أتى ليبقى


أتى ليبقى
الملخص
مرت سنوات طويلة قبل ان تلتقى تانيا زوجها جايك مرة ثانية كان يبدو انه يتهرب من شئ ما من حياة لا حب فيها او من نفسه ربما ........ وبقى فى بلد بعيدة لا تعرف عنه زوجته الا النزر اليسير تزوجا بسبب امر بدا ضروريا وهاما للغاية فى وقتها وكان زواجهما اسميا فقط نقطة حبر على ورق ولكن ابنهما اصبح الان بحاجة الى اب يقف بجانبه يرشده وياخذ بيده نحو افق المستقبل. وجدت تانيا نفسها مرغمة على الرضوخ ومطالبته بالعودة الى البيت الا انها لم تكن مستعدة للمعاملة العدائية القاسية التى لقيتها منه ولا لوجود تلك السمراء الجذابة شيلا راينز فى الجوار. اصبح اشبه بالغريب كما ان السر الذي تحمله فى قلبها لم يعد يحتمل الصمت . هل ستحاول من اجل الصبى انقاذ زواجها؟وهل عاد زوجها هذه المرة ليبقى؟
1-الزوج الغائب
كانت الطريق الى ديوبى بولد معبدة وعريضة تتلوى بدلال كالافعى المتخمة,وكانت الفسحات القليلة بين الاشجار التى تغطى الجانب الايمن من الطريق تتيح لسائقة السيارة وابنها مشاهدة المناظر الرائعة لجبال اوزارك فى ولاية ميسورى. -هل يمكننا التوقف قليلا فى مركز المراقبة الطبيعى؟ نظرت اليه تانيا لاسيتر باسمة بعد ان كانت غارقة فى احلامها تركز اهتمامها على الطريق الممتدة امامها والمناظر الطبيعية الخلابة. لا يمكن لاحد ان يكون لديه ابن جميل وذكى مثل جون. انه صبى فى السابعة من عمره بهى الطلعة ذو عينين زرقاوين وشعر كستنائى ناعم يغطى جبينه سعيد نشيط ويحب الاستفسار عن كل شئ ,وقالت تانيا لنفسها بسرور بالغ ان ابنها يتحلى بجميع الصفات التى تتمانها كافة الامهات لابنائهن. ومما كان يلفت نظرها دائما ان عينيه التين تشبههما بزرقة سماء الصيف الدافئة لا تشبهان ابدا عينى والده جايك الفولاذينين الباردتين. -هل يمكننا ذلك يا امى؟ -بالطبع ياحبيبي ولكن لفترة قصيرة,فجدتك تنتظرنا على العشاء ولا يجوز ان نتاخر عليها كثيرا. فرح جون بموافقة امه ولم يتمكن من اخفاء سعادته وحماسه الشديدين. ولكنها لاحظت ان امرا يقلقه ويزعجه وقالت لنفسها انه سرعان ما يخبرها بكافة التفاصيل. اقفلت تانيا ابواب السيارة فيما كان ابنها ينتظرها بفارغ الصبر على بعد بضع خطوات سرحت شعرها سريعا باصابع يديها ثم انضمت الى الصبى المتحرك شوقا للوصول الى المكان الجميل المسمى سامى سار الاثنان معا بخطى وئيدة نحو تلك الصخرة الرمادية الضخمة التى تشرف على منطقة شاسعة ,كانا شخصين ملفتين للنظر. الام طويلة القامة جميلة القوام وجذابة تضج انوثة,والصبى وسيم مشبع بالنشاط والعافية ويمثل الرجولة الحقيقية على نطاق ضيق. وفيما جلس جون على تلك الصخرة الضخمة يراقب الوادى والسيارات القليلة التى تمر بسرعة صعدت والداته بضعة امتار واسندت ظهرها الى جذع شجرة باسقة. تاملته طويلا وهو يقف بزهو وعنفوان وكانه خطيب مفتون يلقى كلمة حماسية امام حشد غفير او قائد عسكرى بارز يراقب معركة رابحة ويواجهها انه يشبهها فى امور معينة ففى الظاهر يبدو جون منفتح الشخصية ومرحا يحب التمتع بالحياة واللهو ولكنه مثلها يحب احيانا الابتعاد عن الاخرين والاختلاء بنفسه ليفكر ويحلل, وكانت تشعر فى اوقات معينة انه جدى اكثر مما هو متوقع من طفل فى السابعة من عمره وانه يحلل كثيرا ويمضى فترات اطول مما يلزم مع الراشدين ولكنه لا يتحفظ مع رفاقه فى المدرسة او يجد صعوبة فى كسب الاصدقاء وفى التعامل معهم اذن فلا داع للقلق اوللخوف. شاهدت عصفورين يتناغيين بمرح وسرور شعرت بالم حاد فى جميع انحاء جسمها ورغبت فى وضع ذراعيها حول نفسها لتشد بقوة لتزيل الالم, كل عصفورة مع شريكها , الا هى انها عصفورة فى السادسة والعشرين من عمرها بحاجة الى شريك تحبه وتناغيه. هذه هى ابسط حقائق الحياة,واقدمها...... تذكرت وصولها الى هذه التلال قبل سبع سنوات وهى تحمل طفلا رضيعا على ذراعيها. ازالت والدة زوجها جوليا لاسيتر بنفوذها وخبرتها صورة الطالبة المراهقة وحولتها الى شابة واعية ذات شخصية جذابة وقوية..... وقالت تانيا لنفسها بمرارة انه لم يبقى من ذلك شئ .....سوى نتيجة ايجابية واحدة .....جون انه لها ولا يمكن لاحد ان ياخذه منها.......طالما انها لا تزال متزوجة من جايك. -امى؟ جلست على الارض وجلس جون قربها, رفعت ركبتيها وضمتهما بذراعيها وسالته بهدوء -نعم يا حبيبى؟ -هل حقا لدى والد؟ لم يعكس وجهها اثر الصدمة الناجمة عن مثل هذا السؤال الا لحظة واحدة تسارعت ضربات قلبها لكنها حافظت على رباطة جاشها وقالت: -طبعا لديك والد. حدق بها وكانه يريد اختراق عينيها للوصول الى عقلها وافكارها وسالها -اعنى .......هل هو حى يرزق؟ حاولت تانيا ان تضحك ولكنها لم تتمكن الا من الابتسام عندما اجابته قائلة: -نعم انه حى, انت بنفسك كنت تحضر رسالته كلما اتى ساعى البريد ,ماذا حملك على التفكير بانه ليس حيا؟ -قال لى دانى جيلبرت ان ابى ميت اوموجود فى السجن والا كان عاد الى البيت, هل هو فى السجن يا امى؟ طوقت كتفيه بذراعها وضمته اليها للتخفيف من توتر اعصابه وقالت: -لا يا حبيبى انه ليس فى السجن, انه الان فى مكان ما من افريقيا , انه يعمل مع جدك الا تتذكر ذلك؟ثمة سد كبير او جسر او ما شابه ذلك يتم تشييده هناك وشركة جدك تتولى الاشراف على المشروع, ويعمل والدك جاهدا كى يتاكد بنفسه من ان العمل يسير بدقة وانتظام. ابعد راسه عن كتف امه وتامل بانزعاج وجهها الحزين ثم سالها بتاثر: –ولكن لماذا لا ياتى ابدا الى البيت؟ولماذا لا نذهب نحن لزيارته؟الا يريد رؤيتنا؟ حاولت طمانته ولكنها فشلت فى اعطاء الجواب الشافى ,قالت له بلهجة مبهمة وغير مقنعة -سيعود يوما يا حبيبى , لديه اعمال واشغال كثيرة. -جميع المسؤولين والموظفين لديهم اجازات سنوية لماذا لا ياخذ اجازة كى يحضر لزيارتنا؟ _لقد اتى مرة. لم تتمكن من ابلاغه بان جايك اتى بصورة مفاجاة لتمضية شهر بكامله ولكنه عاد بعد اسبوع واحد لم يعجبه ردها فقال: –كنت صغيرا جدا اخبرتنى جدتى بان عمرى انذاك كان ثلاث سنوات انا لا اتذكره اطلاقا . سالته بتردد عما اذا بحث الامر مع جدته وكانت خافئة من ان يكون رده بالايجاب, فمن شان ذلك ان يضيف نقطة سوداء اخرى الى سجلها لدى ام زوجها . هز جون كتفيه وقال: -لا لم ابحث ذلك معها ولكنى سالتها عن عمرى عندما حصلت على ذلك الفيل العاجى الصغير انت قلت لى ان ابى احضره لى كهدية. تنهدت بارتياح واكدت له تلك المعلومات بهدوء. عاد الصبى الى السؤال: –هل يمكننا زيارته هذا الصيف بعد انتهاء العام الدراسى؟ ارتبكت.......تلعثمت تالمت.....لانها تريد ايجاد رد مناسب لرفض طلبه دون اضافة شئ يزيد من اقتناعه الحالى بان والده لا يريد رؤيته او مقابلته. هزت راسها وقالت له بجدية مصطنعة: -لا يمكننا ذلك لان الوضع السياسى هناك لا يسمح لنا بالقيام بمثل هذه الزيارات. نظر اليها الصبى باسى وبخيبة امل مريرة وقال لها بلهجة الراشدين: –كنت اعلم انك ستقولين لى شيئا مماثلا. بلعت تانيا ريقها بعصبية وقدمت له اقتراحا لا يعجبها. قالت: –يمكننا الليلة ان نكتب له رسالة نستفسر منه بواسطتها عما اذا كان قادرا على زيارتنا لمدة اسبوعين او اكثر خلال الصيف المقبل. ازاح جون شعره البنى الفاتح عن جبينه الصغير وتامل امه بعينين تحملين القليل من الامال والكثير من الخيبة والالام. ثم سالها -وهل تعتقدين انه سياتى؟ كانت تامل فى قرارة نفسها الا يوجه اليها هذا السؤال ولكن تمنياتها الصامتة ان يرفض جايك طلبهما زال واضمحل بمجرد نظرها الى ابنها: -اذا كان الامر ممكنا باى شكل من الاشكال فانا متاكدة من انه سياتى ....وبخاصة اذا كتبت له وطلبت منه ذلك. لم تحاول تانيا ابدا تشجيع المراسلة بين الابن ووالده لانها لم تكن راغبة فى مشاطرة جون الصغير حبه للرجل الذى تحتقره كانت تحفز ابنها على ارسال كلمة شكر الى ابيه فى مناسبات معينة فقط وذلك عندما يستلم منه بريديا هدايا الاعياد هب الصبى واقفا وقال لها بسرور واضح : -هيا بنا لنذهب الى البيت. فيما كانت السيارة منطلقة على الطريق الساحلية التفتت الام الى ابنها وقالت بهدوء: -اريدك ان تعلم يا بنى ان مجرد الكتابة الى ابيك لا يعنى بالضرورة انه سيتمكن من العودة الى الولايات المتحدة. ابتسم الصبى بثقة وقال لها : –اعرف ولكنه سياتى انا متاكد من انه سياتى. ذكرها التصميم القوى فى نبرته بالروابط المتينة بين الاب والابن ومع انها تريد كثيرا تجاهل وجود زوجها الا انها لا تقدر على ذلك من اجل جون وسمعت الصبى يقول بصدد الموضوع ذاته -كنت افكر بانه ربما يتصور اننى لا اهتم به اذا علم بمدى تشوقى لرؤيته فمن المؤكد انه سياتى. -وان لم يتمكن من المجئ هذا الصيف فربما سيفعل ذلك فى الخريف او حتى فى فترة عيد الميلاد لاتعلق يا حبيبى امالا كبيرة على امكانية مجيئه خلال الصيف فلربما عجز عن ذلك -اتمني ان ياتى الان كى يراه دانى جيلبرت ويعرف ان لدى والدا وانه موجود حقا فى افريقيا. ثم نظر اليها بحماس وسالها بلهفة : –هل يمكننا كتابة الرسالة فور الانتهاء من العشاء؟ شعرت بالالم يعصر قلبها ولكنها وعدته بذلك قائلة : –نعم بعد العشاء مباشرة. -وسوف نرسلها بالبريد الجوى كى يتسلمها باسرع وقت ممكن؟ -نعم سوف نرسلها بالبريد الجوى. ظهر الارتياح جليا على وجه الصبى عندما شاهد سيارة فضية اللون متوقفة امام المنزل الكبير المبينى على احدث طراز. وقال : -انه العم باتريك .لم نره هنا منذ زمن بعيد. برقت عيناهالدى رؤيتها السيارة المالوفة. وقالت له مصححة: _ كان هنا منذ اقل من اسبوع . لم يكن باتريك راينز عم الصبى .مع ان جون يدعوه بهذا الاسم منذ اصبح قادرا على الكلام . ولاحظت تانيا ان والد زوجها جاى دى لاستير احال نفسه الى تقاعد جزئى ولم يعد يذهب الى مقر شركته الا مرتين او ثلاث فى الاسبوع . و منذ ذلك الحين باتريك راينز يتولى ادارة الشركة الهندسية بصورة فعلية مع انه لم يعين رسميا رئيسا لها . وكانت تانيا تشعر بان جاى دى لم يتقاعد كلية لانه ينتظر عودة ابنه الوحيد و تسليمه الشركة وادارتها. و تذكرت تانيا ان جاي دي هو من بذل تلك المحاولة الفاشلة لاقناع جايك بالعودة لوطنه. وقد حضر فعلا قبل اربع سنوات لتمضية شهر كامل الا انه لم يبقى سوى اسبوع واحد . وتالمت عندما تذكرت الجو المرعب العدائى الذى خيم عليهما اثناء تلك الايام القليلة ، وكيف انها لم تتمكن من تبادل اى حديث هادى ومهذب معه .... او حتى ان تشعر بالارتياح لوجودها معه فى غرفة واحدة . دخل الصبى و امه المنزل الرائع الجمال دون ابطاء وفيما كاد قلبها يتوقف عن الخفقان بسبب سماعها صوت باتريك القوى فى قاعة الجلوس ، هرع الصبى الى القاعة وهو يلقى التحية بصوت عالى على جديه وعلى صديقه الاسمر الوسيم . ابتسمت تانيا مرحبة بباتريك الذى حياها بمودة وحرارة . مدت يدها بصورة عفوية قائلة: _انى مسرورة بلقائك مرة اخرى ، يا باتريك.قال لى جون ،لدى مشاهدته سيارتك فى الخارج، انه لم يرك هنا منذ اجيال. ظل قابضا على يدها بقوةحينما قال لها بارتياح و زهو بالغين : _اذن احسست بغيابى عن البلدة وكنت تتشوقين لعودتى. ارادت تانيا الانطلاق من تلك النقطة لاجراء حديث هام معه الا ان والدة زوجها تدخلت قائلة : _كنا بدانا نظن انكما اختفيتما.اين ذهبتما انت وجونى؟ كانت جوليا لاسيتر الشخص الوحيد الذى يطلق على الصبى اسم جونى عوضا عن جون. وكانت تانيا تحس بان حماتها تفعل ذلك لمجرد اغاظتها. نظرت الى السيدة الارستقراطية التى تمسك يد حفيدها بقوة والتى تحب معرفة تفاصيل كافة تحركاتها وقالت لها بهدوء: _ذهبنا فى نزهة قصيرة استغرقت اكثر مما كنا نتوقع.هل اصبح العشاء جاهزا؟ وقف جاى دى ذو القامة الطويلة والمنكبين العريضين الذى يشبهه ابنه الى حد بعيد وقال لها: _كنا على وشك التوجه الى قاعة الطعام. _اسمحوا لنا ببضع دقائق لاستبدال ثيابنا قبل ان ننضم اليكم. اخذت يد جون بيدها ووجهت ابتسامة ناعمة نحو الثلاثة الاخرين وبخاصة الى باتريك. ارتدت فستانها وسرحت شعرها خلال فترة قياسية ثم توجهت فورا الى المطبخ وهى تعلم ان جوليا تتوقع حضورها فى اى لحظة . كانت تدرك ان بامكان العائلة استخدام خادمة او طاه او بستانى ولكن منزل جوليا لاسيتر كان قصرها الخاص. فهى التى تقوم بكافة الاعمال او تراقب تنفيذها بدقة واهتمام وقالت تانيا لنفسها ان السيدة لاسيتر تحب الكمال وتعمل جاهدة لتحقيقه. ليس هناك من عمل الا وتقوم به على افضل وجه،مأكولاتها اشهى واطيب مما يتوقعه متذوق الطعام فى افخر المطاعم وافضلها,منزلها نظيف دائما لا يعرف الاوساخ او حتى الغبار ولو فى تلك الامكنة المستعصية او التى لا يراها احد حديقتها جميلة غناء تحظى باهتمام بالغ من سيدة البيت ولا تسمح حتى لزوجها او زوجة ابنها القيام الا ببعض الاعمال الثانوية فيها اما هى نفسها فكانت عنوان الاناقة والاعتناء بالذات لا تترك اى مجال على الاطلاق حتى لناقد محترف............ وكذلك فان ثمة دلائل متعددة على ان جوليا لم تكن زوجة ومدبرة منزل مثالية فحسب, بل كانت ايضا أما تتصرف بهدوء وحكمة مع ابنها, لم تسأله ابدا عن تلك الشابة التى احضرها مرة الى البيت قائلا انها زوجته. لم تعلق على تصرفاتهما او تستفسر عن العلاقة القائمة بينهما, كما انها نفذت دون اعتراض او تردد رغبة ابنها فى تامين غرفتين منفصلتين له ولزوجته. لم تقل شيئا مزعجا لتانيا عندما ذهب ابنها بعد بضعة ايام من احضار زوجته الى البيت او طوال السنوات العديدة التى تلت رحيله ومع ذلك كانت تانيا تشعر بان جوليا لا تتحمل وجودها فى البيت الا بسبب جون......الذى اصبح محور حبها واهتمامها ورعايتها كانت تحس دائما بشئ من المرارة فى صوت جوليا كلما تحدثت اليها لم تشعر ابدا بان تلك السيدة التى تعيش واياها تحت سقف واحد تكن لها اى محبة او صداقة اما والد جايك ،جاى دى لاسيتر فهو مختلف تماما. قالت تانيا مرة بسخرية لاذعة ان بامكان جايك ان يسحر الافعى ولما التقت جاى دى علمت ان زوجها ورث تلك الشخصية الساحرة الجذابة عن والده الا ان الوالد كان اكثر امانة وانفتاحا مع مشاعره واحساسيه عندما اتت الى البيت للمرة الاولى ومعها جون الصغير اعرب جاى دى صراحة عن تشككه بها واعتراضه الشديد على زواج ابنه منها,لم يكن لدى تانيا ادنى شك فى ان جاى دى رجل قوى يعتبر كلامه اوامر عسكرية كما انه رجل اعمال خارق الذكاء وخبير معترف به فى حقله, ولانه صاحب قدرة فائقة على تحليل الشخصيات والصفات فقد لاحظ تحولها من فتاة خرجت لتوها من المدرسة ولا تعرف الكثير عما يدور حولها الى سيدة شابة راقية ذات شخصية قوية وذكية. وبدات معارضته لها تتحول تدريجا الى احترام واعجاب,مد لها قبل خمس سنوات يد صداقة هادئة ومع انه لم يسالها ابدا عن علاقتها مع جايك كانت تشعر بانه يعرف الظروف التى احاطت بزواجها, انه لا يعرف بالطبع الحقيقة كاملة فذلك السر لها وحدها وهى تحافظ عليه حفاظها على ابنها ومع ذلك فذكاء جاى دى وعاطفته الفياضة جعلا اقامتها فى ذلك البيت امرا يمكن تحمله . الا انها كانت على استعداد للعيش فى اى جحيم يمنح ابنها اسما وعائلة ومستقبلا. كانت جوليا جهزت المائدة ووضعت عليها اطباق الصنف الاول عندما وصلت تانيا الى المطبخ اعتذرت منها لوصولها متاخرة الا ان سيدة المنزل لم تعلق على ذلك ودعتها مع الاخرين الى تناول العشاء وفيما كان جون يحاول الجلوس قرب جدته كان جاى دى يمسك كرسى تانيا ويساعدها على الجلوس تادبا واحتراما ابتسمت تانيا للرجل الجالس الى الجانب المقابل من المائدة وشعرت بسرور بالغ عندما وجه اليها ابتسامة مماثلة وقال: _انت تبدين رائعة فى هذا الفستان ,وهذالا يعنى انك لست رائعة عندما ترتدين اى شئ آخر. نظرت الى وجهه الوسيم وتاملت بسرعة ملامحه القوية البارزة, ثم قالت له بصوت دافئ ولهجة مهذبة: _انت كريم النفس الى درجة كبيرة, ولكن الفتاة تحب سماع مثل هذه الكلمات مهما كانت غير صحيحة. تبادلا النظرات الحالمة التى تحمل معها الكثير من المعانى والتى لا يمكن تجاهلها ,كان جاى دى وجوليا يقيمان باستمرار حفلات مختلفة لكبار المسؤولين فى الشركة,واصبح من المتعارف عليه ان تكون تانيا رفيقة باتريك فى هذه المناسبات فزوجها موجود فى افريقيا الى اجل غير مسمى وباتريك مطلق منذ ثلاث سنوات ولا يمكنه العودة الى زوجته لانها تزوجت رجلا اخر حاولت دائما الحد متن مشاعرها واحاسيسها تجاه هذا الرجل الوسيم والجذاب وعلى الرغم من انهما لم يتفوها باى كلمة سرية اثناء المرات القليلة التى التقيا خلالها على انفراد كانت تانيا تعلم ان العلاقة بينهما ليست كاى صداقة تقوم بين شخصين عاديين كان كل منهما يشعر بوجود الشخص الاخر الى درجة كبيرة ولكن اخلاقها ونفسيتها المحافظة لم تسمح لها نسيان خاتم الزواج وقسم الاخلاص والوفاء.......