قبل ، الرجل الرقيق اللطيف الجميل الجذاب. إبتلعت الانا ريقها بصعوبة عندما إستقرت على وجهها تلك العينان النافذتان القاتمتان ، ومد كونون يده ، وهي ناولته يدها ، آلمتها قبضة يده ، فاجفلت ، واخذ ينعم النظر في عينيها الذابلتين. بدت على شفتيه شبه إبتسامة ساخرة ، فعرفت من دون شك ان تلك كانت علامة ليجعلها تحس بقسوته. هزت الانا كتفيها ، وحاولت ان ترجع الى الوراء بعيدا عنه ، ولكنه إستبقى يدها بيده ، وضغط عليها بشدة فيها معنى العنف والسيادة. " هكذا إلتقينا ثانية ، الانا !". صوته قد تغيّر ايضا ، زال ما كان فيه من لطف ، والقليل من المرح ، وماتت النغمة الحنون التي أعلن لها بها عن حبه ذات يوم. وبعد لحظة ساد فيها السكون ، تابع كونون كلامه: " لقد مضى زمن طويل ". تحركت عيناه الداكنتان ، وأخذ ينقل نظراته من راسها حتى قدميها بسخرية مهينة ، صعد الدم الى وجهها ، مدركة أن عيني رئيسها عالقتان بها ، وإستمر كونون يتفحصها بوقاحة ، ثم قال: " علينا أن نتحدث معا ، نتبادل الثقة على الأقل ، اليس كذلك؟". كانت الطريقة التي تكلم بها ، الإهانة بعينها ، وعرفت على الفور أنه مطّلع على زواجها ، ويعرف أيضا من تزوجت ، وأنها إختارت ، وهذا ما كان يعتقده ، إختارت رجلا بدينا بغيضا ، وفضّلته عليه هو. ايقنت الانا أنه علم بذلك، وهذا هو سر معاملته القاسية البعيدة عن حدود اللياقة ، ولكنها لا يمكن أن تظن ان هذا هو سبب التغيير الكامل في مظهره وسلوكه. ضج رأسها بالأفكار المختلفة ، وإختلطت عليها الأمور ، وتساءلت ترى هل حدث أمر فظيع في حياته ؟ ام بعث المرارة في صدره فاصبح هكذا ، كما رأته ، قاسيا ، لا رحمة في قلبه...... بدا إختلاف في سلوكه عندما إلتفت الى ماكس ، أرستقراطيا في وقفته، مترفعا في نظرته ، تطلعت الانا الى الرجلين ، وأحست بالإرتباك وهي ترى كونون ، يتفحص ماكس وكأنه اقل منه شانا ، ولاحظت الهوة السحيقة بين كليهما. وقف كالسيد اليوناني ينقل النظر بينهما بإحتقار ، وكأنه يترفع عن هذين المخلوقين اللذين جاءا ووقفا في حضرته المهيبة. ومن أعجب العجائب انه عندما تكرّم وتكلم ، تكلم بلطف غير منتظر ، وبدا تغيير طفيف في ملامح وجهه ، فقال: " أنا آسف لأنني لم اتمكن من الذهاب الى اثينا لمناقشة هذه الصفقة ". سكت هنيهة وتابع بصوت إزداد رقة: " ولكن والدتي كانت مريضة في المستشفى هنا ، فلم أتمكن من تركها ". توقف قليلا قبل أن يتمم كلامه ، ثم قال: " لقد توفيت منذ ايام ثلاثة ، وكنت منهمكا بالجنازة". لم تلحظ الانا في عينيه اثرا للحزن ولا في صوته معنى للعاطفة ، ولا في تعابير وجهه شيئا من التأثير ، فعجبت ، ولكنها اسرعت تقول: " إنني آسفة جدا ، كونون.". ثم توقفت من غير ان تكمل ، فيده إرتفعت توقفها عن الكلام ... وتكلم كونون: " لا بأس ، فقد كانت آلامها لا تطاق. إستعادت ألانا في ذاكرتها ما قاله لها ذات يوم ، أن من تشتد آلامه ويتعذر شفاؤه ، يجب ان يترك له خيار الموت ، ولصغر سنها في ذاك الوقت لم تناقش رايه مطلقا. وعلى الرغم من القناع القاسي الذي كان يتقنع به ، كانت تدرك انه حزين من اجل امه ، شديد التأثر لما اصابها ، وتأكدت من ذلك ، عندما سمعته يقول لماكس: " لقد كانت تعاني آلاما لا تحتمل ، ولذا تقبّلت موتها بصبر ، ليس مهما ما اقاسي من الم لفقدها ، ولكن المهم ان الموت جاء راحة ورحمة لأمي". يتألم.... رددت ألانا تلك الكلمة في نفسها ، وإستمرت في النظر اليه ، وآليا هزت راسها ، وهي تلاحظ خطوط القسوة عميقة في وجهه وعينيه الباردتين الجامدتين ، خاليتين من كل عاطفة ، وتساءلت : اهكذا بتالم؟ كان كونون يلوي شفتيه ، إذا قال شيئا لا يعجبه ، يلوي شفته بسخرية ، إيماءة الترفع علامة تميزه ، إنه الإحتقار ، تمنت ألانا ان تجد صفات أخرى تنعته بها. جلست على الريكة وإتكات الى الخلف ، واخذت تنعم النظر فيه ، تفكر في التمثال الحجري البارد الذي تراه ، تمثال من زمن اليونانيين القدامى ، وجهه خال من العواطف ، والخطوط المنحوتة فيه تدل عل القسوة والخشونة. جلس كونون وماكس ايضا ، أما الخادم فقد كان يحوم عند الباب ، لما سمع سيده يصفق ، اسرع ليستجيب ، ولكنه بقي واقفا عند الباب ، ومن الواضح أنه كان يخشى ان يقطع على سيده النقاش ، تركه كونون حيث هو يقف وينتظر ، وإستمر يتابع حديثه مع ماكس. شعرت ألانا بالنار تتقد في جوانبها ، فإرتفعت حرارتها ، ولم يمكنها ان تمنع ذلك ، إنها تعلم أن المسالة لا تخصها ، ولكن معاملة كونون للرجل بهذا السلوب ، هو الذي جعل الدم يغلي في عروقها ، وتساءلت : بأي حق يتصرف على هذا المنال؟ ولكنها إحتفظت بالسؤال في نفسها ، ولم تكن تملك غير الصمت. وأخيرا ، وبعد طول إنتظار ، شمل الرجل بنظرة ، وأمره بقسوة قائلا: " اخبر كاتينا أن ياتي الى هنا". " حاضر ، سيد كونون ، انا....". " وليكن الغداء جاهزا في الواحدة ". " حاضر ، سيد كونون ". كان الرجل يهم بمغادرة الغرفة عندما تكلم كونون ثانية : " ولتكن الغرف جاهزة ". " حاضر ، سيد كونون ". كتمت آلانا غضبها في صدرها ، فجملة – حاضر ، سيد كونون- اثارت إشمئزازها ، فوق جميع الأسباب الأخرى. على اية حال فقد حولت ألانا نظرها نحو ماكس تستوضحه بسكينة ، فهز كتفيه وفتح يديه بإذعان ، إضطرت ألانا ان تسأل : " هل سنبقى هنا ؟كنت أحسب اننا سنعود الى المدينة للإقامة في الفندق". إلتفت اليوناني اليها بعينيه الداكنتين وقال لها بصوته الهادىء: " ولكنني افضل ان تكونا ضيوفي". وجال بنظره في الغرفة ، وعله بذلك كان يقصد ان يلفت نظرها الى فخامة المكان الذي يستضيفها فيه ، وجالت آلانا بنظرها معه ، كان كل ما في الغرفة من اثاث يدل على الذوق الرفيع ، ألانا تعرف من قبل انك ونون قد زار عواصم أوروبية ، حيث كان يجمع قطعا نادرة تتناسب مع اثاث بيته ، فالشمعدان الفضي الرائع العالي كان من صنع ألمانيا ، أما السجاد فقد كان من السجاد العجمي ، وهناك كثير من التماثيل الثرية وتحف أخرى واخرى لا حصر لها. وبعد لحظات تكلم كونون: " كاتينا سيكون هنا على الفور ليقودكما الى غرفتيكما". عيناه عادتا للنظر الى ألانا ، فأحست ان الإحمرار بدأ يسري بطيئا في وجنتيها ، وايقنت من ذلك مما بدا من رضى في عيني كونون الضيقتين وإلتواء شفتيه القرمزيتين ، وشعرت بالألم يوجع قلبها ، ولكنها مع ذلك توقعت أنها ستعتاد على ذلك أثناء إقامتها في هذا البيت. وتمنت ألانا ان يتم البيع بسرعة ، حتى تستطيع هي وماكس ان يلحقا بالمركب الذي سيقلع في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم التالي ، فليلة واحدة تحت سقف بيت كونون ، كانت اكثر من كافية وأكثر مما تحتمل. الغرفة التي خصت لها كانت جميلة ومريحة للغاية ، وان اقل ما يمكن أن يقال فيها ، أنها كانت مفروشة بمنتهى الذوق ، مزينة باجمل الزخارف ، امامها شرفة تطل على البحر. كان أول ما فعلت انها خرجت الى الشرفة تتنشق الهواء الطلق بعد هذا اللقاء المقيت ، والذي تمنت الف مرة لو أنه لم يحصل على الإطلاق ، لتبقى ذكرى كونون جميلة في مخيلتها. وقفت هناك تتنفس بعمق ، ثم اخذت تمتع النظر بمرأى مياه إيجه الزبرجدية ، الى الشمال كانت تقع جزيرة ليروس ، بينما إنتثرت جزر صغيرة هنا وهناك بعضها لا يزيد عن صخور ناتئة ، تبدو على شكل حيوانات غريبة رفعت رؤوسها من أعماق البحر تنشد الهواء. الى جهة اليمين كانت ترتفع الجبال عظيمة ممتدة ، لكنها مجردة من الأشجار ، بينما المنحدرات تموج وتزهو بأشجارها وشجيراتها واعداد لا تحصى من الازهار الفاتنة ، وهناك على الروابي تمتد الجنائن بجمالها الخلاب. بساتين من الليمون والبرتقال تملأ مساحات واسعة تمتد على طول لجهة الجنوبية من الفيللا ، بينما من الجهة الأخرى حديقة ورود تتوسطها بركة مزخرفة ، يندفع منها الماء في نافورة ، ما عدا العديد من التماثيل الرخامية ، قائمة هنا وهناك ، وترتفع وراء الحديقة أشجار السرو الشامخة تشكل حاجزا في وجه هواء البحر. أما وراء الفيللا ، فهناك مرج فسيح ، مخملي ناعم أزرق ، يمتد بعيدا نحو حافة ضخمة من الصبّار ، تكوّن حدودا ثابتة للحدائق ، وبعد ذلك تمتد البراري الوعرة ، والقفار ، الى الجهة الشمالية من الجزيرة ، حيث القصر العظيم الرائع الذي سبق ورأته ألانا وأعجبت به ، يقف حارسا على حافة صخرة شاهقة. كل ما رأت كان خارقا في جماله ، إلا كونون ، فهو كالنغم الشاذ في أغنية عذبة حلوة ، وتساءلت ألانا في نفسها : ترى ما الذي حدث له ؟ ما هذا التغيير الغريب الذي لا يصدق ؟ ما الذي حل بهذا الرجل الذي كان في غاية الظرف والكياسة ، في غاية اللطف والرقة؟ كان مرحا سعيدا ، فما الذي أصابه ؟ لم تستطع تعليل ما حدث ، ولكنها أحست بألم مفاجىء ، وأسف شديد لهذا التحول ، وشعرت انه لا بد ناتج عن صدمة أليمة وتعاسة عميقة. هزت كتفيها وقد نفد صبرها من كثرة ما اعملت التفكير في شأن كونون ، وذهبت الى الحمام العاجي لتغتسل ، وايقنت أنها لن تصل الى نتيجة مهما أعملت التفكير في حظ مضيفها التعس على مر السنين ، وأنه من الحكمة ان تطرد هذا الأمر كليا من ذهنها.... وبعد أن خرجت من الحمام ، سرّحت شعرها الذهبي وتركته ينساب على كتفيها ناعما لامعا ، وإرتدت ثوبا قطنيا متموجا وعادت الى غرفة الجلوس ، تماما في الوقت الذي كان ماكس يغادرها مع الخادم الذي يرافقه ليريه غرفته. " إجلسي ألانا...". كان صوته ناعما رقيقا وهو يدعوها الى الجلوس ، وتابع: " فلدينا دقائق قليلة يمكننا التحدث فيها منفردين". ومع كلماته كان الباب يغلق وراء ماكس. وأضاف كونون: " لقد كبرت يا ألانا...". وأخذ يتاملها وعيناه تنظران في عينيها ،وهو يكمل حديثه بقوله: " نعم كبرت....... ولكن ليس كثيرا". إستدارت ألانا لتجلس ، ولكن قبل ان تفعل ، أمسك كونون بمعصميها بيد ورفع ذقنها بالأخرى ، فاجفلت وإرتجفت فقد أمشك بها بشدة. " زواج!". لفظ تلك الكلمة ببطء وخشونة مخيفة ، ثم سار بها نحو الأريكة وقال: " إجلسي ! قلت لك إجلسي". أطاعت وهي ترتجف وعيناها عالقتان بالباب راجية ان يعود ماكس .ولكن ماكس لم يعد. واضاف كونون بلهجة الآمر: " اخبريني عن زواجك". وقف حيالها كالقاضي وأمامه المتهم ، وهو يتابع: " هذا...... هذا الحيوان الذي فضلته علي؟ قلت لك اخبريني عنه ". تعابير وجهه كانت تنبىء بالشر ، عيناه تلتهبان في محجريهما ، وعضلات وجهه تتلوى في خطوط عميقة ، ذاك الوجه الذي وصفته الانا في يوم من الأيام بانه أجمل رجل رأته في حياتها ، أو من الممكن أن تراه.... هل يمكن أن يكون زواجها هو الذي أوصله الى هذه الحالة ؟ هو الذي احدث فيه هذا التغيير الكامل في طبيعته ومظهره؟ إرتجفت ألانا ثانية ، فهناك في صدرها لوعة عميقة وندم يجب ان يبقيا في سرها ، حتى يأتي الوقت المناسب. فردت عليه بطريقة ملتوية: " زوجتك .... أين هي الان؟". " ماتت! قتلت مع خليلها....". خرجت من صدره آهة حرّى ، وعيناه رشقتا الانا بنظرات لا معنى للرحمة فيها ، ثم أضاف: " العدالة تمت ! ولكن الأمر لا يهمني ابدا ، فأنا سألتك سؤالا اريد عليه الجواب!". كان لكونون قوة سحرية عجيبة ، جعلتها تتكلم: " كان رجلا غنيا ، حيث...". " انا مدرك تماما أنه كان ثريا ، وأنت حسبت أنه أكثر مني ثراء ، فهل هذا هو سبب زواجك منه وبعد اسابيع قليلة فقط من رفضك الزواج مني ؟ فقط بضعة اسابيع بعد ان اقسمت أنك لن تتزوجي بآخر ، أليس كذلك؟". " هناك اسباب مختلفة تماما........". إبتدأت الحديث تريد ان تبرر موقفها ولكنه قاطعها: " لقد اخفتك ، أليس كذلك ؟ ولذا تحاولين الكذب...". قاطعته بحزم : " أنا لست بحاجة الى الكذب". ثار غضبها ، وتساءلت : ترى بأي حق يسألها هذه الأسئلة ؟ وتذكرت أسلوبه القديم المليء بمعاني التملك والذي سبق وخاطبها به ، وتمر السنون عديدة ، ويعود الى مخاطبتها بنفس الأسلوب.... ولكنها أجابت بثبات: " زواجي يخصني وحدي ، وأنك تغيظني باسئلتك هذه التي لا شان لك بها". ضاقت عيناه الداكنتان وقال: " ليس الإستياء ما تشعرين به وإنما الخجل ، على ما اظن". صعد الدم الى وجنتيها وقالت: " سيد كونون ، هل تمانع في إقفال هذا الموضوع ؟ جئت أنا ورئيسي الى هنا في عمل ، ومن الأفضل ان لا تنسى ذلك ، والآن أرجو ان تسمح لي...". وتابعت وهي تقف وتبتعد عن ذاك الشخص المتسلط: " أحب أن أعود الى غرفتي ريثما يحين موعد العشاء". خيم الصمت على المكان ، تحركت ثانية ، ولكن قوتها خانتها ، ورفضت ساقاها أن تحملاها. " تعالي الى هنا ، ألانا". قال ذلك بلهجة ىمرة ، عندما كانت قد بلغت الباب ، ووضعت يدها على المقبض لتفتحه. كرر كونون أمره: " تعالي الي....". أحست باللون يفر من خديها وكأن قلبها توقف عن الخفقان ، وقالت تتعثر بالكلام: " أنا.... أنا أريد أن أذهب الى غرفتي...". توقفت عن المتابعة ، عندما تقدم نحوها بحركة سريعة كالنمر ، وأمسك بمعصمها ، وقرّبها منه ، وضمّها اليه ، وهو يقول: " لقد أمرتك أن تأتي الي......". كان وجهه قريبا من وجهها ، فاحست بانفاسه حارة على خدها. وتابع يقول: " لقد كنت اريدك وانت بعيدة ، أكثر من تلك الأيام التي كنت فيها قريبة مني". كان صوته مضطربا يحترق بلهيب الغيرة ، وألانا لم تستطع ان تفلت من بين يديه ، فهمس قائلا: " حسنا الانا ، أنت لي ، أنا أريدك الان أكثر من أي وقت مضى ، ستكونين لي ، هل تسمعين ؟ سوف تكونين زوجتي".
الفصل الثالث 3- المصيدة فتحت شدقيها ، وألانا هي الفريسة مرة أخرى ، يجب ان تكتشف السر الذي سرق النوم من عينيها حتى قبل أن تعرفه...... لم تكن ألانا تعرف كيف يمكنها ان تؤمن لنفسها جوا من الهدوء ، ولكنها فعلت ذلك عندما عاد ماكس الى الغرفة بعد ما يقرب من عشرين دقيقة ، كان يبدو أكثر جاذبية ببدلته الرصاصية الداكنة وقميصه الأبيض. اخذ ماكس ينقل الطرف بين الانا وكونون ، من غير ان يطرأ أي تغيير على تعابير وجهه ، ثم راح يتحدث الى كونون ، والانا تراقبه وهي تحس بقلبها يكاد ينفجر من شدة الخفقان بسبب تلك الطريقة الموجعة الوحشية التي أمسكها بها كونون ، حتى انها لم تستطع أن تحبس دموعها.... إلتفت اليها كونون وعلامات الفرح والإنتصار بادية في عينيه ، من الخوف الذي سببه لها والإضطراب الذي بدا عليها ولم تستطع إخفائه . قرع الخادم الباب ، وفتحه بهدوء ، وقال : " العشاء جاهز ، يا سيد كونون". " سنكون هناك على الفور". " حاضر ، سيد كونون ". إنسحب الرجل ، وألتقت عينا ألانا بعيني كونون ، فرأت نظرات الإحتقار فيهما ، وتذكرت كيف كان يعامل الخدم فيما مضى ، بتلك الطريقة المليئة بالمودة والإبتسام ، كيف إنقلبت الى هذا الأسلوب من القسوة والإحتقار ؟ لا تدري ، لعل المرارة والوهم اللذين يعيش فيهما غيّرا جميع طباعه ، وجعلاه يفقد كل معاني الإنسانية. كان كونون وماكس يتحادثان أثناء الطعام والانا تسرح بأفكارها الى الماضي البعيد ، ولم تستطع أن تنكر انك ونون في ذاك الحين كان كالنجم المتألق ، يحوم حولها اينما إتجهت ، وإن أنصفت ، كان مدعاة للفخر ان يكون زوجها حيث العيون تحدق بها من كل جانب ، ومع ذلك فإنه لم يكن لديها أي ميل للزواج مهما كان نوعه ، كانت قد إتخذت قرارها بعدم الزواج ولن تلغيه لأي سبب من الأسباب ، غير ان ماكس كان يؤكد لها دوما ، انك ونون لو عاد وكرر طلبه ، لغيّرت رأيها وقبلت به. وإن كان الأمر كذلك وهناك أية نتيجة من التكرار لأدرك كونون ذلك ، ولحق بها الى أنكلترا ليلح عليها بطلبه ، وتساءلت ألانا : هل كان لدى كونون أمل في ان تقبل به يوما ؟ إذن لماذا لم يتبعها ؟ هل هناك من سبب منعه من ذلك؟ زواجها مثلا ؟ الحقيقة أن زواجها حدث بسرعة بعد عودتها ، غير انه كان هناك الوقت الكافي ليلحق بها قبل ذلك.... مرت هذه الأمور في مخيلة ألانا ، وعند هذه النقطة بالذات وقفت بعصبية متسائلة ..... هل حقا كانت رغبتها أن يتبعها ؟ كتمت أنفاسها عند هذه الفكرة وقطبت جبينها ، يجب أن تعرف ما في اعماقها ، يجب أن تحدد طريقها وفي الحال. رفع كونون حاجبيه مستفسرا ، إحمر وجهها ، وغزا الألم قلبها ، أكثر مما حصل حدث قبل وقت قصير بينها وبين كونون ، خفضت عينيها ونظرت في صحن طعامها ، وبصورة طبيعية ، ضحك كونون ضحكة قصيرة ، قبل ان يعود ليتابع حديثه مع ماكس. حاولت الانا أن تستمع الى ما يدور بينهما من حديث ، فسمعت بعضا منه مثلا ، الأرض جيدة وتعطي عنبا من اجود الأصناف ، وتساءلت لماذا إذن يريد كونون أن يبيعها ؟ وبثمن رخيص؟ ثم سمعت ماكس يشير الى أن المبلغ الذي يعرضه عليه هو ثمن محصول العنب لعدة سنين ، وانه يمكن أن يستثمر هذا المبلغ على الفور ، مما جعل كونون يلوي شفتيه ، ويقول: " لعلك نسيت أنني لست بحاجة الى مال لأستثمره ". " ولكنك قلت في رسالتك أنك ترغب في البيع ، وإلا لما وجدتني هنا ، أليس كذلك؟". كان ماكس يتكلم ، ولكن عيني كونون كانتا تنظران الى ألانا التي إتسعت حدقتاها لما تسمع ، فإبتسم ونظر بعيدا. وتساءلت ألانا : هل من المكن أن يكون كونون قد عرض الرض على ماكس ، ليحضره الى هنا من اجلها؟ وإن كان كذلك ، فلأي غاية؟ هناك في داخله شيء اعمق من أن يتصوره أحد ، كرهها له أخذ يتزايد ، وكل ما كانت تبغيه هو أن تكون بعيدة عنه ، لأنها تعرف ان قوته تدعو الى الخوف ، أحست أن هناك في داخلها شيئا يحذرها من المستقبل ، وغن لم تستمع لهذا التحذير فإنها ستقضي بقية حياتها في لوعة وندم . نظر كونون الى ماكس نظرة الواثق من نفسه ، وقال : " أنا اعلم ان طبيعة عملك تضطرك الى السفر في كثير من الأحيان ، وقد تكون الرحلة عديمة الجدوى احيانا !". حاول ماكس ان يخفي إمتعاضه وقال : " ارجو ألا تكون هذه الرحلة بالذات عديمة الجدوى ". إبتسم اليوناني إبتسامة شاحبة وقال: " لك ، أم لي؟". نظرت الانا اليه بحدة ، كانت اهدابه الطويلة تظلل عينيه ، فلم تستطع ان تقرأ ما فيهما من معنى . أجاب ماكس: " ربما تكون مريحة لكلينا ، فأنا أنوي أن اشتري كل شبر أرض يمكنك ان تبيعني إياه ". قال كونون وهو يبتسم: " لا أظنك تريد ان تشتري نصف الجبل مثلا ، جبلا أجرد مثل هذا؟". رفع ماكس حاجبيه وقال : " طبعا لا يا سيد كونون ، أنا لست راغبا بشراء الجبال ". " إذن ما قولك بالأرض التي تريد انت أو عميلك ، أن تبني عليها فنادق؟". " فنادق أو فيللات كما تسمونها في اليونان ". " لا شك أن بلادنا مليئة بالسواح ، وستستفيد عندئذ من ذلك". لم تعد ألانا تسمع من مناقشتهما شيئا فقد شردت افكارها ومرة أخرى ذهبت الى الماضي البعيد ، تفكر في كونون بلطفه ، رقته ، كرمه وحبه .... ولكنه اصبح الآن الرجل الذي قاده قدره الى سوء السبيل ، وصار ضحية لأخطائه ، تزوج زواجا فاشلا ، زواجا ترك جروحا عميقة أليمة في نفسه ، جروحا لا تلتئم. فهو يلومها ، ولماذا يفعل ؟ ألأن خطأه.... كان صوت ماكس عاليا قطع عليها افكارها وأعادها من تأملاتها ، وسمعته يقول: " آمل أن تعقد ولو صفقة واحدة على الأقل ، سيد كونون". " هناك إحتمال كبير يا سيد ماكس". فجأة غدا كونون المضيف اللبق وهو يتابع: " سوف نكمل حديثنا هذا المساء .... بينما تاخذ السيدة قسطا من الراحة". إحمر وجه ألانا ولكنها لم تقل شيئا. اجاب ماكس بجفاء: " إن سكرتيرتي تبقى عادة معي ، عندما أقوم بأي عمل ، وأنا أفضل هذا ، إذا لم يكن لديك مانع ". لمعت عينا كونون ونظر نظرة غريبة نحو ماكس واجاب: " وأنا افضل أن يكون حديثنا للرجال فقط ، أعني ان العمل الذي اريد ان أبحثه معك يخصك وحدك". ثم توقف عن الكلام ، واخذ ينظر الى الانا ، جف ريقها ، وشحب لونها ، واحست أن شهيتها للطعام قد زالت ، ولكنها لم ترغب أن يلحظ مضيفها ذلك ، فرفعت الشوكة الى فمها. " سوف تأوين الى فراشك بعد العشاء". كان أمرا ألقي من قبل كونون ولكن بطريقة لطيفة ، ولم تجرؤ ألانا ان تعصي ، على اية حال فإنه من المفرح والمريح ان تبتعد عنه ، فهو يريد ان يهزمها ، وان يسيطر عليها ، أن يتركها لا حول لها ولا قوة. خرجوا الى الفناء الواسع ، جلسوا حول الطاولة ليشربوا القهوة ، كانت الأزهار جميلة في احواضها ، أخاذة بأشكالها وألوانها ، رائحتها تشرح الصدر وتنعش الفؤاد ، ولكن الانا لم تلتفت لكل هذا ، وكان همها أن تسرع في شرب قهوتها ، متلهفة للذهاب. مما لا ريب فيه أن ماكس كان حانقا ، مغتاظا بينه وبين نفسه ، ولكنه لا يملك إلا الإذعان لما يمليه كونون ، فقد جاء لغرض معين وليس من مصالحه أن يعادي الرجل الذي يامل ان تتم معه الصفقة ، ولذا ، فإنه لم يعترض ، عندما وقفت الانا ، وقالت تصبحان على خير ، ثم تركته وحيدا مع كونون. بعد أن أمضت الانا ما يقرب من الساعة وهي تمشي في غرفتها جيئة وذهابا ، عزمت على الخروج والسير في الهواء الطلق ، عله يصلح من حالها ، او على الأقل يبعد عنها القلق الذي يساورها ، ويساعدها على النوم . وعلى الفور خرجت ، وسارت في الممر الذي يؤدي من الفيللا الى حديقة الورود ، تستنشق عبيرها الذكي ، وتمتع ناظريها بجمالها الساحر . كانت هذه الجزيرة حقا قطعة من الجنة ، نظرت الانا نحو الجبال العالية ، راتها وقد سلب جوالمساء اللطيف خشونتها ، تبدو ناعمة ، قبالة صفحة السماء المتألقة بنجومها الوضاءة. أضواء تطل بفضول من هنا وهناك ، تنبىء بوجود منازل تسترخي بإرتياح على سفوح الجبال. أشجار الزيتون قديمة ، قديمة ، ولكنها لا زالت تزدهي بأوراقها الفضية اللامعة وكأنها في عناق دائم مع شعاع القمر الذي إختلس طريقه اليها ، خلال أشجار السرو العالية. جلست الانا على حائط منخفض ، حيث احست بغتة بالسلام ولأول مرة منذ مجيئها الى هذا البيت الفخم الرائع ، يملكه الرجل الذي كان يمكن أن يكون زوجها في يوم من الأيام ، رجل تبدل كثيرا وكثيرا جدا ، حتى أنها لم تستطع ان تميزه للوهلة الأولى.. أجفلت ، وسمعت دقات قلبها الذي علا وجيبه ، فإلتفتت لترى خيال إنسان آت نحوها من جهة المنزل ، إنه كونون ! هبت من غير ثبات ، تريد أن تهرب من الخيال الذي رأت ، لو إستطاعت ، ولكن قدميها سمرتا في مكانهما ، ثم بدل ان تمضي عادت الى حيث كانت تجلس ، فسار كونون نحوها ، طويل القامة ، يرتدي بدلة سوداء. " هكذا لدينا بضع دقائق اخرى نقضيها منفردين". صوته كان منخفضا ، وأحست بيده باردة كتلك التي في القبور ، عندما تناول يدها. جاهدت ألانا لتتحرر من يده ، ولكنها تعثرت فأمسك بها ، الرجل الذي بدات تكرهه. " دعني أذهب ! اين ماكس ؟ سوف املأ الدنيا صراخا ، إذا لم تتركني حالا". هز رأسه ، وكأنها تطلب المستحيل ، وقال : " ادعك تذهبين ! لقد تركتك مرة ، ألانا ، ولكن لن يتكرر ذلك مرة اخرى ، أنت الآن أسيرتي ، وستبقين كذلك حتى يفرّق الموت بيننا". وضمّها اليه يعانقها. " أنت مجنون ، مجنون ، هل تسمعني؟". ولكنه لم يابه لكلامها ، فعادت تقول وهي تحاول الإفلات من بين يديه : " مجنون .... هي ايضا قالت لك ذلك....". ذهبت هذه الكلمات بكل شوقه ورغبته ، وصاح فيها: " هي؟ من هي؟". " زوجتك". إرتفعت يده كأنه يريد أن يصفعها ، يسكتها عن الكلام ، ولكنه تمالك نفسه وأنزل يده الى جانبه ، وقال بصوت خشن: " أنا لم أتّخذ زوجة أبدا ! انت التي كان يجب ان تكوني زوجتي ، وسوف تكونين ! لقد كانت زوجة الوهم ، وليست لي !". قالت بإضطراب : " أنا.... آسفة ، كونون.....". ضحك بخشونة وقال: " أمن أجلي ؟ شفقتك لم يعد لها نفع الآن ، لقد إستغنيت عنها ! دعي الشفقة لنفسك ، فسوف تحتاجين اليها عما قريب ". أحست ألانا بالخوف ، وإرتجف جسمها ، ولكنها قالت بلطف: " كونون دعني اذهب ، أنا لا الومك على أي شيء فعلته مع زوجتك". ولكنه بدل أن يتركها ، سأل بخشونة : " لماذا تزوجت؟". " لقد أخبرتك ، انني كنت مرغمة.... ولم ارغب في الزواج مطلقا ....". " لكنك تزوجت ، تزوجت وتقريبا مباشرة.......". قاطعته الانا قائلة : " ليس مباشرة ، وعلى أية حال كان هناك سبب هام لزواجي.....". " طبعا سبب هام ! لقد بعت نفسك للأكثر ثراء". رشقها بنظرات حادة متفحصا وتابع: " كيف عملت مع هذا الرجل ماكس نيولاند ، انا لا استطيع ان أفهم ، ايمكن أن يكون كل تخطيطك قد إنتهى الى العدم ، فلم يترك لك زوجك شيئا في وصيته؟". " هذا من شأني وحدي". كان قلبها يخفق أملا ، ولكنها حاولت أن تبدو هادئة باردة ، لعله يطلق سراحها ، ومن الغريب أن ألانا كانت تخلق له المعاذير لكل ما يفعل ويقول ، بينما تعلم منطقيا أن لا عذر له. قال كونون وفي صوته شيء من السخرية : " لم يترك لك شيئا ، وإلا لما كنت هنا الآن ". كانت تريد ان تنتزع نفسها من يده وتسرع راكضة نحو المنزل ، ولكنها قاومت هذه الرغبة ، مخافة أن حركة مثل هذه قد تثير غضبه من جديد ، فتذرعت بالصبر وقالت بلطف: " كونون ، إنني متعبة جدا ، أرجوك دعني اذهب". بقي واقفا من غير حركة ، ينظر اليها نظرات شاملة ، ثم قال بلهجة الواثق مما يقول : " ستكونين زوجتي ، ولا مفر من ذلك ، وسيتم هذا في غضون أسبوع". قالت بحدة : " إنك تتكلم قبل ان تفكر ، انت تعلم أنه لا يمكنك ان تجبرني على ذلك ، ومما لا ريب فيه انني لن أتزوج منك بإرادتي". وقف أمامها مطبقا فمه بحزم كان كرجل يحمل سلاحا سريا ، سلاحا يوجهه الى أعزل ليس له حماية. " سوف نرى ، يا ألانا الحلوة ، نعم ، سوف نرى". كان صوته مليئا بالثقة ، وتعابير وجهه تدل على النصر الأكيد ، ولكنها كانت ترى غير رايه ، وتحسب أن كلماته كلمات رجل لا يعرف ما يقول ، اما أنه غير صحيح العقل فهذا ليس حقا ، ولو أنها نعتته بالجنون ، ولكن يبدو أن الحقيقة هي انك ونون لا يزال يريدها زوجة له ، هذا ما تراه واضحا ولذا فهي آسفة لأجله. " أين ماكس ؟". سألته اخيرا ، وتابعت: " هل ذهب الى الفراش؟". أحنى كونون راسه: " نعم ، لقد ذهب حالما إنتهينا من عملنا". كان كنون ينظر أمامه ، ونسمات من البحر تداعب شعره السود ، الأشجار تنشر طلالها في ضوء القمر ، وكلما لامست هذه الظلال وجه كونون ، كانت الانا ترتعد ، كانت ترى معالم شيء شرير ، شيء يحثّها على الهروب ، الهروب بسرعة وفي تلك اللحظة ، قبل أن يجرها الى الأسفل . ولكنها قالت تتابع الحديث: " لقد ذهب مبكرا ". " قال انه متعب". " هل اعطى سببا لتعبه؟". تعجبت الانا من سماعها أنه متعب ،فهي تعرف ماكس ، وتعرف جيدا انه شديد القدرة على العمل والتحمل ، لا يكل ولا يمل ، كثير النشاط والمهارة ، خاصة عندما يكونان على سفر ، فهو لا يتوقف عن العمل مطلقا ، حتى يستطيعا العودة بأسرع ما يمكن ". وبعد برهة من الصمت اضافت وهي مقطبة الجبين: " مثله لا يتعب". نظر اليها ومن غير تحذير رفع يده الى جبينها ليزيل التعبير الذي بدا عليه ، وقال : " لا تفعلي ذلك ، فالجبين المقطب لا يناسبك". إبتعدت عنه ، فلم يحاول ان يوقفها ، ولكنه بقي واقفا بينها وبين الممر الذي يجب أن تسلكه إذا عادت الى المنزل. " أرجوك ، لا تلمسني ". ولكنه مرة اخرى إقترب منها وحاول أن يعانقها عنوة وهي تجاهد للتخلص منه ، فقال : " الأفضل ان تعوّدي نفسك على لمسات يدي ، لأنك ستشعرين بها حتى آخر يوم في حياتك". " أنت إنسان قلبك مليء بالحقد والكراهية ! كم انا سعيدة لأنني كنت حكيمة بما يكفي ، حتى انني لم أتزوجك ، ما هذه التصرفات المشينة التي تصدر عنك ؟ هل تظن أن بإمكانك أن تجبرني على الزواج منك؟". " أنا لا ألقي الكلام عبثا". قال ذلك بسرعة ، ووقف أمامها باردا ، جامدا ، قاسيا ، كتمثال عظيم من الرخام ، وقف بعيدا عنها ولكن بقيت عيناه تنطقان بروح السيادة المطلقة. شعرت حياله أنها صغيرة تافهة ، وإعتراها خوف شل تفكيرها ، ولكنها إستجمعت قواها ، وقالت: " ولكنك فعلت هذه الليلة ، لقد قلت الكلام عبثا.". قاطعها بلطف: " لا يا عزيزتي ألانا ، سوف تعرفين قريبا جدا أنني اعني كل كلمة قلتها ". تضاعف خوفها ، وكان سهما اصابها ، إلتفت اليها حيث إستطاعت ان ترى وجهه جيدا في ضوء القمر ، كان صارما قويا مليئا بالثقة ، حتى انها لم تعد تستطيع ان تقنع نفسها بالنجاة ، فاحست وكان الدماء تقف في عروقها وقاربت على الأغماء ، فامسكت بشيء قريب منها حتى تقي نفسها من السقوط ، وقالت : " أريد أن أذهب". كانت عيناها الجميلتان تتوسلان بالرغم من أنها كانت تعرف أن عليها أن تبدي شيئا من الكبرياء والغضب من الطريقة التي عوملت بها ... ولكنها تابعت : " إنني متعبة". ولدهشتها وجدته يتنحى عن طريقها مشيرا بيده يدعوها للمرور. " رئيسك سيتحدث اليك في الصباح". كان في صوته نغمة لم تلفت نظرها فحسب ، بل زادت في ضربات قلبها ، ترى ما الذي حل بها حتى تخاف هذا الرجل الى هذا الحد ؟ ولكنها سألت : " سيحدثني عن أي شيء؟". سألت وهي تحاول السير فتعثرت بحجر وكادت تسقط ، ومرة ثانية كانت قبالته ، وإقترب منها ، كان باردا نظيفا هذه المرة ، كنسمة الهواء الناعمة التي تمر بالأرض البكر غير المزروعة ، شعور غريب المّ بها ، وإنثنت كمثل بنفسجية خجلة على سفح جبل ، وبخفة إبتعدت عنه. وإجابة على سؤالها قال كونون : " سوف تعرفين كل شيء عندما يتحدث اليك ". ولكن الانا توقفت وأخذت تستوضح منه ببعض الأسئلة ، فاضاف: " لقد قلت انك متعبة....". ومرة أخرى قاطعته قائلة: " ولكن ليس الى حد يمنعني أن أعرف الأمر الذي سيحدثني به ماكس". فقال بهدوء : " لقد اسأت فهمي ، فأنا افصد أنني لو أخبرتك به الان ، لطار النوم من عينيك". سالت ألانا صائحة: " لا أستطيع النوم ! ماذا تعني؟". أخذ كونون يهز كتفيه بلا مبالاة وهو يقول: " انت تعرفين منذ وقت طويل انني منيع امام مكر النساء ، ولن أقول الان شيئا ، سوف تعرفين كل ما يجب ان تعرفيه ، عندما يتحدث اليك ماكس في الصباح". ولما وصلا الى الفيللا ، قال : " إدخل انت الآن ، فأنا اريدان امشي قليلا ". ومن دون اية كلمة أخرى ، إستدار ومشى ثم غاب مسرعا بين ظلال البستان . لم تستطع ألانا ان تتحرك ، بقيت تنظر خلفه حتى ختفى كليا عن ناظريها ، إختلطت عليها الأمور وإحتشدت عشرات الأسئلة في رأسها ، فمثلا لماذا في هذه اللحظة بالذات كانت تبحث في قرارة نفسها عما إذا كان كونون سينتصر عليها؟ شردت افكارها في الماضي البعيد ، الصراع العنيف الذي إعتمل في نفسها قبل أن توافق على زواجها من هوارد بيومونت ، ترى هل هذا هو السبب الذي جعلها تتساءل عن كان من الممكن أن ينتصر كونون عليها ايضا؟ وتساءلت الانا ، ترى على أي اساس يؤكد كونون أنها ستصبح زوجته ؟ ثم هزت كتفيها من غير أن تصل الى نتيجة وصعدت الدرج مسرعة ، وهي تقول في نفسها أنها لا يمكن باي شكل من الأشكال أن تكون زوجة لرجل مثل هذا ، رجل اقل ما يمكن ان يقال فيه انه ليس بافضل من وحش.... دخلت غرفتها واخذت تذرعها جيئة وذهابا ، لم تستطع ان تذهب الى فراشها ، يجب أن تعرف الأمر من ماكس ، هذا الأمر الذي سيسرق النوم من عينيها طيلة الليل عن عرفته ، وقد سرق النوم من عينيها حتى قبل أن تعرفه.... عندما وصلت الى باب غرفة ماكس ، تريثت قليلا قبل أن تقرع وتناديه برقة وعذوبة ، فتح الباب مباشرة وهو لا يزال بكامل ملابسه ، إذن ماكس ايضا لا يزال يقظا ، علت الدهشة وجهها وخرج من بين شفتيها صوت يدل على عدم تصديقها لما ترى ، نظرت اليه فلاحظت وجهه الشاحب ، لاحظت أنه يبدو أكبر سنا وأنه غارق في اعماق الياس ، قالت صائحة: " ما بك ؟ ماكس ، ما الذي حدث؟". تردد قليلا ، ولكنها كانت تعلم أنه يريد أن يوضح لها الأمر ، وأخيرا تكلم: " ذاك اللعين ، ذاك الهمجي الذي أحضرنا الى هنا بحجة مهمة كاذبة....". قطع كلامه ، وإبتلع ريقه بصعوبة واخذ يهز راسه ذات اليمين وذات الشمال ، فسالت بإستغراب: " مهمة كاذبة". تحركت ببطء نحو رئيسها الذي رفع يديه بإيماءة تدل على اليأس وانه لم يعد باليد حيلة ، ثم تركهما تضربان جانبيه بإستسلام. تابعت الانا إستفسارها : " هل تعني انه إحتال علينا للمجيء الى هنا؟". كان صوتها مليئا بالدهشة والإستغراب ، نظر اليها ماكس مستوضحا ،وقبل أن يسأل ، أضافت: " لا شك ان لديه أمورا خفية ". " أكنت تتحدثين اليه؟". أحنت راسها ، وقالت : " إنه غريب جدا...". توقفت عن الكلام قليلا ، وإصطبغ لونها بالحمرة عندما تذكرت تصرفه معها ، ثم تابعت: " قال انني سأكون زوجته في القريب العاجل". نظرت ألانا في وجه ماكس ، لترى تاثير هذه الكلمات عليه ، فلم تر سوى قناع لم تستطع أن تفهم ما وراءه ، ثم لمحت بعض التغيير فيه ، لم تفهم سببه ايضا مما زاد في تلهفها لمعرفة ما قاله له ، وأضافت: " ماكس ، قل لي ، ماذا قال لك ؟ فهو لا شك كان يضمر شيئا عندما أخبرني بانك ستتحدث اليّ في الصباح ، فلم أستطع الإنتظار ، ولذا تجدني هنا الآن ، أحس ان ثقته ترتكز على اساس قوي ، مع ان عقلي يحدثني أنه لا يمكن ان يتزوجني من غير موافقتي ، وهذه لن يحصل عليها بالطبع". فسالها بقلق: " ألانا ، هل انت متاكدة الى هذا الحد ؟ ألن توافقي على الزواج منه ولا تحت أي ظرف من الظروف؟". تراجعت الى الوراء أمام اسئلته ، وسالته بدورها بحدة: " ما هذا الذي تقوله ؟ لا يوجد هناك اية ظروف يمكن أن تجبرني على الزواج منه..". قاطعها بهدوء ، ولكن قبل أن يترك لها فرصة للإجابة ، تابع قائلا: " إنسي ذلك ، عزيزتي ، سوف أخبرك كل شيء وبكلمات موجزة قدر الإمكان". وبمنتهى الياس أخذ يتابع قوله: " لقد دمرني يا ألانا ". توقف قليلا ليأخذ نفسا واضاف: " لقد عرف كونون سرا خطيرا كنت أحتفظ به لنفسي". توقف ماكس عن الكلام مرة اخرى وإستدار نحو النافذة ، سار اليها ببطء ، يسحب الستائر عنها ، كل شيء في الخارج كان يخلد الى السلام والراحة ، الزهور الجميلة العطرة ، الجبال العالية الصامتة ، البحر الفسيح الداكن ، واشجار النخيل المتمايلة تتطلع الى فوق بإتجاه السماء المتلألئة ، أما هذان الإثنان في الداخل ، ماكس والانا ، فقد فقدا كل سلام وراحة ، وخيم عليهما الخوف والقلق. وعاد ماكس للكلام: " منذ زمن طويل ، إحتلت على رجل كبير السن وسرقته ، وصدف أنه ذو قرابة بكونون ...". فصاحت برعب: " أنت سرقت مال أحد ؟ هذا مستحيل ! فانا منذ عرفتك ، منذ عملت معك عرفت انك مثال الأمانة والشرف". " اليوم نعم ، ولكن قبل مجيئك لا ، لقد اصبحت مرة على وشك الإفلاس حيث فقدت تقريبا جميع أموالي في طيش الشباب". صمت عن الكلام لحظة وإبتلع ريقه ثم قال: " دخل علي مرة في مكتبي رجل يوناني كبير السن ، يعرض علي قطعة من الأرض واسعة لأشتريها ولما كان على خصام مع إبنه الوحيد ، ويريد أن يحرمه من الميراث ، أراد أن يبيع جميع ما يملك من أراض ، ذهبت معه الى اليونان وعاينت الأرض فلم أصدق أن الحظ سيوافيني هكذا ، كانت الأرض افضل وأجمل ما في البلاد ، فإشتريتها منه بثمن بخس ، ثم بعتها بريع مليون من الجنيهات ....". صاحت الانا مرتعبة مما تسمع: " ماكس ! لا ! آه ، لا ، لا يمكنك ان تفعل ذلك !". إستدار ماكس وخفض ناظريه ، غير قادر على تلقي نظراتها ، وتابع : " نعم ، ألانا ، لقد فعلت ، كل منا لديه نقطة ضعف ،جميعنا لديه ما يخفيه ، وحسبت ان سري سيبقى طي الكتمان ، يا الهي ! تصوري أن كونون كان على علم بهذا السر طيلة هذه المدة.........". " وهو يهددك الان ، أليس كذلك؟". كان إيمانها بماكس قويا ، كانت تثق بكل ما يعمل ، وترتكز في عملها معه على امانته المطلقة ، والآن تعلم بهذه الجريمة النكراء ، وليس من احد آخر ، بل من ماكس نفسه". كررت سؤالها ، لتعرف الحقيقة. " اهو يهددك ، ماكس؟". بدت المرارة في قسمات وجه ماكس وبصعوبة تكلم: " نعم يمكنك ان تسمي ما يقوم به تهديدا ، ومن قبل أن اصف أي شكل من التهديد يستعمله معي ، يجب أن أشرح لك بعض الأمور". صمت قليلا يستجمع أفكاره ، ثم قال: " إن ذاك الرجل المسن اللطيف من ماني ، وهي منطقة من مناطق اليونان مثل جزيرة كريت ، لها تقاليدها وعاداتها ، ومن هذه العادات واحدة لا يكاد المرء أن يصدقها ، وهي الأخذ بالثأر ، أظن أنك لم تسمعي بالثار ، فدعيني أوضح لك ". اخبرها ماكس ان الثأر عادة متأصلة عندهم ، وإذا لحق أي ظلم أو ضرر بشخص ما ، فإن أفراد عائلته مستعدون للأخذ بثأره ، والإنتقام من الشخص الذي ألحق به الأذية ، ون لم يجدوا ذلك الشخص فغنهم يوقعون العقاب بشخص آخر من افراد عائلته ، عقابا قد يكون أحيانا أمر من القتل". " وكونون هو الذي أخذ على عاتقه مسألة الثأر منك؟". تطلعت الى ماكس ، فرأت تعابير اليأس القاتل بادية في عينيه الرماديتين ، وأضافت: " ولكن ماذا يمكنه ان يفعل ؟ أعني انك إشتريت الأرض ودفعت ثمنها ، فبأي شيء يستطيع ان يهددك ؟ هل يستطيع؟". وبعد برهة صمت قال ماكس: " في خلال ساعات بعد توقيع العقد ، جاء الرجل يريد ان يلغي العقد ، ولكنني رفضت ، وأظن أنه قضى بسبب ذلك ، ألانا ، لا أدري ما الذي اصابني ، لم فعلت ذلك ؟ إنه لا شك الطمع ! مجرد الطمع!". كان يعاني الكثير من عذاب الضمير ، فقالت له لانا: " شيء فظيع يا ماكس!". " أعرف ذلك ، آه ، انا أعرف ذلك يا ألانا ! ". اخفى عينيه بيديه ، إهتزت كتفاه ،وإمتلأت عيناه بالدموع. أثرت حاله في الانا كثيرا ، وصعب عليها ان ترى رجلا يكاد يبكي ، ففاضت عيناها بالدموع، وخيم عليهما الصمت فترة ، حتى إستطاعت أن تمسك نفسها وقالت : " ماكس ، كنت أريد ان أقول قبل ان تقاطعني ، إن الأمر ولو كان شنيعا ، ليس لك أن تخشى كونون ، لقد قلت أنه يهددك ، وانا لا اجد فيما قلت ما يجعله متمكنا من ذلك ، أريد ان أعلم لماذا يهددك؟ ماكس ، عزيزي ماكس ، لا تخشى شيئا ، فهو لا يملك ماخذا عليك...". " العقد لم يكن قانونيا....". تكلم ببطء ، ينظر اليها وشفتاه ترتجفان .... وتابع: " انا اعرف أنه لم يكن قانونيا ، ولكن الرجل المسن لم يكن يعرف". تكلمت الانا ، وقد جف ريقها وبصعوبة خرجت الكلمات من بين شفتيها : " أنت.... أنت خدعته يا ماكس ، كما....". ومن قبل ان تكمل ، قال : " نعم فعلت ، ألانا". " إذن يمكنه أن يقدمك للقضاء؟". " نعم هو كذلك ، وإذا حوكمت ، فإنني سأقضي وقتا طويلا في السجن هنا ، بالإضافة الى إعادة المال الذي إستلمته ثمن الأرض ،وهكذا ستنهار المؤسسة وسمعتي ستلوث ". " ستنهار .... مستحيل !". كان ماكس قد وسّع أعماله ، وفتح لمؤسسته فروعا في كندا وأوستراليا ، كما كان اكثر تجار الأملاك إحتراما في لندن ، كلمته فوق الشبهات ، وجميع الذين يقصدونه ، يأتون اليه وكلهم ثقة به وبأمانته ، ومع ذلك فقد كانت في حياته هذه الوصمة السوداء. لقد صدمت الانا بما عرفت ، وبأنها كانت تعرف القليل جدا عنه ، كان حزينا وآسفا على ما فعل ، وهذا يعني في رأيها ، أنه غير شرير ، لقد كان يافعا في ذاك الوقت والتجربة قوية فلم يستطع مقاومتها ، وأما الآن فليس لديها أي شك على الإطلاق ، انه يستطيع مقاومة جميع التجارب. وبعد فترة صمت ، عادت تقول بصوت راح ينخفض حتى أصبح كالهمس: " لن تنهار، ماكس ، لن تنهار اعمالك الرائعة...". " يجب أن أواجه الحقيقة يا الانا ، لقد إنتهيت !". إقتربت منه حتى كادت تلمس يده : " لا ! انت لم تخبرني عما يريد بالضبط ، فأنا متأكدة أن هناك طريقة للخروج من هذا المأزق". إبتعد عنها وسقطت يدها الى جانبها ، لقد كان يمر بماساة ، ولكن لا بد ان يكون هناك مخرج. " هناك طريقة واحدة للخروج ، ولكنني على غير إستعداد لأن أخبرك بها...". قاطعته الانا بتلهف: " ولكنك قلت انك ستخبرني بكل شيء ، فقد اخبرتني الكثير ، وما عليك إلا أن تكمل الباقي". " لا أستطيع". كان صوته ثابتا ، ولكن ألانا توصلت الى حل ، ولمعت عيناها الجميلتان ببارقة امل ، وقالت: " أنت تملك الآن مبلغا كبيرا من المال ، ويمكنك ان تستدين مبلغا آخر ،وعندئذ يمكنك ان تعيد المال للإبن". خيم سكون عميق عليهما وعندما تكلم كان الحزن يقطر من كلماته: " لقد إنتحر الإبن ، ألانا...". توقف عن الكلام بضع دقائق وكتفاه تهتزان ، ثم تابع: " لم أكن اعلم بذلك ، حتى اخبرني كونون هذه الليلة ، ألا تدركين يا ألانا ؟ لقد قتلت رجلا!". احست الانا وكأن دفق الدم توقف في عروقها ، وسمرت في مكانها لا تستطيع الكلام . وتابع ماكس قوله: إنني أتعذب... ويجب علي أن أعاني حتى خر يوم في حياتي!". حاولت ألانا ان تتكلم ، أن تخفف عنه بعض آلامه ، وخرجت الكلمات من فمها بصعوبة ولكن برقة وعذوبة: " ماكس لا تقلق الى هذا الحد ، فأنا لا أستطيع ان احتمل رؤيتك على هذه الحال". إغرورقت عيناها بالدموع ، وسرعان ما تذكرت كلمات كانت تقولها والدتها لها: " مشكلتك أنك رقيقة القلب ، فأنت لن تصادفي الأذى في حياتك فحسب ، وإنما ستخدعين أيضا بأناس أكثر منك حذقا ، كوني حذرة يا بنيتي ، وحاولي أن تري ما في داخل القلوب". كانت والدتها تحذرها وتريدها أن تغير من طبيعتها ، ولكن ألانا لا تستطيع أن تفعل ولا تريد ، فإن كانت رقّتها وحنانها يبعثان العزاء والسلوى في قلوب الآخرين ، فهي تكون سعيدة جدا بقدرتها على المساعدة ، والآن ، رغبتها الوحيدة هي ان تساعد ماكس ، ماكس الذي كان لطيفا معها ،وحسن المعاملة ، طيلة الوقت الذي عملت معه ، فهو الذي اعادها الى العمل عندما إحتاجت لذلك ، واكثر من ذلك فهي لن تنسى ما دامت على قيد الحياة ، إنه جازف مرة بحياته من أجل ان يخلصها من بناء كان يحترق وهي في داخله ، فهي مدينة له بحياتها، ولن تنسى انها وعدت أن ترد له الجميل في يوم من الأيام. بعد ترة صمت خيم عليهما ، قال ماكس: " إذهبي الى فراشك عزيزتي ، لا بد أنك متعبة جدا". اجابته بصوت حازم: لن أذهب ، أريد أن أعرف ما هي مطالب كونون ". الح عليها بالذهاب ، واصرت أن تسمع الجواب. " ألانا ...". " نعم ، ماكس". خرجت الكلمات متقطعة من فمه وهو يقول: " أنا لا استطيع ان أخبرك عن ماهية تهديد كونون". " تهديد؟". رددت كلمته ،وقد حل في نفسها إحساس بأن ماكس يريد ان يخبرها كل شيء عن إنذار كونون ، ولكنه يتظاهر بأنه غير راغب في ذلك ، واضافت: " لم افهم شيئا !". " ارجوك إذهبي الى فراشك ، ولا تصري اكثر ". ضاقت عيناها وبدا صوتها جافا باردا وهي تقول: " أظن انه من الأفضل أن أذهب وأسأل كونون نفسه ، لعلي استطيع أن اعرف منه أكثر". توقفت قليلا وبقي ماكس صامتا ، ثم اضافت: " أن الأمر يشملني ، اليس كذلك؟ ولولا ذلك لما سألتك اية إيضاحات ، كونون قال لي أنه إذا اخبرني فلن يغمض لي جفن". لاحظت جمود ماكس ،وإستدارت نحو الباب ، وما كادت تبلغه حتى سمعته يقول بصوت منخفض: " ساوفر عليك مشقة الذهاب اليه ، فإن تهديده....". وتوقف مرة أخرى ، وعادت اليها تلك الفكرة الغريبة بانه تظاهر بالإمتناع عن القول ، ولكنه تابع: " هذا لن يغير في الأمر شيئا ، الانا ، فانا لن اسمح لك بأن تضحّي بنفسك من أجلي". دارت ألانا على نفسها ، وقد زاغت عيناها: " أضحّي بنفسي !". قشعريرة إعترتها ، هزت جسمها هزا ، اشبه بقشعريرة الموت ، وإستطاعت بصعوبة ان تسال : " ماذا تعني ماكس ؟". جمد لحظة ثم قال : " إنه يمنحني حريتي، إذا إستطعت أن أقنعك بالزواج منه ، فهو يعرف انني أنقذت حياتك مرة من الحريق ، ويعتمد الآن على ردك للجميل :, " هو يعرف انك انقذت حياتي ؟ كيف عرف ذلك؟". هز ماكس راسه وقال: " يبدو انه يعرف كل شيء عن كلينا ، أنه أمر يكاد لا يصدق ، ولكنه الواقع ، يبدو أن له في لندن من يدوّن له حركاتنا وسكناتنا". صمت لحظة ، ينظر اليها مباشرة ، ثم تابع: " يظهر أنه لم يتوقف عن رغبته في الزواج منك طيلة هذه السنين، ولست أدري ما الذي يدفعه للإصرار على الزواج منك بهذا الشكل ، اهو الحب مثلا ؟ حاولت ان أستدرجه لعرف السبب ولكنني لم أفلح". " اهو واثق أنني ساتزوج منه كي أنقذك؟". جاهدت كي تضبط نفسها كما كانت تفعل دائما ، ولكن الحكم بالموت أهون عليها الف مرة مما يطلبه ، وأخذت تفكر بالماضي ، تتذكر مشهدا تتخيله في ذهنها ولكنها لم تره ، مشهدا قيل لها عنه ، إن ماكس كان بطل الساعة في ذلك الحين ، خاطر بحياته ليخرجها من المكتب الذي إشتعلت فيه النيران ، كانت فاقدة الوعي ، وإستطاع ان يخرجها سالمة قبل ان يسقط سقف الغرفة وينطبق على الرض بثوان معدودة خرجت ألانا من الحريق سالمة ، لا اثر للحروق على جسمها ، اما ماكس فسيبقى مدى الحياة يحمل علامات الحروق على كتفيه وظهره. إنتبهت ألانا الى أنها شردت طويلا ، وعادت تقول: " لقد كان واثقا من أنني سأكون زوجته ، والآن عرفت سبب هذه الثقة " . " ثقة في غير حلها" قال ماكس ذلك وهو يهز راسه ، كأنما يريد بذلك أن يضيف قوة الى كلامه ، وتابع: " لن ارضى بنفسك من اجلي ، وأنا أعني ذلك". صوته كان ثابتا ، ولكن ثمة شيئا مبهما فيه ، تجاهلته ، وافكارها عادت الى كونون الذي يبدو انه كان يتابع كل ما يجري معها ، فلماذا؟ لماذا يريد أن يتزوجها؟ ألا يمكن أن يكون الحب ، فلا شك أن هذا الشعور قد مات منذ زمن طويل ، أما الرغبة في تنفيذ كلامه فقط ، فهناك إحساس في داخلها بأن الحقيقة ليست كذلك ، فإذا لم يكن لديها الرغبة لتتحقق من ذلك حاليا ، وقالت : " يعني أن زواجي من كونون يحميك من العقاب ومن الدمار...". " ألانا......( قاطعها قبل ان تتمكن من إتمام كلامها) لن اسمح ل كان تضحي بنفسك ، دعينا ننسى كل شيء عن هذا ، إنسي الجميل الذي تذكرين دائما أنك مدينة به الي ، وكذلك الوعد الذي قطعت على نفسك ، فأنا أذعن للدمار ، والعقاب، والسجن". إنقطع عن الكلام ، وألانا تنظر اليه ، ومع كل ما رأته من تعابير محزنة على وجهه ، فإنها قطبت حاجبيها بكثير من الشك ، لم يكن من الضروري ان يذكر الدين الذي له في ذمتها ، وان يذكرها بالوعد الذي وعدت ، فقالت: " ماكس ، أنت أنقذت حياتي بمحض إرادتك ، وإذا جاء يوم أستطيع فيه أن أرد المعروف ، سوف افعل ، مهما كان الثمن". صممت ألانا ان تفي بوعدها ، من غير أن يذكرها بذلك ، فسوف تنقذ ماكس ، طالما ذلك في قدرتها ، إنها مجبرة أخلاقيا ان تنقذه من اجل شرف الوعد الذي قطعته عن نفسها ، وصممت أن تفي به وقت الحاجة ، والآن جاء الوقت المناسب لتفعل. وفي لحظة رعب وجدت نفسها تتردد ، عندما فكرت في حياتها وكيف ستقضيها مع كونون ، كما فكرت بمرارة القدر القاسي الذي يعبث بها للمرة الثانية ، الضمير ، الشرف ، المسؤولية ، كل هذه كانت تلح عليها ، وايقنت أن لا مهرب لها البتة. مفزعة عي الحياة وتعسة مع كونون ، الرجل الذي ، وبدون رحمة ، إستغل معرفته بالخفايا كشبكة يجرها بها اليه ويضعها تحت سيطرته. " ماكس.......". وإضطرت ان تنتظر بضع لحظات قبل ان تستطيع ان تهيء الكلمات لتخبره ، إنها قررت ان تكون زوجة كونون. " لكن، الانا.....". قطعت كلامه بإيماءة من يدها. " لقد قررت ، ولذا ، ارجوك دعنا من هذا الأمر نهائيا ". هرب الدم من شفتيها بعد أن نطقت بكلماتها الأخيرة وإستدارت نحو النافذة ، وبكل المرارة التي تعتمل في نفسها ، أخذت بجو الهدوء والسلام الذي يلف الطبيعة خارجا ، ذاك الذي فقدته والى الأبد. في المرة الأولى ضحت بنفسها، وكان القدر لطيفا بما يكفي فحررها سريعا ، ولكن الآن ليس لها أي أمل في الخلاص ، فعليها ان تعوّد نفسها على حياة العذاب مع رجل أحبها مرة ثم كرهها ، يلومها على زواج غير سعيد أكرهت عليه. وإستطاعت أخيرا أن تقول : " لماذا لم يقم بهذه المساومة من قبل؟". " كيف يمكنه ن يتزوج منك ، ولديه زوجة ؟ ولكن عندما ماتت زوجته ، قام بهذه اللعبة الحقيرة". توقف ماكس عن الكلام ، ولاحظت ألانا أنه لم يعد يبدي إعتراضا وهذا يعني انه إرتاح لإختيارها الذي يرفع التهديد الجاثم على صدره وتابع يلمح انه من الممكن ان يكون كونون هو الذي قتل زوجته ، فصاحت: " ماذا تعني بالضبط؟". هز كتفيه وقال: " أنا لا أنزهه عن القتل ، ولكن لا يمكن ان يرتكب معك جريمة كهذه ، فلا تقلقي على سلامتك ، ألانا إنتظري الي بهذه الطريقة ! ". إبتعدت ألانا لتخفي عنه التعاسة التي بدت في عينيها ، فهو إذن لا يبالي بما يحدث لها ، والآن عرفت أنه منذ البدء كان يتعمد أن يخلق وضعا تكون نهايته التضحية بها . ذكرت الآن إحساسها منذ دقائق ، فقد كان ما يبديه من عاطفة مجرد وسيلة حتى يفلت بجلده ، فهو لم يعد يحاول ان يثنيها عن القرار الذي إتخذت. كانت على حق ، ففي الصباح التالي غادر باكرا ،وترك ملاحظة سلمها الخادم لألانا فور نزولها من غرفتها. اخذت تقرأ : (الوداع ، وأشكرك ، أرجو الا تكون الأمور سيئة جدا ، على أية حال فلديك جميع وسائل الراحة والرفاهية). وكانت الورقة موقعة بإسم ماكس. شحب لونها ، ورفعت نظرها نحو اليوناني الداكن الذي ظهر من غرفة الطعام ووقف الى جانبها ، يقرأ من فوق كتفها الورقة التي كانت بين يديها ، وردد: " على أية حال فلديك جميع وسائل الراحة والرفاهية ، نعم يا جميلتي ألانا سوف يتوفر لك كل هذا ، لأن هذا كل ما يهمك ! فالمخلوق الذي فضلته علي لم يترك لك شيئا ، وذاك ما كنت تستحقينه". كان النصر يشع من عينيه ، والسخرية تبدو على شفتيه حين تابع يقول : " والآن بعد كل شيء ، اصبحت لي ، أنت التي إتخذت القرار وأنا قبلت به ، رئيسك لعب لعبة بمنتهى الأنانية عندما سرق ذلك الرجل المسن ، لقد كنت مخطئة في رأيك فيه ، أليس كذلك؟". أحنت الانا رأسها وقالت: " بدات أدرك أنه منذ البداية كان يريدني أن أقطع الوعد الذي يلزمني بالوفاء ". " إنه رجل شرير حتى ولو أنه أنقذ حياتك". " لا اريد أن أتحدث عن ماكس ، فأنا مدينة له بحياتي ... والآن أرهن هذه الحياة ، من أجل حمايته من شرورك". " كوني حذرة من كل كلمة تقولينها". لقد حذّرها وهو يقترب منها ، وبيد خشنة رفع رأسها ، وتبع يقول: " أنا لست الشاب المريض بحبك الذي عرفته مرة ، لقد تغيرت والى الأسوأ ، وأعرف تماما كيف اعاقب الذين يغضبونني". شدد الضغط على ذقنها ، واضاف: " تعلمي كيف تنحنين امام إرادتي ! ستكونين زوجة يوناني خاضعة كلية لسلطته". فر اللون من وجه ألانا ، وأخذ قلبها يضرب بشدة بين جنبيها ولكنها لم تتكلم. " حسنا ، اليس عندك ما تقولينه ؟ شيء تسالينه؟". " سؤال واحد فقط". " ما هو ؟". " لماذا تزوجتني؟". " للإنتقام ! تزوجتك كي انتقم منك ، بسببك قضيت سنوات طويلة اعاني اقسى العذاب... والآن ، الانا ، عليك ان تدفعي الثمن ، سوف اعاقبك من أجل تلك السنين الضائعة ، السنين التي كانت ستختلف لو انك قبلت بي زوجا ، يوم طلبت منكذلك ، يوم كنت أحبك ، اقسم بالله ، لسوف أعذبك عذابا لا يمكنك إحتماله ، واجعلك تتمنين لو انك أنت االتي مت ، بدلا من ذاك الحيوان الذي كنت تفخرين به زوجا ضبطت الانا أعصابها ، وقالت بهدوء: " يبدو انك تعرف الكثير...". " جعلت ذلك شغلي الشاغل لأعرف بإنتظام كل شيء عنك". " ولكن يظهر انك لم تعرف الظروف التي قادتني الى ذاك الزواج". تقدم كونون نحوها ، ولكنها لم تنسحب فقد فر الخوف من قلبها في تلك اللحظة وإمتلأ بالكراهية التي طغت على كل عاطفة سواها. بعد لحظة صمت قال : " في ذاك الحين صدقت انك لن تتزوجي ، وكان عندي امل في أن اغير رأيك ، ولكن مع الأسف سرعان ما تزوجت ، قبل ان أصل الى بلدك وألاحق أخبارك". توقف عن الكلام لحظة ، واخذ نفسا عميقا ثم تابع: " أنت على حق ، فانا لا أعرف الظروف التي قادت الى زواجك ، ولا اريد ان اعرف ، وكل ما يهمني أنك فضلت ذاك المخلوق علي ". نظرت ألانا اليه تريد ان يعطيها فرصة تبرر زواجها ، ولكنه أصر على أنه لا يريد أن يسمع شيئا، فهزت كتفيها تحاول ان تمضي ، ولكنه أمسك بها فجأة بعنف يمنعها من الذهاب ، ويقول: " لا تنظري اليّ بهذه الطريقة وإلا سأجعلك تندمين على ذلك ".