بغض النظر عن تصرفات الرجل الذى عاهدت النفس على حمل خاتمه واسمه سالته بهدوء: _اخبرنى يا باتريك الى اين ذهبت هذه المرة؟لم اعرف انك كنت غائبا عن البلاد. _كانت رحلة مفاجئة الى اسكتلندة ثم توجهت الى غرب افريقيا. احس جاى دى بالانقباض الطفيف الذى شعرت به تانيا فتدخل قائلا: _من القوانين المتبعة فى البيت يا باتريك ان جوليا لا تسمح للجالسين الى مائدة الطعام بالتحدث عن امور العمل. ثم ابتسم لزوجته وقال لها بمرح محاولا تحويل الاهتمام الى موضوع اخر: _لا يمكن لاى انسان ان يحول انتباهه الى امور اخرى وهو يتناول هذا الحساء الشهى للغاية, انه حقا رائع .....كالعادة الا ان جون اعاد المسالة الى نقطة الصفر عندما سال بحماس واضح: _هل قلت انك ذهبت الى افريقيا يا عمى باتريك؟ تدخلت تانيا بسرعة وقالت لابنها: _جون الم تسمع ما قاله جدك؟انتظر حتى ننتهى من تناول الطعام. _حسنا يا امى. شعرت تانيا بان اهتمام ابنها بابيه سوف يتفجر بسرعة،وبمجرد اخلاء الطاولة من صحون الحلوى لم تكن على استعداد ابدا للاعتراف امام بقية الافراد العائلة بعزمها على توجيه رسالة الى جايك لحثه على العودة نظرت الى جوليا فلاحظت انزعاجا طفيفا, تصورت انه ناجم عن تحدثها بقسوة لا مبرر لها مع ابنها الصغير الذى لم يكن يريد الا ان يسال عن والده اعترفت لنفسها بان هذه هى الحقيقة ولكنها لم ترد ان يفسد لها ذكر اسم جايك حفلة العشاء الهادئة عاد جاى دى الى التحدث باسلوبه الذكى: _ قبل وصولكما انت وجون هذه الليلة كنا نبحث احتمالات اقامة حفلة عشاء صغيرة بمناسبة عيد زواجنا الخامس والثلاثين. قالت تانيا له موافقة: _اعتقد انها فكرة ممتازة. _انى مسرور لسماع ذلك.ظنت جوليا ان اقامت حفلة فى منزلنا بمناسبة عيد زواجنا فكرة سيئة مع انها عادة تسعى بكل جهدها لاقامة الحفلات. ابتسمت تانيا ووجهت كلامها الى والدة زوجها قائلة: _اذا سمح لنا الطقس يا جوليا فان بامكننا اقامتها فى الحديقة حيث تكون جميع ازهار الربيع فى ابهى حلة واجملها.اتصور ان ذلك سيكون افضل بكثير من اقامتها داخل البيت. _وسوف تعدين لنا ذلك النوع من السمك الذى يحبه زوجك كثيرا. هيمنت موضوعات الضيوف واطباق الطعام وكيفية تجهيز الحفلة على احاديث الراشدين الاربعة. وفيما كانت جوليا تقدم القهوة رن جرس الهاتف فى غرفة الجلوس.ولما علمت جوليا من المتحدث انه يريد التكلم مع جاى دى ابلغته بذلك وطلبت اليه احضار فنجانى القهوة معه. ولان جون الصغير ذهب قبل ذلك الى غرفته ظل باتريك وتانيا وحدهما...على انفراد. سالته بشئ من العصبية: _قل لى يا باتريك هل التقيت جايك عندما كنت فى افريقيا؟ نظر اليها بسرعة وكانه يحاول تجنب نظارتها الحادة وقال: _نعم ,نعم,التقيته هناك. _كيف يسير ذلك المشروع الذى يعمل فيه؟ كانت تعرف تماما انها تغشه بهذا السؤال وذلك كى تعلم منه فرص قبول جايك الدعوة التى ستوجهها اليه للعودة الى البيت. سالها باتريك ببرودة: _اى منهما؟الذى بدا ينهيه ام الذى اخذه قبل فترة وجيزة؟ احست بارتياح عظيم وتنهدت بقوة دون ان تدرى.ثم قالت : _لم اعلم انه يعمل على مشروعين مختلفين.من المؤكد اذن انه منهمك جدا فى العمل. _لونى دانفرز مساعد قدير جدا ولكنه لا يزال يتحتم على جايك التنقل دائما بين مراكز المشروعين.هذا فى الوقت الحاضر على الاقل. سرت تانيا كثيرا بعودة جوليا لانها انقذتها من الاضرار لشرح الاسباب التى تحدوها لتوجيه مثل هذه الاسئلة. وكان واضحا ان باتريك على وشك الاستفسار عن سبب اهتمامها المفاجئ. دخل جاى دى بعد لحظات من عودت زوجته ثم ابتسم باعتذار لتانيا وغرق فى حديث هام مع باتريك حول شؤون العمل. وفيما بدت جوليا منهمكة فى ترتيب بعض الامور راحت تانيا تراقب باهتمام الرجل الذى تعرفه منذ بضع سنوات...وبخاصة لان عودة جايك الى الولايات المتحدة بدت الان غير قريبة اطلاقا. لاحظت تانيا خلال سنوات اقامتها مع جاى دى وجوليا ان عددا كبيرا من الاشخاص يحاولون استغلال ثروتهما ونفوذهما. الا ان احد الامور الاولى التى اعجبتها فى باتريك راينز كان رفضه المرواغة مع جاى دى او توجيه كلمات الاطراء الفارغة له. كان سيد نفسه ولم يتردد مرة فى الاعراب عن وجهة نظر مناقضة لافكار رئيسه.... والاصرار عليها. ولكنه لم يكن مستقلا تماما بحيث انه يطلب نصيحة الكهل المحنك والاستفادة من خبرته ... اذا شعر باى ضرورة لذلك. ولاحظت تانيا ايضا ان ما يجذبها فى ذلك الرجل الوسيم لم يكن مجرد الذكاء الحاد والجاذبية الساحرة. وفجاة احست بيد صغيرة تلمس كتفها وبصوت ناعم يقول لها: _هل يمكننا الذهاب لاعدادها الان ياامى؟ سالته بصوت مرتفع قليلا لفت انتباه الرجلين: _نذهب ونعد ماذا يا حبيبى؟ _اريد ان اكتب رسالة الى ابى اطلب فيها منه الحضور الى البيت بمجرد حصوله على اجازة. تاملت تانيا زهوه واعتزازه فيما احمرت وجنتايها خجلا عندما شعرت بان عيون الاخرين مركزة عليها. لم يكن باتريك يعرف شيئا عن العداء المستحكم بينها وبين زوجها الا افتراضا. اما الوالدان فكانا يعرفان الحقيقة وانتظرا بالتالى رد فعلها على جملة ابنها. تدخلت جوليا بحزم قائلة : _اعتقد انها فكرة ممتازة يا جونى. كانت لهجتها مليئة بالتحدى لتانيا فكيف يمكنها بعد هذا الكلام الا ان توافق. ابتسمت تانيا وقالت بهدوء بالغ: _وانا ايضا يا جوليا والا لما كنت اقترحت ذلك على جون. لم تكن راغبة فى متابعة النقاش او الرد على اى اسئلة قد تكون محرجة. وقفت وامسكت بيد ابنها ثم خرجت واياه بهدوء من قاعة الجلوس. ولما وصلا الى القاعة الصغيرة المحاذية لغرفة نومها سالها جون بتردد: _تردين كتابة الرسالة اليس كذلك؟ ابتسمت له وهى تحاول اخفاء امتعاضها. ولكن لماذا القلق؟الم تفهم من باتريك ان ثمة احتمالا ضئيلا فى امكانية حضور جايك او قدرته على ذلك؟ _نعم يا حبيبى سنكتبها معا. بحث جون فى جيب قميصه واخرج صورة فوتوغرافية قائلا: _يمكننا ايضا ارسال هذه الصورة اليه.اخذها لى جدى عندما حصلت على دراجتى الجديدة.اريد ان يعرف ابى كيف ابدو هذه الايام. لم يكن جون وحده فى تلك الصورة بل كانت هى معه ايضا. كان شعرها الذهبى يتطاير فى الهواء وتبدو كاحدى ارقى سيدات المجتمع. لم تكن راغبة فى ارسال تلك الصورة مع مافى ذلك من غرابة . قالت له بهدوء ورقة: _توجد مع والدك صورة لك اخذت فى المدرسة. _ولكنى لا اشبه نفسى فيها وكنت فلقدا احد اسنانى .ارجوك الا يمكننا ارسال هذه الصورة الحديثة؟ كانت عيناه الزرقاوان الجميلتان تنظران اليها بتوسل واستجداء.واحست انها لا يمكن ان ترفض طلبه...مهما كان. واعترفت لنفسها بان جون اصبح فى سن يحتاج معها الى وجود رجل يساعده ويرشده...هذه هى مسؤولية والده قبل كل شئ. كانت تشعر بالذنب لانها حرمت ابنها من ابيه. ولكن ذلك الشعور زال من تفكيرها بعد ساعة من الزمن عندما كانا ينهيان رسالتيهما الى جايك. كانت رسالته مناشدة قلبية مهذبة لابيه للحضور الى البيت خلال الصيف. اما رسالتها هى فكانت بسيطة وخالية من اى مشاعر وعواطف. ذكرت له فيها ان جون بدا يشكك بجدية بان له والدا مضيفة بانه ربما كان من الافضل حضوره لبضعة اسابيع اذا سمحت له اعماله بذلك. وفيما كانت تلصق الطوابع البريدية المطلوبة احست بوخز الضمير.انها تحتقر جايك لاسيتر بما قام به فى الماضى. ولكنها من اجل جون مستعدة لتحمل وجوده بضعة اسابيع..هذا اذا اتى. وكانت تشعر بصورة شبه مؤكدة انه....لن ياتى
*******نهاية الفصل الاول******
2-حفلة المفاجات
نظر اليها ابنها باعجاب،فيما كانت تضع له جهاز التليفزيون النقال فوق مكتب صغير في غرفة نومه، وقال: -انك جميلة وانيقة ، يا امى . -هل يعجبك الفستان؟ اشتريته خصيصا لحضور حفلة الليلة بمناسبة عيد زواج جديك. تنهد الصبى وقال: -انه رائع. اوه ،كم اتمنى حضور هذه الحفلة! - وتصور البرامج التليفزيونية التى لن تراها. اعتقد ان الفيلم الليلة هو عن رعاة البقر. -حقا؟ قالها بحماسة ظاهرة لانه يحب هذا النوع من الافلام السينمائية، فى حين ان معظم البرامج الاخرى تضجره وتزعجه. ابتسمت له والداته وقالت: -اعتقد ان بعض الضيوف وصلوا بالفعل . سوف تكون على ما يرام ، اليس كذلك؟ -بالتاكيد. -اطفأ الانوار فى تمام العاشرة ساعود لاتاكد من ذلك. -حسنا يا امى .فى العاشرة وخمس دقائق ساكون غارق فى نوم عميق . كان جون يعتبر انه لم يعد بحاجة لمن يضعه فى السرير ويساعده على النوم ، مع ان ايا منهما لم يكن حقا راغبا فى التخلى عن تلك العادة الرقيقة. كانت الغرفة التى تستخدمها تانيا وجون موجودة فى جناح منفصل خصص اصلا لاستقبال الضيوف. وكان ذلك الجناح كشقة مكتملة لا ينقصها شئ سوى المطبخ ،الامر الذى يمنحها حرية التصرف والتنقل دون ازعاج من الاخرين . وكان البيت ذاته ,المبنى من الحجارة والاخشاب على طراز بيوت المزارع الاميركية الكبيرة ,يقع على قطعة من الارض تمتد كاصبح في بحيرة تايل روك. وكان امامه حوض خاص به ومبنى ليخت العائلة. لم تكن هناك بيوت قريبة , لان جان دى ابتاع قطع الارض المجاورة ليضمن لنفسه وعائلته الابتعاد عن الضجيج وازعاج الجيران . وكانت اى دعوة لحضور حفلة هناك تعامل باهتمام بالغ وتلبى دون تردد. ولذا كان المنزل وحديقته يعجان بالضيوف تلك الامسية . دق جرس الباب فقالت تانيا لجوليا القادمة من المطبخ انها ستفتح وتستقبل القادمين. دخل باتريك راينز ومعه فتاة جميلة ذات شعر اسود داكن تزنر اصابعها بثلاثة خواتم جميلة. مدت تانيا يدها لمصافحة شقيقة باتريك قائلة : -شيلا انا مسورة جدا لتمكنك من الحضور . فستانك رائع للغاية. نظرت اليها شيلا مقيمة شكلها , وفى عينيها شئ من الحسد ونظرة اخرى لم تفهمها تانيا , وقالت لها : - انه فستان تعيس جدا بالمقارنة بفستانك انت , يا تانيا . كانت شيلا اصغر منها باربع سنوات , الا ان تانيا لم تشعر ابدا انها مقبولة لدى اخت باتريك . واحست بانه ربما كان عليها الليلة ان تستقبلها ببرودة وكبرياء , لان نظرات الفتاة الاخرى كانت اشد قساوة مما فى السابق . وفيما لاحظت تانيا ان باتريك يراقب باهتمام و اعجاب فستانها الجميل وفتحة العنق الكبيرة الى حد ,سمعته يسالها : -اننا لم نتاخر كثيرا, اليس كذلك؟ -لا , ابدا . الاخرون موجودون فى الحديقة . خرج الثلاثة معا من الباب الخارجى فاعتذر جاى دى من الشخصين اللذين كان يتحدث معهما واتى للترحيب بالقادمين الجدد. حضرت زوجته بعد دقائق قليلة و معها طبق جديد من المقبلات الشهية التى اعدتها بنفسها . وامضت تانيا الدقائق الثلاثين التالية منهمكة فى فتح الباب الرئيسى واستقبال الضيوف, بالاضافة الى مساعدة والدة زوجها اعداد الطاولة الكبيرة واستبدال الصحون باخرى ممتلئة... عندما اقترب منها باتريك وطالبها بالجلوس معه على احدى المقاعد الخشبية المنتشرة فى ارجاء الحديقة . وضع ذراعه على الوسادة الخلفية للمقعد, وبشكل قريب جدا من كتفيها . احست بشئ من الانزعاج الا انها حافظت على رباطة جأشها ولم يظهر على وجهها ما يدل على حقيقة شعورها . - لااعرف لماذا لا يستخدم الرجل العجوز اشخاصا متخصصين باعداد الحفلات وخدمة الضيوف . الا يوفرذلك عليكما انت وجوليا الكثير من التعب والارهاق؟ تنهدت تانيا وقالت له: -ولكن الفضل فى نجاح الحفلة لن يعود عندئذ لجوليا . هذا كلام قاسى ولكنه صحيح. فحتى لو احضر جاى دى فريقا متخصصا , فانها ستصر على مراقبة كل خطوة بنفسها . هذه هى طبيعتها . - وما هى طبيعتك انت؟ -طبيعتى انا ؟ توقفت لحظة وتطلعت نحو الاشخاص الاربعين الذين كانوا يسرحون ويمرحون فى الحديقة , ثم اضافت بهدوء: -كنت على الارجح سادعو ربع هذا العدد واشوى لهم شرائح اللحم على الفحم . ابتسم باتريك وقال: -انتظر منك دعوة الى حفلتك القادمة . انها ستكون بالتاكيد رائعة ودافئة . -سافعل ذلك. لم تعد تتحمل النظر الى عينيه و فمه فادرات وجهها عنه وقالت: -انها امسية جميلة للغاية , اليس كذلك؟ -جدا , واختيار هذه المقطوعات الموسيقية موفق الى حد بعيد ويدل على ذوق رفيع. استمتعت تانيا بانتباه الى المقطوعة الهادئة الحالمة , وتمنت من صميم قلبها ان يضمها رجل الى صدره ...... ولو لفترة قصيرة. وكأن باتريك احس بما يدور فى راسها فسالها بنعومة ورقة: -كم من الحواجب تظنين سترتفع استغرابا ودهشة اذا رقصنا فى تلك الزاوية قرب مكبرات الصوت؟ -ربما جميعها. امسك بيدها وقال لها وهو يهب واقفا : -لنجازف. تصورت تانيا انهما يرقصان وراء جدار سحرى يصد نظرات الاخرين عنهما . اذا ان احدا لم يتطلع نحوهما , باستثناء شيلا . وتساءلت عن اخر مرة كانت فيها بين ذراعى رجل , فلم تجد الجواب . لم تعترض على ضمها اليه بقوة , لا بل انها ارادت القاء راسها على صدره . ولكنها امتنعت عن ذلك , مع انها سمحت ليدها بالوصول الى ما بين كتفيه. -تانيا! ايقظها صوته الناعم من احلام اليقظة فرفعت راسها ونظرت الى وجهه البرونزى الجميل . كانت قريبة منه الى درجة خطرة وكان وجهها يشع ببريق السرور و الارتياح . -انك رائعة الجمال . احست بان قلبها يغوص فى مكانه . وشعرت فى لحظة الضعف تلك انها تريد نسيان عهد الوفاء والاخلاص الذى قطعته على نفسها قبل عدة سنوات عدة . ولكن اللحظة مرت بسرعة . رفعت اصبعها التى فمه وقالت له: -باتريك , لا تقل شيئا . امسك باصبعها وقبله بحنان , ثم قال لها وهو يتامل عينيها الحالمتين : -لم اقل شيئا منذ اكثر من سنة . ولكن ... هل من الضرورى ان اقول شيئا ؟ انا وانتى شخصان راشدان وليس علينا ان نلعب او نناور . كيف يمكنها ان تجادله بطريقة مقنعة ؟ من الموكد انه سيذكرها بان زواجها ليس الا كلمات قليلة سجلت فى كتاب......... -يجب الا نقول شيئا , ارجوك . لن تتمكن من اقناعى باى امر . نظر اليها بحنان وقال بلهجة اقرب الى المناشدة منها الى الدعوة: -تناولى معى العشاء فى الاسبوع المقبل . سالقاك فى اى مكان تختارين. هزت راسها نفيا واكدت له بلهجة ضعيفة مرتبكة : -لا ....لا يمكننى ذلك . خيم الصمت بعض لحظات قاسية ثم سالها بذهول حزين : _هل كنت مخطئا فى تقديرى للامور ؟ الا اعجبك؟ انتهت المقطوعة الموسيقية فى تلك الاونة, فسحبت تانيا نفسها من بين ذراعيه اللتين لم تقاوما خطواتها . واحست بانه كان عليها الانضمام الى بقية المدعوين . ولكن الغباء على ما يبدو منعها من وضع حد لذلك الحديث الذى لا يجدى . - وهل يعقل الا تعجب اى امراة ؟ انك رجل وسيم وقوى و عازب ...صفات لو اجتمعت فى رجل واحد , لوجدت اى امراة صعوبة فائقة فى مقاومتها . انى اجدك جذابا للغاية يا باتريك. ولهذا السبب بالذات , ارفض الاجتماع بك خارج محيط هذا المنزل. سالها بلهجة غاضبة قليلا : -ما هى هذه السيطرة المجنونة التى يقيدك بها جايك لاستير ؟ لماذا تخافين من رجل لم تشاهديه سوى اربعة ايام من اصل سبع سنوات ؟ كانا لا يزالان واقفين فى تلك الزاوية الصغيرة , بعيدا عن بقية الضيوف . قالت تانيا لنفسها انها غير قادرة على الافصاح السبب الحقيقى لزواجها الفاشل, حتى لباتريك الذى اصبحت تحبه الى حد . تنهدت وقالت له بحزم وقوة : -ليس لجايك اى سيطرة على . انا اقرر مجرى حياتى بنفسي . - وليس لى الحق بالتدخل فى شؤونك , حتى ولو كنت راغبا فى جعلها شؤونى انا ايضا ؟ تسمرت تانيا فى مكانها و شعرت بانها وحدها وليس هناك من تستند اليه . ولكن باتريك رجل قوى جدا , قوى الى درجة كبيرة. فلماذا لا تستند اليه ؟ اطبقت شفتيها بقوة كيلا تصدر عنهما كلمات الاستسلام والضعف. اقترب منها و هو يقول لها بصوت دافئ ولهجة منطقية مقنعة: -جون بحاجة الى والد حقيقى ,وليس الى اسم ... كما هى الحال مع جايك. ردت عليه بصوت مرتجف يشوبه القلق وعدم الثقة : -انت لست منصفا فى كلامك هذا يا باتريك . -كل الانصاف , يا تانيا. -اعذرنى , يجب ان اذهب الى غرفة جون لاتاكد من ذهابه الى النوم. تركته بسرعة لانها خافت من الاستسلام لذلك الاغراء القوى الذى كان مسلطا فوق راسها . وما ان وصلت الى الباب الزجاجى حتى اعترضتها جوليا قائلة: -اننا بحاجة الى المزيد من قطع الثلج,فهل يمكنك احضارها لنا؟ -انا ساحضرها , لان تانيا ذاهبة الان الى غرفة جون . استغربت تانيا لانه لم يكن الا على بعد خطوتين ورائها . شكرته جوليا باسمة ثم قالت لزوجة ابنها : -قبلى جونى عنى واخبريه انى اتمنى له ليلة سعيدة وهانئة . -سافعل ذلك يا جوليا . مضت جوليا فى سبيلها , فالتفتت تانيا الى باتريك وقالت له : -توجد اكياس جاهزة فى الثلاجة . اظن ان اربعة منها تكون كافية فى الوقت الحاضر . استدارت نحو غرفة الصبى ولكن باتريك امسك بذراعها وجذبها الى احدى الزوايا حيث ضمها بقوة الى صدره . تحركت شفتاها اعتراضا واحتجاجا. ولكن دون جدوى. حبست انفاسها ولم تقل شيئا عندما سمعته يتنهد بسرور وارتياح . امسك راسها بيديه القويتين ورفع وجهها نحوه ثم قال متمتما : -من الموكد ان جايك فقد عقله كى يترك امرأة جذابة ورائعة مثلك بعيدة عنه . -نعم انا مجنون لانى فعلت ذلك ! شهقت تانيا مذعورة وسلخت نفسها بسرعة من بين ذراعى باتريك. عرفت على الفور ذلك الصوت المتغطرس المهين , الا انها ظلت تحدق مذهولة بصاحبه وهى لا تصدق عينيها او اذنيها وسمعت باتريك يقول : -انت تركتها منذ وقت طويل يا لاستير . انها لم تعد لك. لم يعلق جايك على هذه الكلمات بشئ, و لكنه ابتعد عن العامود الذى كان يستند اليه ووقف فى مكان اكثر انارة . كانت تانيا تراقبه وهى تشعر بخوف يسد حلقها , ولكنها لا تعرف تفسيره او وصفه . بدا لها اطول واضخم مما كانت تتصوره وتتذكره . نظر اليها بعنين فولاذتين باردتين وقال لها بلهجة الامر : -تعالى الى هنا يا تانيا. اذهلها ظهوره المفاجى لدرجة انها لم تعد قادرة على التفكير او التصرف . اقتربت منه بخطوات بطيئة , ثم توقفت وراحت تتامل وجهه والتغييرات التى طرات عليه طوال السنوات الاربع التى لم تره فيها . كان الوجه ارق واكثر نحولا , ولكن الملامح اقسى . حلت تجارب الحياة المرهقة محل النعومة والنضارة , الا انه لايزال وسيما وجذابا للغاية . ورجولته طاغية على كل شئ اخر. كان يتاملها ويتفحص وجهها وملامحها بدقة مماثلة . لم يرفع نظره عنها عندما قال لباتريك بسخرية لاذعة : -يمكنك الذهاب الان يا راينز. اخرجها صوت اقفال الباب الزجاجى من صدمتها فقالت له باشمئزاز: -لم يتغير شئ على الاطلاق . امسك بكتفيها بقوة وتمتم بقسوة , فيما يغرز اصابعه فى جسمها : -ايتها المرأة اللعينة! كنت اتوقع من زوجتى استقبالا افضل بكثير من هذا الاستقبال البارد ! ضمها ايه بعنف ثم امسك بيديها اللتين كانتا على وشك الانقضاض على عينيه . وضع ذراعيها وراء ظهرها ولم تتمكن من المقاومة على الرغم من محاولتها اليائسة . كان يتلذذ بايذائها وايلامها . ثم تركها فجاة وفى عينيه نظرة ارتياح وسعادة لانه انتصر عليها بمثل هذه السهولة والبساطة . ضحك بصوت عال عندما راى نظرات الحقد الملتهبة فى عينيها وسالها ساخرا : -ما بك ؟ الم اكن ناعما مثله؟ بصقت فى وجهه وصفعته على خده بقوة صارخة: -حيوان متوحش! قبض على يدها الجانبية بعصبية وعنف . وضغط على اصابعها بوحشية حتى كاد يطحنها , فيما امسكت يده الاخرى بشعرها واحنى راسها امامه قائلا: -كنت اعرف ان هذا الرقى الذى تتظاهرين به ما هو الا حجاب شفاف تخفين نفسيتك الحقيقة وراءه . انك لاتزالين تلك القطة المتوحشة ذاتها التى احضرتها الى هذا البيت قبل سبع سنوات . صرخت به والالم يكاد يفقدها وعيها: -دعنى !اتركنى! -اتركها يا بنى . سمعت تانيا صوت جاى دى الناعم المنقذ ياتى من جهة الشرفة . ولكن الانقاذ لم يات سريعا لان جايك قال لوالده بغطرسة ساخرة: _بعد قليل , يا ابى . اريد التاكد من ان زوجتى تعرف قيمة وجودى فى البيت. خفف قليلا من ضغط اصابعه وراسها فادركت انها سوف تتحرر خلال لحظات من معاملته اللانسانية. وما ان اعدت نفسها للافلات من قبضته حتى عاد يشدها اليه بعنف وشدة . لم تستجب له ولكنها لم تقاوم . اشتعلت نار الرغبة فى داخلها ... انها تريده! ولكنه انسان لايطاق ... انه ليس انسانا! ابعد وجهها قليلا ثم وضع اصبعا على انفها وقال مداعبا بخبث مما اثار غضبها: -هكذا يتم استقبال الرجل العائد الى بيته , يا حبيبتى . لم تتمكن من الرد عليه , لانه مشي نحو والده وهو يقول : -انى مسرور بعودتى يا ابى. تاملت تانيا العناق الحار بين الابن وابيه , فيما كان جسمها يرتجف حنقا وغضبا . -لا يمكنك , يا بنى, تصور مدى سعادتى برويتك . تاخرت كثيرا بالعودة يا جايك. -كان هذا الموضوع يقض مضجعى كثيرا خلال اليومين الماضيين . وتاكدت لى هذه الليلة , اكثر من اى وقت مضى , ضرورة العودة. رفضت الرد على اشارته المولمة لما شاهده قبل لحظات, عندما كانت مع باتريك. ومما زاد من حدة غضبها الصامت انها لاحظت من طريقة معاملته لها ان جايك لم يكن يعيش كناسك متعبد بعيد عن النساء . -ستكون الوالدة سعيدة جدا برويتك. ثم هز جاىدى راسه مرة اخرى وكانه لم يصدق بعد عودة ابنه , وقال بصوت غالب عليه التاثير : -اللعنة على هذه الحفلة !كم اتمنى لو ان باستطاعتى ارسال جميع الضيوف الى بيوتهم. ابتسم جايك وقال لوالده: -وكنت اظن انك ستنحر الخراف ترحيبا بعودتى . -طبعا كنت سافعل ذلك. هل كنت تعرفين , يا تانيا ؟هل هذه هى هدية عيد زواجنا؟ كان يبدو سعيدا للغاية , ولكنه كان يتاملها بتفحص للتاكد من انها لم تصب باى اذى نتيجة تصرف ابنه القاسي. وجهت اليه ابتسامة خفيفة ولكن صادقة ومخلصة فى حرارتها , ثم قالت : -كانت مفاجاة لى بقدر ما كانت لك. -هذا صحيح يا ابى وربما كانت مفاجاتها اكبر واشد . شاهدت تانيا القسوة الفولاذية تشع فى عينيه,فنظرت اليه بتحد شجاع. تمنت غاضبة لو بامكانها ايجاد وسيلة لانهاء هذه التعليقات المزدوجة المعنى , دون النزول الى مستوى الرد عليها بالمثل, احس جاى دى بتوتر الجو بينهما فاقترب ووضع ذراعه بحنان على كتفيها قائلا لابنه: -زوجتك جوهرة حقيقة ياجايك وذلك الصبي ابنك ... اوه انه رائع... ويجعلنا نشعر انا ووالداتك اننا فى عمر الشباب . فتح الباب الزجاجى فجاة فتحولت العيون الى السيدة القادمة من الحديقة . ابتسم جايك وقال بهدوء: -مرحبا يا امى. فركت جوليا لاسيتر عينيها ظنا منها فى حلم,ثم تقدمت نحوه بتمهل وهى تردد: -جايك!جايك!جايك! -ها قد عدت يا امى. عيد سعيد. طوقت الوالدة السعيدة الباكية بذراعيه,ووجه اليها ابتسامة ناعمة وساحرة قائلا: -كفى بكاء يا امى.لا اريد ان تشوه الدموع وجه اجمل ام فى الدنيا. ابتسمت الام بحنان وقالت: -انى سعيدة للغاية.متى عدت؟هل كنت تعلم بعودته يا جاى دى؟ -لا يا عزيزتى,لم تكن لدى اى فكرة على الاطلاق. طبع جايك قبلة طويلة على خد والدته المبلل بالدموع وقال: -لم ابلغ احدا بعودتى,مخافة حدوث شئ يمنع ذلك. نظرت جوليا بسرعة الى تانيا وكانها تتساءل عما اذا كانت الزوجة الشابة سوف تحمله على الذهاب مرة اخرى. وسالته بهدوء حذر: -ستبقى طويلا هذه المرة,اليس كذلك؟ -لا اعرف بالتاكيد. -اوه ,جايك,ارجوك يجب ان... وضع جاى دى ذراعه على كتف زوجته وقال لها: -اهدى قليلا ايتها العزيزة .لنترك بحث هذه الامور الى وقت لاحق,ونكتفى الان بالشكر والامتنان لانه تمكن من المجئ. بدا لتانيا ان افراد عائلة لاسيتر الثلاثة يشكلون دائرة تقع هى خارج محيطها.كانت تعرف دائما انها لا تنتمى الى هذه العائلة الا بالاسم,وان افراد العائلة لا يتحملون وجودها الا بسبب جون. وقالت لنفسها انها لا تريد منهم اكثر من ذلك... هيمنت جوليا على الحديث ,فانسحبت تانيا بهدوء متعللة بالذهاب الى غرفة جون للاطمئنان الى نومه. توجهت الى غرفتها على الفور.وما ان دخلتها حتى اغلقت الباب ورائها,واستسلمت لعزلتها ووحدتها .واعترفت لنفسها بان وصول جايك غير المتوقع ادى الى توتر اعصابها بصورة ملحوظة. نظرت الى المرآة الموجودة على الحائط ,فتصورت ان ذلك الوجه يسخر منها ومن مشاعرها. فقبل اسبوعين فقط ,كانت تجلس على صخرة قرب قمة جبل ديوبى بولد وتعترف بحاجتها المتزايدة لرجل يحبها ويهتم بها. وسخرت تانيا باستهزاء ومرارة من وضعها الحالى. فبعد سبع سنوات من الجفاف العاطفى لم تعرف خلالها معنى المداعبة او الغزل,عانقها رجلان مختلفان ثلاث مرات فى ليلة واحدة خلال اقل من نصف ساعة. وشعرت بالم حاد فى داخلها. لماذا تتذكر بوضوح مداعبة جايك الاستفزازية, فى حين انها لا تكاد تتذكر مداعبة باتريك الرقيقة الناعمة؟شعرت بالخجل واحتقار الذات. اضعفتها رغبات جسمها الى درجة جعلتها تتجاهل العقل والمنطق,وتثيرها معانقة محمومة من رجل تحتقره وتشمئز منه. كانت تعتقد دائما انها تمارس سيطرة كاملة على احساسيها ومشاعرها. الم تفعل ذلك طوال سبع سنوات؟ تعرضت بالطبع لظروف معينة. آلمها قبل لحظات قليلة القصاص المهين الذى لحق بها نتيجة مغازلته الاولى ,هذا اذا كان بالامكان وصفها بذلك. كما انها صدمت بعودته المفاجئة وبمشاهدتهما حدث لها بين ذراعى باتريك. واضاف هجومه القاسى عليها سلاحا جديدا ساعد على تحطيم الحاجز الدفاعى الذى كانت تقيمه... اقنعت تانيا نفسها بانها اصبحت الان قادرة على معالجة الامور بهدوء وروية فجايك لاسيتر رجل لا يمكن تجاهل خطره. وهو الان اخطر من السابق لانه اصبح على ما يبدو لا يعرف الرحمة او الشفقة. اقنعتها اعماله بانه سياخذ ما يريد, وبان السنوات الطوال التى امضاها فى مناطق بدائية افقدته تلك القشرة الرقيقة من المدنية التى كان يتخفى وراءها. ساعدتها اللحظات القليلة التى امضتها فى التفكير والتحليل على التخفيف من حدة غضبها. حملت فرشاة الشعر بيد قوية لا ترتجف وسرحت شعرها بهدوء بالغ,قبل ان تدخل غرفة ابنها عبر الحمام المشترك الذى يقع بين الغرفتين. كان الصبى يغط فى نوم عميق, فوقفت تتامله بمحبة وحنان. وبعد بضع دقائق, طبعت قبلة خفيفة على جبينه الناعم وهمست: -تصبح على خير يا حبيبى. عادت تانيا الى غرفتها بهدوء وحذر مماثلين ,خوفا من ايقاظ الصبى. وما ان دخلت واغلقت الباب وراءها, حتى تسمرت فى مكانها وحدقت مذهولة بذلك الرجل الطويل القامة المتمددعلى سريرها. كان جايك يضع راسه على يديه وينظر اليها ببرودة ساخرة .وكان يبدو جذابا للغاية فوق الغطاء الازرق الناعم. اثارتها جاذبيته الساحرة ورجولته الصارخة, ولكنها آثرت التصرف بحكمة وروية. -ألن تامرينى بمغادرة سريرك؟ خنقت تانيا الكلمات الغاضبة التى كانت على وشك اطلاقها. وهزت كتفيها كانها غير مكترثة بوجوده وقالت له بهدوء, فيما كانت تسير نحو المرآة لتسريح شعرها: -ولماذا افعل ذلك؟ جلس جايك على حافة السرير, واصبح بالتالى قادرا على مشاهدة صورتها فى المرآة. ثم قال لها: -لم تتوقعى عودتى ,اليس كذلك؟ نظرت اليه بتحد وقالت له بسخرية مماثلة: -لا ,لم اتوقع عودتك. -لا ادرى السبب الحقيقى لذلك. لقد شعرت بفرح عظيم عندما استلمت رسالتك. اغضبها خبثه المزعج ولكنها حافظت على رباطة جاشها وقالت: -يظن من يسمعك تقول هذا الكلام انك لم تستلم اى رسالة منى.كنت ابعث برسالة كل اسبوع ,وهذا افضل بكثير مما كنت تفعله انت. ضحك جايك وقال لها بسخرية لاذعة: -رسالة؟ هل هذا ما تصفين به تلك الاوراق الصغيرة التى لم تحمل ابدا اى طابع شخصى؟ كانت هذه... الرسالة...اشبه بتقرير موجز تعده مدبرة منزل او مربية اطفال. ثم راح يردد بتهكم يشوبه الحنق والمرارة بعض ماكانت تكتبه له: -اخذت الصبى اليوم الى طبيب الاسنان!تمتع جون باول يوم له فى المدرسة! بدا جون يتعلم السباحة! لم تسالينى مرة عن احوالى او صحتى او اعمالى. مجرد تقارير موجزة وباردة قياما بالواجب.ماهى الاجابات او التعليقات التى كنت تتوقعينها منى على مثل هذه التقارير؟ تعطلت الجرافة اليوم! فزت فى مباراة الشطرنج التى اقامها المهندسون! -ربما لو فعلت ذلك, لما كان جون طلع بتلك الفكرة السخيفة بانه ليس لديه والد! -كنت ستحبين ذلك.كان سيناسبك جدا لو اننى لم اعد.لابد انك تالمت كثيرا عندما اضطررت لكتابة الرسالة الاخيرة التى تذكريننى فيها بواجباتى كاب! خافت تانيا ان ترد على كلماته القاسية.لم تثق بقدرتها على التحكم باعصابها. وامتنعت عن الرد,لان جوابها سوف يزيد الوضع السيئ سوءا. ولكن عينيها كانت تقدحان شررا وهما تراقبان جايك يقترب منها ويقول لها بشكل جارح: -لو اردت التخلى عن مسؤولياتى كوالد,لما كنت تزوجتك فى المقام الاول!ام انك نسيت ذلك فى محاولتك الاحتفاظ بصورة سوداء مشوهة عنى؟ تلاقت النظرات الحادة والغاضبة عبر المرآة,ولكن تانيا حافظت على برودة اعصابها المصطنعة وقالت له بهدوء: -انا لم اقترح عليك الذهاب الى افريقيا,ولم اطلب منك مرة البقاء هناك. _لماذا تزوجتنى,يا تانيا؟ لم يكن هناك شئ فى عينيك منذ البداية سوى الحتقار..والتمنى الصامت بزوالى الى الابد. لم تعطى زواجنا اى فرصة للنجاح.هل كان ثمة شئ يحملنى على البقاء؟ كان جون طفلا رضيعا يحتاج الى امه...وليس الى ابيه.كنت اشاهد بوضوح تام الاحتقار والاشمئزاز كلما نظرت الى. قالت له ببرودة قاسية: -دعنى اذكرك بامر هام جدا.انا لم اطلب منك ابدا ان تتزوجنى. لم اطلب منك سوى الاعتراف بابوتك لجون. -لو اعطيتك مالى ,لكنت هربت الى ابعد مكان فى العالم ومعك ابنى كيلا اتمكن من رؤيته ابدا.سبب زواجى منك هو ذاته الذى يحملنى على عدم منحك الطلاق. انا اريد ابنى,حتى لو كان ذلك يعنى اضطرارى لتحملك. احست تانيا التى احمر وجهها غضبا وحنقا قبل لحظات,بانه جاء دورها الان لتضحك بسخرية مماثلة: -تريد ابنك؟ انه الان فى السابعة من عمره ولا يعرف حتى كيف تبدو او ما هو شكلك.انه ليس متاكدا من ان لديه والدا!فكيف تفسر هذا الامر وتوفق بينه وبين هذا الحب الابوى العظيم الذى تدعيه الان؟ توترت قسمات وجهه فجاة,فشعرت تانيا بان سهامها اصابت مرماها. ثم سمعته يقول لها بجفاف: -مضت سبع سنوات على زواجنا!وكما تقول احدى النكات الطريفة القديمة ,يبدو هذا الزواج وكانه حدث امس ...وانت تعلمين كم كان يوم امس تعيسا ومزريا.لا ادرى كيف يمر الزمن بمثل هذه السرعة.اعترف انى لم اكن انوى البقاء طويلا.ولكن جون اصبح الان بحاجة لوالديه معا,كما قلت فى رسالتك الاخيرة. ثم طوق خصرها بذراعيه وقال: -انت ايضا كبرت ونضجت,يا تانيا. وهذا الجسم الذى التصقت به اكثر من مرة لم يعد لفتاة صغيرة ,بل اصبح لانثى جذابة ومكتملة النضوج. نظرت اليه بطريقة ارادت من خلالها ان يشاهد اشمئزازها من ملامسته لها,الا ان دقات قلبها كانت تقول لصدره وضلوعه اشياء اخرى. -لاجدوى من هذا الحديث يا جايك.واظن ان الوقت قد حان كى اعود الى الحفلة. ضمها بقوة اكبر وسالها بعصبية ظاهرة: -هل اصبح باتريك راينز حبيبك؟ -لا! جاء نفيها الصارخ باسرع مما كانت تريد,ورافق ذلك احمرار مفاجئ فى خديها. -كانت الليلة اول مرة... عضت على شفتيها لخنق بقية كلامها,وشعرت بغضب عارم لان جايك تمكن من استدراجها الى التوضيح والتفسير غير الضرورين. ابتسم بزهو وانتصار قائلا: -اذن عدت فى الوقت المناسب! -انت لم تعد الا بسبب جون. -تاكدى من اننى لن انسى وجودى هنا. اخذ سترته التى كان وضعها على كرسى وارتداها بهدوء ثم انحنى امامها بشئ من الاستهزاء وقال: -لننضم معا الى الحفلة.