الفصل الرابع 4- في تلك اللحظة التي اراد أن يحتفظ بها لنفسه ، حين إستسلم لآلامه وازاح قناع الشر عن وجهه ، رأته الانا وقد ألقى سلاحه جانبا... كانت الأيام تمر تباعا ، وإشمئزاز الانا من زوجها يتضاعف مما يزيده غضبا على غضب ، وعنفا على عنف ، لا شك انها كانت تخافه ولكنها كانت تخفي هذا الخوف ، وتتظاهر بالبرود وتعامله بكل إحتقار ، وفي عرفها كان يستحقه. " سوف تندمين على هذه الغطرسة". حذرها بهذه الكلمات ذات مساء ، بعدما إنتهيا من تناول طعامهما وخرجا الى فناء المنزل ليشربا القهوة. " لقد أهنتني أمام كوستاجيس وكاتينا". نظرت اليه بإستغراب: " تحسب أنك تستطيع أن تقنع خدمك أن ما يربط بيننا هو الحب ؟ ". " إحذري". قال ناصحا ، وكان صوته منخفضا لكن مخيفا ، واضاف: " لقد هددتك أكثر من مرة ،وقلت أنني سأجعلك تندمين ! ". شحب لون ألانا ولكنها لم تتكلم ، وإستمر هو في كلامه . " سوف أخضعك لرادتي ، فالنساء اليونانيات يتعلمن الطاعة بسرعة....". قاطعته قائلة: " لكنني لست يونانية ، أنا أنكليزية ، والخضوع ليس من شيمي". كان الغضب باديا في عينيه ولكن كان هناك ايضا بريق من الإعجاب . " يجب أن أعترف انني معجب بروحك". " شكرا لك". " مع ذلك ، فإنه يسرني أن أحطمها ". " هل سبق وحطمت روح زوجتك السابقة؟ يبدو لي أنها هي التي حطمت روحك". توقفت وهي تصرخ من الألم ، فقد أمسك بمعصمها ولواه. " إياك أن تذكريها ثانية ، فأنا لا أسمح لأحد أن يذكرها في هذا البيت ، وقد أقتلك لذلك". إنكمشت ألانا في مقعدها ، تفرك معصمها ، وتساءلت ، ترى هل فيه مس من الجنون ؟ كاد الخوف يخنقها وهي تفكر بكلمات ماكس عن كونون ، عندما قال لها انه من الممكن ان يكون قاتلا ، فهل قتل زوجته يا ترى ؟ وقتلها خنقا؟ بصعوبة حاولت أن تبعد هذه الأفكار عن مخيلتها ، ويدها على عنقها ووجهها شاحب كوجوه الموتى ، وقفت لتذهب ، ولكنها لم تستطع أن تتحرك. سأل كونون : " ما الأمر ؟ هل أنت مريضة؟". كان ينظر اليها ، يتفحصها ، ولاحظ لونها الشاحب وشفتيها المرتجفتين . " نعم كونون ، إنني مريضة". خرجت كلماتها سريعة من بين شفتيها ، وإستدارت لتغادر المكان ، ولكن صوته الحاد اوقفها وجعلها تستدير ثانية ، قال: " إبقي مكانك ! انا لم أقتنع أنك مريضة". " آسفة... ربما لست في وضع يسمح لي أن أبرهن على ذلك ، فعليك ان تثق بكلامي ، أريد ان أدخل.....". " افي مثل هذا الوقت؟ والليل لا يزال في أوله ، فتيا ، جميلا ، غنه ليل المحبين يا جميلتي ، ونحن محبون ، الانا ، أليس كذلك؟". " لا تكن سخيفا". صاحت الانا وقد إنقلب خوفها الى غضب ، وتابعت : " يا للسخرية ، اتتحدث عن الحب وقد إعترفت انك تكرهني ؟ وانا ايضا متأكدة أنني لا أحبك ، ولن استطيع !". ولدهشتها لم يعلق على كلامها ، بل قال في هدوء: " إجلسي يا الانا ، فانا في حالة حب لا احب فيها ان أكون وحيدا". فتساءلت الانا ، ترى لماذا يخشى أن يبقى وحيدا ؟ أيريد ان يهرب من افكار تقلقه ، افكار شريرة مثلا ؟ وفجأة فكرت بزوجته الأولى وأحست برغبة شديدة ان تعرف شيئا عنها ، وعن موتها! كونون كان ينظر اليها بكبرياء وهو يأمرها بالجلوس ، رفعت الانا وجهها اليه وبريق الغضب يشع من عينيها ، وقالت: " أنا متعبة ، ليلة سعيدة". " ستبقين في رفقتي". اجابت الانا وقد ضبطت اعصابها بصعوبة: " لست مجبرة على ذلك ، فلو كنت أنت الذي يريد الذهاب الى الفراش لفعلت من غير ان تسالني". " بالتأكيد ، فأنا السيد هنا ، أفعل انا ما اريد ، وتفعلين انت ما آمرك به" كان كلامه قاطعا لا يقبل الجدل. " إجلسي". وبعد تردد قصير فعلت الانا ما أمرت به ، ثم أضاف : " أرى انك تتعلمين بسرعة ، يا فتاتي". وبقيت الانا صامتة لا تجيب ، اما كونون فقد تابع كلامه تبدو في صوته نبرات السخرية المعتادة: " أنا أعرف أن الغضب يغلي في صدرك ، ولكنك لا تجسرين على إظهاره ، الواقع أنني أهنئك على حكمتك". إرتجفت ألانا والكره المميت يملأ قلبها وعيناها تتقدان بالحقد العميق ، وقالت: " ربما لا أستطيع أن أكون حكيمة دائما ! ولو كنت انت تملك شيئا من الحكمة ، لما إستعملت مثل هذا الأسلوب في معاملتي ، فبذلك تدفعني بعيدا ". إبتسم كونون قائلا: " بعيدا ، الى أي شيء مثلا ؟". " الى عدم القدرة على الإحتمال ، انت نفسك إعترفت أن لي روحا عالية ". " وإن كنت تذكرين ، فقد قلت أيضا انني اريد أن احطمها ". نظرت الانا اليه بإزدراء ، وقالت: " أعتقد أنني هنا ، حتى لا تكون وحيدا ، وبناء على ذلك فإنني اقترح ان نحاول ان نجعل نقاشنا مسليا ، فتهديداتك المستمرة أصبحت مملة ". كانت جريئة في كلماتها ، وخلال الصمت القصير الذي تلا ذلك ، كانت تتوقع إجابة قاسية مليئة بالإهانة من زوجها ، ولكن لدهشتها ، رات في عينيه بريقا من المرح خفف حدة القسوة التي كانت تطل منهما ، حتى أنها في لحظة تائهة لمحت فيه معالم الرجل الذي عرفته منذ زمن. رعشة غريبة رقيقة سرت في اوصالها ، شيء لطيف محير من الذاكرة عاد اليها.... نعم أنها في يوم من الأيام كانت مولعة بجاذبية وجهه الذي كان يحمل كثيرا من المعاني لعاطفية الرقيقة ، مولعة بلطفه ، بطباعه المرحة ، بإبتسامته العذبة وضحكته الحلوة ، ففي أي جحيم وقع هذا الرجل حتى تغير الى هذا الحد؟ وبعد وقفة لم تدم طويلا ، قال كونون : " ربما تهديداتي مملة كما تقولين ، ولكن إطمئني فسيأتي يوم لا تملين منها فيه ، لأنك ستكونين مشغولة بمداواة جراحك". فرّ اللون من وجه الانا وسرى اليه الشحوب ، فلا شك انه يعني ما يقول ، وترددت قليلا ثم قالت : " في ذات يوم لم تكن تحلم ان تمد يدك نحو إمرأة !". " ولكنني لست الرجل الذي تعرفين ، وقد سبق وحذرتك". " لست بحاجة لكي تنذرني ، يمكنني أن ارى ذلك بنفسي". " هل ندمت انك مررت بي ذات يوم؟". " ليس الأمر مهما الآن....". رفع كونون حاجبيه متسائلا: " هل تعنين أنك لست مهتمة بزوجك؟". " لماذا أكون ؟ فلست الزوج الذي إخترته بإرادتي ، لا تنس ذلك". بدا الغضب في عيني كونون ، وأطبق بشدة على الكأس في يده ، لاحظت ألانا ذلك ، وإنتظرت هجومه..... ولكنه قال بإتزان: " لا ، انا لست بإختيارك ، ولكن ذاك المخلوق البله كان بملء إختيارك ، اليس كذلك؟ لقد إخترته ! فباي شيء خرجت من ذاك الزوج ؟ لم يترك لك شيئا ، كم كنت تعيسة.....". قاطعته الانا بحدة ، قائلة: " هل يمكن أن نغيّر الموضوع؟ إذا كنا لا نستطيع ان نتحدث بقليل من اللطف والمودة ، فبحق السماء ، دعني أذهب الى غرفتي". وبالرغم من غضبها الشديد ، شعرت انها مهزومة أمام قوته ، وليس هناك خيط من رجاء ، ولدهشتها رأته يهز راسه وقد ظهر التهجم بين حاجبيه وهو يقول: " حسنا ، إذهبي الى غرفتك ، إذا كان هذا ما تفضلينه ". نظرت اليه تكاد لا تصدق ما تسمع ، وسألت: " هل تعني ذلك حقا؟". بدت المرارة على وجهه ، وهو يجيب: " نعم إنني أعني ذلك، إذهبي الى فراشك ، ليلة سعيدة ". وقفت ألانا على الفور ، وتركت الفناء باسرع ما يمكنها ، وما أن إرتقت الدرجات حتى إلتفتت لترى كونون متكئا الى ظهر كرسيه ، وفي يده كأس يديرها ذات اليمين وذات الشمال في حركة منتظمة ، خطت ألانا خطوة أخرى الى الأمام ، فوجدت نفسها تلتفت ثانية ، وقالت في نفسها .... هناك ما يحزن هذا الرجل الجالس كالجريح ، وكأنه فريسة للأسى. وبالرغم منها شعرت ببعض اللم ، تريد أن تسرع اليه وتتحدث معه ، تساله ما به؟ ماذا يقلقه؟ ولكنه إستدار فجأة، وقال غاضبا: " إذهبي الى غرفتك ! لماذا تحومين ؟قلت أنك لا تريدين الذهاب ، إذن إفعلي ذلك وعلى الفور". لقد غضب كونون لأنه عرف أنه لم يكن وحيدا ، في تلك اللحظة التي أراد ان يحتفظ بها لنفسه ، تلك اللحظة التي إستسلم فيها لآلامه الناجمة ولا شك عن حزن دفين ، وأزاح فيها قناع الشر عن وجهه ، رأته ألانا وقد ألقى سلاحه ،ولذا إنفجر فيها غاضبا، لكن الانا ذهبت من غير ان تنطق بكلمة ، ترتجف ولا تدري ، إذا كان ذلك حزنا عليه أم خوفا منه. طلع الصباح ، ومشت ألانا نحو غرفة نافذتها ، أزاحت الستائر حائرة مما لا يزال يخالجها ، أهو الخوف المزوج بالغضب ، أم الممزوج بالشفقة ؟ الشفقة ! ابعدت هذه الكلمةعن ذهنها ، ولكنها كانت كلما أبعدتها تعود ثانية الى تفكيرها وبسرعة ، لماذا تشعر بالإشفاق على زوجها ؟ فهو ليس الرجل الوحيد الذي كان زواجه مشؤوما. تمنت لو أنها تستطيع ان تعرف شيئا عن زوجته السابقة...وفجأة ، مرت في خاطرها ، كاتينا.... تلك المرأة التي حاولت في مرتين سابقين ، أن تشعر سيدتها الجديدة انها تريد أن تفضي اليها ببعض الأسرار ، ولكن في المرتين اوقفتها ألانا بحزم عند حدها ، غير أنها الآن تحس أنه لا باس لو سألتها بعض الأسئلة. حدث مرة أن دخلت ألانا غرفة نومها ، في اللحظة التي كانت كاتينا تريد ان تغادرها ، بعدما أنهت ترتيبها ، وإبتسمت المرأة وهي تشير الى حلبة ماسية جميلة ملقاة على طاولة الزينة وقالت: " لقد إشتراها لك سيدي ، أليس كذلك؟". هزت الانا رأسها واجابت: " لا ، كاتينا ، والدتي إشترتها لي قبل وفاتها بقليل". أظلم وجه كاتينا ، ووضعت يدها على فمها كعادتها وقالت: " إذن توفيت والدتك وهي شابة؟". أحنت ألانا راسها: " أجل يا كاتينا ، لقد ماتت شابة". مضت برهة من الصمت ، بدا فيها التأثر على وجه ألانا ، أما كاتينا فقد شجعها سلوك سيدتها على ان تقف الى جانب سريرها ، فسألتها ألاناك " منذ متى وأنت تعملين عند السيد كونون؟". " انا وزوجي نعمل عند السيد كونون منذ مدة طويلة". " أعني كم سنة؟". " سنوات عديدة، تسع... تسع ونصف...". نظرت الانا الى المرآة ، فوجدتها تبتسم سعيدة للتغير الذي طرأ على سلوك سيدتها نحوها. " لكن هذا المنزل لا يبدو قديما الى هذا الحد". " الا تعرفين ، سيدتي؟ الم يقل لك السيد كونون انه جاء الى هنا فقط منذ ثلاثة أو أربعة شهور؟". عضت ألانا على شفتها لهذه الغلطة التي بدرت منها ، ثم هزت كتفيها ، وقالت : " بالتأكيد ، إنه غباء مني ! كان عقلي شاردا في امر آخر ، ثلاثة او اربعة شهور... كان زوجي يسكن في جزيرة أخرى من قبل". " نعم في جزيرة باتموس". " باتموس ؟ إنني متأكدة انها جزيرة جميلة". " إنها جميلة جدا سيدتي". وسكتت كاتينا لحظة تنظر في وجه ألانا التي إبتسمت لها تشجعها على الكلام ، وأضافت أن السيد كونون ترك باتموس بعد وفاة زوجته الأولى في الحال كما أتبعت ذلك بقولها: " لكنني اتوقع أنك تعرفين ذلك يا سيدتي ، لا بد ان زوجك أخبرك بذلك". إبتسمت الانا ، فتابعت كاتينا: " زوجي كان متزوجا بأخرى قبلي ، وهو دائما يتكلم عنها ، ويقول أنها تشتغل بجد أكثر مني ولكن هذا لا يعني انها افضل مني ، والسيد كونون لن يقول أن زوجته الأولى أفضل منك ، لأنها كانت سيئة جدا....". توقفت كاتينا عن الكلام لما رأت تجهم سيدتها ، ثم قالت: " أأنت غاضبة مني سيدتي لأنني تحدثت عن الزوجة الأولى؟". في الواقع لم تكن غاضبة ولكنها إستنكرت من نفسها هذه المناقشة مع الخادمة ، ومع ذلك فهي تريد أن تعرف المزيد عن تلك الزوجة ، فهزت راسها نفيا وإصطنعت إبتسامة تشجيع ، من غير أن تظهر انها متلهفة لسماع المزيد ، وقالت: " لا كاتينا ، لست غاضبة منك". " أنا سعيدة سيدتي ، هل رايت ؟ أنت تختلفين عنها ، واضافت: " إنها متغطرسة .... نعم ، إنها تتحدث الي كأنها الملكة ، وأنا امامها نملة صغيرة تحبو على الأرض ! هل فهمت ما اعنيه سيدتي؟". " نعم لقد فهمت". " وكما أخبرك سيدي ، كان لها عشاق كثيرون ، وكان السيد كونون يتمنى أن يخنقها حتى الموت ، لولا تدخل زوجي". شحب لون آلانا وهي تتخيل كونون ويديه القويتين حول عنق زوجته ، وتذكرت انه غضب مرة عندما رىها ترفع يدها الى عنقها ، لعل حركتها تلك ذكرته بما كان يريد أن يفعل... بانه كان يريد أن يخنق زوجته ، لولا أن خادمه نجّاه من ذلك. وبعد برهة صمت ، تحدثت الانا قائلة: " كان وقتا عصيبا بالنسبة الى زوجي". " كان وقتا فظيعا جدا ومليئا بالحزن عندما توفي الطفل الصغير". وأخذت كاتينا تتابع الحديث: " كان جذابا.... طفلا جميلا ، إبن السيد كونون ، وقد كان فخورا به كثيرا ، وفي ذات يوم كانت زوجة سيدي مشغولة بالحبيب الجديد.... ومن عادتها أن تجتمع به عندما يكون سيدي كونون بعيدا في أثينا يقوم ببعض العمال ، بكى الطفل الصغير ، وبكى .... ولما لم يا تاليه أحد دخل الى غرفة أمه ، فضربته ضربا اليما والقت به بعيدا". " ماذا تقولين؟ القت به بعيدا". صاحت ألانا وهي متعجبة ومشمئزة من هذه الصورة ، ولكنها في نفس الوقت ، صارت ترى زوجها بمنظار جديد ، وأعطته أعذارا كثيرة لذاك التحول الفظيع الذي حصل له. " نعم.... القت به عبر الغرفة، فإرتطم رأسه الصغير بزاوية الطاولة الرخامية التي كانت للسيد كونون ". توقفت كاتينا قليلا ، ونظرت الى سيدتها ، ثم أضافت: " الم يخبرك السيد كونون عن الصغير؟". " لا يا كاتينا ، فهو لا شك لا يحب أن يتحدث عنه". " انت تريدين ان أحدثك عنه ، هذا ما أظنه ، أليس كذلك؟". " نعم اريدك أن تخبريني بكل شيء". " لقد أحضر السيد كونون ممرضة لغبنه ، ولكنها في ذات يوم إستدعيت للعناية بأمها المريضة ، وأما انا وزوجي فقد كنا في منزلنا الصغير قرب منزل السيد كونون ، وهكذا لم يكن في المنزل سوى زوجة سيدي وحبيبها". هزت ألانا راسها إستنكارا ، ورفعت كاتينا يدها الى قلبها وهي تعيد : " اخذ الطفل الصغير يبكي ، فقد كان المسكين مريضا ... ولما لم يأت أحد اليه ، قام من فراشه وجاء الى غرفة أمه ، فثار غضبها وضربته ضربا موجعا كما أخبرتك ثم دفعته بقسوة حيث إرتطم رأسه بزاوية الطاولة ، لقد اصيب برضوض في جميع انحاء جسمه بالإضافة الى الصدمة الكبيرة في راسه ، ومات إثر ذلك ، وإستدعى الطبيب سيدي كونون ، فجاء في الحال". سكتت كاتينا عن الكلام وفي عينيها نظرة رعب ، ومرت بضع لحظات والصمت يخيم على المكان ، حتى إستطاعت ان تعود الى الحديث. " تذرع السيد كونون بالصبر ، وحتى وجد نفسه اخيرا وحده مع زوجته ، وعندها أطبق على عنقها يضغط عليه بشدة ، لا بد أنها قاومت لتتخلص منه لكنها لم تستطع ، ولولا ان زوجي جاء في الوقت المناسب ولحق به عامل آخر وانا ، لكانت ماتت على يديه ، فجميعنا تعاونا حتى إستطعنا ان نبعده عنها ونمنعه من قتل تلك المرأة اللعينة". بصعوبة كانت الانا تبتلع ريقها ، فقد فهمت الآن كل شيء وتذكرت كونون كما كانت تعرفه ، ثم خيانة زوجته ، وفجيعته بولده ، وأغمضت عينيها لتبعد عن ناظريها مشهد القتل.... " لقد عانى زوجي الكثير ، ولا عجب أن يصبح على ما هو عليه ". كان صوتها منخفضا جدا ، ومع ذلك كانت تنظر نحو كاتينا راجية ألا تكون قد سمعت الجملة الأخيرة ، ولكن المرأة كانت تحرك راسها من جانب الى جانب. " إنه لخسارة ان يتزوج من تلك المرأة ، ولكن كان يجب عليه أن يفعل ". " كان يجب عليه أن يفعل ، ماذا تعنين بذلك ، كاتينا؟". " أنا لا اعني أنه كان يجب عليه أن يتزوج هذه المراة بالذات ، ولكن كان يجب أن يتزوج من أية إمرأة ، فقد أجبره ابوه على ذلك ، كان السيد كونون يحب فتاة أنكليزية ، ولكنها رفضت أن تتزوج منه ، أنا لا اعرف كيف يمكن لأية فتاة ان تقول لا للسيد كون، لقد كان جميلا جدا في ذاك الحين". توقفت المرأة عن الكلام ، ونظرت نحو ألانا معتذرة: " أنا آسفة سيدة كونون....". " لا تعتذري ، أنا أعرف ان زوجي تغير شكله خلال السنوات التسع الأخيرة". كانت زلة لسان من ألانا ، إذ لا يبدو على كاتينا انها تعرف أن الفتاة الإنكليزية التي تتحدث اليها الآن هي التي رفضت سيدها. " كان والد السيد كونون قلقا على امواله وأعماله ان تذهب الى أبناء أخيه من بعده ، ولذا ألزم السيد كونون بالزواج حتى ينجب وريثا ، لقد حصلت بينهما مشاحنات كثيرة ، لأن سيدي قال أنه لا يزال يحب تلك الفتاة الإنكليزية". ومرة أخرى سكتت كاتينا عن الكلام وأخذت نفسا عميقا وهي تنظر الى سيدتها بشيء من الشك ثم قالت: " أنت التي طلبت مني ان أخبرك بكل شيء ، ولذا فإنني أفعل". " نعم أريد أن اسمع كل شيء". لم تكن ألانا تتوقع في الحالات العادية أن تقف لتستمع الى كاتينا ، ولكنها أضطرت ان تفعل ، فهي تريد أن تعرف كل شيء عن زوجها. أحست بالإشفاق على زوجها وشعرت بالذنب فلو أنها تزوجت منه لما حلت به كل هذه المآسي ، ولما عانى كل هذه المعاناة ، ومن جهتها هي ، لكانت تفادت الزواج من ذاك الرجل البغيض هوارد بيومونت. كاتينا عادت للكلام ثانية وعرفت ألانا المقتطفات الأخيرة من القصة... وهي أن كونون عندما أيقن أنه لا يمكن أن يتزوج الفتاة الإنكليزية ، إختار فتاة يونانية وتزوج منها ، وعزم على ان يكون زوجا صالحا ، وإستمرت كاتينا في حديثها فقالت: " كانت حياة السيد كونون سيئة للغاية ، ولكن زوجته أخيرا توفيت في حادث سيارة هي والحبيب الأخير ، والآن نأمل أنا وزوجي أن يعيش سيدي معك حياة مليئة بالسعادة". نظرت ألانا الى الفراغ ، وقد أدركت أنها ليست غاضبة للحرية التي أعطتها للمرأة في الكلام ، وإصطنعت الإبتسام شاكرة إياها على ما أخبرتها به ، ثم اضافت: " أنا ممتنة لك كثيرا ، فالآن افهم زوجي بطريقة افضل". " سيدتي ، وأنا اكون شاكرة لك أكثر لو احببت سيدي". ومن دون أية كلمة أخرى إستدارت لتترك الغرفة. " كاتينا..... إرجعي! ". " نعم سيدتي". " هل قدّمت والدة الطفل للمحاكمة ؟". " أنها الحقت العار بسيدي ، بتصرفاتها المشينة ، والسيد كونون كثيرا ما تحدث مع والده ومع الطبيب ، ولكنهم قرروا أن هذا العار يجب أن يبقى سرا ، ولم تقدم للمحاكمة ، وانا لم أخبر احدا بما قلته لك يا سيدتي ، فأنت لك الحق بأن تعرفي كل شيء". " إذا كان الطفل قد قتل ، فكيف طمست القضية؟". " لقد قالوا أنه سقط من الدرج الى الحديقة ، أنا أظن أن تلك المرأة كانت مجنونة وشريرة ، وعلى هذه الحال يمكن أن تعفى من العقاب". " وهكذا إذن قرر السيد كونون أن ينتقل نهائيا من باتموس؟". " هذا هو الواقع ، سيدتي". بعد دقيقة ، ذهبت كاتينا ، وبقيت الانا مع افكارها ، كان من الجلي ان كونون عزم على ان يبدأ حياة جديدة في بيت جديد وزوجة جديدة أيضا ، مبتعدا كليا عن كل شيء يذكره بالماضي. أحست ألانا بالحنان والإشفاق يملآن صدرها ، وتأكدت الآن أنه تزوج منها للإنتقام ، لأنه يعدّها مسؤولة عن كل ما حدث له حتى موت ولده . لو تزوج منها لما المت به جميع هذه المصائب ، ولكنها مع ذلك لن تسامحه لأنه تزوج منها بهذا الاسلوب ورغم إرادتها ، غير أنها عزمت على ان تحاول ما إستطاعت أن تعيد شيئا من البهجة الى حياة زوجها....