******نهاية الفصل الثاني*****
3-الهدنة
كانت جوليا اول من شاهدهما يخرجان من الباب الزجاجى. هرعت نحوهما وامسكت بذراع ابنها,فيما كانت عيناها تنظران اليه بمحبة وحنان. -هل شاهدت جونى؟ تدخلت تانيا على الفور قائلة: -كان جون نائما... وضع جايك يده على ذراعها برقة وقال مقاطعا بهدوء ومرح: -شاهدته لدى وصولى. كان يغط فى نوم عميق حتى قبل وصول فرقة الخيالة لانقاذ بطله المفضل. -قل لى بربك,يا جايك,اليس جونى صبيا جميلا للغاية؟انه نسخة طبق الاصل عن جايمى عندما كان صغيرا.انه لاستير قلبا وقالبا. وافق جايك والدته على كلامها ثم نظر الى تانيا وقال لها بلهجة جادة: -انه يبدو صبيا طيبا. هل هذا اطراء لها او ثناء على حسن تربيتها واهتمامها؟ارادت ان تقول شيئا,ولكن الضيوف لاحظوا وجود جايك فتحول تركيزها الى امور اقل اهمية..رغما عنها. كان جميع الرجال يرتدون سترات ورابطات عنق...باستثناء جايك.بدا قويا بينهم,متفوقا عليهم,وجذابا اكثر منهم.انه يرفض القيود التى تفرضها العادات والتقاليد. لم تترك ذراعه خصرها لحظة واحدة طوال فترة تنقله بين الضيوف.كانت تذكيرا لطيفا وغير ضرورى بانها زوجته. كانت تذكيرا ازعجها وضايقها, وبخاصة لدى سماعها التعليقات المختلفة على وصوله المفاجئ. وفيما كانت تنظر الى باتريك وشقيقته وهما يقتربان منهما سمعت احدى السيدات تقول لها: -لا شك انك سعيدة للغاية بعودة زوجك بعد هذه الفترة الطويلة. ارغمت تانيا نفسها على تحويل انظارها عن باتريك الى السيدة الواقفة امامها وقالت: -سوف تك,ن سعادة جون بالتاكيد ضعف ذلك. -جون هو ابنك الصغير,اليس كذلك؟ هل يعلم بعودة والده؟ -عندما وصل جايك ,كان الصبى نائما. حاولت تانيا التملص بهدوء من ذراع جايك,لانها لم تكن راغبة فى ان يشاهد باتريك كيف يطوق جايك خصرها بتلك الطريقة المتغطرسة. الا ان صوت شيلا العالى سمرها فى مكانها.حيت السيدة التى توجهت الى مجموعة اخرى واستدارت لتفاجأ بالشابة السمراء الجميلة تضم جايك وتقول باغراء استفزازى: -لماذا تحب المفاجآت الى هذه الدرجة يا جايك؟كان بامكانك ابلاغى بانك ستاتى, وكنت بالتاكيد ساحفظ لك هذا السر الصغير. اجابها بمرح وحتى بشئ من السرور بسبب نظراتها التى تضج اعجابا واغراء: -كنت لم اتخذ بعد قرارا بهذا الصدد.ولم اكن ادرك ما لدى من اسباب كثيرة ومتعددة تحملنى على العودة. قالت تانيا لنفسها ان جايك وشيلا لم يلتقيا ابدا من قبل. لم تكن شيلا سوى فتاة مراهقة فى الخامسة عشرة من عمرها عندما تزوج جايك. كما انه ليس من المحتمل ان يكون التقاها فى رحلته الوحيدة الاخرى قبل اربع سنوات. نظرت شيلا الى تانيا بمرح ظاهر نتيجة الارتباك البادى على محياها وسالتها ببراءة مصطنعة: -الم يقل لك باتريك؟رافقته فى الرحلة التى قام بها منذ شهر وشملت,كما تعرفين,القارة الافريقية.وعندها...التقيت جايك. نظرت تانيا بسرعة الى وجه زوجها الذى لم يتحرك ولم يتبدل ملامحه. ثم تطلعت نحو باتريك ساعية للحصول على تاكيد لما سمعته,وقالت: -كنت اظن انها رحلة عمل. -نعم كانت رحلة عمل. -انا اقنعته بان يصحب معه اخته الصغرى كى تنعم باجازة قصيرة. ثم نظرت بمحبة نحو شقيقها ومضت الى قول: -كان باتريك بالطبع منهمكا فى التنقل بين افريقيا واوروبا, فقررت فى نهاية الامر التوقف عن مرافقته فى تلك الرحالات المكوكية والبقاء فى افريقيا.وكنت ساصاب بسأم قاتل لو لم يتمكن جايك من ترك عمله بضعة ايام. شعرت تانيا بضيق وانقباض نتيجة الايحاء الخبيث الذى حملته كلمات شيلا. -لا,لم يذكر باتريك شيئا من هذا القبيل. ابتسمت شيلا لان هذه الجملة اوحت لها بان جايك ايضا لم يبلغ زوجته بالامر. ارادت التعليق على ذلك,ولكن تانيا سبقتها الى القول: -لاشك انك كنت محظوظة جدا لان جايك تمكن من الابتعاد عن عمله بعض الوقت. ابتسم جايك بهدوء وهو ينظر الى شيلا ثم قال: -اتصور انه كان بامكان شيلا الترفيه عن نفسها,حتى لو لم اكن انا هناك.ولكن,بما ان العمل كان يسمح لى بمنح نفسى اجازة قصيرة,فقد وجدت ان من واجبى الاهتمام بشقيقة مدير الشركة بالوكالة. سالته شيلا بغنج ودلال: -وهل هذا ما كنت تفعله؟الاهتمام بى؟ شعر جايك بان تانيا اخذت نفسا عميقا للتخفيف من حدة غضبها وانفعالها الناجمين عن تصرفات شيلا وكلماتها. ولكنه كان شبه متاكد من انها لا تهتم مطلقا ان كان اقام علاقة مع شيلا ام لا.وظن انها مشمئزة فقط من تلك الايحاءات المبطنة. ابتسمت تانيا بخبث وقالت للفتاة الاخرى ببرودة: -انى مسرورة جدا لانك وجدت رفقة زوجى لك بضعة ايام امرا مثيرا لاهتمام.من المؤكد انك كنت ستتعذبين كثيرا لو لم يتمكن احد من مرافقتك الى المعالم البارزة فى تلك البلاد الغريبة. نظرت شيلا باغراء نحو جايك قبل ان تجيب تانيا بالقول: -لم نقم بالعديد من الرحلات ذات الطابع السياحى .كنت اريد بالطبع ان اتجول فى مركز المشروع الكبير الذى يتولاه جايك. ولكنه شرح لى بان بعض العاملين هناك ام يروا امرأة منذ اسابيع, وليس من حاجة لاثارة غرائزهم عبثا لانهم سيعودون قريبا الى زوجاتهم وعائلتهم .انا سعيدة لان جايك لم يجد من الضرورى تطبيق هذه التعليمات والقيود على نفسه . بالتاكيد,لم يقرر جايك العودة الى الوطن الا بعد مغادرتى افريقيا. ثم نظرت اليه وسالته بدلال واضح: -هل كنت حافزا لك لاتخاذ هذا القرار؟ -لنقل ان وجودك هناك ذكرنى ببعض ما ساخسره فيما لو قررت البقاء. شعرت تانيا بغضب عارم ,زاد من حدته فشلها من التخلص من قبضته المحكمة .واحست باقتناع راسخ بان اهتمامه المزعوم بابنه لم يكن الامر الوحيد الذى اعاده الى البلاد. فمن الواضح ان وجود شيلا كان عاملا مؤثرا ساهم الى حد بعيد فى اتخاذ قرار العودة. وسمعت باتريك يساله بهدوءه المعتاد: -كم ستبقى هنا يا جايك؟ -هل تسالنى بصفتك مسؤولا كبيرا فى الشركة ,ام كمراقب له اهتمامات معينة؟ -قليل من هذا وقليل من ذاك. تامل الرجلان بعضهما بطريقة توحى بان ايا منهما قد ينقض على الاخر فى اي لحظة.ثم نظر جايك الى تانيا ووجه اليها ابتسامة حلوة لا تقارن ابدا بقساوة عينيه. وقال بهدوء بالغ: -يتمتع مساعدى دانفز بمهارة وخبرة تفوقان المطلوب لادارة مشروع الطريق. وعليه فلا حاجة للخوف ,يا راينز,من انى تركت هناك اى مشاكل او فوضى. توقف لحظة ثم مضى الى القول: -ثمة احتمالات كبيرة باننى سابقى هنا لفترة طويلة جدا. شعرت تانيا بانه نطق بكل كلمة فى تصريحه الهام هذا بهدوء وعناية فائقتين كى يتاكد من ان الجميع يفهمونه تماما. حدقت به وحاولت يائسة اختراق ملامح وجهه الجامدة لتعرف ماذا يجول فى رأسه.ألم يقل الى امه قبل اقل من ساعة انه لم يحدد بعد الفترة التى سيمضيها هنا؟ هل اثر وجود شيلا على قراره؟ يبدو ذلك واضحا,ولكن...هل هو فعلا كذلك؟لم يكن لدى تانيا ادنى شك فى ان شيلا عامل مؤثر فى اتخاذ هذا القرار...ولكنها ليست العامل الرئيسى والاساسى.وظهر جليا ان جايك لم يكن ينوى اطلاع احد على السبب الحقيقى لقراره المفاجئ. وقررت تانيا ان تتصرف مرة اخرى كاحدى المضيفتين,وقالت: -اظن ان بامكننا جميعا تناول بعض الماكولات الخفيفة.فما رايكم؟ اقترب باتريك منها بسرعة قائلا: -بكل سرور,وساساعدك فى حمل الصحون. ابتسمت شيلا ,التى بدت عليها السعادة لدى سماعها اعلان جايك وقالت: -اجعلا حصتى اكبر الحصص لانى جائعة كثيرا...وشهيتى منفتحة. بدا باتريك يملأ الصحون الاربعة لانه شعر بان يدى تانيا كانتا ترتجفان غير قادرتين على حمل اى شئ فى الوقت الحاضر . امسكت هى بالطاولة كيلا تقع وسالته بصوت منخفض,ولكن بعصبية ظاهرة: -لماذا لم تخبرنى بان شيلا رافقتك فى رحلتك؟ -انها شقيقتى ,على الرغم من الفرق الشاسع فى السن.ارادت مرافقتى,فلم اجد سببا يحول دون ذلك. ثم نظر اليها بجدية وكانه تذكر امرا هاما,ومضى الى قول: -ما تريدين معرفته حقا هو لماذا لم اخبرك بانها...بانها... تعرفت الى جايك!بصراحة,كان لدى انطباع بانك لم تكونى مهتمة بما يفعله زوجك طالما انه بعيد عنك.اما الان ,فانى اعتقد ان على اعادة النظر فى هذا الرأى. جاء نفيها سريعا وقويا اذ قالت: -انه لا يعنى اى شئ بالنسبة لى!شعرت باننى غبية جدا وانا وافقة هناك لا اعرف شيئا بينما يعرف الاخرون كل شئ. -عندما كدت اقول له الاياة ان يختفى من حياتك,لماذا ذهبت اليه بمجرد ان طلب منك ذلك؟لماذا تركتنى اقف هناك كالمخبول بينما انت هرعت الى جانبه؟ وضعت تانيا يدها بعصبية على جابينها وقالت: -كانت صدمة قوية...كابوسا مزعجا!لم اصدق انه حقا هناك. لم اتصور ابدا انه سيعود,حتى عندما كتبت له... قاطعها باتريك بانفعال واضح وبلهجة قاسية: -انت طلبت منه ان يعود؟ نظرت تانيا اليه بعينين تتوسلان تفهمه وتجاوبه,وقالت: -كنت مضطرة لذلك.ليس من اجلى انا...ولكن من اجل جون.كانت لديه تلك الفكرة المجنونة بان جايك ميت او انه فى السجن.واصر على الكتابة اليه طالبا منه العودة.لم اتمكن من رفض طلبه,ثم...انت ذكرت لى بنفسك ان جايك منهمك جدا فى مشروعين مختلفين.كنت امل ...كنت اعتقد انه لن يتمكن من الحضور. تنهد باتريك وقال لها بهدوء: -نعم,اتذكر ذلك. ولكن ...عندما اتصورك معه على انفراد فى وقت لاحق الليلة ,احس...احس... احمرت وجنتاها بسرعة نتيجة لما اوحى به,وسارعت لمحو صورتها بين ذراعى جايك قائلة: -تقع غرفة نومه فى الجانب الاخر من القاعة.نحن لا... -ألم تنته بعد,يا راينز,من تجهيز صحون اربعة؟ كان جايك يقف وراءها فاستدارت بسرعة لتواجه بنظرات حادة وقاسية. ومما زاد فى سوء الوضع القائم,ما قالته شيلا بمرح ظاهر: -أوه!انكما تبدوان مذنبين.عما كنتما تتهامسان؟ تجاهل باتريك كلام اخته عمدا وسأل جايك ببرودة اعصاب حقيقية: -هل اكثرت لك قطع اللحم؟ -لا,هذا ما كنت اريده بالضبط. قابلت تانيا نظراته المخيفة بتحد ظاهر,رافضة الشعور باى ذنب او خطيئة بسبب حديثها البرئ مع باتريك.وسمعت شيلا تقول لجايك بدلال وهى ترفع قطعة من الجبنة الى فمها: -قبل البدء بالاكل, اود ان نرحب جميعنا بعودتك الى الوطن. -ليكن الموضوع اهم واشمل. ما رأيك لو تمنينا للجميع اياما أفضل ومستقبلا اكثر سعادة وهناء! كان الاربعة واقفين قرب المائدة,وكان هناك دائما شخص يتوقف قليلا للتحدث مع جايك. كانت تانيا تتعمد تجنب النظر الى زوجها,وتتمنى انها لم تكتب تلك الرسالة التى شجعته على المجئ. اقترب منه رجل قائلا: -الان وقد عدت يا جايك,فماذا ستفعل هنا؟ نظر الى تانيا بسرعة واجاب الرجل مبتسما: -اول شئ سافعله هو تمضية بعض الوقت مع عائلتى, والتعرف بطريقة مناسبةالى ابنى. تدخلت شيلا وتمتمت قائلة: -من المؤسف انه دخل المدرسة الان.ستكون لديك ساعات طويلة من الفراغ التام كل نهار. نظر جايك الى العينين الجميلتين اللتين تعدانه بامور كثيرة,وقال: -سافكر بامورعدة لملء الفراغ. لم ينتبه الرجل الى مغزى الحديث المتبادل بينهما,اذ ضحك وقال: _اتصور ان للسيدة الجميلة خططا كثيرة يقتصر تنفيذها عليكما وحدكما.اليس ذلك صحيحا يا سيدة لاسيتر؟ اختفى اللون من وجنتيها عندما شاهدت ابتسامته الساخرة المرحة.ابتسمت وقالت للرجل ان جايك هو الذى يضع الخطط. لم تهتم لانها بدت كزوجة مطيعة ترضخ لرغبات زوجها.فهو يعلم ان ما عنته حقا هو ان خططه لا تشملها. ابتسم الضيف وقال معلقا على جملتها القصيرة: -كم اتمنى لو ان زوجتى متساهلة معى الى هذه الدرجة! رد عليه جايك وعينيه تشعان خبثا واستهزاء: -لم اعتبر تانيا ابدا زوجة متساهلة. -جايك,هل يمكنك المجئ لوداع جورج هاريس وزوجته؟ انهما ذاهبان. ابتسم جايك لامه ورافقها نحو الحديقة بعد اعتذاره بتأدب للمجموعة التى كان يقف معها.وما هى الا لحظات حتى امسك باتريك بذراع شقيقته وقال: -هيا يا شيلا.اظن ان الوقت حان لذهابنا نحن ايضا. ثم مال برأسه نحو تانيا وسالها هامسا : -هل يمكننا ان نلتقى؟ شعرت بان قلبها غاص فى مكانه وان الدماء تجمدت فى عروقها.كانت شاردة الذهن لدرجة انها لم تتمكن من الاعتراض او الاحتجاج. هزت براسها وقالت: -نعم يا باتريك. آذن ذهاب الزوجين هاريس وباتريك وشقيقته بقرب انتهاء الحفلة وبدأ الرحيل الجماعى لبقية الضيوف.وفيما كانت تانيا تودعهم مكررة الجمل الوداعية المهذبة راحت نظراتها تراقب الباب باهتمام بالغ منتظرة عودة جايك قبل مغادرة آخر الضيوف.وعندما ذهب الجميع,ابتسمت وتنهدت بارتياح وسرور. ظلت تسمع بعض الاصوات فى الخارج مما يشير الى ان جاى دى وجوليا غارقان فى احاديث متشبعة مع جايك. لم تكن راغبة فى مقابلته داخل البيت,فاخذت تجمع الصحون والاقداح وتضعها على طاولة جرارة كى تنقلها من الحديقة الى البيت. تطلعت الى اقصى الحديقة ثم رفعت راسها الى سماء منتصف الليل تتامل النجوم والقمر وتنعم بهدوء تلك اللحظات وسكينتها .وفجأة جمدت فى مكانها وقالت: -تصورت انك كنت تودع الضيوف. لم ينظر اليها جايك,بل جلس على احد المقاعد المريحة وقال: -تسللت بعيدا فيما كان الجميع يتبادلون أحاديث غير هامة. شعرت تانيا برغبة قوية لاثارة اعصابه مستخدمة طريقته واسلوبه معها: -لماذا؟هل كنت تفكر بوسيلة لملاقة شيلا؟لن يكون ذلك صعبا جدا,فهى تمضى فصل الصيف على مركب باتريك الذى يستخدمه كبيت عائم.انها نقطة لقاء تناسبك جدا! نظر اليها بعينيه الفولاذيتين فاحست بنظراته تخترق عينيها ووجهها وقال لها بتأفف وتملل: -كنت متعبا ليس الا.انت تعرفين انى قطعت عدة مناطق زمنية فى رحلتى من افريقيا الى الولايات المتحدة. كان التعب فعلا باديا على وجهه,ولكنها لم تتمكن من التعاطف معه او الشعور بالشفقة عليه.نظرت لفنجان القهوة الفارغ الذى كان يحمله فى يده وقالت باستهزاء: -أهذا كل ما تشربه هذه الايام؟انك لم تعد كجايك لاسيتر الذى اتذكره. -هذا صحيح جدا,فالقهوة تبقينى صاحيا ومتنبها.انى اذكر تلك الليلة التى كنت فيها ضائعا شاردالذهن لدرجة اننى لم اتذكر شيئا عما حدث خلالها.وبعد اقل من سنة,احضرت لى فتاة فى التاسعة عشرة من عمرها طفلا رضيعا وضعته امامى وقالت لى انه ابنى. احست بان معدتها تحولت الى نار متأججة تحرق قلبها وكبدها.حاولت ان تبدو هادئة مثله,ولكن يديها كانتا ترتجفان بشكل واضح. شدت اصابعها بقوة,فيما كانت غير قادرة على تجاهل قامته الطويلة وعضلاته المفتولة القوية.لم تجبه فمضى الى القول: -سألت نفسى مرارا عما يمكن ان تتذكريه انت عن تلك الليلة الفريدة! -العقل اداة محبة وعاطفة,ينسى الانسان عادة الذكريات المؤلمة والمزعجة. لم يتأثر بنظرات الاحتقار فى عينيها الجميلتين وسألها بهدوء: -وهل كان كل شئ فى تلك الليلة مؤلما ومزعجا؟انى اذكر الجزء الاول منها بوضوح تام.اذكر انى التقيت بشابة جميلة جدا وخجولة جدا فى معرض سيداليا وانى دعوتها الى الرقص.واذكر ايضا كيف احمرت وجنتاها الجميلتان الناعمتان عندما قلت لها ان شعرها يذكرنى بلون القطعة الذهبية الاثرية.لم نتحدث كثيرا...كنت اطوقها بذراعى واتظاهر بتحريك القدمين كى يبدو اننا نرقص...مع اننى لم اكن افعل شيئا سوى النظر الى عينيها الجذابتين الرائعتين. كان صوته كقطعة من المخمل السحرى حيكت حولها فجأة واعادتها بالذاكرة الى تلك الليلة.لم يكن عليها الا ان تطبق عينيها كى تتذكر حلاوة تلك الامسية وبهجتها. تأوهت بصمت وهى تتذكر نفسها بين ذراعيه...خافت من رد فعلها ومن الرغبة الجامحة التى اشتعلت فى داخلها.أغلقت بابا فولاذيا فى عقلها لطرد بقية ذكرياتها عن تلك الليلة وسألته بمرارة: -بماذا تحاول اقناعى,يا جايك؟بانك كنت فعلا تحبنى؟باننى كنت اعنى لك شيئا ما؟هل كنت حقا اكثر من مجرد لعبة تلهو بها لليلة واحدة؟ امسك كتفيها وهزها بقوة قائلا: -تانيا, العنة!أنا... -كنت ستأتى لرؤيتى فى عطلة الاسبوع التالية...او هكذا قلت لى!لم تكن تعنى ذلك قط!انا اعرف ذلك,كما تعرفه انت تماما! صرخ بوجهها غاضبا: -قتل اخى انذاك فى حادث سيارة.لم اتمكن من الذهاب اليك. -وكانت تلك الحادثة عذرا مناسبا,اليس كذلك؟ هزا رأسه بألم بسبب السخرية اللاذعة التى حملتها صوتها,وانزل يديه عن كتفيها قائلا: -لا اتذكر ابدا اننى وعدتك بالرجوع ولكنى كنت انوى ذلك... لو لم يقتل جايمى فى تلك الحادثة.وكى اكون صادقا معك, شعرت بعد موته بانه لم يعد هناك شئ آخر يهمنى. كدت انسى وجودك كلية,الى ان التقينا صدفة بعد ذلك. -هذا ما يمكننى تصديقه. -ولهذا السبب تكرهينى,اليس كذلك؟جرحت كرامتك لاننى احببتك ثم نسيتك.لم تغفرى لى ذلك حتى عندما تزوجتك.كنت تشعرين اننى مدين لك بهذا الزواج كى اعوضك جزئيا عن تلك الليلة الوقحة الهوجاء. آلمتا جدا فكرة تصويره لها انسانة لا قلب لها,فاحتجت بعنف: -ليس هذا صحيحا على الاطلاق.لم اكن انوى ابدا ابلاغك بما حدث...لولا ذلك اللقاء المفاجئ.لم اكن اريد الزواج منك.ولكنك عندما علمت بامر جون هددتنى بانتزاعه منى.السبب الوحيد الذى حملنى على ابلاغك بامره... غصت قليلا وتوقفت لحظة قبل اتمام جملتها قائلة: -اخبرتك بوجوده لاننى اريدك ان تندم زان تشعر ببعض الذنب والخجل اللذين كنت اشعر بهما.لم اكن اريد الا القليل من المال لتسديد النفقات المترتبة على.ولكن اردت الطفل!تبا لك ولاموال لاسيتر,وقوة لاسيتر,واسم لاسيتر!تعاملنى فى البداية كغانية صغيرة وضيعة ومنسية,ثم تنتظر منى ان اغفر لك بمجرد ارغماك لى على الزواج للاحتفاظ بجون!انت تطلب المستحيل! -انت لم تحاولى ابدا.نحن لم نتعامل ابدامع مسألة زواجنا الا كمجرد غطاء لوجود الطفل.اما الان فقد حان الوقت لكى نتصرف بجدية,من اجل ابننا ان لم يكن من اجل اى شئ اخر.انت اعترفت بذلك عندما كتبت لى تلك الرسالة التى اقترحت فيها عودتى الى الوطن...مع انك تظنين انى لن افعل ذلك. بدا قريبا منها,فتراجعت بسرعة الى الوراء.كانت عيناه تشعان ببريق لا تفهمه ولكنه يثير احساسيها ومشاعرها. قالت له بعصبية: -لن نتمكن الى التوصل الى نتيجة ايجابية يا جايك. قال لها بنفاذ صبر غاضب: -انا لم اقل ابدا اننا سننجح!قلت ان من واجبنا ان نحاول ذلك. ما من زواج يحقق النجاح,مالم يقم الزوجان بمحاولة لتحقيقه. انت امرأة جميلة ومثيرة,ولا يمكننى ان اصدق انك تجدينى قبيحا وكريها بدرجة تامة. تمنت تانيا بصمت لو كان بامكانها ان تجده هكذا.كانت تنظر فى اتجاهات مختلفة كى تتفادى وجهه الوسيم الجذاب. وظهر الخوف فى عينيها عندما نظرت اليه وسألته بهدوء: -ماذا تطلب منى,يا جايك؟ان احبك؟ صدر عنه صوت ساخر يشبه الضحك قبل ان يقول لها: -اعلم انك ربما كنت تظنين الدماء التى تجرى فى عروقى حارة جدا بسبب الفترة الطويلة التى امضيتها فى تلك البلاد الحارة.الجواب هو عكس ما تتصورين,فانا لم اطلب منك مشاركتى سريرى...مع ان ذلك قد يصبح النتيجة الحتمية فى نهاية الامر.ما اريدك ان تفعليه...او بالاحرى ما اقترحه علينا معا...هو ان نعامل بعضنا كاصدقاء وليس كاعداء.لنحاول التعرف على بعضنا على حقيقتنا,وليس بناء على ما يتصوره كل منا بالنسبة للاخر.سميها فترة تجريبية او هدنة او ماشئت, ولكننا بحاجة لدفن الماضى ونسيانه. -انها نظرية ممتازة وكان بامكانى اخذها بعين الاعتبار,لولا تلك الطريقة المحتقرة التى عاملتنى بها الليلة. -تعنين عندما فاجأتك مع راينز؟ -للرجل اسم اول.انه باتريك! -ربما انا مدين لك بالاعتذار عن الطريقة الفظة التى عاملتك بها.قد نكون زوجين باسم فقط,ولكنى ازال اعتبرك لى.واعتقد ان مشاهدتى اياك بين ذراعيه كانت صفعة مؤلمة لكبريائى وعزة نفسى كرجل.ومن المؤكد ان برودتك الوقحة لم تساعد قط فى التخفيف من الام الصفعة. لاحظت تانيا بسرعة ان جايك لم يعتذر فعلا,الا انه اعترف وكان هذا بحد ذاته كافيا للتخفيف قليلا من حدة غضبها. -حسنا؟هل تقبلين بفترة تجريبية؟ -وماذا بشيلا.... -انها ليست فى الصورة على الاطلاق. -حقا؟كنت تبدو سعيدا للغاية عندما شاهدتها الليلة.ومن المؤكد انكما تمكنتما من توطيد علاقة وثيقة بينكما عندما كنتما معا فى افريقيا. -بالنسبة لشيلا,ثمة اوقات تمر فى حياة الرجل يحتاج خلالها الى امرأة.انا اعلم ان هذا الكلام يثير اشمئزازك,ولكن هذا كا ن ما ساقوله لك بصددها.الا ان اتفاقنا سيقتصر علينا نحن فقط. -هل تقول انك لن تلتقى شيلا؟ -وهل تقولين انك لن تلتقى باتريك؟ -قلت لك اننى لم اكن التقيه! -بعد هذه الليلة ,لا اظن انه سيكتفى بالنظر اليك من بعيد. لقد تذوق طعم العسل,وسوف يريد المزيد منه.ولكن ما لنا ولهذا الموضوع.ما يهمنى هو انك لم تجيبى بعد اذا كنت موافقة على اقتراح الهدنة. -وماذا سيحدث فى نهاية الفترة التجريبية اذا كنت لا تزال تحتقرنى؟ -اذا شعرنا بعد شهرين او ثلاثة ان زواجنا لن ينجح باى طريقة او بالخرى,فعندها نبحث عن حلول بديلة. -الطلاق مثلا؟ -انه الحل الواضح. -وان لم اوافق على ما تسميه هدنة,ماذا سيحدث؟ _سيحدث ان تستمر الامور كما هى عليه الان. ظهر الغضب جليا على عينيها,وتذكرت فجأة ان اعترافه قبل لحظات باقامة علاقة مع شيلا اثناء وجودها فى افريقيا لم يزعجه على الاطلاق. سألته بانزعاج واضح: -انت لا تترك لى خيارا آخر,أليس كذلك؟ اجابها بنعومة قائلا: -هذا يعتمد على الطريقة التى تنظرين بها الى الموضوع.ادرسى هذه المسألة بتمعن واعطينى جوابك خلال يومين او ثلاثة. وتركها واقفة بذهول ودهشة,دون ان يودعها او يضيف كلمة اخرى الى جملته.