الفصل الخامس 5- خشيت على سلامتها بين يدي رجل مجنون كهذا ، ذات يوم قد يستبد به الحزن الى درجة مرعبة بحيث لا يعرف ما الذي يفعل..... بالرغم من أن ألانا حاولت الكثير لتبعد عن نفسها القلق والشعور بالذنب ، إلا أنها ايقنت ان ذلك مستحيل ، فالفكرة تلاحقها في كل لحظة ودقيقة كالحلم المريع الذي يرفض أن يتراجع الى عالم النسيان ، بعد الذي سمعت وعرفت. ولكنها مع كل ذلك لم تستطع أن تتغلب على شعورها بالكراهية نحو كونون أو لعلها لا تريد ، فهي لن تنسى أنها تزوجته مكرهة ، وكانت إذا إلتقت به ، لا تتمكن من إخفاء مشاعرها نحوه في أكثر الأحيان . " كراهيتك لي غالبا ما تبدو في عيننيك" هذا ما قاله لها ذات ليلة عندما جاء الى غرفتها ، ورآها تبتعد عنه الى الجانب الآخر من الغرفة ، ثم تابع: " ومهما كنت بغيضا في نظرك عليك ان تتحمليني". ولكن ألانا لم تقل شيئا ، وأخذ يذكّرها بزوجها القديم وكيف رضيت به ، دون أن يعرف أنها لم تكن زوجته إلا بالإسم. " إنني متعبة". هذا كل ما إستطاعت أن تقوله . " تعالي الى هنا الان". هزت رأسها آليا وهي تنظر من النافذة الى الخارج ، حيث الشرفة الواسعة الطويلة التي كانت تجلس فيها أحيانا تقرا بعض الكتب ، أو تمتع ناظريها برؤيا الحدائق والبساتين الممتدة حتى البحر. " أرجوك ، إذهب". كانت تتعجل ذهابه ، لأن الشعور بالإشفاق بدأ يغزو قلبها بالرغم من محاولتها طرده ، وخشيت من الإشفاق أن يجعل موقفها من زوجها مرنا بحيث ترضى أن تستجيب له ، وهي لا تريد ان تمنح كونون الرضى والإرتياح ، بشعوره انه هزمها كليا ، وعادت تقول: "إذهب فأنا لا أريدك هنا ، وأنت تعرف ذلك". إرتفع حاجباه البنيّان ،وإتخذ خطوة نحوها ، هدوءه لم يخدعها فقد إعتادت على طباعه المتلونة. " انت زوجتي يا ألانا ...". " لا أظن أن هذا التذكير ضروري ". خبت إبتسامته وقال بنفس الطريقة الناعمة التي بدأ بها: " في هذه الحالة ، لست بحاجة أيضا لأذكرك بواجبك". إحمر وجهها وعادت تنظر من النافذة ، ثم قالت: " يبدو أنك لا تفكر أن هناك أمورا أخرى أهم من الواجبات والحقوق ، أليس كذلك؟". كانت تتقول هذا وتفكر بذاك الحب العظيم الذي كان يحمله لها ، عندما قال ان زواجه منها نعمة من الله. " أنا لا يهمني مطلقا ما تقصدين ، تذكري أنني يوناني ،ونحن نقيم علاقاتنا مع زوجاتنا ولو كنا نحتقرهن ". " انت تحتقرني إذن؟". " على الأغلب ، نعم أحتقرك ، أن تتزوجي من اجل المال ،وتقبلي ذاك الحيوان زوجا لك... فاي رجل محترم لا يحتقر إمرأة مثلك؟". نظرت اليه ، وأصبحت على وشك أن توضح له الأمور ، ذاك الإيضاح الذي يبرئها امام عينيه ، ولكن تعابير الإحتقار العميقة التي تبدو عليه ، أسكتتها عن الكلام ، وعلى اية حال فهو لم يعطها فرصة لتحكي له قصتها ، وكان يتهمها دائما بأنها تسعى وراء الأشياء المادية في الحياة ، فلماذا إذن تزعج نفسها في تفسير ما غمض من أمرها ؟ وقالت في نفسها ليظن بها الظنون ، ويتهمها ما شاء من إتهامات بانها مادية وهمها هو المال ، ، حتى أنها تزوجت ذاك الرجل الذي أسماه حيوانا ، ولكنها لا تستطيع أن تكون زوجة حقيقية لكونون طالما لا تربطهما صلة حب. " إذن انت تحتقرني،وتتهمني ، ولكنني لا ابالي برايك فيّ ". ضاقت عينا كونون ، وقال: " كم كنت مخطئا في رأيي ، يوم عرفتك ، كنت انظر اليك كمثلي الأعلى ، المرأة الكاملة ". نظر اليها بإشمئزاز وتابع: " كنت فتيا في ذاك الحين ولا اعرف شيئا عن النساء أو شرورهن ". إنطفأ صوته وراح في تفكير عميف، وأحست ألانا أنه كان يفكر بما فعلت زوجته ، وسرعان ما تغيرت ملامح وجهه واصبحت مخيفة وايقنت ألانا أنه إنتقل بافكاره الى ولده. أما هي ، فقد اخذ الخوف والحنو يتصارعان في قلبها ، وعرفت أن الحنان هو الذي ينتصر وليس الخوف. قفز كونون عبر المسافة التي تفصله عن زوجته ، وأمسك بكتفيها بقسوة آلمتها ، وقال : " على الأغلب أنا اعرف القليل من شرورهن ، إنهن مخلوقات حقيرات وكرهي لك قوي جدا ، حتى....". " كونون !". صرخت ألانا وهي تجاهد لتتخلص من يده ، ثم تابعت: " إنك تؤلمني ، أرجوك دعني اذهب". ولكنه بدلا من ذلك ، امسك بها بقسوة أكثر وألانا تصرخ ، وهو يضحك ويقول: " آلمتك ؟ يمكنني أن اقتلك في وقت من الأوقات ! سوف أجعلك تقاسين العذاب الوانا كما وعدت ، كلما عادت اليّ الذكريات". شحب لونها ، وتراخت ساقاها ، لولا يدي زوجها اللتي إحتضنتاها ومنعتاها من السقوط. " ارجوك دعني أذهب". ملأت الدموع عينيها ، وشعرت انها تريد أن تلغي الإتفاقية التي عقدتها معه وتهرب بعيدا عنه ، بعيدا عن جزيرته ، ولن تضع قدميها عليها مدى الحياة ، ولكنها أضافت: " أصحيح أنك تستمتع بتعذيبي؟". " بكل تأكيد وأحس بالسعادة والرضى !". أحست الانا بيديه تتراخيان شيئا فشيئا ثم وجدته يتركها ويتراجع الى الوراء ، ولكنه بقي واقفا امامها ، تنطق تعابير وجهه بالشر ، فهو الرجل الذي يستطيع أن يقتل ، ولولا تدخل خدمه لقتل زوجته الأولى ، ومن يدري ماذا سيفعل معها ، سمعت ألانا صوته يعود للكلام: " نعم إنني احس بالسعادة من إيلامك ، من جعلك تعانين الأمرّين ، جعلك تدفعين ثمن ما قاسيت بسببك ، منذ مدة طويلة وانا أخطط اليك والإنتقام منك أشد إنتقام لأنك رفضت الزواج مني". تمالكت الانا نفسها وسالت: " وهل موقفك هذا منطقي؟". " الثار لم يكن مرتبطا بالمنطق في يوم من الأيام". قالت في نفسها غريب امر هذا الرجل ، فقد كان وهو أصغر سنا يوم عرفته ، يمعن النظر في جميع أفعاله ، متزنا في تفكيره ، يفكر بالعواقب ، فما الذي جرى له الان ؟ اهو حزنه الشديد الذي شوّش عقله؟ بقي واقفا قريبا منها وهي تنظر اليه ، الى عينيه الرماديتين الداكنتين لا تستطيع أن تسبر أغوارهما ... ضيقتين مليئتين بالكراهية ، أعمى عن كل شيء إلا عن إشباع رغباته ، وإنتصاره من غير رحمة. بدأ قلبها يعلو ويهبط ، فإتخذت خطوة الى الوراء ، ولاحظت غمزات عينيه الساخرة بحركتها تلك ، واقفا أمامها كالعملاق ، واثقا من نفسه ، وشعرت الانا أنها وقعت في الفخ. إقترب كونون منها أكثر ، ويده المرتجفة لامست وجهها ، وفجأة ضمّها اليه ، ثم غاصت الغرفة في الظلام . كان نائما وهي تحملق فيه بإستغراب ، فإمارات الشر قد زالت عن وجهه ، ورأت فيه الرجل الذي عرفته ذات يوم ، كثير الود والقدرة على أن يحب بصدق ، والإبتسامة تبدو على شفتيه كمن تمر في مخيلته ذكريات مفرحة ، حلّت مكان تلك الذكريات الموحشة المخيفة. في الليلة الماضية نامت وحكمة الهرب ترن في اذنيها ، ولكن في هذا الصباح شعرت أن الإشفاق على زوجها قد هزم فكرة الهرب ، فلن تتركه وحيدا ، يحتضن حظه العاثر ، ويندب ولده الذي رحل بتلك الطريقة المرعبة ، فهذا وحده كاف أن يجعل كونون دائما اسيرا لالام مبرحة لا تطاق. " اين أنت؟". جاءت الكلمات في نغم مليء بالذعر .... لكنها نغمات ناعسة كأنما صاحبها لم يستيقظ جيدا بعد ، ثم أضاف: " اين أنت ؟ اين ذهبت". عادت الى الباب بسرعة ، وجدته مستيقظا مقطب الجبين ، فقالت تطمئنه: " أنا هنا ، كونون ". نظرت الانا اليه فرأت التجهم على وجهه يمضي ثم يعود وسمعته يسأل: " ماذا كنت اقول؟". " سالتني أين أنا". مرت لمحة من السرور في عينيه ثم نظر الى ساعته وأضاف: " حسنا ، ولكنك إستيقظت مبكرة". " إنه صباح مشرق جميل ، وأحب ان أذهب في جولة قصيرة قبل الفطور". رددت الانا كلمته في نفسها لأسباب غامضة ، فشعرت وكأنها صرخة من الماضي ، صرخة فيها إستغاثة والم ، وإستغربت لهذه الفكرة ، فكرة إرتباط هذه الصرخة بالماضي البعيد ، لماذا لا تعود الى أمور أكثر قربا من الحاضر؟ من الممكن أنه كان يحلم ، أو ربما كان بين اليقظة والنوم ، عندما يتمتم المرء باي كلمات ، وفي هذه الحال ، فكلماته ليس لها أي معنى عميق ، هزت ألانا رأسها وقد نفد صبرها من نفسها ، لأنها لم تصل الى أي سبب ثابت يوضح لها سبب صيحة كونون تلك.... أين أنت؟ وبقيت هذه التساؤلات تراودها ما يقرب من نصف ساعة ، حيث كانت تسير على الطريق التي تؤدي الى نهاية الجزيرة . كانت الشمس تسطع فوق سطح البحر تلونه بلون اللهب ، والسماء تتألق في العلى بلونها لصافي ، وقد توشحت سفوح الجبال بأثواب ذهبية وخضراء ، والروابي مزيج من الألوان تغطيها البساتين والحدائق التي تستكن في احضانها بيوت متناثرة بيضاء. وبعيدا في البحر يبدو العديد من الجزر تلمع تحت اشعة الشمس ، ترتفع تلالها عالية حادة نحو السماء ، إبتسمت الانا إذ وجدت نفسها تستعيد إحساسها الأول إتجاه هذا الفردوس الوضاء حيث كانت الشمس تختفي وراء الغيوم ، والجبال معلقة في أعماق الضباب ، والوحشة تخيم على كل مكان. اما الآن وقد ولت الغيوم امام شعاع الشمس وتلاشى الضباب عن الجزيرة ، فإن ألانا بدأت تحب هذا المكان ، وشعرت انه بإمكانها ان تكون سعيدة بين حنايا هذه الجزيرة الرائعة الجمال ، لو أن الظروف التي تعيشها عير هذه. حقا ان زوجها يبدة متوحشا همجيا أحيانا ، ولكنه أحيانا أخرى يبدي ملامح عاطفية لا تكون إلا في قلوب المحبين ، ترى هل يمكنها ان تخفي شيئا من إشمئزازها منه ؟ وفكرت فوجدت ان ذلك بعيد الإحتمال. إستمتعت ألانا بالجولة التي قامت بها ، بالمناظر الخلابة ، بالنسيم البارد العليل القادم من البحر ، بالروائح الزكية التي تنتشر في كل مكان فاتحة الأعشاب العطرة التي تنبت بين الصخور. كان القصر يبدو روعة في الجمال وقمة في فن العمارة ، كانه معلق على حافة صخرة عالية ، أما جزيرة ليروس فقد كانت تبدو قريبة جدا خلال ذلك الجو الصافي ، والجزر الصغيرة الأخرى تكاد تلتصق وكنها جزء من كاليمنوس نفسها ، إنفصلت عنها قليلا لتستحم في المياه الدافئة على شطآنها الجميلة. نظرت ألانا الى ساعتها ، وإستدارت تسرع الخطى بأكثر مما إعتادت أن تفعل ، حتى لا تتأخر عن موعد الفطور ، لقد سبق وتأخرت مرة عن موعد الطعام ، فحدثت مشادة بينها وبين كونون ، ولكن كالمعتاد كان كونون المنتصر ، وحذّرها ألا تعود لمثل هذا التأخير في المستقبل . أحست ألانا بكثير من الإمتعاض في داخلها وهي تتخيل تصرفات كونون المتعسفة ، وهي ليست من النوع الذي يرضخ بسهولة ومن غير مقاومة شديدة ، ولذا خففت من سرعتها وأبطأت في مشيتها ، وأخذت تسير عل مهل سعيدة فرحة. وصلت الى مائدة الطعام ، بعد أكثر من عشر دقائق من دخول كونون الغرفة ، ضاقت عيناه قليلا كانه ينتظر منها إعتذارا ، ولكنها رفعت وجهها نحوه قليلا ، ثم جلست وهي تقول: " ما كان عليك ان تنتظرني ، ألا يكون طعامك قد برد؟". جلس كونون قبالتها وقال برقة: " انت تعرفين شعوري بصدد التأخر عن مواعيد الطعام ، وقد حذرتك مرة أنه لا يمكنني الإنتظار حتى تصلي الى المائدة". لم تقل ألانا شيئا أكثر من انها أحنت رأسها ، فأضاف: " هل كان تأخرك لأمر هام ، الانا؟". نظرت اليه نظرة شاملة ثم غيّرت إتجاه نظراتها ، قال : " الاحظ أنه كذلك ، فاين إعتذارك ؟". تمتم بالكلمات الأخيرة ونظره عالق بها ، رفعت ذقنها بكبرياء وقالت : " كنت أتمشى ، مستمتعة بما أرى من مناظر خلابة ، ويبدو أنني إبتعدت أكثر من المعتاد ، ولذا فأنا لا اشعر أن هناك ضرورة لأي إعتذار ". " عادة يكون ضروريا عندما يتأخر المرء ، وعندما يكون هناك من ينتظره ، إن طباعك ينقصها الكثير حتى تصبح مقبولة". قال ذلك ثم لاذ بالصمت عندما لم يسمع جوابا ، نظرت الانا اليه مستاءة من موقفه ، كان يبدوعليه كأنه غاضب من نفسه لأنه لم يطور المسألة الى أبعد من ذلك ، كان في داخله صراع ، ولما كانت ألانا لا تريد ان تتفاقم الأمور بينهما ، غيّرت الموضوع واخذت تتحدث عن المشاهد الجميلة التي راتها في هذا الجانب من الجزيرة خاصة ، واضافت عندما لم يعلق على حديثها: " إنها جولة ممتعة حقا ، ألم تذهب مرة الى نهاية الجزيرة؟". " لقد فعلت". أجاب بإختصار ، مظهرا انه ليس راغبا في الحديث ، ولكنها لسبب ما لم تعرف له تفسيرا ، إستمرت بالكلام: " ما اروع ذلك القصر ، يبدو كأنه في خطر من الإنزلاق عن تلك الصخرة الشاهقة الى أعماق البحر". تحركت عيناه وضاقتا قليلا ، ثم قال: " إنه في أمان". كان هذا كل ما قاله ، ولكن هذا لم يثنها عن الإستمرار في الحديث ، وقالت: " أظن أن المرأة التي تسكن هناك إنكليزية الأضل". أحنى كونون رأسه وعندما تكلم كان التوتر قد بدا على وجهه : " إنها متزوجة من رجل يوناني". صمت لحظة ، تابع بعدها: " إننا لا نكلم بعضنا مطلقا". لحظة اخرى من الصمت ، ولكن فضول الانا كان أكثر من رغبتها بألا تغضب زوجها ، وسألته عن السبب الذي يجعلهما لا يكلمان بعضهما ، وأضافت: " أن هذا يبدو لي غريبا ، وأنتما جاران". ضحك كونون فجأة ، ضحكة خشنة مرتفعة ، وتابع: " إنه لمن المضحك حقا ، ألا يرضى عن تصرفاتي وهو الذي يحمل على كتفيه ذلك الماضي". " الماضي؟". كان كونون لا يزال ينظر اليها عبر مائدة الطعام التي تفصل بينهما ، وقال: " لقد أرغم فتاة على الزواج منه". شملته ألانا بنظرة ، والسؤال باد في عينيها. رددت كلمته تلك غير مصدقة ، وأضافت: " هل ارغمها عن طريق التهديد مثلما فعلت ؟". لم يمح سؤالها روح الدعابة ، بل على العكس فقد زادها ، وأطلق ضحكة أخرى قصيرة ، ثم قال: " شيء من هذا القبيل ، على ما أعتقد ، لم أكن أسكن هنا في ذاك الحين ، ولكن الجزيرة صغيرة وليس فيها أسرار ، لقد تزوجته لتنقذ عائلتها من الدمار". قالت ألانا بجفاء: " يبدو أنكم جميعا متشابهون ". " لا ، ليس الجميع ، انت فقط تعيسة الحظ ! ". " هل تخرج الفتاة من القصر؟". " لا شك ، في مثل حالتهما يكون الزواج موفقا عادة...". قطع كلامه وأطلق ضحكة اخرى ، ثم أضاف: " يقال انهما مثاليان في تعاملهما ، مجنونان في الحب !". كانت جملته الأخيرة ممزوجة بالسخرية. " في الحب ! هل تعني أن كل شيء سار سيرا حسنا في النهاية ؟". " كل النساء يحببن أن يسمعن النهاية ، إنهما يعيشان ان بسعادة دائمة لا مثيل لها ". بقي شيء من الدعابة في نغمات صوته ، ولكنها ممزوجة بشيء من الإحتقار . " أنت يا ألانا ، لن تكوني محظوظة الى هذا الحد ، لأن دونيس لوسين كان يحب الفتاة طيلة الوقت ، بينما أنا أكرهك.... لقد كرهتك منذ اللحظة التي رفضتني بها". بدا على وجه الانا شيء من الغضب والإنفعال ، غير أنها قالت : " بل منذ اليوم الذي فشلت في زواجك". سكتت الانا ولكن سكوتها جاء متأخرا ، فقد تغير لون كونون وصار قرمزيا ، وثارت ثائرته: " زواجي ! الم أقل لك الا تذكريه على الإطلاق... وحق السماء ايتها الفتاة لسوف اقتلك إذا ذكرته مرة اخرى ! هل تفهمين ! ". شحب لونها وإزدادت ضربات قلبها : " إنني آسفة....". لقد ندمت على زلة لسانها ، وتمنت لو أنها لم تفه بتلك الكلمات على الإطلاق ، تلك الكلمات التي لا تثير غضبه فقط وإنما تسبب له كثيرا من الآلام ، فإنها تذكره بماساته .... بفقدان ولده.... ورددت : " إننس اسفة حقا ، كونون". بدا صدق شعورها في نبرات صوتها ، وفي نظرات عينيها ، ولكن كونون كان كمن فقد عقله ، وهو ينظر اليها نظرات فارغة كالمجنون ، نظرات بعيدة جدا كمن يعيش الذكرى ، يجتاز تلك المرحلة المروعة في حياته ، عندما اخبروه أن ولده قد مات ، وأن مسؤولية موته تقع على زوجته . " آسفة !". تنهد من أعماقه ، ووقف كنه مدفوع ان يفعل ذلك ، صفق بيده ، حسبت ألانا أن الرجل قدجن فعلا ، جنونا مليئا بالغضب والحزن ، وصاح: " سوف أجعلك تاسفين في دقيقة واحدة ن تعالي الى هنا ! ". قفز نحوها وهو يتكلم ، ولكن ألانا كانت أسبق منه حيث قفزت من النافذة تركض على الشرفة نحو الدرجات التي تؤدي الى الممر المرصوف ، شعرها على كتفيها يتطاير في الهواء ، اسرعت بإتجاه الطريق الطويل ، لقد أدهشها انها وصلت البوابة من غير أن يمسك بها زوجها من الخلف ، وهناك إلتفتت إلتفاتة سريعة الى الوراء ولكنها لم تر لكونون أثرا. صفقت ألانا لذلك فرحا ، وجلست على الحشائش وراء البوابة تفكر ، اسرعت خفقات قلبها ، وأحست بآلام تجيش في صدرها ، وفكرة الهروب تراود عقلها ، لقد خشيت على سلامتها بين يدي رجل مجنون كهذا الذي هو زوجها ، وأيقنت انه في ذات يوم يستبد به الحزن ويستبد به الحزن ويشتد به الغضب الى درجة مرعبة لا يعرف معها ما الذي يفعل. وبعد فترة وجيزة إستطاعت الوقوف ، وسارت بإتجاه القرية ، والذعر لا يزال يسيطر عليها والتساؤل يلح ، ترى أي حياة هي هذه؟ وتدفق الدمع من عينيها ... فهناك هوارد بيومونت يرغمها على الزواج منه بالتهديد ، تهديده بأن يرسل أخاها الى السجن إن لم تفعل ، والان جاء كونون ، بعد أن تحررت من زواجها الفاشل ، جاء هو ايضا يهددها ، بتدمير الرجل الذي تدين له بحياتها إن هي لم تتزوج به ! كثيرا على إمرأة أن تتحمل كل هذا ، إحتجاج مرير كان يغلي في صدرها ضد ما يفعل بها القدر... إستمرت الدموع تفيض من عينيها وهي تسير ، ظهر من الإتجاه المعاكس رجل يركب حمارا وكلبه يعوي بجواره ، تسير زوجته وراءه تتشح بالسواد ، إمرأة متعبة تحمل ذكريات موجعة تبدو في تجاعيد وجهها الأسمر. حياها الرجل وردت التحية من غير ان تنظر اليه ، حتى لا يرى الدموع في عينيها ، والمرأة أيضا حيتها بإبتسامة ، ومرا بها نحو الطريق المؤدية الى سفح التل حيث يسكنان في بيت ابيض صغير يستكن بين اشجار الزيتون والليمون . لقد حسدتهما الانا ، إنهما يعرفان الأمان ، يعرفان تماما طريقهما في الحياة ... في مملكتهما الصغيرة الخاصة . تساءلت ألانا ، ترى الى أين كانت ذاهبة ؟ فليس لديها مال ولا ثياب ، بالإضافة الى أنه اصابها تعب شديد لدرجة لم تعد تقدر على المسير ، ولن تعود الى كونون فهي ليست آمنة معه ، وصرخت من غير أن تشعر أنها كانت تصوغ افكارها في كلمات : " يا ألهي الى أين يمكنني ان أذهب من غير مال ...". خبا صوتها ، وإرتجفت شفتاها ، فقد أحست بوقع اقدام وراءها ، إنه كونون ! إنها خطواته فهي تعرف وقعها أينما كانت ، عاد الذعر اليها ، إستدارت وقد فر اللون من وجنتيها ، ولم تعد لها قدرة على التفكير ، أو الحركة ، وسمرت مكانها كالأرنب المذعور امام الذئب ، وقلبها يخفق بجنون بين جوانحها. " هل سمعتك تتحدثين عن المال يا عزيزتي ؟". كان زوجها يتمتم بهذه الكلمات ، فهزت راسها كمن لا حيلة له وقالت: " لا.... نعم...". " لماذا تريدين المال يا عزيزتي ؟ وماذا ستفعلين به في مكان كهذا ؟". كان يقف بجانبها طويلا مخيفا ، ولكن علامات الغضب زالت من وجهه ، وعيناه لم تعودا تشعان ببريق الجنون ، ومع ذلك فإن الانا لم تستطع أن تتكلم ولا أن تحرك ، حتى تناول كونون ذراعها يساعدها ، ووجدت نفسها تطيع بلا مقاومة ، تم الأمر بلا كلام ، يجب عليها أن تعود معه الى المنزل. " كونون أنا لا أريد الدخول ، إنني افضل البقاء هنا في الحديقة". توقف كونون ،وتعبيرات غامضة بدت على وجهه الأسمر وهو يقول: " لماذا كنت تبكين ، ألانا؟". " شعرت بالتعاسة ". " من أي شيء ؟". " من حياتي هنا ". " لقد كنت سعيدة جدا مع زوجك الأول ، اليس كذلك؟". " ماذا تأمل أن تربح من إجابتي على هذا السؤال؟". هز كتفيه وسحب يده من ذراعيها ، وأجاب: " لا شيء ، فقد كنت فضوليا ، هذا كل شيء ". بقيت الانا صامتة ، ولكن كونون قال وقد تغيرت نبرات صوته وبدا فيها شيء من الرقة واللطف : " إذن انت غير سعيدة وتريدين الهرب ، الى اين يا عزيزتي تريدين الذهاب ؟". " لا أعرف .... فقد أريد ان أذهب بعيدا عن هذه الجزيرة ". " لكنك لا تستطيعين الذهاب من غير موافقتي ، وإذا حاولت السفر على أية سفينة تقلع من هنا ، فسوف يطلعونني قبل أن ترحلي ". " لقد عملت مسبقا ضد رحيلي؟". " إنني أحبط جميع المحاولات التي يمكن أن تؤثر على حياتي ". " انت لست ملك الجزيرة ، فالى متى يمكنك أن تمنعني من الإبحار ؟". " الى الأبد ، فإن السلطات المسؤولة ستعلمني حتى لو حاولت شراء بطاقة سفر ، وهكذا ترين يا جميلتي ألانا ، أنه لا مفر لك ، أنت هنا سجينتي ، وستكونين اكثر سعادة لو انك قبلت هذه الحياة التي إخترتها بنفسك". " أنت تعرف انني لم أخترها بنفسي ، تعرف أنك أكرهتني عليها ". " على أية حال أنت التي إخترت ، والآن وبما انك زوجتي ، فمكانك هنا معي ". تناول ذراعها ثانية ، وصعدا الدرجات الواسعة الى باب الفيللا الأمامي ، حيث صرخت وهي تفلت من يده : " دعني أذهب ، لن أدخل المنزل ". إنسكبت الدموع من عينيها ، وكونون ينظر اليها ويهز رأسه ، ثم سأل : " انت خائفة مني؟". " اليس هذا ما تريد ؟". " أظن أن هذا ما أريده بالضبط ، هذا الخوف الحقيقي ،ولكن من أي شيء تخافين؟". وفجأة تغير صوته وصار أكثر رقة ، وبدا القلق في عينيه الداكنتين . أخذت الانا تنظر اليه بحيرة وإرتباك ، فقد زالت من وجهه الملامح المخيفة ، وبدا أمامها كأنه الرجل الذي كانت تعرفه في يوم من الأيام ، الرجل الذي إنجذبت اليه فعلا ولكنها لم تتزوجه لأنها كانت قد قررت ألا تتزوج على الإطلاق. كونون عاد يسأل: " من أي شيء أنت خائفة ، ألانا؟". كانا يقفان عند الباب على درجة رخامية بيضاء ، الهدوء والسكينة يكتنفان المكان ، والحديقة تلمع تحت أشعة شمس يونانية ، بأزهارها من كل شكل ولون ، رائحتها تعطر المكان ، ووراءها تشمخ الجبال ، بعض غيوم بيضاء رقيقة تزخرف زرقة السماء ، النخيل يتماوج مع السروالأهيف النحيل ، ومن الجهة الأخرى أشجار الليمون والبرتقال تضيف خضرة وجمالا الى تلك الصورة الأخاذة. " كنت خائفة منك". جاء الجواب متأخرا ،ولكنه كان ينتظره بصبر ، ينظر الى الجديد في تعابير وجهها ، يحاول أن يقرأها ، وكمن يحدث نفسه قال: " خائفة...". " ألم يكن هذا متوقعا ، بعد تصرفاتك تلك ؟". إحنى كونون راسه ، عيناه كئيبتان ، قاتمتان ، فيهما كثير من الغموض ، ولدهشتها إستدار الى الجهة الخرى كأنه يريد ان يخفي عواطفه ، وبعد وقفة قصيرة ، سار بعيدا نحو البساتين ، وتركها نهبة للخوف والألم ، وأحست أنه شعر بشيء من الندم لأنه أخافها الى درجة الرعب ، الى درجة تريد معها ان تهرب منه. أي رجل غريب غامض هو هذا ! رجل حياته هدمت بسبب فشل زواجه ، وفقدان ولده ، وها هو الآن يحملها مسؤولية كل ذلك ، ويقول في نفسه انها لو قبلت الزواج منه ، لما حصلت كل هذه المآسي ولكان زواجهما ناجحا ، لأنه كان يحبها وهي معجبة به. وتساءلت ألانا في نفسها : " ترى لماذا تقع في مثل هذه الأخطاء الفادحة ؟". كانت عيناها الكئيبتان تتبعان زوجها ، حتى إختفى عن ناظريها بين الأشجار ، ثم تابعت الحوار مع نفسها : " كنت غبية بلهاء ، لأنني خشيت مما حدث لسالي وماجي ، ما كان يجب ان اتاثر بما وقع لهما ، فلكل أمرىء حياته الخاصة كيف يشاء. ولكن فات الأوان ، كونون لم يعد الرجل الذي تستطيع أن تحبه ، فهو إنسان آخر غير الذي كنت تعرفه ، إنسان يعرف فقط كيف يكره ، لأنه عرف كيف يحب في يوم من الأيام ، رجل أصبح كل همه من الزواج هو الإنتقام....