******نهاية الفصل الثالث******
4_انتصار قبل المعركة
تنهدت تانيا بانقباض دون ان تدرى السبب.وبدا ان انزعاجا غريبا يلقى بظلاله على جمال الصباح وروعته. ولم تتذكر السبب الا عندما فتحت عينيها واستفاقت بصورة تامة.لقد عاد جايك الى البيت... تاوهت قليلا ودفنت راسها فى وسادتها.عاد الى البيت ويعتزم البقاء.لن تتمكن بعد الان من تجاهل وجود زوجها. واسوا ما فى الامر انها غير قادرة على كرهه. ثمة خوف,كيف تصفه او تسميه,ناجم عن المضاعفات التى يمكن ان تحملها عودته وعن الفكرة الرهيبة من انه سوف يكتشف قريبا السر الذى حافظت عليه حتى الان بعناية فائقة. فتح الباب فجأة وشاهدت ابنها يدخل منه بسرعة ويقول لها بلهفة: -صحيح؟هل ابى هنا حقا؟قالت لى جدتى انه عاد,فاين هو؟اين هو الان؟ منعته حماسته ولهفته الشديدتان من ملاحظة انقباض والدته ومن انها ارغمت نفسها على الابتسام عندما قالت له: -نعم,انه هنا.وهو نائم فى الغرفة الاخرى. -ساذهب الى رؤيته! ارادت ان تمسك به فلم تتمكن. قامت من سريرها بسرعة صارخة: -جون,انتظر! ما ان وصلت الى باب غرفتها,حتى كان جون يفتح باب الغرفة الواقعة فى نهاية الممر. ولما وصلت اليه,كان يقف داخل الغرفة بذهول وهو لا يزال ممسكا بقبضة الباب. وضعت يديها على كتفيه لتسحبه بهدوء الى خارج الغرفة,وهى تهمس بحزم وقوة: -لا توقظه الان يا جون. ثم انتبهت الى سبب ذهوله وجموده.كان جايك واقفا مكشوف الصدر امام باب الحمام الداخلى,يتأمل الصبى بذهول مماثل. ثم غمز للصبى باسما وقال له: -اسعدت صباحا يا جون.انت جون,اليس كذلك؟ هز الصبى رأسه وهو لا يزال محدقا بالرجل الذى يهيمن وجوده على كل شئ آخر. سأله جون بصوت يوحى بخوفه من احتمال سماع رد سلبى: -هل انت ابى؟ اجابه جايك بكلمة وحيدة وبسيطة,ولكنه لم يتحرك نحو الصبى. واكتشفت تانيا انها تحبس انفاسها.تنفست بهدوء تام ورفعت يديها ببطء عن كتفى جون.كانت الغرفة هادئة وساكنة لدرجة انه كان بالامكان سماع صوت ريشة عصفور وهى تلامس السجادة. واخيرا,ترك جون الباب وتقدم ببطء نحو والده. توقف امامه ثم رفع رأسه نحو وجه ابيه وسأله بجدية: -هل ساصبح طويل القامة مثلك عندما اكبر؟ علت وجه جايك ابتسامة حولت ملامحه القاسية الى نعومة وحنان لا يصدقان.ركع امام الصبى واجابه بجدية مماثلة: -ربما ستصبح اطول منى. خيم الصمت مرة اخرى,الا ان التوتر الذى كان سائدا قبل قليل زال واختفى.احست تانيا وهى تراقبهما معا بانهما نسيا تماما وجودها فى الغرفة.كانا قريبين جدا الى بعضهما,ومع ذلك لم يتحدثا او يتعانقا. كان احدهما واقفا يتفحص بدقة وجه الرجل الغريب الذى هو والده,فيما كان الاخر راكعا تبدو على محياه ملامح الثقة والتفهم.وبعد لحظات صمت طويلة سأله جايك: -الم تتناول فطورك بعد؟ اجابه الصبى بكلمة نفى واحدة,فمضى الوالد الى القول: -وانا ايضا لم اتناول فطورى بعد.اذهب الى جدتك الان واطلب منها ان تضع صحنا اخر على الطاولة.سوف نتناول الفطور معا. هز الصبى رأسه موافقا واستدار نحو الباب كى يذهب الى جدته. ولكنه توقف فجأة,ثم التفت الى الرجل الذى لم يزال على ركبتيه وقال له بلهجة جادة وحازمة: -انا سعيد بعودتك الى البيت يا ابى. وخرج جون من الغرفة راكضا.وقف جايك وكانت عيناه تشعان بالسكينة والهدوء كسماء الصيف الصافية. وما ان نظر نحو تانيا حتى قالت: -انا اسفة. -لماذا؟ -لان استقبال جون لك لم يكن حماسيا تماما.انا...اتصور....انه لا يعرفك جيدا. -وهل كنت تتوقعين منه ان يرمى نفسه على؟كنت ساشعر بخيبة امل لو فعل ذلك.انا غريب بالنسبة اليه, ولا اريده ان يمنحنى ثقته ومحبته لمجرد ابلاغه باننى والده.اريد ان احصل على حبه بحرارة,وعندها فقط اشعر بانها هدية ثمينة للغاية. تنهدت تانيا ووضعت يدها على جبينها ثم قالت: -اعتقد انك على حق. لم تتمكن من طرد ذلك الشعور الباطنى بانها هى المسؤولة الاولى عن قيام هذا الشرخ الكبير فى العلاقة بين الابن وابيه. لم تنتبه الى اقترابه منها الا عندما سمعته يقول: -امنحيه وقتا كافيا يا تانيا كى يتمكن من معرفتى بصورة تامة.تسارعت دقات قلبها عندما شعرت بقربه منها,فارتبكت ولم تعرف ماذا تفعل او تقول.وسمعته يسألها بهدوء: -هل فكرت قليلا بحديثنا امس؟اتصور ان افضل شئ بالنسبة الى جون قيام هدنة ودية بيننا. لم يتمكن جزء من عقلها من التركيز على ما قاله,لان قسما كبيرا من احاسيسها كان مشدودا كلية الى جاذبيته الساحرة ورجولته الملهبة. ردت عليه همسا: -لا يمكننا ابدا ان نصبح صديقين يا جايك. -انا لم اقل قط ان بامكاننا ان نصبح صديقين.فى الحقيقة اننى اول من يعترف باستحالة ذلك من الناحية العملية. كل ما اريده هو ازالة هذا الجو العدائى اللعين القائم بيننا,والذى اوجدناه نحن بايدينا. تجنبت النظر الى الرجل الواقف قربها,لان حضوره كان يثير فيها نزوة جامحة تضعف مقاومتها لاغرائه القاسى.هزت رأسها وقالت بتلعثم: -لا...لا ادرى.انى حقا...لا ادرى. توقعت هبوب عاصفة هوجاء نتيجة ردها المتردد,ولم تكن مستعدة للنعومة المفاجاة فى صوتهوالتى داعبتها بدقة مثيرة. قال لها وهو يمسك بكتفيها: -هل اطلب منك الكثير عندما اقترح عليك تعايشا سليما؟ لم تتمكن ثيابها الشفافة من صد النار المتاججة التى اشعلتها لمساته,ولم تتمكن احاسيسهامن مكافحة تلك الرغبة الجامحة فى الالتصاق به وبجسمه القوى المتوحش. اغمضت عينيها بقوة ورفعت يديها لتحمى نفسها من اى مضاعفات اخرى.ثم شهقت وقالت له بصوت يرتجف بعنف نتيجة لتجاوب عواطفها الخائنة: -لا تلمسنى!لا يمكننى تحمل لمساتك! -لا!هذا ليس صحيحا! احست انه طعن كرامتها فى الصميم,ولم تتمكن الا من نفى اتهامه القاسى بقوة ودون تردد. انها تعلم تماما ان مشكلتها الاساسية تكمن فى سرعة تاثرها بالرجل الذى يهتم بها ويرعاها.نظرت الى وجهه فرأت فيه مزيجا من البرودة والاغراء افزعاها بقدر ما جذباها. قال لها بصوت ناعم حمل لها دعوة واضحة للاقتراب منه واثبات ما تدعيه: -يجب عليك ان تقنعينى بالبرهان القاطع.اقرنى الاقوال بالافعال. اقتربت منه بذهول فيما كانت تشدها اليه قوة سحرية لا تقاوم. اسرتها نظراتهالحالمة وراحت تجذبها اليه,مع ان جميع افكارها الاخرى كانت تصرخ بها طالبة منها الابتعاد عنه. شعرت بانفاسه الدافئة تداعب وجنتيها,وتسمرت نظراتها على شفتيه.تمنت لو انها تطبقان على جوعها,ويفجران فى نفسها تلك الرغبات التى دأبت على تخزينهامنذ زمن بعيد. وانتبهت تانيا الى حالتها فى اللحظة الاخيرة.لن تدع جايك يكتشف ضعفها الخطر امام مداعبة الرجال ومغازلتهم. شعر بانه على وشك التراجع,فطوقها بين ذراعيه وقال لها بحنان: -لا تهربى الان,يا حبيبتي. سمعا صوت اقدام تعدو فى الممر,قبل ان يتوقف جون فجأة امام الباب المفتوح على مصراعيه ويحدق مستغربا الى الشخصين المتعانقين. اطبق عينيه ثم فتحهما قبل ان يقول متلعثما: -قالت...جدتى...ان...ان الفطور...جاهز. ابتسم جايك وهو ينظر الى رأس تانيا المنحنى وذراعيها المتشنجتين اللتين كانتا تحاولان عبثا ابعاده عنها وهمس فى اذنها قائلا: -لاتقلقى,فحضور ابنك انقذك من هذه الورطة. ثم ابعد يديه عنه وقال لابنه: -سآتى خلال لحظات. تردد الصبى بتملل,لانه لم يعرف اذا كان عليه الذهاب فورا او انتظارهما.وكانت تانيا جامدة فى مكانها,فيما كان جبينها ينضج خجلا ومزلة. اما جايك فكان يرتدى قميصه بهدوء لا يضاهى.,وقبل ان يغادر الغرفة مع الصبى,اقترب منها وقال متمتما بعد ان رفع وجهها نحوه: -كانت تلك محاولة اولى ياتانيا.ربما فى المرة المقبلة... -لن تكون هناك مرة مقبلة. اكتفى برفع حاجبيه بطريقة ساخرة بعض الشئ,توحى بانه لا يصدق كلامها. ثم تركها واستدار نحو الصبى قائلا: -هل انت مستعد يا جون؟ -هل ستاتين معنا يا امى؟ اجابته نفيا,ثم سارعت الى خنق دموع الخجل واضافت بهدوء: -اريد اولا ارتداء ثيابى.اذهب,يا حبيبى,مع والدك. شاهدها الصبى تمسح دمعة من على خدها فامسك بذراعها وسألها: -هل انت بخير,يا امى؟ -نعم,انا بخير. الا ان ابتسامتها الواهنة لم تساعد كثيرا,فنظر بحدة نحو والده الذى يراقبهما بصمت قرب الباب وعاد يسأل امه: -ولكن...لماذا تبكين؟ علمت تانيا ان كلمة واحدة منها تكفى لتجعل الصبى ينقلب على ابيه.يمكنها بكلمة قاسية واحدة ان تقطع الخيط الضغيف الذى يربط بينهما.ارادت ان تنتقم من جايك. كم من السهل الان ان ترد له الصاع صاعين على كل خطيئة تعتقد انه ارتكبها فى حقها!نظرت اليه فشاهدت قساوة عينيه اللتين تعرفان بالتاكيد مدى سيطرتها ونفوذها على ابنها. تنهدت وقالت للصبى: -انى ابكى...انى ابكى لانى سعيدة يا جون.لان والدك عاد اخيرا الى البيت. افتر ثغره عن ابتسامة عريضة لانه لم يتمكن من مشاهدة الفشل والهزيمة فى عينيها. وقال لها: -وانا كذلك,يا امى,وانا كذلك. -سوف يبرد فطورك يا حبيبي.هيا اسرع قبل ان تبعث جدتك فريقا للبحث عنك. ركض الصبى وهو يلوح لوالده بيده قائلا: -هيا يا ابى. الا ان جايك كان ينظر الى تانيا ويتأملها فاحصا. فتصرفها الحكيم العاقل اركعها امامه,ولكنه لم يرمغ رأسها الشامخ بعزة وعنفوان على الانحناء والخضوع. ظل واقفا لحظات طويلة قبل ان يدير ظهره ويلحق بالصبى.وتساءلت تانيا عما اذا كان ادرك انها اعلنته الفريق المنتصر,حتى قبل ان تبدأ المعركة. ولكنها قررت ان لا تمنحه جميع غنائم الحرب,مهما كلفها ذلك من تضحيات وآلام... مرت الايام التى تلت عودة جايك بشكل روتينى صرف. ففى النهار,كان جون يذهب الى المدرسة بينما يرافق جايك والده الى مقر الشركة او يبقى فى المنزل المبنى على شاطئ البحيرة. الا انه كان يخصص ساعات ما بعد الظهر وحتى وقت مبكر من المساء لجون.كانا يذهبان احيانا لصيد السمك او اللعب بالكرة. وعندما يرغمهما مطر الربيع على البقاء داخل البيت,كانا يشاهدان بعض البرامج التلفزيونية او يتسليان ببعض الالعاب التربوية المنزلية. اما ساعات الليل المتاخرة التى كانت تانيا تخشاها اكثر من غيرها,فكان جايك يقضيها بكاملها مع والديه. لم يمضيا اى وقت على انفراد الا لبعض لحظات متفرقة, كان جايك يسمح لها بالتحدث عن موضوعات لا تقلقها او تثير اعصابها. ولكن كانت تشعر انه يتحين الفرص المناسبة له لفرض اتفاقية من نوع ما تضطر الى القبول بها. رفضت التفكير بالمضاعفات التى يحتمل حدوثها لو انها وافقت على قيام فترة تجريبية يتعرف خلالها كل منهما بصورة حقيقية على الاخر.لم تكن راغبة فى تمضية اى وقت معه على انفراد,اكثر مما هو ضرورى... للمحافظة على تلك المظاهر الخارجية امام ابنهما ووالديه. ذهب جايك والصبى اليوم فى رحلة بحرية تستغرق ساعات عدة.وتمكنت تانيا من الاعتذار عن مرافقتهما لانها على ارتباط سابق للمساعدة فى مبيع يعود ريعه الى احدى المؤسسات الخيرية.وكانت كل سيدة تبرعت بثلاثة ساعات من وقتها. وصلت السيدة الاخرى التى ستحل محلها,فتطلعت تانيا حولها بحثا على والدة زوجها التى ستحضر لاعادتها الى المنزل.ولكنها شاهدت عوضا على ذلك رجلا طويلا اسود الشعر يقترب منها بسرعة. احست بشئ من الندم والذنب لانها لم تفكر ابدا فى هذا الرجل منذ عودة جايك. وفيما كانت تتامل ذلك الوجه القوى الوسيم لباتريك رانيز شعرت تانيا بذلك الاحساس الدافئ المالوف الذى كان يغلفها كلما كانت تراه فى السابق. ابتسمت له بصورة عفوية وطبيعية قائلة: -باتريك,ماذا تفعل هنا؟ -كنت على وشك الانتهاء من اجتماع مع جاى دى عندما رايت جوليا تستعد لمغادرة المنزل,فتطوعت لحضور عوضا عنها.هل انت جاهزة؟ ودعت رفيقتها ومشت معه نحو السيارة .ابتسم لها بحرارة عندما فتح الباب,ثم استدار نحو السيارة ليجلس فى مقعد السائق. قال لها ببساطة: -اشتقت اليك يا تانيا. اسندت راسها الى المقعد لتشعر بالنسيم المنعش الذى يدخل الى النافذة,فقالت له بصدق: -اشعروكأن اكثر من اسبوع مر على اخر لقاء بيننا. ضحك بألم وقال: -لم اكن متاكدا من ان حضورى سيلقى ترحيبا.انا اعلم ان جايك لن يسر لمشاهدتى.ولكنى كنت افكر دائما بما اذا كانت عودته غيرت افكارك ايضا. شعرت تانيا بالنقباض والضيق,وبانها غير راغبة فى قضم الثمرة المحرمة.ولكنها تمكنت من الرد عليه بلهجة عادية,تجاهلت فيها المعنى الاعمق لملاحظته. قالت بهدوء: -انت تعرف,انه فيما يتعلق بي,فانك موضع ترحيب دائم. -لماذا عاد؟بدأت بالفعل تبعدين عني.كما انى احش ببرودة فى صوتك,تذكرني بتلك المرات الكثيرة التى صديت فيها اشخاصا توددوا اليك اكثر من اللزوم.كنت اعتقد بانك تشعرين بشئ ما تجاهى. احست بعقدة ذنب مؤلمة لانها جعلته يعتقد ذلك.ولكنها فى الحقيقة شعرت بالنجذاب اليه,مع انها كانت خائفة جدا من المضاعفات. صححت معلوماته بسرعة قائلة: -نعم... اعنى...اعنى ان بامكانى ذلك. كادت الكلمات تتلاحق بشكل يدعو الى القلق.ولكنها تنهدت بقوة,واضافت باصرار واضح: -يجب ان افكر اكثر من نفسى,يا باتريك. -تعنين جون!ولكن...لا يمكنك القول بامانة ان جايك كان والدا حقيقا للصبى. -انى مخطئة فى هذا المجال بقدر ما هو جايك ايضا. تنهد باتريك وقال: -يصعب على تصديق ذلك.هل تؤمنين بالحب من اول نظرة؟ -لا! ادهشها عنف ردها وسرعته,الى ان تذكرت كيف انها اخذت بسحر جايك قبل سنوات عديدة...وقبل ان يحطم اوهامها عن الحياة والحب. وكررت موقفها بهدوء وثبلت قائلة: -لا,لا اؤمن به. -انا اؤمن به,الى حد.كنت لا ازال متزوجا عندما شاهدتك تلك المرات القليلة فى بداية الامر.وجدتك حتى عندئذ امراة جميلة وجذابة.ازداد فضولى لمعرفة السبب الذى يدفعك انت وعائلة لاسيتر لاظهار زواجك وجايك على انه فى قمة النجاح,مع انه لم يأت ابدا الى البيت ولم تذهبى انت قط لزيارته.بدأت اشعر بالحسد من انه ربما كان لك صديق او حبيب.ولم اتمكن من معرفة السبب حتى اكتشفت بانني اتمنى ان اكون ذلك الرجل.وعندما بدأت اشاهد نظرات الوحدة المزعجة فى عينيك.انت تشعرين بالوحدة اليس كذلك؟هذا الاكتفاء وهذه السيطرة ماهما الا غطاء لاجفاء الوحدة الموحشة!صحيح؟ هزت رأسها بعنفوان لتثبت له ان الموضوع لا يهمها كثيرا,وقالت: -اظن ان كل انسان يشعر بالوحدة بين الحين والاخر. -ليست لديك اى عائلة,اليس كذلك؟اريد ان اعرف كل شئ عنك.هل كنت طفلة يتيمة؟ ردت عليه بهدوء بالغ: -قتل ابي وامي فى حادث عندما كنت فى التاسعة عشرة من عمري.وكنت انزآك اعيش بمفردي واعيل نفسي. -اليس لديك اخوة او اخوات؟ نظرت تانيا بعيدا وقالت بصوت تخلله مسحة من الحزن: -كانت لدى اخت صغرى.توفيت من جراء نزلة صدرية بعد اشهر قليلة من فقدنا والدينا. -ولكنك كنت فى حوالى التاسعة عشرة عندما تزوجت جايك؟لابد انها كانت فترة عصيبة جدا بالنسبة لك.ويمكننى ان اتصور كيف كنت على استعداد للبكاء على اول كتف تعرض عليك.لم يكن صعبا ابدا استغلالك آنذاك.ماذا حدث,يا حبيبتي؟هل احببت ولم تلاحظى انك ارتكبت خطأ فادحا الا بعد فوات الاوان؟ كادت لهجته الحنونة الصادرة تدفعها الى افشاء قصتها بكافة تفاصيلها الا انها تمكنت من السيطرة على مشاعرها وقالت له: -صحيح,هذا ما حدث على وجه التقريب. -من الخطأاحيانا ان يحاول الانسان المحافظة على ديمومة الزواج من اجل طفل,وهذا بالضبط ما تحاولين القيام به.هل طالبت جايك مرة بالطلاق؟ -بحثنا هذا الاحتمال. -انا... احسست ببداية صداع قوى,فقطاعته قائلة: -ارجوك,لنتحدث فى موضوع اخر. تنهد باتريك وهو ينظر اليها بحنان,وقال لها بعناد: -سافعل ذلك بكل سرور,شرط ان تخبرينى عم وضعى بالنسبة اليك. تحول باتريك فى تلك اللحظة عن الطريق الرئيسي الى اخر فرعى يؤدى الى منزل لاسيتر. ولكنه اوقف السيارة الى جانب الطريق,فى مكان يشرف على بحيرة تابيل روك وقال لها: -انا بانتظار ردك,يا تانيا. -لا اعرف. لم اجد بعد الوقت الكافى للتفكير. -انا رجل يا تانيا.