الفصل السادس 6- الإنتقام حلو كما يقولون ، ولكن مع الزمن يصبح المرء اقل رغبة بالحلاوة ، ومع ذلك لا تصدق أن هذه البداية ممكنة ... مرّ اسبوعان ، قضيا فيهما ساعات هادئة في الحديقة والسير على شاطىء البحر ، أو التسوق في بوثيا العاصمة ، كونون لم يعد يتحدث بحدة مع ألانا او يتصرف معها بخشونة ، كان يبدو لها أن هناك صراعا يعتمل في داخله ، ولكنه لم يحاول أن يظهر أي رغبة في علاقة صداقة بينهما ، اما ألانا فقد كانت تمتعض حتى من مجرد التفكير أنها قد ترحب بصداقته إن فعل ، أو تشعر بأن الحياة قد تكون مريحة أكثر إذا إستطاعا أن يكونا رفيقين .... من غير أن يدخل الحب الى حياتهما . بعد ظهر يوم من الأيام ، كانت تجلس في الفناء الجميل المزدان بالأزهار تقرا في كتاب ، فجاءها كونون يطلب منها ان ترافقه الى ميرتليس ، وهي مدينة تقع على خليج الشاطىء الغربي من الجزيرة ، حيث كان يملك فندقا هناك. قبلت بشوق أدهشها ، بالقدر الذي أدهشه. " إنني أحب ان ارافقك". قالت الانا ذلك ، وهي تقف في الحال وتلقي بالكتاب على الطاولة ، ثم أضافت : " هل انت على إستعداد ؟". احنى راسه علامة الإيجاب وقال : " لن تحتاجي الى معطف ". " لا ، ولكنني أريد أن أغسل وجهي ويدي ، هل تنتظرني بضع دقائق؟". " سأفعل". قال ذلك وجلس على الكرسي الذي كانت تشغله. هل هذه خطوة لحياة جديدة اكثر بهجة لكليهما ؟ هذا ما سألت ألانا نفسها متعجبة ! غسلت وجهها واخذت تسرح شعرها الذهبي وكأنه إختلس لونه من اشعة الشمس التي كانت تتسلل من النافذة ، زينت خديها بقليل من الحمرة وكذلك شفتيها ، وإرتدت ثوبا أبيض بسيطا أنيقا ، ثم وقفت قليلا أمام المرآة ، فإقتنعت بما رأت . كانت لحظات الإنتظار تلك طويلة بالنسبة الى كونون فقام من كرسيه ووقف الى جانب حوض من الأزهار ، وإلتفت عندما سمع وقت خطوات خلفه ، كانت الانا طبعا ، شملها بنظراته التي إستقرت على وجهها ، فبدت الكآبة في عينيه وتنهد من أعماقه ، وقال: " هل أنت مستعدة؟". ثم غيّر إتجاه نظراته فترة ، وقادها الى السيارة ، وفي الحال كانت تنطلق بهما. كان كونون صامتا كئيبا ، لا تسمح حاله بالحديث، ولذا فإن الانا لاذت بالصمت ايضا ، وسألت نفسها ، ترى لماذا كل هذه الكىبة الان ؟ اهو نادم على ما فعل ، نادم على هذا الزواج ؟ هل وصل الى المرحلة التي يسال فيها نفسه عما ربحه من كل ذلك ؟ الإنتقام حلو كما يقولون ، ولكن مع الزمن يصبح المرء اقل رغبة بالحلاوة ، ولا شك أن كونون الآن لم يعد يحس بالسعادة من جعل حياتها مريرة الى هذا الحد. الحقيقة أن الأشياء البغيضة التي يقوم بها تبدو اسبابها مقنعة له ، وهي تحس أنه لن يستمر في هذا الأسلوب الهمجي في معاملتها ، فها هي تصرفاته بدات تتغيّر ولو قليلا ، وأصبح يبدي شيئا من اللطف في سلوكه معها ، حتى أنها لم تكن تصدق أن هذه البداية للتحول ممكنة الحدوث... " هل تريدني أدخل معك ؟". سألته الانا عندما سارا في الطريق الطويل الذي ترتفع الاشجار على جانبيه ، المؤدي الى الفندق ، وأضافت : " أو أتجول في المدينة ثم أعود اليك؟". " يمكنك ان تأتي إذا كنت ترغبين؟". " حسنا". إبتسمت له راغبة ان يرد عليها بإبتسامة ولكن خاب أملها ، فقد كان وجهه مقنعا بقناع قاتم خال من اية تعابير . كان الفندق من أفخم الفنادق التي رأتها عينها، بالقرب من شاطىء غاية في الروعة والجمال. سالت ألانا: " هل يعود الفندق عليك بالربح الوفير؟". " لا شك في ذلك وإلا لما اقيم". كان يستمع اليها وهما جالسان في غرفة الإستراحة المخططة باللون الأزرق والأبيض ، وكانا ينتظران الشراب الذي طلبه كونون ، ثم قال : " الحقيقة أن دخل الفندق قليل جدا ". نظرت ألانا اليه بدهشة مستفسرة : " ألم تكن لديك فكرة قبل بنائه ، أنه من الممكن ألا يكون مربحا؟". " لماذا تكون لدي مثل هذه الفكرة؟". " لأنك رجل اعمال ، ومعظم رجال الأعمال يقومون فقط بتلك المشاريع التي يعرفون انها مريحة". " هل الربح هو كل ما يهم ؟ هل المال هو الشيء الوحيد المهم في الحياة؟". تنهدت الانا من الأعماق وقالت: " لقد أسات فهمي ، انا لا يهمني شخصيا إن كان مربحا أم لا ، فليس لذلك أي فارق عندي...". قاطعها كونون قائلا: " سيكون هناك فارق عندما أرحل عن هذا العالم ، فكلما جمعت مالا أكثر ستصبحين أكثر ثروة عندما يأتي الوقت الذي ترثينني فيه". " كونون ، ما هذا الذي تقول ؟ فأنا لا تهمني اموالك ولا يهمني أن أرثك". قالت آلانا ذلك بإستنكار شديد ، أما هو فقد عادت إبتسامة السخرية الى شفتيه ، وقال : " هراء ، لقد تزوجت الرجل الأول لهذه الغاية....". " كيف عرفت؟". قاطعته بحرارة ، ثم اضافت: " ليس لديك أي اساس لتبني عليه حكما كهذا!". " إنه واضح كنور الشمس". هذا كل ما إستطاع ان يجيب به ، ثم جاء المستخدم بالشراب ، فقال له كونون : " شكرا ، سنتناول العشاء مبكرين ، في الساعة السابعة تقريبا". " حاضر ، سيد كونون". إنحنى الرجل أمام كونون وأخذ المنحة التي أعطاه إياها ، ومضى . كانت الانا ترغب في ان تذكر لكونون ، أنه كان في إمكانها ان تطعن في الوصية لو كان لديها رغبة في المال ، ولكنها احست بكبريائها أن ترفض ان تبرىء نفسها أمامه ، وإذا كان كونون يريد أن يفكر فيها بهذه الطريقة ، فليفعل ، فإن رايه ليس له مثل هذه الأهمية عندها ، كما أخبرته مرة. أخذ كونون ينظر حوله وعلامات الكآبة لا زالت بادية على وجهه ، وتجاوزت ألانا تجريحه لها وعادت للحديث لتنهي حالة السكوت المملة : " ألا يمتلىء الفندق بالنزلاء أبدا ؟ فإن شاطئا كهذا يجتذب السياح في كل وقت من اوقات السنة". " لا يوجد أي سبب يمنع من ان يكون الفندق مليئا بالنزلاء دوما ، وأنا أوافقك على ذلك ، ولكن كما قلت ، هذا الفندق بالذات أرباحه قليلة". نظرت اليه بإستغراب ، وقالت: " أظن انك كنت تعرف قبل ان تبنيه انه لن يكون مربحا ، أليس كذلك؟". " توقعاتك صحيحة". إبتسم كونون بشيء من الدعابة ، بينما قطبت ألانا حاجبيها متعجبة ، كانت تريد أن تعرف السبب ، فسالت: " لماذا بنيته إذن؟". " احيانا تكون هناك حاجة لفندق فخم من الدرجة الأولى ، يقدم جميع أنواع التسلية وأسباب الرفاهية لأولئك الذين يحتاجون لأشد أنواع المواساة والتسلية ". " كونون ، لست واضحا في إجابتك". " الحقيقة انه من الممكن أن يكون لدينا بعض السياح بوجود شاطىء جميل كهذا". وأشار بيده بإتجاه النافذة التي تطل على البحر بصورته الجميلة ، وتابع كلامه: " وهؤلاء الناس الذين لا يجدون ما يطلبون من أسباب الراحة والرفاهية من الدرجة الأولى ، عزمت أن اقدم لهم ما يريدون". " حتى مع انك تعرف أنه ليس مريحا ؟". " اتا لا اقول أنه لن يكون مريحا على الإطلاق ، فمن الممكن أن يكون في المستقبل ، على اية حال فهناك اناس كثيرون يفضلون الأماكن الهادئة غير المحتشدة ، وهذا المكان واحد منها". " بالتأكيد فهو كالفردوس". " الفردوس! ". ردد كلمتها بشيء من الدعابة واضاف: " ما كنت أتوقع أن تشبهيه بالجنة ، فهو اشبه بالجحيم ! ". " كنت أتحدث عن الجزيرة الخلابة والشاطىء الأخاذ ، ولم أكن اتحدث عن حياتي". أحست الانا ببرودة تتسلل الى أوصالها ، لهذا لتغيير الذي بدأ يطرا على محادثتهما ، خصوصا وأنهما يحاولان تخفيف العداء بينهما. وسأل كونون : " أحياتك جحيم؟". بريق لم تتوقعه شع من عينيه ، ورات على الفور أنه عاد الى حالته الأولى ، يجد متعة في أي ألم يستطيع أن يسببه لها ، وعجبت من هذا الرجل المتلون المزاج الذي يسمح لنفسه أن يكون في كل دقيقة بلون ، وبعد لحظة من التفكير قالت : " لم أقصد ذلك بالضبط ، فالحياة في الأسبوعين الماضيين كانت أفضل من البداية ، ويبدو أنني بدات اعتاد على أسلوبك". " الى أي شيء تريدين ان تصلي؟". وقبل ان يترك لها مجالا للرد ، إستمر في حديثه محذرا ، حتى لا تكون واثقة الى هذا الحد بأن الأسبوعين الماضيين قد يرسمان صورة أفضل لمستقبل حياتهما. " انا إنسان مزاجي ، ويمكن أن أتحول من صورة لأخرى من غير إنذار ، فأنا تزوجتك فقط كي اجعلك تدفعين ثمن ما عانيت في حياتي ، وسوف تدفعين ، إياك ان تظني غير ذلك". لاذت ألانا بالصمت ، وأحست انه كان يجبر نفسه على تكرار هذا الكلام ،وأن الأمور ستسير على ما سارت عليه في الأسبوعين الماضيين على الأقل. ولكنها سرعان ما ادركت خطأها ، فإن كونون صمم ألا يضعف من موقفه ،وعاد مرة أخرى لسلوكه الفظ ومعاملته الخشنة ، غير أن ألانا كانت تحتمل ظنا منها انها سحابة ثم تنقشع لمعرفتها بمزاجه المتقلب ، ولكنها في هذه المرة أخطات في ظنها. وفي ذات مساء ، كان قد ابدى وحشية في معاملتها ، فقالت له: " كونون ، انت عدو نفسك ، ولن أبقى معك في اية حال من الأحوال ". كان كونون يقف بجانبها يمسك بذراعها بقسوة ، فحاولت ان تفلت من قبضته ولا تدري كيف إستطاعت ،وإبتعدت عنه وقد شحب وجهها وإرتجف جسمها وسرى الخوف مسرى الدم في عروقها ، وتذكرت هوارد زوجها الأول ، فبالرغم من حقارته لم تلق معه مثل هذا الخوف. لم يحاول كونون أن يقترب منها ، ولكنه ايضا لم يذهب ، بل قال : " لديك كل ما تحتاجين اليه ، فلماذا إذن هذا التهديد بالرحيل؟". " لدي كل ما أريد ؟ ألا يكفي انني فقدت حريتي ؟". " فعلت ذلك بكامل رغبتك". " لم يكن لدي خيار ". " ليس بالقدر الذي كان لديك في المرة الأولى على ما أظن ، كنت حينئذ تتمتعين بحرية الإختيار .... وإخترت الرجل الذي يملك مالا أكثر ، ورفضتني ، لأنني كنت فقط وريث والدي ، ولن أصبح غنيا طالما هو على قيد الحياة ". وفجأة ضحك تلك الضحكة الهمجية ، والتي سمعتها مرات عديدة من قبل ، ثم توقف عن الضحك وتابع كلامه: " لم تعرفي في ذلك الحين ان الأمور قد تنعكس كما حصل ، ولو أنك تزوجت مني لكنت في حالة مادية أفضل بكثير". نظرت اليه في صمت خشية على سلامتها ، كان الشر يطل من عينيه القاتمتين ، ووجهه الداكن المتجعد ، وشكله الضخم في ثيابه السوداء. " تعالي الى هنا". قال ذلك وهو ينظر اليها نظرات مخيفة ، فهزت رأسها وحاولت أن تتجاوزه الى الباب ، ولكنه أمسك بها بعنف ،وهو يصرخ في وجهها : " تذكري انني زوجك يا ألانا ، وعليك أن تطيعيني ". فتحت ألانا عينيها ، وكان الفجر قد بزغ من وراء الأفق يداعبه بلمسات لطيفة ، وكان بدء يوم جديد ، سرت رجفة في جوانبها وهي تنظر الى الوجه الداكن الغارق في النوم الى جانبها ، وإنسلت بهدوء تقصد الحمام لتغسل وجهها وهي تحدث نفسها ، أن كونون لا يمكنه أن يبقيها هكذا أسيرة ، فلماذا لا تذهب الى الشرطة وتخبرهم بمخاوفها ؟ وهم لا شك سيعالجون الأمر ، علهم يدبرون امر سفرها ، فهي إنكليزية ومن واجبهم مساعدتها ،وشعرت أنها تستطيع أن تهجر كونون من غير أي إحساس بالذنب ، فهذا ما يستحقه. بعد تناول الفطور ، خرج كونون من المنزل ، إنها فرصتها للرحيل ، وهكذا فقد خرجت هي أيضا ، تسير على الطريق التي سبق وسارت فيها مع كونون بعد مراسيم زواجهما في مدينة كاليمنوس ، كانت الطريق طويلة والمسافة بعيدة حتى الى اقرب قرية ، ولكنها سارت بسرعة وهي تمني النفس بحل مشكلتها ، ولو أنها كانت تتمنى لو ان الظروف غير هذه الظروف ، حتى تستطيع أن تستمتع بتلك المشاهد التي لم تر أجمل منها ،وذاك النسيم الذي يعبث بشعرها أرق منه. وصلت ألانا الى القرية ، وأوقفت شابا مارا وسألته عن سيارة أجرة ، ولكن الشاب رفع كتفيه ، قائلا: " لا يوجد هنا سيارات اجرة ، فتلك السيارات موجودة فقط في المدينة ! ". أفترت شفتاه عن إبتسامة مرحة فبدت أسنانه بيضاء كاللؤلؤ ، وعيناه البنيتان كانتا تشعان بالمرح ، وصوته لطيفا مليئا بالود. وأضاف الشاب قائلا : " لكن أخي لديه سيارة ، وهو لا شك سيطحبك إذا اردت". نظرت الانا اليه بإمتنان وأجابت: " هل يفعل ؟ يجب ان اصل الى الميناء ، أعتقد أن هناك قاربا سيقلع في غضون ساعتين ". " تماما ، تعالي معي ، فأنت في عطلة على ما أظن ، جئت لزيارة جزيرتنا ". ولما سارت الى جانبه ، اضاف: " أظن انك أحببت جزيرتنا ، اليس كذلك؟". " بالتأكيد". إبتسم لها وقال : " الان عدت من سفينتي ، فانا غواص اجمع الإسفنج". " اأنت غواص إسفنج؟". لقد سمعت الانا من قبل عن غواي الإسفنج في مدينة كاليمنوس ، رجال يخاطرون بارواحهم وهم يغوصون في أعماق البحار ، يبحثون عن الإسفنج الذي ينمو على الصخور. وبعد تريث قليل تابعت: " لقد سمعت أنها مهمة خطرة جدا ". " نعم إنها خطرة ، ولكنني احب أن أغوص في أعماق المياه السحيقة ، واشاهد المخلوقات الصغيرة التي تعيش هناك". توقف قليلا ، ثم نظر اليها وقال يعرّفها بنفسه : " إسمي أندونيس ، وانت ما إسمك؟". " ألانا". " الانا ؟ لقد إلتقيت بفتيات أنكليزات كثيرات ، عندما كنت اعمل في فندق في رودس ، أنت تعرفين رودس أليس كذلك؟". " نعم لقد نزلنا من الباخرة هناك ، ثم جئنا الى هنا بالقارب". " في رودس كما قلت ، إلتقيت بفتيات كثيرات ولكنني لم أسمع بإسم ألانا". " ليس الإسم شائعا". سارا في طريق ترتفع الأشجار على جانبيها ، تبدو أزهارها الجميلة وكأنها سرقت لونها الأفر الذهبي من الشمس، والبيوت البيضاء تظهر من وراءها تحيط بها الجنائن المفروشة بالأزهار يعطر أريجها الأجواء ، ويحيط بهذه الحدائق سياج كثيف من اشجار الصبار الفخمة. " هذا بيت اخي". اشار أندونيس بيده الى البيت ثم فتح البوابة العريضة المصنوعة من الخشب المزخرف ، دخل ونادى بصوت عال حاد بجمل قصيرة ، وكل ما إستطاعت أن تفهمه ألانا كان إسمي ستيلا ، وبيتروس ، أما بقية الكلام فكان باليونانية. ظهرت فتاة يضارع جملها سحر عينيها اعين الظباء ، خجولة لا تفارق البسمة ثغرها ، قدّمها على أنها أخته ، ثم أخذ يتكلم باللغة اليونانية . " أخوك ليس هنا ، أليس كذلك؟". لم تكن بحاجة لتسأل هذا السؤال ، فقد عرفت ذلك من الملاحظة ، ومع ذلك فقد أخبرها أندونيس أنه ذهب بسيارته قبل دقائق معدودة، وغاص قلبها بين جنبيها وبدا الإرتباك على وجههها ، وحارت فيما تفعل ، ولما قالت أنها ستسير الى القرية الثانية ، اعلمها أنها لن تجد طلبها هناك أيضا ، فزادت حيرتها ، وخشيت مغبة ما فعلت ، حيث ستضطر الى العودة الى بيت كونون ، لتتعرض لألف سؤال وسؤال. ثم إقترح أندونيس عليها ، قائلا: " نتناول بعض المرطبات ، ثم نفكر بطريقة ما توصلك الى الميناء ". هزت كتفيها وهي تنظر الى ستيلا ، التي كانت تقف خجلة جانبا تتطلع الى ألانا من الراس حتى القدم . " لا اظن انني أستطيع ذلك". " ولكن يجب أن تفعلي ، اختي تريد ان تقدم لك شرابا صنعته من الرمان". " شكرا لكما ولكن...". قاطعها قائلا: " لا يمكن ان ترفضي ضيافتنا ، لم يفعل هذا احد من قبل ". " حسنا". كانت الانا تتبع بنظراتها الفتاة التي تحركت نحو الباب المفتوح وهي تومىء لها. فقال اندونيس: " إنها لا تتكلم الإنكليزية ، فعندنا الصبيان فقط هم الذين يتعلمون ". " ولماذا لا تتعلم الفتيات لغتنا أيضا ؟". " لأنهن لا يحتجن الى ذلك ، فالرجال يحتاجون اللغة في أعمالهم ، وخوصا ان الكثيرين منهم يذهبون الى استراليا ، اما النساء فلا يعملن إلا في بيوتهن وتربية أطفالهن ". دخلا غرفة نظيفة مرتبة ، علقت على جدرانها بعض الصور ، ولفتت نظرها قطة بيضاء جميلة ناعمة تجلس على كرسي ، وفوق الموقد كناري في قفص يغني ملء صوته اغنية عذبة. فجأة قال اندونيس: " آه ، ها هو إبن خالي ! فهو يملك سيارة أيضا ، سوف اساله إذا كان بإمكانه ان يوصلك الى كاليمنوس". خرج اندونيس من الغرفة ليكلم غبن خاله في امر الانا ، اما ستيلا فقد أحضرت كاسا من شراب الرمان على صينية خشبية مزخرفة ، وقدمتها لألانا وهي تخفض عينيها حياء ، من غير ان تفارق الإبتسامة شفتها . تناولت الكاس وهي تشكرها ، ثم رشفت منها قليلا وقالت: " إنه لذيذ جدا لقد احببته يا ستيلا ". هزت الفتاة كتفيها وإختفت ومعها الصينية الفارغة. " اظن انك لست زائرة !". قال اندونيس فور رجوعه الى الغرفة حيث كانت تجلس ألانا ، وتابع : " إبن خالي يعمل في احد مكاتب ميناء كاليمنوس ، وقال إنك زوجة السيد كونون ، الذي يسكن في ذاك البيت الكبير ". واشار بيده الى التل حيث الفيللا الفخمة التي غادرتها منذ وقت غير قصير ، ثم أضاف: " لقد قال ان السيد كونون لا يسمح لك بمغادرة الجزيرة ، وسنقع كلانا في مشاكل مع السيد كونون إذا نحن ساعدناك على مغادرة الجزيرة ، علما أنك لو وصلت الى الميناء فلن يسمح لك بشراء بطاقة". شحب لون الانا وقالت وفي صوتها شيء من الغضب: " انا انكليزية ، واريد ان أغادر الجزيرة ، وما دمت اريد أن أغادرها فسوف افعل". كان صوتها مرتفعا ، حتى أن ستيلا جاءت تركض من الغرفة الأخرى وفي عينيها الجميلتين نظرات الإستفهام ، فشرح لها أخوها الموقف ، فإتسعت حدقتاها إستغرابا ، وإستنتجت الانا أن اليونانيات لا يمكن أن يتركن ازواجهن ولا تحت أي ظرف من الظروف . واخيرا قال أندونيس: " أظن أنه من واجبك ان تعودي الى منزلك ، ولكن اكملي شرابك أولا". زاد غضب ألانا ، أيقال لها مثل هذا الكلام من مجرد صبي كهذا ! وارادت أن تترك كأسها في الحال ، ولكنها عندما نظرت الى ستيلا ، وجدت نفسها غير قادرة حتى في هذا الظرف على إزعاج تلك الفتاة ، جرعت الشراب بسرعة ، ثم وقفت ، وودعت ستيلا ، متجاهلة الشابين الواقفين عند الباب ، فافسحا لها الطريق لتمر. بلغ الغضب بها مبلغا لا يوصف وهي تعود الى البيت ، وعندما دخلت الحديقة زاد من سخطها وهي تحس انها لعبة في يد كونون . كان جالسا في كرسي كبير ، وفي يده كتاب ، نظر اليها عندما وصلت ، لعله كان يريد أن يبتسم بها ، ولكنها لم تلتفت نحوه ، فقال بصوت هادىء: " مرحبا ، ما بك ؟ اين كنت؟". "كنت أحاول ان أخرج من هذه الجزيرة !". شملها بنظراته قبل أن تستقر على وجهها المتورد ، ثم قال : " حقا؟ وعرفت أخيرا أنك لن تنجحي ، إجلسي وأخبريني عما فعلت ، بمن إبتقيت؟". أسلوبه زادها غيظا ، ولكنها أجابت: " أندونيس ، لا أعرف كنيته ، كان عنده الجرأة ليقول لي ارجعي الى زوجك ، من تراه يظن نفسه؟". قال لها والهدوء لا يفارق صوته: " إنه إبن أحد الموظفين عندي ، يجرؤ أن يعيدك الى البيت أكثر مما يجرؤ أن يساعدك على الخروج من الجزيرة ، أظن انك أردت مساعدة أخيه ، لأنه يملك سيارة". " لكنه لم يكن موجودا ، ثم جاء إبن خاله...". توقفت لحظة عن الكلام وهي ترى إمارات السخرية تبدو على شفتي كونون ، ولكنها تابعت: " يجب أن أذهب ، ولن ابقى زوجة لك". " لقد أعلمتك ، أنه لا يمكن أن تغادري الجزيرة دون موافقتي ، على اية حال ، فهناك من حين لآخر بعض اليخوت تعبر الخليج وأصحابها من الإنكليز ، وإذا حدث وتدبرت أمر رحيلك فأعلمي أن سلامة صديقك ماكس ستهدد ثانية". " إذن أنا سجينة ؟ سجينتك؟". " لك مطلق الحرية أن تسمي نفسك ما شئت ، إما ما أعرفه انا ، فهو أنك زوجتي ، ومكانك هنا معي". وضع الكتاب جانبا، ووقف قبالتها، الجبال ترتفع وراءه ، والشمس في كبد السماء تلقي ببعض شعاعها على وجهه ، فبدا قاتما ، والخطوط في وجهه عميقة ، واللهيب يشع من عينيه. تراجعت الانا الى الوراء ، وهي ترتجف وقلبها يضرب بشدة ، وقبل أن تستطيع الفرار كان قد أطبق على ذراعها. " دعني أذهب ، إنك تؤلمني". صرخت والرعب يملأ قلبها ويطل من عينيها ، فقد تمثلت امامها صورة كونون وهو يحاول أن يخنق زوجته الأولى . " سوف أقتلك ، إذا صرخت مرة ثانية ! أنا زوجك ، تذكري ذلك...". ولم يتمالك نفسه ، فقد زاد في الضغط على ذراعها ثم أمسكها من كتفيها ، وأخذ يهزها هزا عنيفا ، حتى كادت تفقد وعيها ، وإستمر في ترداد كلماته : " سوف أقتلك ، هل تسمعين؟". " تقتلني.....". خرجت الكلمة من شفتيها اللتين فرت منهما الدماء حتى غدتا كشفاه الموتى ، ثم اضافت ببطء كلمات خرجت متقطعة من الخوف: " نعم... إنني أعتقد ذلك....". ربما نبرات صوتها المرتجفة ، أو ربما إمارات الرعب في عينيها أحدثت تغييرا في سلوكه فإختفى العنف ، وقربها منه بلطف ، لامس شعرها الناعم الجميل ، ولكن الانا بقيت ترتجف. تراجع كونون الى الوراء ،ونظر اليها بكآبة وحزن شديدين ، حاولت ان تقرأ تعابير وجهه ، علها تعرف شيئا مما يدور في داخل عقل زوجها الغامض ، ولكنها إستسلمت ، ولم تقدر ان تقرأ شيئا ، على اية حال فكل ما كان ماثلا في مخيلتها هو تهديده لها بالقتل ، هذا التهديد الذي يلازمها ، والذي ستبقى خائفة منه مدى الحياة. بقي كونون ينظراليها بهدوء ، حتى أنه كان من الصعب عليها ان تسترجع الحوادث التي مرت بها خلال تلك الدقائق القليلة الفائتة التي مرت بها كالحلم الرهيب. عيناه كانتا صافيتان ، وكأن بريق الشر لم يمر بهما على الإطلاق ، والصورة التي تراها الآن ، هي وجه كونون الذي عرفته في يوم من الأيام... لطيفا رقيقا ، لا أثر لخطوط الهم والقلق قي وجهه ، وإستعادت في مخيلتها الحنان الذي كان يطل من عينيه ، والرقة التي كانت تذوب فيها كلماته ، وتساءلت ، ترى كيف يمكن أن تكون حاله الآن لو انها تزوجت منه في ذاك الحين؟ هل كان سيبقى ذاك الرجل الجميل الوسيم ، ذا الإبتسامة الجذابة والطباع الرقيقة اللطيفة ، تلك الصفات التي يمتلكها الرجال اليونانيون؟ نظرت اليه ودهشت من الهدوء الذي سرى بطيئا بين جوانحها ، ليحل محل الرعب السابق. لم يكن لديها شك في أن قوة زوجها متعددة الجوانب تماما مثل طباعه، حتى أنه عندما تكلم ، شعرت أن قلبها قد عاد الى ضرباته العادية. " لقد قلت انك لا تبالين برأيي فيك ، الانا ، وأنا أجد هذا غريبا ، فمعظم الناس يهمهم رأي الآخرين!". " ولكن رأيك أنت بالذات لا يهمني ، طالما انك تحتقرني ". بقي محتفظا بإتزانه ، وقال: " ألا ترغبين في أن تنالي إحترامي؟". " عندما لا يكون هناك حب ، يمكن ايضا الا يكون هناك إحترام ، فأنا لن أحترمك أبدا ، ولا أعتقد أنك ستفعل ، ولا أي منا يبالي برأي الآخر ، ولا شك أنك مقتنع بهذا". " أنت متغطرسة جدا ، ونا لا أعهدك كذلك ، فانا أذكرك كما كنت ..... كان لجمالك عمق ، كنت اتمنى أن اصل اليه...". كان صوته اشبه بالهمس ، وكأنه رحل بعيدا في خياله ، وبدا لألانا أن السبب الذي تزوج منها لأجله قد تسلل من ذاكرته ومضى ، ولم يعد في ذهنه محل للإنتقام. وبعد لحظات من الشرود عاد الزوج يقول: في ذلك الحين كنت أريد أن أصل الى أعماق جمالك النفسي ، وأنا اعلم أن الطريق أمامي طويلة". نظر اليها وقد عادت السخرية الى شفتيه: أين ذاك الجمال الان يا آلانا؟". وعلى الرغم منها احنت راسها ، تشعر كالطفل أمامه ، وتعجبت لهذا التغيير الذي طرأ عليه ، مع أن شيئا من الغموض بقي يكتنفه ، مما جعلها تسأل: " لماذا تزوجتني ، كونون؟". وما أن لفت هذه الكلمات حتى ندمت على ذلك ، فقد توارى وجهه على الفور خلف قناع بارد غامض ، وشاقت عيناه بصورة غريبة ، ثم قال : " ما الذي جعلك تسألينني مثل هذا السؤال؟". ولدهشتها كانت نغمة صوته تختلف عن الملامح التي رأتها في وجهه ، فقد كانت تلك النغمة رقيقة ناعمة ممزوجة بشيء من المزاح ، عجيب كم ه متقلب هذا الرجل ! وسمعته يتابع: " أعتقد انني أخبرتك السبب ، هل اصبحت تشكين بكلامي؟". إحمر وجهها عند هذا السؤال المفاجىء الذي لم تتوقعه ، وبصعوبة كانت تحال أن تخرج الكلمات من بين شفتيها ، خشية أن يعود لسابق قسوته ، ولكنها مع ذلك قالت اخيرا: " لقد قلت أنك تزوجتني من أجل الإنتقام". " هذه هي الحقيقة". " ما هي الحقيقة يا كونون؟". قلب شفتيه وهو يظر اليها ، وفي لمح رات فيه الرجل الذي تعرفه ، بمظهره قلبه ، الرجل الذي كان سعيدا يفيض حيوية ، ولكنه مع ذلك ذوى مع الزمن. سرت عاطفة غريبة في صدرها لم تدم طويلا ، وأصغت الى كونون الذي كان يقول بشيء من الفكاهة : " أخبريني ، أي سبب آخر يمكن أن يكون لدي يدفعني الى الزواج منك؟" " أنت تعني أي سبب آخر غير الإنتقام؟". رأت وكأن لون عينيه قد تغير ، وصار أكثر سوادا ، كانت ألانا تراقبه حائرة ، ولاحظت ان كلمة إنتقام تعيد اليه ذكريات العذاب الذي عاناه خلال السنين الماضية ، ذاك العذاب الذي إلتهمه ، وشوه وجهه بخطوط عميقة من الشر. " نعم إنني أعني ذلك". إنكمشت ألانا على نفسها وتراجعت الى الوراء ، وكانت تكاد تقع على الأرض لو لم تصلها ذراع زوجها. " لا أظن أن لديك سببا آخر". تأوه كونون ، ودفعها عنه ، ثم قال : " أنت على حق ، نعم تزوجتك من اجل الإنتقام ، ولا تخطر ببالك أية فكرة أخرى مطلقا ، هل تسمعينني؟". " نعم بالتأكيد ، إنني اسمعك".
الفصل السابع 7- إنها غلطتها ، غلطتها وحدها فهي التي رفضت الحب يوم قدم اليها ، وها هي تشتاق الى الحب وتندم على ما فات.... في اللحظة التالية كان يبتعد عنها عبر المرج الأخضر ، وعيناها تتبعانه حتى غاب عن نظرها ، ثم وقفت في مكانه وهي تسمع ضربات قلبها . واخذت الانا تتساءل بينها وبين نفسها ، الى متى يمكنها أن تتحمل هذه الحياة؟ تذكرت ما عانته في زواجها الأول ، وها هو العذاب يتكرر مرة أخرى ، فزواجها من كونون هو الجحيم بعينه ، ظلام دامس لا سبيل للنور اليه ولا وسيلة للخروج منه. غريبة هي أطوار هذا الرجل التي جعلت ألانا تعيش في دوامة ، حائرة في أمره وأمرها ، لا تكاد تتأكد أن الإنتقام هو السبب في زواجه منها ، حتى تشك في ذلك ، ثم تعود وتتأكد ، وتشكك وهكذا ، ولكنها في قرارة نفسها كانت تحس أن هناك سببا أعمق... ألقت الانا كتفيها الى الخلف ، تحاول أن تهدىء من نفسها ، فتخفف من شدة خفقان قلبها ، ثم هزت راسها تكتنفها الحيرة ، وتساءلت لماذا تناقش زوجها في الحقائق التي يطرحها ؟ فليس من عادته أن يقول شيئا وهو يعني غيره.... ومع ذلك.... اخذت ألانا تقلب صفحات حياتهما معا ، ووجدت نفسها تواجه بداية الحقيقة التي لم تكتشفها بعد. فالحقيقة أن ما يحدث مخيف جدا ولكنه لم يترك جروحا عميقة في نفسها ، لسانه حاد وقاس ، ولكنهما في كثير من الأحيان كانا يتحادثان بلطف ، ويكون عند ذلك هادئا ونغمات صوته عميقة جذابة ، فالحياة إذن لم تكن كلها جحيما ، وعندما إسترجعت الأسابيع القليلة الماضية ، لم تتمكن أن تتجاوز هذه الفكرة التي ساورتها... بعلاقة أكثر توافقا بينهما ، ومشاعر الإشفاق لا زالت قوية في صدرها مع أنها تخفيها ، تخفيها لأنها لا تستطيع ان تنسى في لحظة من اللحظات انها ارغمت على هذا الزواج ، ولا يمكنها ان تسامحه على ذلك ، حتى تستطيع أن تكون طبيعية معه ، ولكن من يدري ؟ ربما مع الأيام... إسترعت نظرها حركة ، فلمحت زوجها في نافذة غرفة نومه ، سرى الدم بطيئا في عروقها وإعترتها رعشة باردة ، هبت واقفة والرغبة في الرحيل بلغت حدا لا يقاوم ، حتى أن مشيتها كانت أقرب الى الجري ، إزدادت دقات قلبها ثانية وهي تسرع لتترك مسافة بعيدة بينها وبين زوجها الذي تخشاه. الممر كان ضيقا ترابيا شديد الإنحدار ، يؤدي الى طريق اعرض منه تمتد لتصل الى الساحل البعيد في نهاية الجزيرة حيث تمتد سلاسل من الجبال وشاطىء صخري مهجور. ولما وصلت ألانا الى هذه الطريق تريثت قليلا واخذت نفسا عميقا ، ثم تابعت المسير من فير هدف ، وإن كانت تبغي الوصول الى آخر الجزيرة ، عليها أولا ان تمر بالقصر الرائع الذي لفت نظرها سابقا ، والذي يقوم على حافة صخرية شاهقة ، يبدو كأنه يتحفز للوثوب الى المياه العميقة الزرقاء التي تمتد في الأسفل. سارت ألانا وسارت حتى أدركها شيء من التعب ، فجلست على حافة الطريق تستريح ، وتنظر الى الصخور التي تتداخل في البحر الساكن القاتم وقد حجبت بعض الغيوم العابرة أشعة الشمس عنه. رات هناك يختا يتأرجح على صفحة الماء ، وحسبت أنه يخص اولئك الذين يسكنون في القصر ، وإتجهت بأفكارها الى الفتاة الإنكليزية التي تعيش هناك ، متسائلة عن حياتها وكيف يمكن أن تكون؟ علما انك ونون قال أنها سعيدة ، فهي وزوجها متحابان. وعادت دموع الانا تنزل على خديها بغزارة ، إنها تندب سوء حظها ، فلماذا لا تكون هي سعيدة أيضا؟ مر في خاطرها هذا السؤال وأكثر من سؤال ، تركت لأحزانها العنان ، لتبكي ما شاء لها البكاء ، فليس لها من تشكو اليه ليواسيها ويخفف عنها.... حتى في هذه اللحظات لم تنس نفسها وأن البكاء يجب ألا يسرق شيئا من جمالها ، فمسحت دموعها متلفتة بالرغم من أنها تعرف ان لا أحد حولها ، وإطمأنت فلا يمكن ان يراها احد في هذه الحال ، على هذا الشاطىء الصخري المهجور. عادت ألانا تفكر بالفتاة الإنكليزية الأخرى ، وكلما أطالت التفكير فيها كلما إزدادت رغبة في لقائها والإستماع الى نبرات مألوفة لديها ، صوت إمرأة من بلادها...... وأخذت تتساءل في نفسها عن عمر تلك الفتاة زوجة الرجل اليوناني الذي فعل مثل كونون ، وتزوج منها عنوة ، ترى كم من السنوات وهي تعيش في هذا القصر الجميل ، الذي بني على أروع وجه من غير حساب للتكاليف؟ وقفت ألانا ثانية ، وإتجهت في سيرها نحو القصر ، وهي تفكر باسلوب يمكنها ان تعرف به على نفسها ،ولما لم تجد وسيلة ، وقفت بجانب الباب الحديدي المزخرف الواسع ،ونظرت من خلاله الى ذلك المكان الساحر . اشجار كثيفة ضخمة تحجب الرياح الشديدة التي قد تأتي من البحر ، مروج مخملية خضراء تحجب تمتد بشجيرات غريبة الشكل ، وحدائق فسيحة من الورود ، بينما تلمع في البعيد مياه زبرجدية اللون في مسبح واسع ، تماثيل من الرخام هنا وهناك لفتيات يونانيات من عصور سابقة ، نافورة عالية أقيمت على نقطة مناسبة بحيث ترى من نوافذ القصر. أية عظمة تبدو في هذا المكان المنعزل ، فمن جهة ترتفع الجبال وقد إمتزجت بلون سماء اليونان الأزرق الصافي والى الأخرى يمتد البحر الى مسافات بعيدة لا نهاية لها ، تزخرف سطحه الجزر الصغيرة، بعضها صخري قاحل ، والبعض مزين بسلسلة من الألوان الخضراء. جزيرة ليروس اكبر بكثير من غيرها تستلقي قريبا من شاطىء تركيا ، يفصلها عن كاليمنوس مضيق ضيق ، وتضيق المسافة بينهما أكثر في بعض النقاط حتى أنه يمكن للمرء ان يقطعه سباحة ، وعلى سفوح التلال تبدوالبيوت البيضاء لامعة تحت أشعة الشمس التي تخترق الغيوم البيضاء المتناثرة . " سانتا هيلانة!". تمتمت الانا وهي تقرأ الإسم المحفور على قطعة خشب صغيرة ، مثبتة على جذع شجرة الى جانب البوابة. لم تكن هناك معالم للحياة داخل البوابة ، وبتنهيدة عميقة تدل على الأسف ، تابعت طريقها الى الشاطىء ، حيث دخلت المنطقة المهجورة الصخرية. فجأة ألقت الانا نظرة دهشة وعجب ، وكأنها لا تصدق ما ترى ، فقد إنتصب امامها تمثال برونزي من تماثيل الأساطير القديمة يتوهج تحت أشعة الشمس ، كان تمثالا لأمرأة تحمل قيثارة ، اقيم على قاعدة صخرية ، كانت المرأة كئيبة حزينة ، ولكنها ساحرة خلابة ، وأستغربت الانا من الإنسان الذي يصنع مثل هذا التمثال ، غاية في الإتقان والجمال ، ثم يضعه في هذا المكان المهجور بعيدا عن أعين الناس! نظرت الى ساعتها ، وعرفت انه قد مضى وقت طويل منذ غادرت أراضي زوجها ، فإستدارت على مضض ، واخذت تسير على مهل ، فقد كان التفكير بدخول ممتلكاته أمرا مزعجا ، لم تشعر مطلقا أنها في بيتها ولم يفرحها الإحساس بانها شريكة المالك. عادت الدموع تفيض غزيرة من عينيها ، وأخذت تبطىء بأكثر ما تستطيع غير عابئة بالجوع الذي تحس به ، ولا بفمها الذي جف من شدة العطش. لا شك أن وقت الغداء قد مضى منذ وقت طويل ، ولا شك ايضا ان كونون يبحث عنها ، وهو يعجب من أنها بالرغم من تحذيره تخرج كما تريد وتتأخر كيفما تريد. بعد قليل وجدت نفسها مرة أخرى أمام بوابة القصر ، وفوجئت بكلب كبير يقفز من فوق السياج الى الطريق مما جعلها تصرخ ، وجعل الكلب يقف جامدا في مكانه ، رافعا أذنيه ، لاويا راسه ، وكأنه يتساءل لماذا خافت منه ، او لماذا يخاف أي إنسان آخر منه ، ولكنه عاد يعوي بعد لحظات قليلة بينما سمعت صوت رجل يقول بلهجة الآمر: " جاسون ، تعال هنا". وعلى التو إستدار الكلب ودخل من البوابة التي كان صاحبه قد فتحها من قبل. وتابع الصوت: " إنني آسف ، لا تخافي ، فهو لا يؤذي أحدا مطلقا". توقف لحظة عن الكلام ونظرت آلانا لترى أمامها رجلا يونانيا وسيما طويلا ، يبدو شيء من التجهم على وجهه ، ثم أضاف: " إنني آسف مرة اخرى ، لا شك انه أزعجك". وزاد تجهمه وهو يرى دموع ألانا لا تزال كحبات الندى على خديها ، وقال: " دخلي وإستريحي بضع دقائق". صوته كان عميقا تشيه نبراته صوت زوجها ، تحمل في طياتها شيئا من الغضب ، ثم إلتفت الى الكلب يخاطبه: " جاسون ، طباعك اليوم على غير عادتك ، إنني أخشى ان تكون سيدتك قد أفسدتك ". ارخى الكلب ذنبه ، في اللحظة التي قدمت فيها فتاة شابة جميلة ، فإنحنى فرحا وإتجه نحوها مسرعا: " ماذا هناك؟". توقفت قبل أن تكمل ،وهي تنقل النظر من ألانا الى زوجها ، ثم تابعت السؤال: " هل أنت مريضة؟". " جاسون ارعبها". ولكن ألانا قاطعته وقالت: " لم يفعل شيئا، فارجو ألا تلوماه ، فقد كان غباء مني ان أخاف الى هذا الحد". إتجه الكلب نحوها ، وبحركة آلية وضعت يدها على شعره الناعم ورببت على راسه ، ثم اضافت: " إنه جميل جدا وذكي ، فلا توبخاه". جاسون حرّك ذنبه ، واخذ ينتقل بين سيده وألانا ثم إستقر عندها كانه فهم ما قالته. دعاها الرجل ثانية وقبلت ألانا الدعوة ، ووجدت نفسها داخل البوابة ، لاحظت نظرات غريبة يتبادلها الزوج مع المراة الشابة ، بعدما قدم نفسه معرفا .... دونيس لوسين وزوجته جوليا ، فقالت الانا: " أنا زوجة كونون ، لقد جئت مؤخرا للعيش على هذه الجزيرة". " زوجة السيد كونون مافيليس!". رددت جوليا ، وهزت راسها بإستغراب ، مع أنها ايقنت أنه لا بد وأن تكون كما قالت ، فالسواح لا يمكن ان يأتوا الى هذا الشاطىء البعيد المهجور. وبعد هنيهة صمت ، تابعت جوليا: " نحن لا نعرف زوجك جيدا". كان صوتها باردا ، أما زوجها فقد كان فمه مطبقا وجبينه مقطبا ، لقد لاحظت ألانا بعض تعابير غامضة تمر على وجهه مما أكد لها أنه لا يحب زوجها ، وغريب ألا يكون وفاق بين الرجلين ، لما رأته من الشبه بينهما في كثير من الأمور ، فكلاهما تبدو فيه جلية روح السلطة والسيطرة ، ونفس طابع الأرستقراطية الموروث عن الأجداد اليونانيين ، نعم كانا متشابهين كثيرا ومن العجيب ألا يكونا صديقين. أحست ألانا بالقلق يساورها لهذا الصمت الذي ساد بينهم ، ولما لم يكن لديها اية فكرة عن أية اسباب يمكن أن تكون هناك لعدم نشوء صداقة بين زوجها وبينهما ، قالت: " في الواقع إنه منطو على نفسه". تجاهل دونيس ذلك وطلب من زوجته ان تذهب مع الانا الى الداخل وتقدم لها بعض المرطبات. " آه ، لا ، شكرا". تمنعت الانا ، غير مرتاحة لبرودة الزوجة ، وأضافت: " لا اريد إزعاجكما". صدر صوتها غريبا عنها لا تكاد تعرفه ، وكأنها لاحظت شيئا ما يدور في عيني جوليا اللتين أظلمتا بشيء من الإشفاق. لكن جوليا هزت راسها قائلة: " لا ، ليس هناك أي إزعاج ، تفضلي بالدخول ، انا متأكدة انك بحاجة الى شيء تشربينه". " في الواقع إنني عطشى ". قالت ألانا ذلك وهي تفكر بالمسافة التي لا تزال تفصلها عن بيتها ثم تابعت : " شكرا لكما ، نعم ، ارحب بكاس من الشراب البارد". إبتسمت جوليا إبتسامة عذبة ، احست ألانا معها كأنها لم تر فتاة بهذه الجاذبية من قبل. دونيس كان ينظر الى زوجته وعيناه تنطقان بأرق العواطف ، الشيء الذي بقيت ألانا تذكره لمدة طويلة ، وايقنت انه لا يمكن لأي رجل ان يحبها كما يحب دونيس زوجته ، فاحست بالإكتئاب يغمرها ، إنها غلطتها ، غلطتها وحدها ، فهي التي رفضت الحب يوم قدّم اليها ، وهي التي صممت أن تبقى وحيدة طيلة ايام حياتها ، وعلى العكس من ذلك فإنها فقدت الحب ، ولكنها تزوجت بدل المرة مرتين.... إعتراها شعور بالشوق الى الحب والندم على ما فات ، كم هو جميل ومبهج أن تكون هي ايضا محبوبة مثل جوليا ، تلك الفتاة التي تراها أمامها الآن تبتسم في وجه زوجها والحب يشع من عينيها الزرقاوين ، وهو بدوره يتطلع اليها وقد ملأت عينيه السوداوين عاطفة ، لا يمكن لآلانا ان تصفها بأقل من الحب. دونيس طلب من الخادمة أن تحضر بعض الشطائر لآلانا ، ثم إلتفت اليها قائلا: " إذهبي مع زوجتي ، وإرتاحي قليلا". كانت عيناه ثاقبتين ، فقد ادرك أنها لم تاكل منذ ساعات طويلة. " شكرا لك". وفي لحظات كانت الانا تدخل القصر من ساحة واسعة الى حديقة مليئة بالزهور ، ثم عبرت مرجا اخضر مخمليا ، وهي تنظر بإعجاب الى كل ما يحيط بها. كانت جوليا تبتسم وهي ترمقها بين الحين والآخر ، ولاحظت الانا ان في نظراتها معنى غريبا لم تستطع أن تدركه ، ولما تناولت منديلها لتجفف وجهها ، إنتبهت الى لمحة جدية مرت بوجه الفتاة. وتساءلت الانا ، ترى بأي شيء كانت تفكر هذه المرأة وزوجها؟ من الواضح أنهما لا يفكران بكونون مطلقا ويحسبانه غريبا ، ذاك العملاق الذي يخطط الشر وجهه ، وبالرغم من ذلك يعد نفسه السيد المطلق فوق الجميع. " لقد وصلنا". ادخلتها الى غرفة واسعة لها نوافذ كبيرة تطل على الحدائق النضرة وما وراءها ، وكذلك على البحر الذي تنقط صفحته جزر صغيرة. " تفضلي وإستريحي". دعتها جوليا للجلوس وهي تشير الى اريكة مريحة ، ثم إستاذنت منها ، قائلة انها ستعود في الحال. تركت جوليا الغرفة ، وإستقر الكلب عند قدميها وهي تنظر نحو النافذة ، رات السيد دونيس يتكلم مع رجل آخر كان يبدو عليه أنه يعمل في الحديقة ، كان الرجل أعرج ، فاثر ذلك في نفس ألانا كثيرا ، ثم لدهشتها رات رجلا آخر ، كان يبدو عاجزا ولعله مشلول ، رفعت يدها الى قلبها الذي كان يعصره الألم من أجل هذين الرجلين ، كانت لا تزال تحدق النظر في الرجال الثلاثة عندما دخلت جوليا ترتدي ثوبا أزرق أنيقا. فبادرتها بالسؤال: " هل هذان الرجلان يشتغلان في الحدائق؟". أحنت جوليا راسها ، قائلة: " زوجي يشغّل فقط أولئك الذين تضرروا بسبب البحر ". هزت ألانا إشفاقا ، وقالت: " في الواقع لقد سمعت عن غواصي الإسفنج في كاليمنوس ، وما يصيبهم من الأضرار وهم في اعماق البحار". " هذا صحيح ، ولكن هؤلاء الرجال سعداء هنا ، لقد إنتهت علاقتهم بالبحر ، فهم قد تشوهوا حقا وهذا شيء مؤلم للغاية ، ولكنهم يقومون بعمل نافع حتى لا يكونوا عالة على اقربائهم". وأضافت بسرعة عند دخول الخادمة: " ها هي بوليمني ومعها الصينية". إلتفتت ألانا الى بوليمني وقالت: " شكرا ، لوليمني .... من فضلك ضعيها على الطاولة". ثم قدمت جوليا كأس العصير لآلانا فقبلتها شاكرة، وأخبرتها أن بإمكانها ان تطلب المزيد إن هي شاءت. " انت لطيفة جدا". قالت الانا ذلك وأخذت رشفة ، ثم أضافت: " لقد مشيت كثيرا.....". توقفت عن الكلام ، وقد سرى الإحمرار في وجهها وهي تلاحظ أن عيني جوليا الزرقاوين كانتا تتفحصانها ، ولكنها تابعت بلطف: " أنا سعيدة بلقائك ، طالما أعجبت بالقصر وأنا أراه من البعيد ، وتساءلت عن سكانه ، لقد أخبرني زوجي أن فتاة انكليزية تسكن هنا ، وشعرت أنه شيء محبب الى النفس أن يتحدث المرء الى شخص من بلده". " أنا سعيدة أيضا بلقائك". أجابت جوليا عفويا ، وأضافت: " أنا آمل ان تزوريني كلما مررت من هنا". " من الممكن أن افعل". نظرت ألانا نحو النافذة حييث كان الزوج واقفا وانظار جوليا عالقتان به ، فقالت جوليا وكأنها فهمت معنى تلك النظرات: " أنا وزوجي كلانا سعيدين برؤيتك". ومن غير ان تترك ألانا لنفسها مجالا للتفكير ، قالت: " سعيدين برؤيتي ، ولكن ليس بزوجي؟". " نحن......نحن......". توقفت جوليا قليلا بعدما تمتمت بتلك الكلمة ، وأحست بشيء من الإنزعاج ، ولكنها تابعت: " إننا نرحب بزوجك أيضا". توقفت مرة أخرى عن الكلام ، وقد إحمر وجهها ، ولم تكن الانا بحاجة الى كلمات لتعلم انج وليا كانت تحاول أن تكون في غاية الذوق والأدب فيما تقول. إنحنت جوليا وهي في مقعدها وتناولت صحن الشطائر وقدمته لضيفتها ، قائلة: " تفضلي وكلي شسئا ". كانت تقصد بذلك تغيير الموضوع ، وأضافت: "هل تريدين كأسا اخرى من العصير؟". "نعم ، شكرا". تناولت ألانا شطيرة ووضعتها في صحنها ، ثم اضافت: " إن الجو حار ، وقد مشيت كثيرا". " هل تعنين أنك مشيت مدة طويلة ؟". كان صوتها ناعما عذبا منخفضا ، ولكن فيه رنة غرابة وكآبة ، فأحنت الانا راسها وقالت: " لقد سرت ساعات وساعات....". ثم توقفت عن الكلام ، خشية أن يزل لسانها فتقول لجوليا أنها كانت تريد الهرب من البيت ، ولكنها تابعت بعد أن رمقتها جوليا بنظرة إستفهام لتشجيعها على المضي بالحديث: " سرت ساعات وساعات كنت اتوقف بينها لأنال قسطا من الراحة". " هل أحببت المكان؟". " هذا الشاطىء ، نعم بالتأكيد ، فهو في الحقيقة ساحر جدا ! ". " السكان يجدونه موحشا مهجورا". " ولكنني وجدته جذابا ومريحا". في الواقع إن الانا لم تكن تقصد ان تقول شيئا من هذا القبيل ، ولكنها تعمدت ذلك حتى لا تثير الشكوك في نفس جوليا ، التي لم تعلق على هذا الكلام ، بل قالت: " سوف أحضر لك كاسا أخرى". ثم خرجت برشاقة وخفة ، وبدات ألانا تأكل، ولكنها سمعت اصواتا آتية من زاوية النافذة ، من الخارج ، لم تكن تقصد أن تستمع لما يدور من حديث ، ولكن لقرب المسافة ، كان الكلام يصلها واضحا مفهوما. " إنها زوجة السيد كونون ! لماذا تاتي الى هنا ، طالما السيد دونيس لا يحب زوجها؟". وعندما وجدت ألانا ان الحديث يدور حول زوجها ، تركت الطعام لتصغي ، وأدركت على الفور ان خادمتين هما اللتان كانتا تتكلمان وباللغة الإنكليزية ، بجودة وطلاقة ، ومن الواضح أنه لم يتطرق الى ذهنهما أن بإمكانها ان تسمع حديثهما . وعادت تقول الواحدة للأخرى: انا لا اعرف ، ولكنني كثيرا ما رايتها تسير في الطريق ، والكآبة تبدو على وجهها ، فهي لا شك تعيسة ، وأظن أنها تخاف ذلك الرجل السيء الذي تزوجت منه". " ولكن من الغريب أننا لا نعرف شيئا عنه ". " إبن عمي يعيش في باتموس ، وقبل ثلاثة أسابيع جاء في زيارة الى هنا ، وقال ان السيد كونون حاول أن يقتل زوجته الأولى ! ". " يقتلها ! ولكنك لم تخبريني بذلك يا تولا". " لقد اخبرت السيدة بذلك ، فغضبت ، وقالت لي ألا أنشر مثل هذه الإشاعات ، التي قد تكون غير صحيحة". " السيدة جوليا لا تريدنا أن نقول شيئا عن أي إنسان ، فهي إمرأة طيبة ". " ولكنني أظن أن السيد دونيس يعرف من قبل ، ن السيد كونون حاول ان يقتل زوجته". " لماذا تظنين ذلك؟". " لأنني سمعت السيدة مؤخرا تخبره بما قلت لها ، فلم يبد اية دهشة ، وأظن ان هذا ما يجعله لا يحب السيد كونون ". " وانا أظن أنه لا يحبه لأن السيد كونون لا يحب العلاقات الإجتماعية ، فقد رفض دعوا السيد دونيس ، كما كان وقحا في الرد ايضا". ثم اخذت المراتان تثرثران بلغتهما الأصلية وحيث لم تعد الانا تستطيع أن تفهم شيئا أكثر ، وعند رجوع جوليا سألتها إن كان جميع خدمها يتكلمون اللغة الإنكليزية. " لقد علّمت البعض منهم". اجابت جوليا بإرتباك ، وأضافت: " لماذا تسألين؟". " لقد سمعت إثنتين منهما خارج النافذة ، وعجبت من إستعمالهما اللغة الإنكليزية في حديثهما". حوّلت جوليا نظرها الى زاوية النافذة ، وتمتمت: " إنهم يحبون ان يتمرنوا على الحديث". ثم نظرت الى ألآنا مباشرة ، وسالت: " عن أي شيء ،كانتا تتكلمان؟". هزت ألانا كتفيها ، وقالت بلامبالاة: " لا شيء له أهمية...". وتلاشى صوتها وهي تنظر الى عيني جوليا الثاقبتين ، وعرفت ان كلامها غير الصحيح لم يفدها في شيء ، فأن جوليا عرفت أنها كانت تكذب ، وحتى لا تترك لها مجالا لأسئلة اخرى رشفت ما تبقى في كاسها ، ووقفت تقول: يجب أن أذهب". تظاهرت بأنها تأخرت كثيرا ، وقالت: " سيتساءل زوجي عما حدث لي ، الى اللقاء سيدة جوليا ، وأشكرك على لطفك وكرمك". لم تقل جوليا شيئا ، ولكنها رافقتها حتى البوابة الخارجية ،وهناك أخذت تذكّرها أنهما يرحبان بها في لقصر في أي وقت تشاء. " شكرا سيدة جوليا". " لا تتاخري". إبتسمت جوليا لها ، ووجدت ألانا نفسها تقول: " لن أتأخر ، إنني اعدك". إلتفتت جوليا عندما سمعت وقع اقدام ، فرأت ألانا عينيها تشعان وهي تنظر الى دونيس آتيا اليهما. " هل تشعرين بتحسن؟". سألها بأدب ، وعيناه تتفحصان وجهها الشاحب وأضاف: " هل تحبين ان نقلك الى البيت بسيارتي؟". هزت راسها ، وقالت: " إنه لطف منك ، فانا اشعر أنني احسن بكثير الآن ، وأنا أفضل المشي ". " لقد طلبت من السيدة ألانا أن تزورنا كلما ارادت". قالت جوليا توجه الكلام الى زوجها ، وتابعت: " ووعدت أن تفعل". كان التأكيد في رنة صوتها ، ولكن على شفتي زوجها كانت تبدو إبتسامة باهتة ، فأدركت آلانا انهما يشكان بأنها تستطيع أن تقبل الدعوة التي صدرت عن جوليا ، ثم قال زوجها بصوت منخفض ، غريب النبرات ، أنهما سيكونان سعيدين إذا جاءت لتراهما ، وأاف بفخر: " في المرة القادمة ستقابلين ولدنا ، لقد اصبح عمره سنتين ، وها انت تجدين أنه اصبح شابا !". ضحكت جوليا ، وهي تمسك يد زوجها بمودة ، وقالت: " كيف تجرؤ أن تقول عنه أنه شاب ، أنه لا يزال طفلي !". إبتسم لها إبتسامة شاحبة بوقار ، فلاحظت الانا كم كان الشبه عظيما بينه وبين زوجها ، مع أن دونيس كان زوجا سعيدا ، وابا فخورا ، بينما كونون كان تعيسا حزينا ، لا يعرف الحب طريقه الى قلبه ، ولا السعادة الى نفسه سبيلا ، لعله يستمتع بما يعانيمن آلام ، بالجراح التي تثخن قلبه ، بالحقد الذي غرز صدره ، يعيش عقله في الظلام لا يعرف النور اليه سبيلا ، وروحه قد غشيتها عتمة الليل والقمر في المحاق، فإرتدت ثوب السواد. وجدت الانا نفسها تبتلع ريقها بصعوبة ، وإغرورقت عيناها بالدموع ، ولم تعد تستطيع التفكير بوضوح اثناء الطريق ، فكل ما كانت تراه هو تعاسة زوجها ، وإنطواؤه على أحزانه ، تلك التي لا يحاول الهروب منها. كانت قد إقتربت من المنزل عندما أخذت تستعيد ما سمعت من المرأتين ، وشعرت أن الأمر أصبح معروفا لدى الجميع ، بأن كونون حاول أن يقتل زوجته الأولى ، وتساءلت ، ترى ما رأي دونيس وزوجته في ذلك؟ هل سمعا فقط جانبا من القصة؟ فكونون لم يسكن في هذه الجزيرة إلا من مدة قصيرة ، ولذا ، فهل من الممكن أن يفكر بأنه قاتل؟ هكذا بكل بساطة؟ قررت ألانا أن تخبر جوليا القصة بحذافيرها ، في أول لقاء ، سوف تخبرها عن كونون الذي عرفته منذ سنوات عديدة.