لايمكننى بعد ملامستك وتقبيلك ان اكتفى بمجرد النظر اليك من بعيد. كان قريبا منها,وكانت يده الموضوعة على كتفها تديرها ببطء نحوه. جاءت كلماته مطابقة تماما لما حذرها منه جايك,والتى وجدتها آنذاك سخيفة ومثيرة للضحك. ولكنها عندما نظرت الى عيني باتريك لم تجد فيهما ما يضحكها اطلاقا.تركته يشدها الى صدره,آملة فى ايجاد بعض السلوى والعزاء لمشاعرها المتناقضة المعذبة .ولكنه بدا لها ان افكارها المبعثرة والمعقدة ازدادت تبعثرا وتعقيدا. احست بدفء انفاسه على رأسها وشعرها وعينيها,الا انه لم يكن هناك اى وجه مقارنة مع مداعبة جايك ومغازلته الطاغيتين المدمرتين.وسمعته يتمتم قرب فمها... -انا لست من ذلك الصنف الذى يتوسل...ولكنني اريدك,يا تانيا. تأوهت محتجة بكلمة نفي واحدة,فيما كانت ذراعاه تطوقانها بقوة.ارادت الابتعاد عنه,ولكنها لم تتمكن. جفت جميع مشاعرها وجمدت فى مكانها,لانها احست بانها حفزته على مداعبتها ثم تبين لها انها لاتريد ذلك فعلا. ولكن عدم تجاوبها معه لم يثبط عزيمته او يثنه عن المتابعة.تركها وعاد الى مكانه فى السيارة,ثم نظر اليها بعينين تشعان ببريق الرغبة والحب,وقال لها بصوت متهدج: -ها قد عرفت الان كيف اشعر نحوك.انا مثلك لااريد علاقة سرية ووفقا للظروف المتاحة.افهم شعورك بالنسبة لابنك,واحترامك لذلك.تريدين له بيتا,وتعليما جيدا,ومستقبلا.بامكان عائلة لاسيتر منحه جميع هذه الامور,بالاضافة الى الاسم المشهور والثروة.ولكن... كلمة واحدة منك وسوف امنحه كافة هذه الاشياء واكثر.انه يحبني,واعتقد انه سيقبلني كوالد له.انه بالتاكيد يعرفني اكثر مما يعرف جايك. حدقت به تانيا بذهول مدهش وهى لاتصدق انه فعلا يتقدم بطلب للزواج منها. تنفست بصعوبة وسالته: -هل تطلب مني ان اترك جايك واتزوجك؟ ابتسم لها بحنان ورقة . واضاف الحب المشع من عينيه الى ملامح وجهه جمالا ووسامة عندما قال: -هذا بالضبط ما اطلبه منك. واشعر برغبة قوية للركوع امامك وتكرار الطلب. تفادت النظر الى عينيه خوفا من الرضوخ لسحره المقنع واحتجت بنبرة ضعيفة: -ولكني لست متأكدة من اني احبك. -انا اخر انسان يطلب منك استبدال زوج لا تحبينه بزوج آخر لا تحبينه ايضا.ولكنك لا تعلمين مدى رغبتي فى الفوز بحبك.اريد ان نتمكن من الحديث معا دونما اى خوف او وجل من ان يسمعنا الاخرون,حتى لو كان ذلك لنصف ساعة...او ساعة...او اى مدة يمكنك ترتيبها.قولي انك ستفعلين ذلك ياحبيبتي. -لا ادرى متى... اوقفها صوت سيارة اخرى عن اعطاء موافقتها المترددة.وشاهدت العبوس المفأجئ على وجهه باتريك قبل ان تدير رأسها نحو السيارة القريبة. احست بانقباض شديد والم حاد عندما رأت شيلاجالسة قرب جايك,وعندما شاهداها هما مع باتريك.قال جيك شيئا لشيلا ازعجها وضايقها قبل ان ينزل من السيارة وعلى وجهه نظرات قاسية لم تخفف اطلاقا من خشية تانيا وخوفها.احست بيد باتريك تمسك بيدها وسمعته يقول لها بصوت هادئ مطمئنا: -لست مضطرة الى توضيح اى شئ,فنحن لم نرتكب اى خطأ. نظرت اليه بامتنان,فيما كان جايك يفتح بابها وينظر اليهما قائلا بسخرية: -تتمتعان بالمناظر الطبيعية؟انها منطقة رائعة فى هذا الوقت من السنة. نظر اليه باتريك بتحد وقال له بهدوء مماثل: -انه فعلا منظر رائع. -تعبت شيلا من انتظار عودتك,فتطوعت باخذها الى البيت.انها لصدفة جميلة ان نلتقى هنا,لان من شأن ذلك توفير بعض الوقت لكل منا. ثم نظر بعينين قاسيتين الى تانيا وقال لها: -يمكنك العودة معى الى البيت. قالت لها ملامح باتريك بوضوح انها غير مضطرة للذهاب مع جايك ان لم تكن راغبة فى ذلك.ولكنها ابتسمت له لابلاغه ضمنا بانها ستذهب مع جايك باختيارها وقالت له: -شكرا لانك حضرت لايصالى الى المنزل. وقبل ان تسمح لها اى فرصة لاعادة النظر بقرارها,كانت يد جايك تقبض على ذراعها وتسحبها من سيارة باتريك لتدفعها الى سيارته. نزلت شيلا باستياء صامت من سيارة جايك وقالت له متنهدة بغنج ودلال: -كنت اتطلع قدما وبشوق بالغ الى ايصالك لي الى البيت, ولكنى اعرف انك متشوق جدا للعودة الى ابنك الصغير.انى مسرورة جدا لانك دعوتنى اليوم.امضيت معك وقتا رائعا.هل من الممكن تكرار ذلك مستقبلا؟ وجهت سؤالها الى جايك مصحوبا بابتسامة ساحرة رد عليها بوعد جزئى قائلا: -ربما. احست تانيا بغضب عارم عندما شاهدت شيلا تعانق جايك,قبل ان تقفز فرحة الى سيارة شقيقهاومشى جايك بتمهل نحو بابه ,فيما اختفت سيارة باتريك عن الانظار. تطلعت نحوه وسألته بحدة قبل ان يدير محرك السيارة: -هل ذهبت شيلا معكما اليوم؟ اجباها ببرودة مزعجة وعلى وجهه ابتسامة جارحة: -نعم ذهبت معنا,مع ان مرافقتها لنا لم تكن مخططة سلفا. ردت عليه بسخرية لاذعة: -من ان المؤكد ان جون المسكين عكر اليوم صفوك ومزاجك.انه لامر مؤسف حقا ان تكون وعدته باخذه معك. -شيلا هى التى لم تكن جزءا من الخطة.التقيناها صدفة اثناء توقفنا لتناول الطعام.كان الوقت الذى امضيناه معا بريئا مثل الدقائق القليلة التى امضيتها مع راينز. ابعدت وجهها عن نظراته الثاقبة,وهى تعلم ان الاحمرار فى وجنتيها فضح شعورها بالذنب. وسمعته يضيف بنبرة غلبت عليها برودة قاسية: -لم يكن جون معك كحارس امين,وبالتالى فمن المحتمل ان وجودكما معا حتى لفترة قصيرة لم يكن بريئا جدا كما اتصور. -كانت الاهداف التى حفزتنا على الاجتماع اسمى من اهداف اجتماعك انت بشيلا. -أسمى؟اوضحى ما تقولين و تعنين. -طلب منى باتريك ان اتزوجه. ظهر الغضب فجأة فى وجه جايك المتغطرس ولكنه سرعان ما اختفى وهو يقول لها دون اكتراث: -يجب ان ارفع قبعتى اعجابا بالرجل.لم اكن اظن ابدا انه سيتصرف بمثل هذه السرعة.وماذا كان جوبك على طلبه؟ -هذا شأني. -وشأني انا ايضا يا سيدة لاسيتر.ان لم يكن شأني كزوجك,فمن المؤكد انه شأني كوالد طفلنا. -اذا كان لابد لك من ان تعرف,فأنا لم اعطه جوابا! -لماذا؟ -لانه لم تكن لدى الفرصة لذلك.فقد جاء وصولك غير المتوقع فى وقت غير مناسب اطلاقا. تجاهل جايك عمدا سخريتها واصر على معرفة الحقيقة: -لوسنحت لك فرصة الرد على طلبه,فبماذا كنت ستجيبين؟ لم تتمكن من الكذب عليه,مع انها كانت راغبة فى ذلك. وقالت بتحد: -لا اعرف.اريد بعض الوقت للتفكير. -يبدو لى بوضوح انك لست متعلقة بالرجل,والا لما كنت بحاجة لاى وقت اوتفكير. لايمكنك نفى معرفتك به, فأنت تعرفينه بقدر ما تعرفينني. -ولكنني لا اعرفك حقيقة ,يا جايك. نظر اليها بعينين حملتا بريقا مختلفا وسألها بنعومة: -وهل تريدين اعني ان تعرفيني؟ جمدت فى مكانها,خائفة من ان تقول له شيئا اخر ستندم عليه بقدر ندمها على اعترافها السابق. استعادت ببطء سيطرتها على اعصابها المتوترة وقالت له باصرار: -لا,لا اريد ذلك.ما اعرفه عنك حتى الان لا يعجبنى على الاطلاق,فلا حاجة لبذل جهود كبيرة بسبب قضية فاشلة لا فائدة منها. -هل تقولين ان زواجنا قضية فاشلة؟ ردت عليه بعصبية واضحة: -وكيف تصفه انت عندما لا نتمكن حتى من وجودنا معا فى غرفة واحدة دون ان يسيطر علينا جو متوتر خائف؟ -هل هكذا تشعرين انت؟ لم يبد متضايقا البتة عندما سمعها تصف زواجهما بمثل تلك الكلمات القاسية.وعندما هزت رأسها مؤكدة ردها ايجابيا على سؤاله,اكتفى بتحريك يده وقلب شفتيه قائلا بهدوء: -ربما انت على حق!
*****نهاية الفصل الرابع*****
5_النمرة الوديعة
خرجت تانيا الى الحديقة لتنعم بتلك الليلة المقمرة الدافئة, بعد ان اخبرت ابنها قصة قصيرة ساعدته على النوم بسرعة وسرور. لم تكن راغبة فى التوجه الى غرفة الجلوس حيث افراد العائلة الاخرون يتحادثون ويتسامرون. فضلت السير بمفردها على شاطئ البحيرة, وكانت مصممة على الا تدع أيا من مشاكلها تفسد عليها جمال تلك الليلة وروعتها. وقفت قرب المكان الذى يرسو فيه مركب العائلة, وراحت تتأمل باعجاب انعكاس ضوء القمر على صفحة الماء. كان الجو دافئا هادئا ومشبعا بالرطوبة.شعرت بالحر وبالتصاق ثيابها بجسمها,وكانت مياه البحيرة تبدو باردة منعشة. لم تكن هناك بيوت اخرى قريبة,او مراكب تقطع البحيرة من هذا الجانب الى ذاك.كانت تانيا وحدها تماما. خلعت ثيابها وقفزت الى الماء... شعرت برعشة خفيفة فى بداية الامر,الا انها سرعان ما بدأت تحس بمتعة السباحة فى مياه البحيرة النظيفة...وفى ضوء القمر. سبحت بعيدا بنشوة وفرح,ولكن برودة الماء بدأت تزعجها قليلا فعادت ادراجها. نبهتها حاستها السادسة,او ربما تحركات معينة,الى انها لم تعد وحدها. ظلت فى الماء على بعد امتار من الشاطئ,وراحت تنظر حولها بحثا عن الشخص الدخيل. وصرخت بحدة: -من هناك؟ شاهدت شخص طويل القامة يتقدم من زواية مظلمة ويقف امامها قائلا: -لم اعرف ان هناك حوريات ناطقة فى هذا العالم. عرفت تانيا, قبل ان تراه,ان صاحب هذا الصوت ليس الا جايك.استدارت بسرعة لكى تسبح الى الجانب الاخر,ولكنها كانت تعلم انها غير قادرة على ذلك بسبب التعب وبرودة الماء. -ارجوك ان تذهب من هنا يا جايك. ابتسم بمرح ظاهر ثم تظاهر بانه يتنهد بأسى,وقال: -اوه,هذه ليست حورية.انها فقط السيدة لاسيتر تسبح فى ضوء القمر.أليست المياه باردة جدا؟ أجابته وهى ترتجف حنقا وبردا: -باردة للغاية!هل تسمح بالذهاب كي أتمكن من الخروج من الماء؟ ظل واقفا يحدق بها,فيما كانت هى ممتنة جدا لانها فى مياه عميقة تغطيها تماما. -اذا كنت ترفض الذهاب,فأرجوك ان ترمى لي المنشفة الموجودة على السلم الخشبي. كرهت نبرة اليأس التى غلبت على صوتها,ولكن اوصالها بدأت ترتعد وعلمت انها لن تتمكن من البقاء طويلا فى المياه الباردة. سار جايك نحو السلم وأمسك بالمنشفة ثم نظر الى زوجته وقال ضاحكا: -اذا رميتها اليك,فلن يكون لديك شئ اخر تجفيين نفسك به. ردت عليه بغضب,وهى تلعن الظروف التى سمحت له برؤيتها فى تلك الحالة المزرية المذلة: -دعنى انا اقرر ما يتحتم على القيام به. هز كتفيه ورمى المنشفة على بعد امتار قليلة منها.تشبعت المنشفة بالماء وغرقت قبل ان تصل اليها. واضطرت تانيا للاقتراب من السلم ووضع احدى قدميها على العارضة السفلى,كى تتمكن من الوقوف ولف نفسها بالمنشفة التى تحمل كميةكبيرة من الماء. وجهت اليه سهاما حادة وخناجر قاتلة من عينيها الغاضبتين, ولكنه اصر على تأملها بغطرسة وتهكم. أرادت ان تصرخ به,ولكنها علمت انه سيواجه صراخها بابتسامة ساخرة او ملاحظة خبيثة. ادارت ظهرها نحوه ولفت نفسها بتلك المنشفة الثقيلة التى كانت تخاف جدا ان تقع عنها اثناء صعودها السلم. -يا للتواضع والخجل!أتظنين انني لم اشاهد نساء كما هن من قبل؟ -ولكنك لم تراني أنا! تطلع فى عينيها اللتين كانتا تنظران اليه بغضب شديد وقال لها بصوت هادئ: -هذا تصريح غريب من أم ابني. تسمرت تانيا فى مكانها لحظة تحول فيها بردها الى حر شديد خانق وقالت له بنبرة تمكنت من تضمينها القدر الكافي من الاحتقار والشماتة: -ألا تعلم ان بالامكان فى الكثير من الاحيان ان يحدث ذلك دون الاضطرار لخلع الملابس؟ -اللعنة عليك! وفى اللحظة التالية كان يقف قربها ويغرز اصابعه فى كتفيها. هزها بعنف شديد قبل ان يسألها بعصبية بالغة: -لماذا تصرين على تصوير ما حدث بأنه عملية قسرية؟ رفعت رأسها بهدوء نحو عينيه الغاضبتين وهى مصممة على استفزازه الأبعد درجة.كانت تعرف ان لسانها السليط هو السلاح الوحيد المتوفر لديها. -لا يمكنك ان تتذكر,أليس كذلك؟ غاب الغضب الحارق من عينيه وحل محله شعور كئيب وكبرياء جريح. أنزل يديه بسرعة وقال بذهول وهو يدير اليها ظهره: -لا.لا,اذكر.رباه ساعدني! لايمكنني ان أتذكر شيئا. انحنت تانيا لالتقاط ثيابها بعيدا عن نظراته الفاحصة,وظلت عيناها تتأملان ظهره المستقيم العريض وكتفيه المتشنجتين. أحست بألم يعصر قلبها وهي تنظر الى وقفته الشامخة...الحزينة.سارت بهدوء نحو البيت العائم لارتداء ثيابها. ولما وصلت الى الباب شعرت بانها لا يمكن ان تتركه هكذا...يحمل نفسه كافة المسؤولية والذنب. نادته بصوت منخفض: -جايك. استدار نحوها جزئيا,فقالت له بصوت هامس قبل ان تدخل المركب: -لا,لم يكن ما حدث بيننا هكذا. سمعت صوت أقدام بمجرد اغلاقها الباب وراءها. وانتظرت صامتة لتعرف ما اذا كان جايك سيلحق بها للحصول على المزيد من الايضاحات. ولما لم تعد تسمع شيئا تنهدت بارتياح وأنارت المقصورة الصغيرة.وما ان نزعت عنها المنشفة المبللة,حتى سمعت طرقة خفيفة على الباب وصوت جايك يقول لها بهدوء: -تانيا استخدمي المنشفة الجافة الموجودة على المقعد الأمامي. نظرت الى المقعد وقالت له: -وجدتها. جففت نفسها وارتدت ثيابها خلال لحظات معدودة,ثم توقفت بتردد امام الباب. كانت تعلم انه بمجرد فتحها ذلك الباب,سوف تحدث امور لن تتمكن من السيطرة عليها... وربما ندمت عليها مستقبلا. الا انه لم يكن امامها بديل آخر غير البقاء داخل المركب طوال الليل. وما ان فتحت الباب واغلقته وراءها حتى هب واقفا بسرعة ولهفة.كان يجلس على مقعد خشبي على بعد بضعةأمتار عن باب المركب.حدقا ببعضهما فترة طويلة,قبل لن تحرر تانيا نفسها من قيود نظراته وتبدأفى السيرنحو المنزل. -تانيا,لا تذهبي الآن. تراقص قلبها كفراشة على النار الخفيفة الحنونة التى تشتعل في عينيه الجميلتين. ولكنها قالت له: -ارجوك,يا جايك.لا أريد التحدث عن تلك الليلة. -لا اريد منك شيئا سوى ان تعرفي انني اقدر صدقك وأمانتك.أدرك تماما انك لم تكوني متضطرة للاعتراف بأي دور لك تلك الليلة. لم يكن ثمة مجال للشك فى صحة اخلاصه,وكان سحره يفعل فعله فى رأسها وعقلها وقلبها.لم تتمكن من معرفة السبب الذي دفعها لتبديد شكوكها والتخفيف من عذاب ضميره. انه بالتأكيد شعور داخلي هذا الذي أرغمها على ذلك. وسمعته يضيف قائلا: -كما اني لم أشكرك بعد على عدم مهاجمتي امام ابننا. كثيرات غيرك كن استخدمن الصبي للانتقام مني. -لا يمكنني القيام بذلك اطلاقا,فعلى الابن احترام أبيه. -انك امرأة فريدة جدا.لم ادرك كم انت فريدة وفذة حتى هذه الساعة.من المؤكد انه كان لديك والدان عظيمان.اتمنى من صميم قلبي لو انه كان بامكاني التعرف اليهما. ولكن تانيا كانت تعلم انه لو ظل والدها على قيد الحياة,لما كانت لتقبل ابدا الزواج من جايك... لما كانت لتصل ابدا الى ذلك الارهاق الجسمي والمعنوي من جراء محاولتها اعالة طفل رضيع والاهتمام به بمفردها. لو بقي والداها على قيد الحياة,لكانا تحملا معها معها بعض ذلك العبء الثقيل.كان من المحتمل جدا الا يعرف جايك ابدا ان له ابنا. ارتعش جسمها بسبب هذه الافكار,فقال لها بسرعة: -لا شك انك تشعرين بالبرد. وقبل ان تتمكن من الاحتجاج والاعتراض,خلع سترته ووضعها على كتفيها.شعرت على الفور بحرارة جسمه ورائحة دخانه وعطر رجولته. وما ان اقترب منها كي يززر السترة,حتى احست بأنها تقف امام نار حارقة وبأنها لا تريد شيئا فى الدنيا اكثر من ان يطوقها بذراعيه ويضمها الى صدره. أخذت اصابعه تداعب شعرها برقة ونعومة,ثم توقفت يداه على عنقها وراحتا تتنقلان ببطء مثير. أمسك بذقنها ورفع وجهها نحوه بهدوء وحنان.نظرت اليه تانيا بعينين شبه مطبقتين,وتسارعت ضربات نبضها عندما شاهدت عينيه تركزان بشغف على شفتيها. سمعته يتمتم وهو يضمها اليه بقوة: -انت جميلة يا تانيا.لا تقاوميني ,يا حبيبتي. استسلمت لعناقه المحموم وتأوهت...أجراس تقرع فرحا فى رأسها,ونجوم تضئ داخل عينيها. رقصت على حائط صدره القوى,ورفعت يديها لتطوق عنقه بشغف مماثل.وشدها كثيرا اليه حتى كادت ان تصبح جزء منه. وقعت السترة عنها,فلم تشعر بذلك.لم تعد بحاجة الى قطعة من القماش لتدفئتها,فحرارة جسمه تكاد تحرقها. أحست بأن ركبتيها ترتجفان وبان رجليها لن تتحملاها طويلا.خافت من النتيجة الحتمية لتلك المداعبة الحميمة, فحاولت وضع يديها على صدره لابعاده عنها قليلا. طوقها بقوة اكبر,منتصرا على اعتراضها الضعيف بتصميمه المتغطرس القوى.فعادت يداها المرتجفتان تداعبان وجنتيه وجبينه وعنقه.ووضع رأسها على صدره. ظلا على تلك الحالة دقائق عدة,وكأن اى منهما لم يكن راغبا فى التحرك او الابتعاد عن الآخر. وفجأة امسك بذراعيها وأبعدها عنه قليلا فيما ظلت يداها ممسكتين بخصره.قال لها: -انظرى الى يا تانيا. رفعت رأسها نحوه مرغمة,لانها تعرف ان رغباتها القوية تجاهه لا تزال مشعة بوضوح فى عينيها. ولكنها أطاعته ونظرت الى ذلك اللهيب الازرق الذى يشتعل فى عينيه.بدا عليه الارتياح عندما شاهد ردود الفعل التى أثارها فيها,وسألها ممازحا: -ها هذا هو سبب التيارات الكهربائية التى توتر الجو بيننا؟ ابتسم عندما شاهد احمرار وجنتيها,وعاد يسألها: -هل ما زلت تعتقدين ان زواجنا قضية فاشلة لا قيمة لها؟ شعرت تانيا فى هذه اللحظة بالذات,واكثر من أى وقت مضى. انها تريد من زواجهما ان يكون حقيقيا ومكتملا. ولكنها احست بان ذلك لن يكون ممكنا, فانهمرت الدموع من عينيها وقالت له بصوت منهزم معذب: -انه لامر مستحيل ,يا جايك. شعرت بان عضلاته تجمدت كقطعه كبيرة من الجليد. وبان جملتها القصيرة كانت كخنجر طعن فى قلبه. -مستحيل؟ قالها بغضب عارم ,فيما كانت يداه تضغطان بقوة على ذراعيها وتهزان جسمها بعنف والم. وعاد يسالها باستغراب: -مستحيل ؟ ماذا تعنين بذلك؟ اجابته بصوت متهدج ضعيف: -لايمكن ان ننجح .ثمة امور كثيرة لاتعرفها عنى. وترددت لحظة لانها خافت من الاسئلة الكثيرة التى سيطرحها نتيجة سماعه جملتها الاخيرة. فسارعت الى تغطيتها بالقول: -كذلك فان هناك امورا كثيرة لا اعرفها عنك. عادت اليه غطرسته وعزة نفسه , فقال: -لا يمكننى ان اقبل هذا التبرير. -اوه, ارجوك .الا يمكنك ان تترك الامور كما كانت؟ -لا, لان الاوان فات ولم يعد بامكاننا اعادة عقارب الساعة الى الوراء. شعرت تانيا بان نظراته القاسيةالتى لاتلين تكاد تخترق راسها لتكتشف اسرارها الدفينة. وسمعته يقول بعد لحظات : -كان على ان اقنعك الان, وان اجعل رضوخك امرا لا رجوع عنه. -لا!لا! وقفزت خائفة الى الوراء مذعورة من انه قد يقرر ذلك فى اى لحظة. ولم يحاول الاقتراب منها بل هز راسه باستغراب غاضب وقال: -قلت بنفسك ان جون بحاجة الى اب .كذلك هو بحاجة الى ام.لا يمكنك ان تتوقعي منا ان نتصرف كوالدين طبيعين بقية حياتنا ,ونبقى فى الوقت ذاته غريبين عن بعضنا. هزت كتفيها كمن فقد امله, وقالت: -انا لااتوقع ذلك. -وماذا تتوقعين اذن؟لا,لاتجيبى على هذا السؤال . انا اعرف ماذا تتوقعين . ربما ستطلبين منى العودة الى افريقيا. ابتسمت تانيا رغما عنها بسب ممازحته الغاضبة لها وقالت بصوت ناعم: -قد اطلب منك هذه المرة الذهاب الى المناطق القطبية. عادت الجدية الى وجهه بسرعة وقال لها: -سالنى جون اليوم اذا كان بامكانك مرافقتنا بعض الوقت كما تفعل شيلا. ليس دائما وانما من حين لاخر. توقف لحظة لم ينتظر خلالها جوابا او تعليقا,ثم مضي القول : -اننا بحاجة الى بعض الوقت كى يعرف كلا منا الاخر بطريقة صحيحة.قلت لك ذلك فى الليلة الاولى لعودتى .ولهذا السبب ايضا لم اعاملك قبل قليل بالطريقة التى كنت اريدها . اذا غير راغبة فى تمضية اى وقت معى على انفراد فى الوقت الحاضر , فمن لك بحارس امين افضل من صبى فى السابعة من عمره ؟ -اوه جايك . لا اعلم . انى حقا لا اعلم . ارادت ان توافق ,ان لم يكن لاى سبب فمعرفة ما اذا كانت العلاقة بينهما اكثر من مجرد نزوات متقطعة ومفاجئة. ولكن ..... لو كانت كذلك ,فماذا ستجنى ؟ ادارت وجهها عنه بتمهل وبدات تسير بهدوء نحو البيت –لدينا الان ابن و وثيقة زواج .لا اعلم اذا كنا سنجد مستقبلا طيبا لنا ام لا . ولكنى اعلم اذا كان بامكاننا انجاح هذا الزواج... لو حاولنا . كان يقف وراءها ويتحدث اليها بصوت جدى ناعم . لم تحتج او تعرض عندما وضع يديه على كتفيها وادار وجهها نحوه. امسك ذقنها ورفع وجهها نحوه قائلا : -انا اعرف ان فرص انجاح زواجنا قليلة وضعيفة,ولكننا يجب ان نحاول.لا اعرف كيف ستنظرين الى هذا الموضوع,يا تانيا.ولكن فيما يتعلق بي,فأنا رجل عنيد حقا ويجب ان ارى بأم العين ان نجاح هذا الزواج أمر مستحيل. انا لست مقتنعا حتى الان بحتمية فشله. كانت تقول لنفسها منذ سنوات عدة انها تكرهه.وكم من مرة قالت لها والدتها ان خيطا دقيقا جدا يفصل بين مشاعر الحب والكراهة المتساوية من حيث القوة وعمق الجذور. هل كانت تتصور طوال هذه السنوات انها تكرهه, فى حين انها كانت فى الحقيقة تحبه وتريده؟ نظرت اليه وحاولت ايجاد الشجاعة الكافية للرد عليه, ولكنها لم تتمكن من ذلك. تململ من صمتها قليلا,وقال: -اذا كنت خائفة من انني سأستغلك,فسوف اتعهد لك منذ الان بأنني لن ألمسك. -ليس هذا هو الامر.انا لا اعترض,مع انني...مع انني... -لن نتجاوز الحد الذى وصلنا اليه الليلة,ما لم تطلبي مني بالتحديد اكثر من ذلك. شلت نظراته القوية الملهبة قدراتها على التصرف او حتى الكلام. فسألها: -هل توافقين على اقتراحى بأن نحاول التعرف حقيقة على بعضنا؟ تنهدت تانيا وردت عليه ايجابا بكلمة واحدة فقط.وشعرت بأن جوا من الطمأنينة والسكينة خيم على افكارها وبأن تشككها من صواب قرارها زال واختفى: -هذا يدعو لمهر اتفاقنا بالعناق,اليس كذلك؟ منحها جايك وقتا كافيا لتغمض عينيها دليل الموافقة.كان جسمها كله يريد هذا العناق والنار الذى سيشعلها فيها. عانقها لفترة قصيرة ولكن دون تسرع,فأحست بلهيب ناعم يلفح جسمها ويثير مشاعرها.ارتجفت رغبة,فالتقط السترة من على الارض ووضعها حول كتفيها. هل تعمد اساءة فهم تلك الحركة ومغزاها؟ -هل أنت على استعداد للعودة الى المنزل؟ هزت رأسها موافقة, لانها تعلم ان وجودها معه هنا على انفراد ليس الا لعبا بالنار.أحست بسعادة كبيرة عندما تطوق كتفيها بذراعه وأبقاها ملتصقة به. سرقت نظرة سريعة الى وجهه,فشاهدت ابتسامة سرور واكتفاء... وربما انتصار.وتسألت عم اذا كانت تتصرف بغباء مرة اخرى! وسمعته يقول لها,وكأنه قرأ افكارها: -لن تندمي على قرارك ابدا.من المحتمل جدا ان تكتشفي بنفسك انني شخص محبب. ضحكت وقالت له ممازحة: -اعتقد ان بامكانك تحويل النمرة المتوحشة الى قطة وديعة,فيما لو صممت على ذلك واستخدمت سحرك وجاذبيتك. -لن اجد فى هذه الحالة اذن اى صعوبة على الاطلاق مع زوجة صغيرة طيبة. -المشكلة انني لست نمرة. -وانا لا اريد مجرد قطة وديعة. ظهر والده امامهما بصورة مفاجئة,فحياه جايك بهدوء وكأن وضع ذراعه حول جسم زوجته أمر طبيعي للغاية. وجه جاى دى نظرة استغراب سريعة نحو تانيا ثم قال وهو يبتسم بسرور حقيقي: -انها ليلة رائعة ,اليس كذلك؟ -قمنا بنزهة قصيرة على شاطئ البحيرة. لم تشعر تانيا بأنها قادرة على الخوض فى تفاصيل سخيفة عن الطقس والطبيعة فخلعت سترة جايك عن كتفيها قائلة: -اعذرني!أشعر...بقليل من التعب,واعتقد ان على الذهاب الى النوم. أحست بشئ دافئ وجميل للغاية فى نظرات جايك,عندما تمنى لها مبتسما ليلة سعيدة وهانئة. وشعرت بأن تلك النظرات أعادت الراحة والسكينة الى قلبها المعذب...
******نهاية الفصل الخامس******
6_الحلم المستحيل
مر الاسبوع الاول فى فترة الهدنة المعقودة بينهما بصورة عادية هادئة,وكأنه ليس بينهما اتفاق جديد بالغ الاهمية. ظنت تانيا فى بادئ الامر انه كان يمنحها فرصة للتراجع.ولكن ذلك من السخافة بمكان,لان جايك ليس من النوع الذى يسمح بتراجع احد عن كلامه او عهده. خرجت معه مرة لفترة قصيرة. ذهبا وجون,بعد انتهاء يومه الدارسي,فى رحلة لصيد السمك.كان الصبى سعيدا للغاية لوجود والديه سوية,مما جعل تانيا تشعر بالذنب لعدم مرافقهما قبلا. امتنع جايك حتى عن النظر اليها مؤنبا او معاتبا,واقتصرت النظرات التى تبدلاها على الاعراب عن الارتياح والسرور المتبادلين لسعادة الصبي وفرحه. مشت تانيا بتمهل ومتعة على الطريق الخاصة التى تصل المنزل بتقاطع طرق جانبية.وكانت الساعة تجاوز الثانية بقليل,مما يعني انه لا تزال هناك ثلاث ساعات قبل عودة جايك من رحلته شبه اليومية الى مكاتب الشركة فى هاتفيلد. كان يذهب احيانا برفقة والده,وبمفرده معظم الاحيان.وشعرت تانيا بخوف من الطريقة التى بدأت تترقب فيها بشوق ساعة عودته الى البيت. فتحت علبة البريد الموجودة فى الطريق وراحت تتفحص محتوياتها.وفجأة,برز اسمها واضحا على احد الظروف.لم يكن هناك اى مجال للخطأ او الاشكال.كان الظرف معنونا الى السيدة تانيا لاسيتر,وكانت تعلم وهى تفتحه ان الرسالة فى داخله ليست الا من باتريك راينز. حاولت مرات عديدة فى الايام القليلة الماضية ان تسطر له رسالة توضيحية,ولكنها لم تجد فى كل مرة سوى كلمات باردة ورسمية للغاية. وقرأت بغصة رسالته القصيرة التى طالبها فيها بمقابلته ظهر الاربعاء فى مطعم برسيمون تري واضاف انه ان لم يجدها هناك,فسوف يعرف انها لم تتمكن من مغادرة البيت.وكانت الرسالة فيهاالسطرين اليتيمين موقعة باسمه الاول فقط. وضعت تانيا رسالته فى جيب سروالها البرتقالى,فيما كانت تقاوم رغبتها فى الاسراع الى المنزل والاتصال به هاتفيا للرد على طلبه. امتنعت عن ذلك لانها سوف تتضطر للكشف عن اسمها الى السكرتيرته. وبما ان لم يكن لديها فى السابق اى سبب يدفعها للاتصال به فى مكتبه,فان اى اهتمام مفاجئ به سيفسح المجال للألنسة الثرثارة كي تبدأحملة قاسية ضدها. لن يكون لديها غدا الاربعاء الوقت الكافي كي تقرر ما اذا كان عليها مقابلته ام لا.وقالت تانيا الى نفسها بانقباض ان رفضها ملاقاته لن يؤدى الا الى تأجيل الامور,لان من المؤكد انه سوف يبعث لها برسالة مماثلة. قد لاتكون مضغوطة فى المرة المقبلة,ويعثر على رسالته شخص آخر. انها تذهب عادة الى التسوق فى هاتفيلد,وبالتالى فانها لن تثير شكوك احد ان ذهبت غدا.كانت تعرف انها سوف تقابل باتريك,ولكنها لم تكشف لاحد الهدف الحقيقي لذهابها...وبخاصة جايك. لم تصدق انه سيفهم الوضع على حقيقته وعندما اعلنت فى المساء عن قرارها الذهاب الى هاتفليد فى اليوم التالى, تقبل الجميع ذلك بصورة طبيعية. ولكنها لم تنجح بالسهولة التى كانت تتوقعها,لان جايك اقترح عليها تناول الغداء معه. اخفت عبوسها بسرعة كيلا تفضح نفسها.ما هى الاعذار التى يمكن التعلل بها لرفض دعوته؟شاهدها مترددة, فقرر منحها فرصة الانسحاب بشموخ. قال لها باسما: -اتصور ان عليك عدم التعويل كثيرا على هذه الدعوة,لانني لن اتمكن من تخصيص الوقت الكافي لوجودنا معا.ربما مرة اخرى؟ هزت تانيا رأسها وابتسمت بارتياح,قائلة: -مرة اخرى. هل جعله عدم وضوح رغبتها فى تناول الغداء معه يشك بوجود حافز اسمه باتريك؟لا,لا يمكن ذلك.سيضع اللوم على ترددها فى مقابلته على انفراد. اراد جزء منها ان يؤكد له عكس ذلك,وان يشرح له بالتفصيل اسباب اللقاء مع باتريك.ولكن صوتا باردا ظل يقول لها ان ذلك ليس من شأنه,وانها ليست مضطرة للافصاح عن حقيقة نواياها. حجبت الغيوم السوداء شمس اليوم التالي,وكان الرعد يهدر مهددا متوعدا.هطل المطر بغزارة ثم عاد الى وضعه السابق,خفيفا ومتقطعا.لم تكن ثمة خلفية مناسبة اكثر من ذلك اللقاء السري مع باتريك.الجو حزين وهى حزينة اكثر.كانت ترتجف فى سيارتها ارتباكا وضيقا.لم تفعل شيئا مماثلا من قبل. وعلى الرغم من حسن نواياها ونبل اهدافها,فقد شعرت بانها ارتكبت خطأ جسيما. حاولت جاهدة تناسي مشاعر الخجل المتزايدة, التي كانت تشعل احمرارا غير طبيعي فى وجنتيها. وضعت المظلة بشكل قريب جدا من رأسها,كي تخفي وجهها وهي متوجهة بسرعة الى المطعم.ولم تشع بشئ من الامان الا عندما اصبحت فى داخله. كان الوقت آنذاك تمام الثانية عشرة ظهرا.تنفست بعمق وهي تقترب من النادلة لتسألها عن باتريك. -هل انت بمفردك يا سيدتي؟ -لا,سأكون مع السيد باتريك راينز.هل تعلمين اذا كان قد وصل ام لا؟ -السيد راينز,نعم,طبعا.تفضلي معي,يا سيدتي. فهمت تانيا,وهي تتبع الشابة المهذبة نحو نهاية الغرفة الطويلة الضيقة,سبب اختيار باتريك لهذا المطعم بالذات. انه ممتاز لمن يريد الانفراد بأحد بعيدا عن عيون الفضوليين وسماجتهم.وكانت المقصورة التى اختارها باتريك لا تسمح لأحد على الاطلاق بأن يراهما.وقف بتأدب,فيما كانت تجلس الى الجانب الاخر من الطاولة وقال متمتما: -لم اكن اظن انك ستأتين. لم تتمكن تانيا من النظر الى عينيه اللتين كانتا تلتهبان شغفا وهياما.فتحت فمها لتشرح له سبب حضورها,الا ان النادلة عادت لتسأل بتهذيب جم عما اذا كان بحاجة الى اى شئ. احست بأن القهوة قد تساعد اعصابها المتوترة على الهدوء قليلا,فطلبت فنجانا كبيرا.كرر باتريك الطلب ذاته وصرف النادلة قائلا انه سيستدعيها لاحقا لطلب الطعام. ثم وضع يده بهدوء على يد تانيا للتخفيف من توتر اعصابها,الا انها سحبتها بسرعة ووضعتها على ركبتها المرتجفة. لم يتحدث اى منهما الا بعد ان احضرت النادلة فنجاني القهوة وانصرفت. اعتذر باتريك قائلا: -آسف لانك تشعرين بمثل هذا الانقباض والانزعاج,يا تانيا.اتمنى لو كانت ثمة طريقة اخرى تمكننا من اللقاء بارتياح. هزت كتفيها بعصبية وقالت: -لايهم كثيرا اين وكيف نلتقي هذه المرة.لم احضر الى هنا الا لاقول لك ان هذا هو اللقاء الاول والاخيربيننا. لم يصدق ما سمعته اذناه فسألها بذهول: -ماذا تقولين؟ -آسفة يا باتريك.ولكنني لن اتمكن ابدا بعد الان من مقابلتك على هذا النحو. -لماذا؟لماذا يا تانيا؟ -حاولت ان اكتب لك رسالة اشرح فيها اسبابي ودوافعي,ولكني كنت اجد كلماتها كل مرة باردة وجافة وغير شخصية.ولذا قررت مقابلتك اليوم كي اشرح لك... انني اتفقت وجايك على محاولة القيام بجهد لانجاح زواجنا. ظهر الغضب جليا فى وجهه وعينيه وقال لها وهو يحاول بصعوبة بالغة السيطرة على اعصابه: -ماذا؟انت اخبرتني بنفسك ان زواجك من لاسيتر كان فاشلا وشكليا,ولم يتم الا من اجل الصبي.فلماذا هذا الاهتمام المفاجئ بعد سبع سنوات من الانفصال لجعل ذلك الزواج حقيقة ثابتة؟ صححت معلوماته بحدة,مع انها تفادت الرد على سخريته الحادة واللاذعة,قائلة: -اننا لم نبدأ فجأة بمحاولة انجاح زواجنا.على اى حال,فمن المحتمل جدا الا تصل بنا هذه المحاولات ابدا الى اى نتيجة ايجابية. -اذا كنت تشعرين بالتشاؤم الى هذه الدرجة,فلماذا ازعجت نفسك بقبول اقتراحه؟ قالت تانيا انها بدأت فعلا تحب جايك,ولكنها لم تتمكن من اخفاء ذلك طويلا.وعندما سيكتشف انها تحبه,ستنهار تلك المشاعر الضئيلة من المحبة والثقة التى ستتمكن من الفوز بها خلال الاشهر القليلة. كيف ستتمكن من الاحتفاظ به الا بواسطة جون؟وهل ستكون قادرة على ذلك وهي تعلم بمدى الاشمئزازالذى سيشعر به جايك تجاهها؟ تنهدت وقالت لباتريك: -وافقت لان جايك اوحى لي صراحة باننا اذا اكتشفنا بعد فترة تجريبية لا تزيد على بضعة اشهر ان زواجنا لا يمكن ان ينجح,فالطلاق سيكون البديل البديهي. خفت تفسيرها من حدة غضبه الى درجة ملحوظة,وسألها: -الم يرد اي ذكر للطلاق فى فترة سابقة؟ -لا,بسبب جون.اعتقد ان جايك اكتشف بنفسه منذ عودته الى البيت انني لم اتحدث عنه بسوء الى الصبي,او انني حاولت استعداء جون على ابيه.واتصور ان جايك لن يشعر بعد الان ان الطلاق سيعني فقده محبة ابنه وثقته. احزنت هذه الفكرة قلب تانيا كثيرا,ولكنها مضت الى القول: -يشتهر آل لاسيتر بتعقلهم الشديد بالروابط العائلية.ومن المؤكد ان جايك لم يكن ليفكر سابقا بالطلاق مني,ما لم اكن انا راغبة او راضية للتخلي عن جون. ابتسم باتريك باعتذار وقال: -آسف جدا لانني كنت قبل قليل غاضبا الى تلك الدرجة. يمكنني الان ان افهم بسهولة سبب موافقتك على اقتراحه. ولكن...ماذا بشأني انا؟ كانت تعلم ان هذا السؤال لابد من ان يطرح فى نهاية الامر.وشعرت تانيا انه سيكون من غير المجدي اطلاقا, بالنسبة لباتريك,ان تطالبه بالانتظار. تطلعت اليه بطريقة تشعره بمدى تصميمها وثبات قرارها,وقالت: -يجب الا اراك بعد الان.يا باتريك. -هل تعتقدين حقا ان جايك سيمتنع عن مقابلة شيلا؟ صعقت تانيا لسماعها ذلك السؤال.لم تكن تعرف فعلا ما اذا كان جايك يقابل شيلا ام لا,باستثناء تلك المرة التي انضمت فيها اليه فى نزهته البحرية مع جون.