الفصل الثامن 8- هل من الممكن أن كونون يحبها؟ ولكن ماذا عنها هي ؟ كم ستكون الأمور سهلة لو أن ما تحس به نحو زوجها هو... الحب ! كان كونون في غرفة المطالعة عندما عادت الانا الى الفيللا ، رفع راسه عن الكتاب الذي كان يقرأ فيه وإستقرت عيناه على وجهها: " أين كنت طيلة هذا الوقت؟". سالها بهدوء ، وأضاف: " ايقنت أنك لن تكوني غبية لدرجة محاولة الهرب مرة أخرى". وقفت عند الباب ، وحدقت النظر فيه عبر الغرفة الجميلة التي تنتشر فيها رائحة الزهر الآتية من النافذة المفتوحة ، كانت تحس بشعور فيه نوع من البهجة لم تستطع وصفه ، مع أن نظراتها كانت مفعمة بالإحتقار والكراهية. قطب كونون حاجبيه وسألها ثانية: " أين كنت؟". أجابت وهي تتقدم الى الداخل: " كنت اتنزه". " يبدو أنك إبتعدت كثيرا". " نعم". وإستمرت بالإقتراب منه ، لتبدي له أنها ليست خائفة منه ، بالرغم من إمارات القسوة التي بدت على وجهه ، والبريق الذي لمع في عينيه من جراء إجاباتها المختصرة: " الى أين ذهبت؟". " الى نهاية الجزيرة". " هل قابلت أحدا؟". " ما الذي يجعلك تسأل هذا السؤال؟". نظر كونون الى ساعة يده وقال: " طول الزمن الذي قضيته خارج البيت". "لقد قابلت الذين يسكنون القصر ". وإستعادت في ذاكرتها قوله ، إنه لا يهتم بهم كما انهم هم أيضا لا يهتمون به. " هل تحدثت اليهم ؟". " خرج الكلب يعوي، فخفت منه وصرخت ، ثم ظهر السيد دونيس". " أنا سألت إن كنت تكلمت معهم". " نعم لقد فعلت ". لمست حرف المزهرية التي كانت على الطاولة حيث كانت تقف وقالت: " لم اتمكن أن افعل شيئا آخر ". " كم بقيت مع هذا الرجل؟". " جاءت زوجته على الفور ، ودعيت لتناول بعض الشطائر والعصير...". " وهكذا دخلت ، وبقيت هذه المدة الطويلة". " دخلت ، هذا صحيح ، ولكنني لم ابق طويلا ". " عن أي شيء تحدثتم؟". كان يريد أن يعرف ما دار بينهم ، فهزت ألانا كتفيها ، وقالت: " احاديث عامة والسيدة جوليا زوجة دونيس دعتني لأزورها ثانية ". يبدوان كونون كان يفكر قبل ان يقول: " لا تذهبي ثانية يا ألانا ، هل تفهمين؟". نبرات صوته اللطيفة كادت تخدعها ، ولكنها رفعت وجهها تريد أن تعترض على السلطة التي بدت في تلك النبرات ، ومن العجيب أن صوتها كان خاليا من أي عداء وهي تقول: " إذا أعطيتني سببا واحدا معقولا لطلبك هذا ، فإنني لن اكرر زيارتي لهم". " قلت لك لا تذهبي ثانية ، وأما السبب فإنه لا يخصك ". " كونون ، لماذا تفضل الإبتعاد عنهم ؟ فهم لطفاء جدا". " لا اريد أن يزعجني أحد بدعواته ، ولا أحب أن اشجعهم على ذلك". " أنه شيء جميل ان يكون لك اصدقاء ، ويمكننا نحن أيضا أن ندعوهم لتناول المرطبات معنا". قالت ذلك من غير ان تدري إذا كانت هذه الدعوة تسر دونيس وزوجته ، ولكن كلما هنالك أنها كانت تريد ايضا ان تعرف صدى هذا الإقتراح في نفس كونون ، فأجاب: " لقد توقفت عن إتخاذ الأصدقاء منذ زمن طويل". " يمكنك أن تبدأ من جديد". " يمكنني إن كنت أريد ذلك ، ولكن الواقع انني لا أريد". هزت ألانا كتفيها وهي تشعر بالخيبة أكثر من ذي قبل". كما تريد يا كونون". قالت ذلك وكانت على وشك الخروج من الغرفة ، عندما سمعته يقول: " هل تعدينني بالا تزوريهم ثانية؟". هزت راسها على الفور واجابت بهدوء: " لا ، كونون ، لن اعدك بذلك ، فانا سأذهب ثانية ، جوليا فتاة أنكليزية ، ومن المعقول ان نزور بعضنا بعضا". " أرجو ان تكوني أكثر تعقلا من أن تخيبي أملي". " هل تمنحني هذا الشيء الصغير الوحيد الذي يسرني؟". أجاب بخشونة : " كل همي الا تعرفي المسرّة على الإطلاق أو على الأصح أن كل إهتمامي هو ان أعرفك على جهنم كيف تكون". نظر اليها بقسوة ولم يكن من الصعب قراءة أفكاره ، الأفكار التي اخذته بلا رحمة الى الدقائق التي قضاها مع ولده ، الطفل الذي لم تفارقه ذكراه أبدا ، تؤلمه ، تعذبه ، وحتى تدمره ، نظرت ألانا اليه بحزن ، وهي تتساءل كيف يمكنه ان ينسى هذه الماساة المروعة ؟ ثم سمعته يتمتم: " نعم... نعم، الحياة يمكن ان تكون جحيما". أحست ألانا أنه لم يعد شاعرا بوجودها ، كان غائبا في اعماق الماضي ، بدا وجهه قبيحا ، والحزن يطل من عينيه الرماديتين القاتمتين ، فكادت الدموع تطفر من عينيها لولا أنها حبستها بسرعة ، فهي لا تريد أن يراها زوجها تبكي من اجل مأساته ، ولكنه كان يراقبها ، وأخذت ملامح وجهه تتغير ببطء ، وظهر في عينيه التعجب ، واشاحت ألانا عنه نحو النافذة ، ولما طال بهما الصمت قالت: " كونون ، الحياة يمكن ان تكون كما تصنعها أنت ، اعرف أن هذه ليست الحال دائما ولكنها تحدث كثيرا ، فانت تعيش على الماضي....". " عندي الشيء الكثير لأعيش عليه ، فأنت لا تعرفين كل شيء ، ارجوك كفي عن النصح !". ألانا إلتفتت اليه ووقفت قبالته تكلمه بلطف: " إنني مستعدة للإصغاء ، هل كل هذا لأنه مرت في حياتك بعض الأمور المحزنة؟". عيناه إتسعت ، وألانا أمسكت قلبها بيديها ، لن يعرف مطلقا ان كاتينا أخبرتها عن الطفل. " ما الذي جعلك تسألين مثل هذا السؤال؟". هزت كتفيها بلا مبالاة ، وقالت: " لأنك كثيرا ما تبدو حزينا يا كونون". " حزين !". ومرة أخرى غاب في الماضي وقال: " ليس مهما إن كنت حزينا ، وهذا ليس من شأنك". " ولكنني زوجتك". " زوجتي ! أنت تلبسين خاتم الزواج هذا صحيح ، ولكنك لست زوجتي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة ، ما دامت لا توجد بيننا رابطة روحية ". تنهدت ألانا ، وتركت الغرفة غير مصدقة أنه نسي أن يعيد مناقشة زيارتها للقصر ، بسبب ما يحس من آلام. بعد ثلاثة أيام ، عزم كونون على الذهاب الى أثينا ، وأخبرها انه سيغيب مدة أربعة أو خمسة ايام ، ومما أثار دهشتها أنه لم يطلب منها مرافقته ، حتى أنه لم يسالها إن كانت تحب ان تزور العاصمة ، وذهب مبكرا قبل أن تستيقظ. أول ما أحست به هو الحرية ، الشعور الذي فقدته منذ عرفت أنها ستصبح زوجة كونون ، وبصورة لاشعورية وجدت نفسها تتوجه نحو القصر مسرعة تائقة لرؤية جوليا ... السيدة الشابة الجميلة ، التي كانت بعرف كونون قد ارغمت على الزواج ، وانه بعد الزواج أنعم الله عليهما بالحب والسعادة بالإضافة الى طفل صغير لطيف. إبن... سرت البرودة في عروقها ، إذن ، هذا هو السبب الذي جعل كونون لا يشجع نشوء صداقة بينهم ، لقد كان غيورا ، لا يريد ان يرى طفلهما وقد فقد طفله. كانت جوليا في الحديقة عندما وصلت البوابة التي فتحت على الفور ودعيت الى الدخول بإبتسامة من زوجة دونيس. " كم هو جميل منك أن تأتي لزيارتنا بهذه السرعة ، وأريدها أن تكون زيارة طويلة، طفلي نائم الان وأحب ان تريه ،وهو سيستيقظ خلال ساعة تقريبا". " سوف افعل ، زوجي مسافر وسيغيب بضعة أيام". " هل تبقين لتناول الغداء معنا إذن؟ دونيس مشغول في مكتبه ، ويجب الا أزعجه ، وهكذا لدي وقت طويل أقضيه معك". قالت جوليا ذلك لتشجع ألانا على البقاء ، فسرت الانا ، وشعرت أنها وجدت في جوليا صديقة لها ، ولن يستطيع كونون ان يفعل أو يقول ما يجعلها تبتعد عن القصر. " في الواقع أحب ان ابقى". تلفتت الانا حولها وشملت الحديقة الساحرة بنظراتها ، ثم حانت منها إلتفاتة الى السطح ، فسالت وهي تشير اليه: " هل هناك حديقة ايضا؟". ولما احنت جوليا راسها علامة الإيجاب ، اضافت: " لا بد أنها تطل على مناظر فتانة ، اليس كذلك؟". " بالتأكيد ، تعالي نصعد ونتناول قهوتنا هناك ، أم تفضلين شيئا باردا؟". " إنني افضل القهوة". وتبعت جوليا عبر المرج الأخضر الذي يمتد أمام القصر وهي تشعر أنها تريد أن تخبرها في هذه الزيارة عن شخصية كونون التي عرفتها منذ سنوات ، آملة ان تسمع منها بدورها المزيد. ولما بلغتا السطح ، وقفت ألانا تجول بأنظارها من جهة لأخرى ، لتمتع النفس بتلك المشاهد الخلابة ، من جميع الزوايا ، الجبال برؤوسها الصخرية ، التلال الناعمة الخضراء ، تتخللها البيوت البيضاء ، وفي العلاء سماء اليونان الزرقاء تزيدها أشعة الشمس الذهبية جمالا. " أية صور هي هذه ! لو كنت أسكن هنا ، لبقيت على هذا السطح طيلة الوقت". " ولكن المناظر مدهشة ساحرة من بيتك أيضا ، أنا أحب منزلك ، فموقعه يشرح الصدر ، ونحن نحب مشهد الجانب المشجر من الجزيرة الذي يرى من الفيللا". أحنت ألانا رأسها موافقة على كلامها ، فالمناظر التي تكتنف الفيللا هي أجمل مشاهد الجزيرة دون شك". " تفضلي بالجلوس". دعتها جوليا وهي تقدم لها كرسيا من كراسي الحديقة المريحة ، فجلست ألانا وإسترخت في جلستها تمتع النظر بمرأى النافورة التي تلمع مياهها تحت اشعة الشمس ، وتشكل قوس قزح. ذهبت جوليا ، وعادت بسرعة تحمل صينية عليها فنجانان من القهوة وهي تقول: " إحدى الخادمات ذهبت اليوم لتزور إبنها ولذا فإنني اساعد الخادمتين الأخريين ببعض الأعمال". ثم إبتسمت لآلآنا وهي تغمز بعينها: " أنا أحيانا افكر ان بعض العمل يفيدني ، ولكن دونيس لا يحب أن يسمع ذلك مطلقا". تغير صوتها عند ذكر إسم زوجها ، ووجدت ألانا نفسها تحسد هذه المرأة على سعادتها الواضحة في حياتها. جوليا أخذت تتحدث ، وعرفت الانا من حديثها ان عمر إبنها يقارب عمر إبن كونون عندما توفي. ومع أن جوليا لم تتطرق الى ذكر كونون إلا انها إضطرت الى ذلك عندما أقحمته ألانا في الحديث. فقد قالت ألانا ، أنها لتعجب كيف ان الرجلين كونون ودونيس لم يصبحا صديقين بحكم الجوار ، مع انهما يتشابهان في كثير من الصفات. فقالت جوليا بكثير من الذوق حتى لا تجعل زائرتها تنفر: " الحقيقة انا نفسي لم استطع ان افسر ذلك ، ولكنني متأكدة ان زوجك يحب ان يبقى وحيدا". " اجل ، أنا أعرف ان زوجك قام ببعض المحاولات لينشىء صداقة مع كونون ، أليس كذلك؟". " نعم لقد فعل ، ودعا زوجك....". خفضت جوليا صوتها حتى لاذت بالصمت ، ولكن بعد وقفة قصيرة ، عملت الانا على متابعة الحديث ، كانت حاذقة حتى أنها إستطاعت أن تعرف بعض الأشياء عن زوجها ، ثم قالت : " وكونون لم يستجب ، انا أعرف أنه لا يرحب بصداقة احد". سكتت جوليا عن الكلام فترة ، وأخيرا بلباقة وذوق ، عادت لتسأل ان كانت الانا تحب أن تعرف بعض التفاصيل ، وأضافت: " أنا أسألك لأنه بدا لي أنك متحمسة للحديث عن زوجك وأنك تبحثين عن معلومات بشأنه". أجابت الانا من غير إبطاء: " نعم إنه لكذلك، فقد تكهنت يا سيدة جوليا منذ البدء ان هناك أمرا غير طبيعي في زواجنا". " إنه من الطبيعي.". ثم توقفت عن الكلام فجأة ،وعادت تقول: " هل يمكنني أن اناديك بإسمك؟". وعندما احنت ألانا راسها بحماس قالت: " إن أسمك لطيف ونادر ، الانا ، من الطبيعي أن أكون فضولية ، قلت انا ، لن زوجي ليس فضوليا مطلقا وقد انّبني لأسئلتي عن الرجل الذي يسكن بجوارنا ، ويعيش حياة إنعزالية". توقفت جوليا قليلا ، ثم تابعت : " فقلت في نفسي ، لعله يداوي بعض الجراح التي أصابته ، وكل ظني أنه متزوج وإنفصل عن زوجته ، ولما شاع خبر يقول أنه يريد أن يتزوج ادركت انني كنت مخطئة في تكهناتي". ومرة اخرى سكتت ، والانا تراقبها بفضول ، ثم سألتها: " كيف عرفت أنه كان متزوجا؟". " عن طريق الخدم ، وقد اخبر زوجي عن ذلك احد الرجال الذين يعملون في الحديقة". " لعلها كانت مفاجأة لك يا جوليا ، أليس كذلك؟". قالت الانا جملتها بشيء من الخجل ، اما جوليا فقد إبتسمت لضيفتها ، وقالت: " نعم كانت مفاجأة ، ولما أشيع ان خطيبته أنكليزية إزداد فضولي". رفعت جوليا الفنجان ورشفت منه القهوة ساخنة ، ثم أضافت: " أنت ترين ان هناك بعض الظروف القديمة تتعلق بزواجي انا ، وسأخبرك عنها في وقت آخر ، على اية حال ، قلت انني صرت فضولية ، ومتحمسة للقائك ، ولكن كان ذلك صعب التنفيذ مع أنني كنت عازمة على دعوتك بعد زواجك ، إلا ان زوجي منعني من ذلك". " بالطبع لأنه لا يميل الى كونون ، اليس كذلك؟". " أنا لم أقل ذلك ، ولكنه يشعر أنه من واجبنا إحترام رغباته". " نعم ، لقد فهمت". سكتت لحظة ، ثم تابعت تحكي لجوليا عن شخصية كونون قبل مأساة زواجه الأول ، وعن قصتها الحديثة معه ، وعجبت من نفسها كيف وثقت بها الى هذا الحد مع ان معرفتها بها ليست ببعيدة وصلتها بها غير وثيقة ، ولكنها كانت سعيدة لأنها وجدت صديقة. وأخيرا قالت : " هل رايت ؟ فهناك اعذار لكونون على تصرفاته". وعندما أنهت الانا حديثها ، أخذت نفسا عميقا تنتظر تعليق صديقتها ، فقالت: إنها قصة لا تصدق ! هكذا إذن ، انت أيضا اجبرت على الزواج....". " نعم ، وعرفت انك انت ايضا اجبرت على ذلك ، زوجي أخبرني ، ولكنه اخبرني أيضا عن سعادتكما الآن". لمعت عينا جوليا بحب عميق ، وقالت: " هذا صحيح ، لقد إنقلب أخيرا كل شيء الى الخير.... هل تعلمين يا الانا ، لدي شعور عميق أن زواجكما ايضا سينقلب الى الأفضل". "لا ، لا يمكن". هزت ألانا رأسها بياس وتابعت: " كونون يكرهني ، حقا يكرهني يا جوليا ، أنا لا أبالغ". أفترت شفتا جوليا عن إبتسامة جذابة ، وقالت: " النساء مخلوقات عجيبة يا ألانا ، نحن نظن أن لدينا جميع الأجوبة ، لكل الأسئلة ، بينما في الواقع نحن لا نملك حتى الأسئلة الصحيحة عن أنفسنا ، فهل تصدقين حقيقة أن كونون تزوجك من اجل الإنتقام؟". " أنا متأكدة من ذلك". " لدي شعور انه لا يزال يحبك يا ألانا". حدّقت ألانا في وجهها ، وفي عينيها الجميلتين علامات عدم التصديق: " لا.... لا يمكن ذلك يا جوليا ، أنت مخطئة وأنا أعرف ذلك ". " ما الذي يجعلك واثقة الى هذا الحد؟". " االمرأة تعرف إن كانت محبوبة ، أومكروهة". ومع أنها قالت ذلك ، لكنها في نفس الوقت كانت تفكر بالشكوك التي تخامرها عن سبب زواج كونون منها. وبعد برهة ، قالت جوليا راجية: " هل يمكنني ان اسالك سؤالا شخصيا؟". " طبعا يمكنك ، فقد وضعت فيك ثقتي ولم يعد هناك مجال للتراجع". " هل تحبين زوجك؟". " لا، بالتاكيد لا !". قالت ذلك بحماس ، ناسية للحظات ان جوليا ايضا أكرهت على الزواج ، وتابعت: " هل يمكنك أن تحبي رجلا أجبرت على الزواج منه؟". ضحكت جوليا بالرغم من جدية الموقف ، وقالت: " لقد فعلت يا ألانا ، وأنت تعرفين". " نعم، نعم....". أحست ألانا بأنها كانت بلهاء ، فسكتت برهة ثم اضافت: " لكن وضعي يختلف عن وضعك تماما...". " قد يختلف في بعض النواحي ، لكن لا بد وأن يكون هناك تشابه ، عل اية حال ، ساعيد عليك السؤال : هل تحبين زوجك؟". " لا". هزت راسها وهي تضيف أنه من المستحيل أن تحبه. " حسنا". ونظرت في عيني ألانا طويلا ، ثم قالت: " أريد أن أسالك سؤالا آخر ، لو سمحت؟". " نعم؟". " هل تكرهين كونون كما كنت تكرهينه في بدء زواجكما؟". لم تجب الانا ، فهي تحس أنه حدث تغيير في مشاعرها نحوكونون ، اما جوليا فقد إبتسمت ، وعرفت الإجابة على سؤالها من سكون رفيقتها ، ولكن الانا بعد لحظة من التفكير قالت: " إنني أعترف أنني كنت أكره كونون في البدء ، ولكنني بالتأكيد لا أكرهه الان ". " أنت تشفقين عليه؟". سالتها جوليا بعفوية ،وكأن الفكرة ساورتها في تلك اللحظة. " نعم ، إنني أفعل ، وكما اخبرتك أنه فقد ابنه الصغير بطريقة مرعبة ". " ومن الغريب انه لم يذكر لك هذا الإبن ابدا!". " أحس أنه لا يحتمل التحدث عنه ، مع اننياعرف انه يفكر فيه كثيرا". " كيف تعرفين ذلك؟". " من الكآبة التي تبدو عليه ، من الحزن العميق الذي يطل من عينيه ، فهو يطيل التفكير ونظراته ترمي الى البعيد البعيد". برهة صمت مضت ، قطبت ألانا حاجبيها خلالها ، ثم قالت: " أنني أحس بانني الملومة ، فلو انني تزوجت منه ، منذ ذاك الحين ، لما حلت عليه كل هذه المصائب". " هذا صحيح ، ولكن من أين لك أن تعرفي ذلك ؟ فقد كنت في ذاك الحين حرة تختارين الحياة التي تريدينها ولست مسؤولة عما يحدث بعد ذلك". " نعم ، ولأنه كان لي حرية الإختيار ، احس الآن بالذنب ، ما ضر لو أنني أخترته؟". " أظن انك أسأت الإختيار". أحنت ألانا راسها دلالة الموافقة. " انا.... أنا...". وإنقطعت عن الكلام ، غير قادرة على إختيار الكلمات التي يمكن أن تعبر عن مشاعرها في تلك الدقيقة ، فقد كان صراع عنيف يعتمل في نفسها ، بدت آثاره على وجهها ولاحظت جوليا ذلك ، فقالت: "ما بك يا آلانا؟". " إنني اسائل نفسي عن حقيقة ما أحس به نحو كونون". " وهل خرجت بنتيجة جلية!". " في الواقع انه الإشفاق ما احس به نحوه". قالت ذلك هامسة وكأنها تكلم نفسها ، وهي تتطلع بنظرات غائمة من غير أن ترى شيئا ، تتطلع نحو البحر ، وجزره العديدة ، الى الأفق البعيد ، ثم تابعت بنفس الصوت الهامس: " إنه.... إنه لا يمكن أن يكون الحب !". إلتفتت نحو جوليا لتلاحظ ملامح الحنان بادية في عينيها وهي تبتسم وتمتم بلطف: " إنه الحب.... إنه الحب يا عزيزتي ألانا!". إحمرت وجنتا ألانا ، كانت تريد ان تتهرب من نظرات جوليا لو إستطاعت الى ذلك سبيلا ، فقالت: " هل رأيت زوجي؟". هذه هي الكلمات التي التي تمكنت من قولها ، وكانت إبتسامة جوليا أقرب الى الضحك ، وهي تجيب : " لقد قلت أنه لا يمكن لإمرأة صحيحة العقل أن تقع في حب رجل خال من الجاذبية مثله ، اليس كذلك؟". " تماما". وعاد اللون يتسرب الى وجهها شيئا فشيئا ، وهي تستمتع لما تقوله جوليا : " وقد قلت أيضا انه كان يوم عرفته أجمل رجل قابلته في حياتك او يمكن أن تقابليه ، أليس كذلك؟". " نعم ، لقد كان ، لكن أنظري اليه الآن ، فهو مخيف في أكثر الأحيان ". " أظن أنك تقصدين ان إمارات مرعبة تبدو على وجهه". " يصبح قبيحا للغاية عندما يغضب". لا تدري الانا لماذا كانت تتكلم عنه بهذه الطريقة ، ولا شك أن كل همها كان أن تحارب فكرة حبها له ، وتقنع نفسها أنه من غير الممكن أن تقع في حب رجل كهذا". " الانا ، ليس الظاهر ما هو المهم ". قالت جوليا ذلك بنفس الإبتسامة العذبة التي تبدو على شفتيها ، واضافت: " انا نفسي إكتشفت ذلك.....". وعاشت جوليا مع ذكرياتها فترة ، ولما افاقت من شرودها ، غيّرت موضوع الحديث ، وبقيتا حتى وقت متأخر من النهار عندما كانت ألانا تريد الذهاب بعد أن قضت وقتا سعيدا خلال تلك الساعات مع صديقتها الجديدة. تناول دونيس طعام الغداء معهما ، فكان مؤدبا متزنا في جميع تصرفاته ، غير أن تحفظه ذاك إختفى ، عندما أحضرت لمربية الطفل ، وتركته في الفناء حيث كان الثلاثة يشربون القهوة بعد الغداء. ألانا أعجبت بالصبي الذي كان ذكيا وقد أنعم الله عليه بوجه جميل ، يشبه امه ، أما شعره وعيناه الداكنتان فكان الشبه فيها لأبيه ، الب الذي ظهرت على وجهه علامات البهجة والإفتخار في اللحظة التي جاء فيها الطفل الى الفناء وركض مباشرة اليه وبمساعدته قفز الى ركبتيه. لم تستطع ألانا ان تبعد عنها التفكير بكونون وبالطفل الصغير الذي فقده ، وأغرقتها كآبة حزن ، بينما كان دونيس ينظر اليها. " كنت افكر بإبن زوجي الصغير ". قالت الانا ذلك لتجيب على التساؤل الذي بدا في عيني دونيس ، واضافت: " نعم أنني أعرف ، عزيزتي....". قاطعته جوليا: " ما دمت تعرف ، لماذا لم تخبرني؟". كانت علامات الإستنكار تبدو في عينيها ، مما جعل إبتسامة باهتة تظهر على شفتي زوجها ، وقال: " فضول النساء.... عزيز عليّ !". كان يقصد مداعبة زوجته بتلك الكلمات ، ولما لم يجد إلا التقطيب في وجهها ، أضاف: " ليس هذا من شانك أو شاني ، على أية حال". كان كلامه قاطعا وضع حدا دون إستمرار زوجته في الأسئلة . ولما عاد دونيس الى غرفة مكتبه ، إستأذنت جوليا من ألانا بضع دقائق ، تريد أن تحدث زوجها ، وعندما رجعت كان التجهم يبدوعلى جبينها بدل الإبتسامة التي كانت تلازم شفتيها ، ونظرت الى ألانا نظرات غريبة فيها كلام كثير ، مما جعلها تدرك أن موضوع الطفل قد نوقش بين الزوج وزوجته ، فقالت مستفسرة: " ما بك يا جوليا ؟ هل من شيء هناك؟". هزت جوليا راسها وإمارات الإستياء تلازم وجهها ، واجابت: " لا، ليس هناك أي شيء". فعرفت ألانا على الفور منع زوجته من الإفشاء باي معلومات. في الساعة الرابعة ، رافقتها جوليا حتى البوابة الرئيسية ، أرادت ألانا أن تعود لسؤالها قبل أن تودعها ، ولكن قبل ان تسأل قالت جوليا: " لا تحكمي على زوجك بقسوة ، ربما هناك أمور لم تدركيها بعد.... واشياء أخرى هو أيضا لم يدركها". " ما الذي لا يعرفه كونون ؟ فانا قد عرفت ما تقصدين في الشق الأول من كلامك ، وهو انك ونون لا يزال يحبني ، أليس كذلك؟". " نعم يا ألانا هذا صحيح". " أما الشق الثاني؟". " لا أستطيع أن أخبرك شيئا ، انه من الصعب جدا علي ، فإلى اللقاء وعودي ثانية". بناء على دعوة جوليا الصادقة كانت ألانا تحب بإخلاص أن تدعوها هي بدورها ، ولكنها كانت تعلم انها لن تلبي دعوتها بالرغم من معرفتها بغياب كونون عن المنزل. كانت الهواجس تدور في رأسها وهي في طريقها الى الفيللا ، تفكر فيما قال دونيس لزوجته ، ذاك السر الذي أخفته جوليا عنها ، لن زوجها لا شك منعها من البوح به. كم حاولت ان تجرها الى الكلام ولكن دون جدى فجوليا كانت مصرة على الكتمان ، مما جعلها تحس بالإستياء من تلك السلطة التي كان دونيس يفرضها على زوجته. على أية حال فإن الانا أخيرا هزت كتفيها مذعنة للأمر وهي تعلم أن الرجل لا يحب التدخل في مشاكل الآخرين ، واخذت تفكر فيما قالته جوليا لها، من انك ونون يحبها ولو كان يخفي ذلك ، وتذكرت عند ذلك غضبه كلما حاولت ان تسأله عن السبب الحقيقي لزواجه منها ، فهل هذا يعني أنه يحبها بالفعل ، ولا يريد أن يبوح لها بذلك حيال ما تبديه نحوه من كراهية ؟ كونون يحبها .... ولكن ماذا عن عواطفها هي نحوه ؟ وكم ستكون الأمور سهلة لو أن ما تحس به نحو زوجها هو الحب. ولكنها أبعدت هذه الفكرة عن ذهنها وصارت تؤكد لنفسها أن مشاعرها نحوه لا تزيد عن الإشفاق ، وأخذت تتخيله بصورته التي لا تحبها ، عملاقا يأمر وينهي ، على شفتيه دائما إبتسامة سخرية ، مثقلا بالأحزان ، والشخص الذي كان وسيما مرحا جذابا لطيفا راح ومضى.
الفصل التاسع 9- كيف إنخدعت به طيلة هذه المدة؟ قالت امها: لا تغتري بالمظاهر بل أنظري الى خفايا القلوب ، ولكن كيف يمكن للمرء أن يصل الى خفايا القلوب؟ " سيدتي ، هناك زائر في إنتظارك". كانت كاتينا تقف في الفناء عندما وصلت ألانا الى المنزل ، فأخبرتها قبل أن تصعد الدرجات وأضافت: " أنه الرجل الذي أتى برفقتك في البدء...". "ماكس !". نظرت الانا غير مصدقة ، وسألت بتعجب: " هل هو من تعنين ، كاتينا ؟". " نعم هو الرجل". كان صوت كاتينا باردا وتبدو على وجهها علامات الإنزعاج ، وأضافت: "أنه في الغرفة الصغيرة سيدتي". ما الذي حدث يا ترى ، ماذا يريد مني هذا الرجل بعد الان ؟ سالت نفسها وهي تستغرب مجيئه ،وقالت: " سوف ادخل على الفور ، هل انتظر طيلا ؟". " منذ ساعتين ، سيدتي ". توقفت كاتينا لحظة عن الكلام ثم تابعت: " أرجو الا يزعج هذا الأمر سيدي...". قطبت ألانا حاجبيها وهي تعبر القاعة الفسيحة نحو باب الغرفة حيث كان ماكس ، ومن قبل ان تفتحه إلتفتت الى كاتينا فرأت الدموع تنزل من عينيها ، فقالت: " أنا لا أدري ما الذي جعلك تظنين ان سيدك سيتالم؟". فتنهدت الخادمة وقالت: " لأن الرجل قال انه آت لياخذك معه". فتحت الانا عينيها بدهشة وقالت: " لا تقلقي فسيدك لن ينزعج". وبعد هنيهة كانت تواجه ماكس في الغرفة الصغيرة الأنيقة الأثاث ، تطل على بركة سباحة واسعة ومشهد الجبال. وقفت ألانا شاحبة اللون وعلامات التساؤل على وجهها ، ووقف ماكس ومن غير أن يضيع وقتا أخبرها مباشرة عن السبب الذي جاء من اجله ، وهو انه آت ليصطحبها معه ، ليحررها من الرجل الذي من أجله اجبرت على الزواج منه. أصغت اليه صامتة حتى أنهى كلامه ثم قالت بجفاء: " هكذا أذن جئت تصحح خطا إرتكبته ، أليس كذلك ؟". " لقد صدقت ذلك اليوناني عندما أخبرني انني سأحكم وأقاد الى السجن بالإضافة الى إعادة جميع الأموال التي قبضتها ثمن تلك الأرض ، فإكتشفت أن كلامه كان مافقا ، أنه شخص ماكر حاذق ، على أية حال ، أعتبري نفسك حرة الان ، وسترتب أمور الطلاق في بلدنا ، كما أنني قمت بجميع الترتيبات لأعود بك على الفور ، ومن حسن الحظ أن كونون غائب عن البيت ، علما انه لم يعد عندي فارق إن كان موجودا أو لم يكن ، فسوف أعرف كيف اخضعه". " هل قلت انك وكّلت محاميا ليبحث الأمر؟". قطعت الآنا كلامها عندما أوما بالإيجاب ، ثم تابعت: " وذاك المحامي اكد لك ان كونون لا يستطيع ان يفعل شيئا؟". " تماما ، كما قال أنني لا أخضع لقوانين اليونان". أطالت النظر في وجهه ، وراته كما رأته في تلك الليلة المشهودة عندما جعلها تقدم نفسها ضحية بأسلوبه الملتوي وطرقه اللولبية ، حتى يتخلص من الإنتقام الذي كان يهدده به كونون. إمتلأ صدرها بالغضب ، والإحتقار لهذا النوع من الرجال ، وقالت: " ألا تشعر أنك جئت متأخرا؟". كان صوتها هادئا متزنا ، قبل وقت قصير كانت سترحب بما يعرضه عليها اما الآن فقد جاء الأمر متأخرا ، وأضافت: " لقد مضى شهران على زواجي !". هز كتفيه ، وقد بدا نفاد الصبر في صوته. " هذه الأمور لا يمكن إتمامها بسرعة، فهي تحتاج الى وقت ، فقد ذهبت الى المحامي فور وصولي الى لندن ، وكنت أهنىء نفسي على تلك السرعة التي تمت فيها جميع المعاملات". " كان يمكنك أن تكتب لي تخبرني بذلك". " في الواقع لم أكن ارغب ان أبعث فيك آمالا قد تنهار في النهاية ". أطال النظر فيها ينتظر كلمة منها ولما لم تقل شيئا ، تابع يقول: " لا ارى على وجهك علامات الترحيب بحريتك ، وعودتك الى وطنك ، الخادمة قالت أن كون في أثينا ، وهكذا يمكنك أن تجمعي ملابسك وتهيئي نفسك من غير إزعاج". نظر الى ساعته ، وتابع: " المركب يغادر في غضون ثلاث ساعات ، هل نتناول الطعام هنا ، أم تفضلين أن نرحل على الفور ، ونتناوله في كاليمنوس ؟ من جهتي أفضل أن نأكل هنا ، لأنني لا أرغب في رؤية تلك المطاعم الموجودة على الميناء". وبقيت الانا صامتة وماكس يتكلم ويخبرها عن إفتقاده لها ، وسروره وفرحه لأنه سيستعيد سكرتيرته الجميلة مرة أخرى في مكتبها الصغير قرب مكتبه ، وأضاف: " كما أنني لم أقطع الأمل في أن تكوني زوجتي ، فبعد هذه التجربة لا بد انك تحبين أن تتزوجي رجلا أكثر تحضرا وإنسانية ، وليس من المبالغة في شيء أن أسمينا كونون همجيا ، الا توافقينني على ذلك؟". أصغت بهدوء ، فر اللون من وجهها ، بسبب وقاحته وجراته على التفكير في الزواج منها بعدكل الذي حصل ، عيناها الزرقاوان رشقتاه بنظرات الإحتقار والغضب ، وتراءى لها زوجها كونون ذاك الذي عانى الكثير...والذي احبها كثيرا من غير ان تدري ، حتى أنه إنتهج طريقة مجرمة ليجبرهاعلى الزواج منه. قطب ماكس حاجبيه وسالها: " ما بك ، بأي شيء تفكرين ؟ هل هناك ما يقلقك؟". وأحست أن كل همه وكل ما يفرحه كان نجاته من السجن الذي كان يهدده ، وأخيرا سالت: " ما الذي يجعلك تظن أن هناك ما يقلقني؟". كان صوتها هادئا ولكن حادا ، مما جعله يقطب جبينه أكثر فاكثر ، ويقول: " أي امرىء يراك ، يظن أن فكرة حريتك لم تعد تعنيك . " الحرية من أي شيء ؟". سالته بإستهجان ، وأجابها بنفس الأسلوب: " من هذا الجحيم ، طبعا". " مدة شهرين لم تفكر في هذا الجحيم الذي تتحدث عنه ، وتركتني هنا حتى من غير كلمة مواساة!". خفض عينيه ، ولاحظت أن علامات الشعور بالذنب بدأت تظهر على وجههه ، وقال: " خجلت من نفسي ، شعرت انني كنت حقيرا ، صدقيني يا ألانا ". أشاحت نظرها عنه ، تفكر ، تعجب كيف يستطيع أن يصف زوجها بأنه همجي ، ويتغاضى عن فعلته الشنعاء ، ترى كيف أمنت في يوم من الأيام أنه رجل شريف أمين ! كيف إنخدعت به طيلة هذه المدة ؟ وتذكرت كلمات أمها عندما حذرتها بقولها : لا تغتري بالمظاهر ، بل أنظري الى خفايا القلوب ، ولكن كيف يمكن للمرء أن يصل الى خفايا القلوب؟ على أية حال فلعل ماكس يكون قد تعلم درسا لا ينساه مدى الحياة... " ألانا...". كان صوت ماكس حادا ولكن فيه رنة ألم وهو يتكلم : " ألانا ، كلميني ، لقد قطعت هذه المسافة الطويلة دون إضاعة دقيقة واحدة من الوقت ، لأزف لك البشرى ، وأنت تقفين هكذا دون أي كلمة ". " دون أي كلمة شكر ، أليس كذلك؟ فهل هذا ما يغضبك؟". " لست غاضبا". " متعجبا إذن ، لماذا تبدو بائسا ؟". كتم ماكس غضبه ، وتجاوز الجدل الذي لا يجدي ، وقال : " ألا تستعدين للرحيل ، لأصطحبك الى بيتك؟". إلتفتت اليه وشملته بنظرات ثابتة ، وقالت: " هذا هو بيتي يا ماكس". " بحق السماء هل تحاولين أن تقولي لي ، أنك تريدين البقاء هنا ؟ مع ذاك الهمجي ! ". وأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا والغضب يشع من عينيه ، ثم أضاف : " حسنا ، أعترف أنني عاملتك معاملة شنيعة ، ولكنني الآن جئت لأصحح غلطتي ، والطلاق سيتم في غضون وقت قصير". " الطلاق؟( كان صوتها باردا كالثلج وهي تتكلم ) ما اللذي جعلك تظن أنني أريد أن أنفصل عن زوجي؟". دار ماكس على نفسه وأخذ يسير وظهره ب‘تجاهها ، وقال: " هل جننت ؟ لا شك أنك جننت!". " أنا بكامل قواي العقلية". إتسعت حدقتاه ونظر اليها ، ولكن البريق الذي رآه في عينيها جعله يقول: " إذن ، لقد وقعت في حب ذاك الرجل ، أخيرا!". اخذت ألانا نفسا عميقا وهي تحس بخفقات قلبها ، وبرودة يديها ، وقالت: " نعم ، ماكس......". الكلمات جاءت بطيئة وبصعوبة ، ولكن واضحة ، صادقة، دون أدنى ريب في مشاعرها نحو زوجها ، لقد خرجت ألانا من دوامة الشك ، وعادت تقول: " نعم ، ماكس ، كما قلت ، لقد وقعت في حب زوجي...". " ولكن ماذا عنه هو؟ عن عواطفه؟". قال ذلك مقاطعا إياها وهو يهز رأسه ، وكأنه لا يصدق ما يسمع ، ثم أضاف: " لكنه لا يحبك ، فأي أمل لك في السعادة؟". وفجاة ختفى غضبه وتحول ثانية الى إنسان لطيف وأخذ يقنعها بالعودة معه الى انكلترا وان تخرج كونون من تفكيرها الى الأبد. وعندما توقف أخيرا عن الكلام ، تكلمت الانا بمنتهى الهدوء فقالت: " إنك تضيّع وقتك سدى يا ماكس ، مكاني هنا مع كونون ، الذي بعد كل شيء تزوجته بمحض إرادتي ". " لا ، ليس بمحض غرادتك ! كيف تقولين ذلك؟". " أنا التي إخترت ". " لقد اجبرت على ذلك". بدت على شفتيها شبه إبتسامة ، فقد كان يبدو ان ماكس نسي انه هو وحده المسؤول عن القرار الذي إتخذته قبل شهرين ، على أية حال فقد وجدت أن لا فائدة من تحويل الحديث الى جدال ، ولذا عادت وأكدت له أنها باقية مع زوجها ولن تتخلى عنه ، وكان على ماكس أن يرضخ للأمر الواقع ويرحل ، فودّعها وهو يؤكد لها انها ستغير رايها قريبا ، وقريبا جدا. وبينما كانا يعبران الفناء ، قال: " عندما يأتي ذلك اليوم وتغيرين رايك فلا تتواني عن الإتصال بي ، وسوف ارسل لك ما تحتاجين من المال لعودتك ، وليعرف زوجك أنه لم يعد له أي سلطان عليّ ،وخدعته تلك قد إنكشفت ، وكذبه قد بان". لماذا سمحت له ان يستمر في هذا الكلام لا تدري ، وكل ما في الأمر أنها لم تكن تبالي ، او لعلها لم تكن تصغي اليه ، وفي اللحظة التي ان يودعها سألته ألانا: " هل جئت بسيارة أجرة؟". " لقد إستأجرت سيارة من الميناء ، وقد أوقفتها بعيدا في الممر". " لماذا أوقفتها هناك؟". " اردت أن اصل الى البيت من غير أن يراني أحد ، وكنت أرجو ان أراك في الحديقة". " تعني بذلك انك كنت لا تريد أن يعرف كونون بمجيئك ، وأن يتم الأمر بسرية كاملة ، أليس كذلك؟". قطب ماكس حاجبيه ، وأجاب: " طبعا لا ، لقد أخبرتك مسبقا أنني كنت مستعدا لمواجهة كونون ". وصلا الدرج ، ولم يعد برغبتها أن ترافقه مسافة أطول ، فقالت: " وداعا يا ماكس". حدّق فيها طويلا ، ثم نظر الى يديها اللتين لا تزالان الى جانبيها ، وسأل: " ألا تريدين أن تصافحيني ؟". مدّت يدها ووضعتها في يده مصافحة ، فهزّها قائلا: " كنت اتمنى أن تعودي معي يا ألانا ". لم تعلق الانا بشيء ، فتابع يقول: " هل انت حقا سعيدة بالحياة مع هذا الرجل؟". " لقد عشت معه شهرين ". " هذه ليست إجابة ، هل فكرت بالمستقبل؟". " أنا أحب كونون ، ومستقبلي في هذه الجزيرة". " ولكنه لا يحبك ، لقد تزوجك من أجل الإنتقام !". " لكن ظني أنه تزوجني لنه يحبني". " على الظن ؟ أنت إذن غير متأكدة ؟ لم يخبرك بذلك وهذا يبدو واضحا ". " ماكس ، من فضلك ، دعنا نقول وداعا ، وضع حدا لهذه المناقشة غير المجدية ، آسفة لأنني لم أدعك لتناول الطعام ، ولكنني أظن انك توافقني على أنه من الأفضل أن نقول وداعا ، وكما نوّهت قبلا يمكنك ان تأكل في أحد المطاعم". وبعد لحظات كانت تنظر وراءه وهو يمضي غاضبا في الممر الذي يؤدي الى الطريق حيث ترك السيارة. ظنت أنه سيلتفت ويرفع يده للوداع الأخير ، ولكنها كانت مخطئة . إستدارت وصعدت الدرج ، كان ذهنها صافيا الان ، وقلبها منيرا ، أكثر من أي وقت مضى في حياتها....
الفصل العاشر و الأخير 10- أنه هو الذي يحكم على نفسه بالتعاسة الدائمة ولا يحاول ولو محاولة بسيطة ان يخرج من احزانه ، حتى جدران غرفته تنطق بالمرارة.... مع تسليمها بأنها تحب زوجها ، لم تعد تطيق إنتظار عودته ، على أن الخوف لم يفارقها ، وهي لا تدري كيف يمكنها أن تزيل الصعوبات الكثيرة التي تسد الطريق الى سعادتها وسعادة كونون ، فهناك الحزن العميق الكامن في أعماقه ، المرارة التي يعيشها ، ذكرى ولده التي هي أقسى ذكرياته ، والعقبة الكبرى كيف يمكن أن تجعله يعترف بحبها ؟ الحب الذي إدّعت انه يحمله لها في قلبه ، من غير أن يعترف به ، وكيف يمكن أن يفعل وهو لا يزال يلومها ، ويحملها مسؤولية كل ما يعانيه من اسى وحزن؟ وفي لحظة ضعف ، تمنت لو أنها قبلت عرض ماكس الذي قدمه لها ، وهمست في نفسها: " أنا وكونون لا نستطيع أن نتجاوز كل ما حصل ، ولو كان يحبني حقيقة ، فهو بالمقابل يكرهني ، فكيف لهذا الحب ان يتغلّب على الكراهية؟ ربما كان من الأفضل أن أعود الى أنكلترا ... عند ذكر العودة ، احست ألانا بالهزيمة ، فكيف تقبل الهزيمة بعد أن تحررت من الشك وتأكدت من مشاعرها ؟ إذن عليها أن تحارب من أجل إنتصار هذا الحب ، وتزيل كل العقبات ، وتضيء طريق كونون ، فيزول الضباب وتنقشع الغيوم ، ويرى الحقيقة الدفينة في اعماق قلبه ، يرى أنه يحب ألانا ، نعم عليها ان تحارب من أجل سعادتهما ، تلك السعادة التي أصبحت تتمناها من أعماقها. على الأقل يجب أن تحاول ، وتقبل الهزيمة فقط عندما يظهر لها ان كونون غير قادر على نسيان الماضي ، ولكنه سيفعل ، سيبدأ حياة جديدة ، فهو لا يزال شابا ، بالرغم من السنوات التي أضافتها عليه الهموم ، لقد كان جميل الصورة في الماضي ، ويمكن ان يعود كذلك عندما تزول عن وجهه إمارات الكآبة والحزن والكراهية ، لقد ضحك مرة ، وبإمكانه ان يفعل من جديد إذا حاول أن يضحك ثانية. بعد ذهاب ماكس بدقائق معدودة ، رن جرس الهاتف ، وجاء صوت كونون حنونا عذبا على غير ما كانت تتوقع ، يخبرها أنه سيعود في الليلة التالية ، ردت ألانا عليه بلطف انها سعيدة لأنه انهى عمله بسرعة. " سعيدة ! هل أصبحت مؤدبة ام دبلوماسية؟". " لا هذه ولا تلك وأنما اقول الحقيقة". مرت لحظات من الصمت والانا تنتظر ، ولكنها سمعت ضحكة سخرية قبل ان يقول لها: " يجب ان يكون العشاء جاهزا في تمام الساعة الثامنة". " سوف افعل". واحست بشيء من القلق وهي تسمع سماعة الهاتف توضع مكانها ، وشعرت ان مثل هذه البداية لا يمكن ان تبشر بأمل ، على أية حال فهي لم تكن تتوقع نجاحا مباشرا هكذا ومن خلال الهاتف ، فهي تعرف أنه ليس من السهل ولا بهذه السرعة يمكن ان يعود زوجها الى طبيعته الأولى ، فإن لديها الوقت .... ولديها الأمل ايضا. إغتسلت ألانا وإرتدت ثيابها إستعدادا للعشاء الذي لم يحن ميعاده بعد ولكن لأمر ما لا تعرف له تفسيرا ، سارت نحو غرفة نوم كونون ، دفعت الباب ، ودخلت للمرة الأولى ، كانت الغرفة قليلة الأثاث ، بسيطة جدا ، خالية من كل زخرف ، تنسدل على نوافذها ستائر داكنة اللون ، جالت ألانا بأنظارها في الغرفة وهزت راسها متعجبة من هذه القسوة التي يعامل بها كونون نفسه ، انه هو الذي يحكم على نفسه بالتعاسة الدائمة ، ولا يحاول ولومحاولة بسيطة أن يخرج من أحزانه ، حتى في غرفته الخاصة التي يأوي اليها ليرتاح ، ترى الكآبة تغمرها ، والمرارة تنطق بها جدرانها.. كان كتاب ملقى هناك على الطاولة ، وصورة من الممكن ان تكون قد سقطت منه ، وثار الفضول في نفسها ، تقدمت وإلتقطتها ، وشهقت وعلى شفتيها كلمة واحدة: " الصبي...". إنه أبن كونون ، طفل جميل جذاب ، بشعر أسود متموج ، وعينين رماديتين لامعتين ، يشبه أباه حتى في هذه السن المبكرة ، أخذت تنظر الى الصورة ولكنها إستدارت فجأة عند سماعها خطوات ثابتة هادئة خارج الباب ، تمتمت ألانا بفزع: " أنت ! لقد عدت مبكرا ، لم أكن أتوقع قدومك الان". " ماذا تفعلين؟". سألها وعيناه تستقران على الكتاب الذي كان لا يزال في إحدى يديها ، ثم تحولت نظراته الى الصورة التي كانت تمسكها باليد الأخرى ، وأضاف: " ضعي هذه من يدك". " أنا آسفة كونون...". تكلمت بصوت منخفض ، وهي تضع الصورة على الطاولة وأضافت: لم أكن اقصد...". قاطعها غاضبا: " ماذا تفعلين هنا؟". " لا شيء ، دخلت فقط ، فوجدت الصورة ملقاة على الطاولة ، وحسبت انها ربما سقطت من الكتاب ، فاردت إعادتها ، كونون ، لا يوجد سبب يثير غضبك". ولكنه إقترب منها وأمسك بذراعها بقسوة ، صرخت ، ولما شدّد الضغط ، لم تستطع أن تحبس دموعها. عندما رأى الدموع في عينيها تخلى عن ذراعها ، وتراجع عنها قليلا الى الوراء ، بعد أن أخذ الصورة من يدها ، ثم قال: " أنها صورة ولدي". كان صوته يحمل كل معاني الرقة والحنان ، ثم اضاف: " انت تعرفين انه كان لي إبن ، أليس كذلك؟". أحنت راسها بالإيجاب ، وعندئذ أراد ان يعرف كيف علمت بذلك ، ولما لم تكن تريد ان تقحم كاتينا في الموضوع ، اخبرته أنها عرفت الأمر من الذين يسكنون القصر. أحنى رأسه وهو يحس بدوار نسي معه أن يلومها على ذهابها الى القصر في غيابه ، مع انه منعها من ذلك ، ولكنه تماسك وقال: " نعم إنهم يعرفوون حكاية الطفل ، ولكنني لا اعلم من أين لهم ذلك ". " كان طفلا جذابا محبوبا ". تكلمت ألانا بلطف ، وتأثر عميق يشوب نبرات صوتها ، من اجل كونون الذي بدا أمامها رجلا عجوزا ، رجلا يتمنى أن ينهي حياته لو يستطيع. أمسك كونون الصورة وحدّق فيها هنيهة ثم وضعها في الكتاب ، ومن غير ان يضيف اية كلمة اخرى ، ذهب الى الحمام. بقيت الانا فترة واقفة هناك ، تهزها العواطف ، قلبها يخفق بشدة من جنبيها، وفي عينيها تترقرق الدموع ، ولما سمعت صوت الماء في الحمام ، إستدارت وذهبت الى غرفتها. كان من سوء حظها أنها لم تخرج من غرفته قبل مجيئه ، ولكن على اية حال يكفي أنه علم بمعرفتها قصة ابنه. خيم على العشاء جو من الكآبة والصمت المطبق ، ولكن بعد الإنتهاء منه ، اخذ يتكلم كعادته ونبرات السخرية تبدو في صوته: " ماذا كنت تفعلين في غيابي؟ لا شك كنت تتمنين ألا أعود بهذه السرعة". اجابت الانا بلطف وهي تنظر في عينيه: " لقد أخبرتك على الهاتف انني كنت سعيدة ، لأنك أتممت اعمالك بسرعة ، وكنت اعني كل كلمة قلتها". قطب حاجبيه ، وقال: " هل تتوقعين ان أصدقك؟". أمام عدم تصديقه ، سكتت قليلا ، كانا في ذلك الوقت يجلسان على الشرفة ، يطل عليهما البدر بوجهه الفضي ، يلقي على عتمة الليل وشاحا وضاء بين نسائم المساء الدافئة العليلة ، المحملة بأريج الزهور ، ليلة تهز العواطف الكامنة ، يطمئن اليها المحبون ، وينسون فيها جميع متاعب الحياة ، تلفتت ألانا حولها ، وسألت بلطف وعلى شفتيها إبتسامة عذبة: " هل من الصعب عليك أن تصدقني؟". كان اسلوبها يتناسب مع قرارها الجديد ، تحاول أن تقود زوجها في طريق أقل وعورة من تلك المسالك الشائكة التي يسير فيها منذ مدة طويلة ، ولكنها لم تر في عينيه إستجابة ، ومن الممكن أنه لم يلاحظ اية رقة في صوتها أيضا ، ولكنه بعد صمت قصير ، قال: " من الصعب جدا أن أصدق، كما أنني لا أجد سببا يجعلني افعل ، أنا سألتك سؤالا فاجيبيني عليه". " كنت أقرا كالعادة ، كما انني زرت جوليا ودونيس في القصر". " الم أقل لك ألا تعودي لزيارتهما؟". " لقد قامت بيني وبين جوليا رابطة صداقة ، انا سعيدة بها ، وأنني آسفة يا كونون ، فأنا لا أريد أن أقطع هذه الصلة". " انت تفعلين فقط ما آمرك به". تريثت قليلا لتحبس الغضب الذي ثار في داخلها ، ثم قالت بلطف: " ما هو سبب عدم ميلك اليهما؟". حول نظراته عنها ، ولاحظت ألانا ان ملامح وجهه غدت تبدو أقل قسوة ، ثم اجاب: " إن أسبابي لا تخصك ، كل ما يخصك هو أن تلبي رغباتي فحسب ، أراك مختلفة هذه الليلة ، هل حدث شيء جديد في غيابي؟". " أجل كونون...". تسلل الإحمرار الى خديها ، وعيناها يشع فيهما بريق عجيب ، وعلى شفتيها إسترخت إبتسامة ساحرة ، وخرجت الكلمات بأكثر ما تكون الرقة وأعمق ما يكون الحنان عندما قالت: " كل ما في الأمر ، كونون ، أنني إكتشفت أنني أحبك!". هل تراها تسرعت بنقل مشاعرها اليه؟ وأن الوقت لم يحن بعد؟ ما كان عليها أن تطلعه على ما يجيش في صدرها ، ولذا تداركت ذلك بقولها : " لم يحدث أي شيء يذكر ". " لقد كذبت يا ألانا ، لقد حدث الشيء الكثير ولكن ..". كانت ألانا تفكر بزيارة ماكس ، وتمنت ألا يعرف عنها شيئا". أخذ كونون ينظر اليها ، تطل من عينيه نظرات عريبة لم تعرف ألانا لها تفسيرا. وتساءلت ترى ماذا كان وقع كلمات الحب على نفسه؟ فهو لم يقل شيئا ولم يبد على وجهه أي تأثر... ولكنه اخيرا قال: " هل أفهم من ذلك ، أنك إقتنعت أخيرا بأن الحياة افضل لو انك خضعت لسلطتي؟". فر اللون من وجه ألانا ، وإرتجفت شفتاها ، اهذا كل ما عنده ليقول؟ " إضغ اليّ ، وصدقني مرة واحدة". ولما لم يجب وقفت وهي تقول: " إذن سنتحدث في صباح الغد". لكنها توقفت ، فقد رات زوجها يهز رأسه ، وقد تبدلت ملامح وجهه واحست أنه يريدها أن تتكلم ، وان يصغي اليها ، فقالت: " اتعني انك تريدني أن تكلم الآن؟". " بدأت افكر أنه إذا تكلمنا ، فهناك الشيء الكثير ليقوله احدنا للآخر ، اليس كذلك؟". وكانت المعجزة ، اخيرا يريدها ان تتكلم ، ويجب ان يسمعها ، يجب عليها قبل كل شيء أن تبرر له زواجها المشؤوم ذاك ، وسبب قبولها به ، ولكنها بدل ذلك أخذت تسمعه احاديث الهوى الكامنة في أعماقها ، كلماتها الرقيقة العذبة ، إنقطعت فجأة ، وصرخة رعب حلت محلها ، فقد إصطدمت وبحركة غير مقصودة بشمعدان كانت تقف بجانبه وسقط على الأرض. لحق اللهيب باطراف ثوبها الطويل ، ومع أن كونون قفز نحوها لحمايتها غلا انها كانت أسرع منه ونزلت الدرج راكضة تبتعد عن الشمعدان . تبعها كونون ، وهو يصيح: " الانا... حبيبتي ! لا تركضي في الهواء". حبيبتي ، يا الله ، لقد سمعته ينطق بالكلمة التي تنتظرها ، فإلتفتت بسرعة نحوه ، ولكنها في تلك الحركة داست على طرف ثوبها فتعثرت وإصطدم رأسها بأحد الأعمدة الرخامية ، رات النجوم عالية في السماء ، وكان هذا آخر ما رأت ، حتى إستفاقت لترى جوليا تقف الى جانبها ، فسألت والدهشة في صوتها: " اين انا؟". " في القصر ، كيف تشعرين الان؟". رفعت الانا يدها الى راسها المصاب وتذكرت كل ما حدث لها وقالت : " لماذا انا ها يا جوليا؟". " زوجك هنا ، وسيخبرك بكل شيء". " كونون ، هل هو أيضا هنا ؟ ما الذي حدث؟". ولكن جوليا ذهبت ، والباب أغلق، وكونون إقترب من الفراش شاحب اللون ، مسود الثياب تفوح منها رائحة الحريق. نظرت ألانا اليه ، وإلتقت عيناها بعينيه ، فرأت كونون الذي تعرفه منذ تسع سنوات خلت. " ألانا عزيزتي ، يا حبيبتي....". كان متعبا ، لا يريد أكثر من أن يكون قريبا منها ، جلس على حافة السرير ، وتناول برفق يديها بين يديه، وعانقها بحنان . " كونون ، لماذا نحن هنا؟". " لقد شبّ لحريق في البيت !". " إحترق البيت؟ كيف؟". فاخبرها ما حدث بإختصار ساعة كانت فاقدة الوعي وهو مشغول بإسعافها ، عن لهيب الشموع التي سقطت مع الشمعدان ، إمتد واشعل النار في مقدمة البناء. سكت لحظة يحدّق فيها بشوق ، ثم أضاف: " ولكنني لم أنتبه للنار التي تلتهم المكان ويرتفع لهيبها في العلاء ، فقد كنت مشغولا بك ، خائفا عليك ، ولولا أن دونيس وزوجته كانا راجعين من زيارة احد اصدقائهما ، ورايا اللهيب يرتفع من بين الأشجار ، وجاءا على الفور ، لأصبحت الفيللا جميعها رمادا ، ومن يدري ، كان من الممكن أيضا أن يذهب كلانا طعمة للنار". ونظر اليها بعينين يشع فيهما بريق الحب وهو يتابع: " المهم انت يا ألانا ، كيف أنت الآن ؟ لقد كنت طيلة مدة إغمائك تهذين". " كنت أتكلم ؟ عن أي شيء؟". تطلعت اليه والحب يملأ عينيها ، فإبتسم لها وقد إختفت من وجهه جميع التجاعيد التي حفرتها آلام السنين الماضية ، وقال: " عن كل شيء ، عن زواجك الذي أجبرت عليه". " آه لو انك تركت لي فرصة الكلام من قبل لوفرت علينا كثيرا من المتاعب". " بالله ، كم عانيت يا ألانا". نظر كونون الى وجهها الذي إصطبغ بحمرة الخجل ، وإقترب منها أكثر ورفع يدها الى شفتيه ، ثم أضاف: ألانا ، لماذا لم تحدثيني عن زيارة ماكس؟". " ألم تقل انني حدّثتك عن كل شيء ، وانا مغمى عليّ؟". وضحكا معا ضحكة فرح مليئة بالسعادة ، ثم قال: " وقد عرفت ايضا الحديث الذي دار بينك وبين كاتينا ، وانك عرفت منها سر مأساتي ، حكاية ولدي....". وعند ذكر ولده ، مرت على وجهه سحابة الم وتوقف هنيهة عن الكلام ، ثم تابع: " أريد أن أخبرك شيئا لا زلت تجهلينه ، ألانا ، فدونيس كان صديقا للطبيب الذي كان يعالج ولدي في حالات مرضه ؟، وعرف منه ان ابني كان سيعيش عليلا طول عمره لو بقي على قيد الحياة ، فهو كان يعاني من مرض في دماغه منذ الولادة". " هل أنت متاكد من ذلك؟". " نعم ، لكن الشيء الغريب ، انني كنت أشعر في البدء ان هناك علة ما في الطفل منذ الولادة ، ولكنني لم أستطع تحديد ما هيتها ، ولذا تغاضيت عن الأمر ويبدو ان دونيس كان يعرف ذلك طيلة الوقت ، ولم يخبرني سوى ليلة أمس ، لأن زوجته رجته أن يفعل من أجل سعادتنا أنا وأنت". وتذكرت الانا عند هذا القول ، يوم اخفت جوليا عنها الحديث الذي دار بينها وبين زوجها وشعرت حينذاك أن دونيس منعها من الكلام ، لقد عادت جوليا اليها عندئذ وهي في غاية الإضطراب ، ولكنها لم تبح بأية كلمة، وها هي الان تطلب من زوجها ان يخبر كونون. ولما لم تقل ألانا شيئا ، تنفس عميقا ، ثم قال: " لقد كنت غبيا ، حمّلتك الأحزان كما فعلت ، وقسوت عليك كما قسوت على نفسي ، سامحيني ، قولي انك ستسامحينني". إقترب منها فعانقها برقة فيها كل معاني الحب ، ثم قالت: " لقد سامحتك يا كونون ، إنني احبك". قالت تلك الكلمات بكل بساطة وطيبة ، واضافت: " هذا ما كنت اقوله عندما سقطت تلك الشموع". " اجل ، وقد قلت واعدت كل هذا عندما كنت تهذين". " آه يا عزيزي ! هل تعرف أن ماكس إكتشف خدعتك؟. " حقيقة كانت خدعة ، ولكن كان علي ان أفعل ذلك لتكوني زوجتي ، مع انني كنت أكرهك لأنك رفضت الزواج مني ولكن كرهي ذاك كان أقل بكثير من حبي لك". إقتربت الانا أكثر فأكثر ، والقت براسها المجروح على صدره ، وتمتمت هامسة: " اما الان فالحب فقط". وكانت موافقته المفضلة: " إنه الحب والحب وحده ، الآن وإلى الأبد". تمت

تحميل الرواية مكتوبة