ولكن باتريك هو شقيق شيلا ويجب ان يعرف اكثر من تانيا عن تحركاتها. اجابته بهدوء,وهي تستغرب رد فعلها الانفعالي على السؤال: -لا ادري اذا كان يتقابلان ام لا.كما ان هذا الامر لا يؤثر ابدا على قراري الامتناع نهائيا عن مقابلتك انت. -هل هناك من سبب يحملني على الانتظار؟ -كلا .وانا لا اطالبك بذلك. رد عليها بكثير من المرارة والأسى: -هذا يوضح كل شئ بصراحة,اليس كذلك؟ -آسفة يا باتريك.اني حقا آسفة.انا اعرف مدى اعجابك بي... -اعجابي بك!رباه,ماذا اسمع! شاهد نظرة المذنبة التي ظهرت بجلاء فى عينيها,فابعد وجهه عنها وفجأة سألها بهدوء لا يصدق: -هل ابلغت جايك بانك آتية الى هنا؟ ردت عليه بصوت خائف متهدج: -لا,طبعا لا! -لقد دخل الان لتوه. حاولت النظر نحو مدخل المطعم,فهمس باتريك بحدة: -لا!لاتنظري حولك! احست بانها تكاد تتقيأ وسألته بصوت منخفض: -هل شاهدنا؟ _لا,لااعتقد ذلك.انه مع ذلك الرجل ماكلاود من دنفر جلسا لتوهما وظهر جايك الينا. ثم ابتسم بسخرية قائلا: -اتصور انك لا تريدينه ان يعرف باجتماعنا هذا! -طبعا لا.ماذا سنفعل الان؟ -لا يمكننا ان نغادر هذا المكان من دون ان يرانا. وبالتالي,فاني اقترح باخلاص ان نتناول طعام الغداء. لم تأكل تانيا معظم الوجبة الخفيفة التي طلبها لها باتريك. كانا جالسين بصمت,اذ لم يعد ثمة شئ هام يتحدثان فيه...كما ان الوقت لم يكن مناسبا للبحث في امور اخرى كالطقس والسيارات وغير ذلك من الموضوعات العادية. -اعتقد انهما سيذهبان.ها هما وقفا ويتجهان الان نحو الباب. سنظل هنا بضع دقائق اخرى للتأكد من ذهابهما نهائيا. شعرت تانيا بانها اعفيت من حكم الاعدام. ظلت جالسة عشر دقائق تقريبا قبل ان تتوجه وباتريك الى مدخل المطعم كي تأخذ مظلتها ومعطفها الواقي من المطر. قال لها: -ربما كان من الافضل ان نغادر المطعم كل على حدة. هزت رأسها بالموافقة ومدت يدها بتردد لمصافحته وهي تقول: -آسفة,يا باتريك,لان الامور تطورت على هذا النحو. -انا آسف اكثر منك بكثير.حظا سعيدا,يا تانيا.واخشى انك ستكونين بحاجة الى ذلك. غادر باتريك المطعم على عجل,فيما ظلت تانيا واقفة هناك بعض الوقت قبل ان تخرج بتمهل وتتوجه نحو سيارتها. وما ان اقتربت قليلا حتى فتحت فمها دهشة وهلعا لانها شاهدت جايك يجلس وراء المقود.لم يكن امامها مجال للهرب.انطلقت السيارة نحوها بسرعة وتوقفت بعنف على بعد خطوة منها. نزل جايك بعصبية واستدارحولها ثم فتح الباب الامامي بحدة فائقة. رأت تلك النظرة الفولاذية القاسية في عينيه,فقدت اى امل في امكانية الشرح او الايضاح.وقبل ان تخطو بصعوبة نحو الباب سمعته يسألها غاضبا: -فى اي فندق تريدين مقابلته؟ شعرت بوطأة الاهانة الجارحة,فصفعته بأقصى قوتها وحبست عزة نفسها الدموع فى عينيها,حتى عندما امسك بكتفيها وهزها بعنف شديد. خدرتها عيناه الفولاذيتان ورأت مدى الانفعال الذى اثارته فى نفسه,الا ان غضبه لم يخفف من شعور الاذلال الذى غمرها نتيجة لاتهامه الكاذب. دفعها بقوة الى السيارة,ثم جلس وراء المقود وقادها بسرعة جنونية. علمت انه سيذهب بها الى البيت,وكانت تعيسة لدرجة انها لم تأبه اطلاقا للمناظر الخلابة التى تنعم بها تلك المنطقة.كان صمته المطبق اشد ايلاما وادنة تقريبا من كلماته السابقة,وكادت ان تبكي الما وعذابا. حاولت مرات عديدة ان تستجمع قواها وتشرح له سبب مقابلتها لباتريك, الا ان الكلمات كانت تموت على شفتيها كلما نظرت الى وجهه المتحجر القاسي وملامحه المرعبة. اوقف السيارة امام المرآب,فقفزت منها بسرعة وتوجهت نحو البيت.كانت تأمل فى الوصول الى غرفتها قبل انهيار سيطرتها على اعصابها وانهمار الدموع غزيرة من عينيها. كان جايك اسرع منها,اذ امسكها بعنف وسألها بلهجة قاسية: -الى اين تظنين انك ذاهبة؟ اجابته بمرارة بالغة,وهي غير مبالية بأن تضيف كلماتها املاحا حارقة الى جروحها: -للاتصال بباتريك طبعا,كيلا يقلق عندما لا يجدني فى الفندق!وهل تظن ان ثمة سبب اخر يدفعني الى الدخول بمثل هذه السرعة؟ -اود ان ادق عنقك الخائن بهاتين اليدين. ووضع يديه القويتين حول عنقها وكأنه على وشك تنفيذ تهديده,ثم قال: -لم تشمل الصفقة الي توصلنا اليها اي بند يسمح لك بمقابلة باتريك على هذا النحو.ماذا كنت تنوين القيام به؟استغلالنا معا؟ وجدت صعوبة كبيرة فى اخراج كلماتها الغاضبة المستاءة ولكنها قالت: -لمعلوماتك الخاصة,يا سيد لاسيتر,لم اكن احاول استغلال اي شخص على الاطلاق.التقيت باتريك لابلاغه بانني لن اقابله بعد الان.واؤكد لك بانني لا ابالي ابدا اذا كنت ستصدقني ام لا! -لا يمكنني ان اتحمل الكذب علي.ان لم يكن كلامك هذا صحيحا,فسوف اعرف الحقيقة فى نهاية الامر. فتحت عينيها عندما اصبح عنقها طليقا من قبضته القاسية وتمتمت قائلة: -هذه هي الحقيقة يا جايك.تصورت ان من الانصاف فقط ابلاغه عن اتفاقنا على... اجهشت بالبكاء فاختنقت بقية الكلمات فى حلقها.احنت رأسها وراحت تجفف الدموع التي انهمرت على وجنتيها. وضحك جايك بانزعاج وهو يقول لها: -يا لك من انثى غبية ومجنونة!عندما شاهدتك مع راينز فى تلك الزواية اللعينة من المطعم,ادركت ان هذا اللقاء كان سبب هلعك امس عندما دعوتك الى تناول الغداء معي.شعرت بانني سأفرح كثيرا لو ضربتكما معا.اضطر ستيف ماكلاود ان يكرر نفسه مرات عديدة,لأنني لم اكن اركز على كلامه.كل ما كنت افكر به آنذاك هو وجودكما معا في لقاء علني,وتجاهلك باستخفاف للا تفاقية التي توصلنا اليها لتونا. نظرت اليه بشموخ وقالت بصوت لا يزال ضغيفا ومتهدجا: -لم يكن الامر كذلك على الاطلاق. مد يديه نحوها حتى كادتا ان تلامسا كتفيها,الا انه اعادهما الى جانبيه في اللحظة الاخيرة. شعرت تانيا بأن غضبه زال تماما,وتأكد لها ذلك عندما امسك باحدى يديها برقة ونعومة قائلا: -اعرف ذلك الان.اني ادين لك بالاعتذار,وهذه المرة اقدمه لك دون تردد.كان علي الا اتهمك فورا,او على الاقل ان استمع الى تبريرك لما حدث. تنهدت تانيا بقوة لانه فاجأها بكلامه هذا الذي لم تكن تتوقعه. سألته بتردد: -هل تصدقني؟ ابتسم بحنان واجابها: -نعم,اصدقك. ارادت ان تلقي نفسها بين ذراعيه وان تظل هناك حتى يذوب عذابها والمها الشديدان.بللت شفتيها بلسانها,وهي تدرك انه لاحظ ذلك بسرور. ثم قالت له بهدوء وارتياح: -شكرا لانك صدقتني.كان على اطلاعك على ما كنت انوي القيام به. -لم نصل بعد الى المرحلة التي يثق فيها الواحد منها الى بالاخر.الا انه كان لهذه الحادثة المؤسفة جانب ايجابي سمح لكل منا بمعرفة المزيد عن الاخر. -ماذا تعني؟ -كنت تعرفين دائما انني ذو مزاج عصبى كريه.ولكنني آمل ان تكوني اكتشفت اليوم انني قادر على الاعتراف بالذنب عندما ارتكب خطأ. كانت ملامحه تتسم بالود والحنان ليس الا,عندما مضى الى القول: -كذلك علمت انا انك لا تتعمدين خداعي.انا سعيد لانك انسانة امينة وصادقة,لاني لست من صنف الرجال الذين يسمحون باستغلالهم. -اعتقد انني كنت اعلم ذلك. وادارت وجهها ثانية نحو البيت,الا انه قال لها بصوت منخفض: -لم تتمكني اليوم من التسوق في هاتفليد.وبما انني مضطر للعودة الى المكتب,فمرافقتك لي ستكون على الرحب والسعة. ارغمت تانيا نفسها على توجيه ابتسامة خفيفة له وتابعت سيرها.وكانت تظن انه سيلحق بها.ولكنها ما كادت تصل الى الباب,حتى سمعت صوت المحرك وشاهدته ينطلق بالسيارة نحو البلدة. عاد جايك ووالده,فيما كانت تانيا تعد مائدة العشاء. خرجت جوليا لاستقبال زوجها وابنها,وانضم اليها بعد لحظات صبي سعيد يتشوق لرؤية ابيه وجده. وتمنت تانيا لو انها بامكانها الخروج كزوجة عادية لاستقباله والترحيب به وبوالده,الا انها اكتفيت بالبقاء في غرفة الطعام والاستماع الى اصوات الاشخاص الاربعة في الخارج. سمعت جوليا تسأل جايك بصوت مرح عما يحمله بيده,وتبع ذلك سؤال مماثل من جون. -انها هدية .اين والدتك؟ -لا اعرف. -انها تعد المائدة يا بني. وسمعت تانيا صوت اوراق تتمزق و جون يقول: -انها جميلة يا ابي. ثم سمعت صوت اقدام قوية تقترب من غرفة الطعام, فحبست انفاسها.جايك قادم لرؤيتها.ادارت وجهها بعيدا عن الباب ,وراحت تعبث بالمعالق والشوك الفضية الموضوعة بعانية قرب الصحون الخزفية الثمينة. -تبدو لي الطاولة جميلة جدا ولا تستدعي المزيد من الاهتمام. بدأت تانيا تردد كلمات الترحيب المعتادة,وهي تستدير نحوه بهدوء بالغ: -مرحبا يا جايك.علمت بوصولكما انت وجاي دي. سيكون العشاء جاهزا خلال فترة وجيزة. تحولت ملامحها الهادئة الى دهشة ذاهلة وهي تحدق بباقة من الورود الصفراء الرائعة كان يحملها بيديه. ابتسم لها برقة قائلا: -هذه الورود لك,الن تأخذيها؟ اخذت تانيا الباقة بيدين مرتجفتين ولامستها بأنفها,كي تنعم بالمزيد من عطر رائحتها...وتتأكد من انها حقيقية. -هل تعجبك هذه الورود؟ -انها...انها رائعة.ولكن لم تكن بحاجة لازعاج... قاطعها بصوت دافئ هامس,قائلا: -احببت ان احضر لك باقة من الورود. حزنت تانيا لان الورود كانت هدية اعتذار عن تصرفه الغاضب وسألته بهدوء: -هل احضرتها بسبب ما حدث بعد ظهر اليوم؟ ابتسم بطريقة مداعبة جعلت دقات قلبها تعنف وتتسارع وقال: -انت لست طفلة ارفه عنها واعيد البسمة الى وجهها بمجرد احضار هدية لها.لا يمكننا,يا عزيزتي,التعويض عن الاذى الذي الحقه كل منا بالاخر طوال السنوات الماضية.بامكاننا قط ان نحاول عدم ايذاء بعضنا في المستقبل. -فلماذا الورود اذن؟ -لانني اردت ببساطة ابتياع بعض الورود الفريدة لامرأة فريدة.هل يكفي ذلك؟ -نعم.لم يأتني احد من قبل باى ورود على الاطلاق. تسمرت في مكانها عندما شاهدت وجهه يقترب من وجهها.احمر وجهها كثيرا وقالت له بصوت منخفض متلعثم انها مضطرة لوضع الورود في الماء. كانت جوليا واقفة في المطبخ عندما دخلت تانيا لاحضار الماء.نظرت اليها بعينين تضجان فضولا واستغرابا, وتنتظران توضيحا او تفسيرا لهذه الخطوة النادرة. ولما لم تحصل على اي ايضاح قالت لها بهدوء مصطنع: -انها ورود جميلة جدا,اليس كذلك؟لماذا لا تضعينها في ذلك الاناء الشرقي الكبير؟ستكون رائعة في منتصف المائدة. رفضت تانيا ان يشاركها احد في اول هدية عاطفية لها من جايك,وقالت: -ان لم يكن لديك مانع,يا جوليا,فاني افضل وضعها في غرفتي. تراجعت جوليا لاسيتر ببرودة كأن احدا صفعها بعد تقديمها اقتراحا وديا للغاية.وقالت: -بالطبع يمكنك اخذها الى غرفتك.كانت فكرة المائدة مجرد اقتراح بسيط.انا اعلم ان جايك احضرها لك انت. اوحت لهجة جوليا انها تعتبر نفسها اجدر من تانيا باستلام مثل هذه الهدية الرقيقة.وتنهدت الزوجة الشابة,رافضة بعناد التراجع عن قرارها بالرغم من العتاب المبطن في كلام جوليا. كانت تعلم انها ليست ورودا حمراء...ورود الحب,وانها لا تعني سوى لفتة ودية من جانب جايك.الا ان اهميتها البالغة تكمن في انه اعطاها شيئا دون ان يشعر بانه مرغم على ذلك. لما اختلت تانيا بنفسها في وقت لاحق من تلك الامسية, اخذت تلك الورود الخاصة التي لامستها اصابع جايك ووضعتها على وسادتها. وشعرت ان تلك الخطوة الغزلية البسيطة لم تكن الا اعترافا صريحا بحبها لزوجها. كانت تحارب هذا الحب وتحاول الحيلولة دون قيامه,لانها تعلم انه سيلحق بها في نهاية الامر آلاما لن تتمكن من احتمالها. شعرت بشئ من العزاء عندما اقنعت نفسها بان الحب لن يكون حبا بالفعل,مالم تمحنه لجايك ويبادلها هو اياه.وصممت على الا يعرف ابدا انها تجد فيه اكثر بكثير من مجرد الجاذبية الاثارة. خرجت الى الحديقة وهي تحاول خداع نفسها بانها لا تريد رؤيته الان الا ان لتشكره ثانية على الورود الجميلة. ولكنها وجدت والده عوضا عنه,فسألها باسما: -هل تبحثين عن جايك؟انه في غرفة المكتب يطلع على بعض الخطوط العريضة والمواصفات الاولية لمشروع جديد.واعتقد انه لن يتضايق ابدا من جراء ذهابك اليه. اخجلتها توقعات جاي دي الصحيحة,فقالت له كاذبة: -لا,لم اكن ابحث عنه.ذهب جون الى النوم وشعرت انا برغبة لتنشق القليل من الهواء قبل ان افعل نفس الشئ. -فكرة لا بأس بها.اجلسي.انها ليلة هادئة وساكنة. جلسا بصمت بضع لحظات كادت تانيا ان تنسى خلالها وجود شخص اخر قربها. ثم سمعته يسألها بهدوء: -يبدو ان العلاقة بينكما تتحسن باستمرار,اليس كذلك؟ لم تعلق بشئ على ذلك السؤال الذى لم ينتظر موجهه ردا عليه,فعاد يسألها: -هل زالت كراهيتك لابني يا تانيا؟ ردت عليه ايجابيا بكلمة واحدة,وتطلعت الى الجهة اخرى آملة في انهاء محادثة لم تبدأبعد. -اعتقد انك عندما اتيت الى هنا كنت تذكرين نفسك كلما تنفست بانك مضطرة لكرهه طالما حييت.ولكن,بالطبع,حرمك الزمن من تلك المتعة التي كنت تتوقعينها من جراء اتعاس رجل طوال حياته بسبب خطأ جسيم ومؤسف. -ربما كان ذلك صحيحا,او ربما ان الزمن يضع الامور في اطرها الحقيقية.لا يمكن للانسان ان يدين شخصا طيلة عمره بسبب اذية اليمة واحدة. ابتسم الرجل بارتياح وقال: -انا سعيد جدا بكلامك هذا يا تانيا.واتمني باخلاص ان تسنح لكما الفرصة لجعل زواجكما يسير في الوجهة الصالحة. خيمت مسحة حزينة على وجهها وقالت: -لا اعول كثيرا على هذه المحاولات,يا جاي دي.فزواجنا لم يكن مبنيا على الحب. -الحب يا عزيزتي كشجرة الارز التي يمكنها ان تنمو في اصعب الاماكن...الاماكن التي يبدو ان ليس فيها امل للبقاء او النمو.والحب الذي يشبه هذه الشجرة الرائعة, والقادرة على تخطى جميع الصعوبات والعراقيل,هو اثمن واغلى من اي حب اخر. ردت عليه بصوت متعذب متألم: -لا...ارجوك!اعرف انك تحاول التأكيد لي بان شيئا عظيما يمكن حدوثه بعد سبع سنوات.ولكن,لا تحاول ان تبني آمالا كبيرة على ذلك. ثم اضافت بعينين دامعتين: -حب كهذا اشبه ما يكون بالاعجوبة,ولا اتصور ان مثل هذه الاعاجيب ستحدث هذا العام. -لم اقصد مضايقتك يا صغيرتي. قامت تانيا من كرسيها وهرعت الى البيت.رفضت ان تدع حلمه المستحيل يسيطر على قلبها وفوائدها.كانت تعلم حقيقة انه ليس لهذه المحاولات اي امل بالنجاح.
******نهاية الفصل السادس*******
7-المحطة التالية
كان الصبيان الصغيران يلعبان ويمرحان...ويصرخان. واخيرا,وضع جايك اصبعيه في فمه واطلق صفيرا مفزعا احدث صمتا فوريا...وحمل تانيا على الابتسام. -سنذهب اولا الى ذلك المكان الرائع الذي يسمى فندق العجوز. اعترض جون قائلا: -ولكني اريد الذهاب اولا الى منطقة ارض النار! ايده في ذلك زميله في المدرسة داني جيلبرت,قائلا: -وانا ايضا. -فندق العجوز اولا,ثم الى ارض النار. قالها جايك بلهجة حازمة لا تقبل الاعتراض او حتى المناقشة,فانصاع الصبيان الصغيران صاغرين وسارا نحو المخزن العام. وضع جايك يده على مرفق تانيا وقال ممازحا: -يا لهذين القردين الجميلين! ضحكت تانيا وردت بمرح مماثل: -كنت اتوقع ذلك عندما اقترحت على جون احضار احد اصدقائه الى مدينة رعاة البقر...مدينة الدولار الفضي. زادت ابتسامتها من حلاوة احمرار وجنتيها,ولم يكن ذلك من حرارة شمس الصيف ولا لانها كانت تبدو جاذبة جدا تتبعها عيون المعجبين كيفما سارت. كانت مرتاحة للتودد الدافئ الصادق الذي يصدر بعفوية وحنان ظاهرين من الرجل الذي يسير قربها,وللعلاقة الطيبة القائمة بينهما منذ انتهاء مدرسة جون وخروج العائلة في نزهات ورحلات متعددة. اعطى الصغيران تذكرتيهما الى الشخص المسؤول ودخلا احد مراكز التسلية في مدينة الملاهي الشعبية. ابتسم جايك وقال لزوجته: -هذا لصبي داني من الذين يطرحون اسئلة عديدة ومحرجة.شعرت اثناء حضورنا الى هنا بانه يستجوبني كمحقق عدلي. -هذا ما كان يقوم به فعلا.داني جيلبرت هو الصبي الذي اعرب لجون عن شكوكه بان لديه والدا في افريقيا,او ان ليس لديه والد على الاطلاق.ولهذا السبب بالذات,راح داني يسألك بحماس منقطع النظير عن الاسود والفهود. -ولا تنسي الفيلة. -وكذلك الزرافات.اعتقد انك خذلت جون كثيرا عندما اخبرت داني ان معظم هذه الحيوانات موجودة ضمن حدود معينة لا يمكنها تجاوزها. -كان عليك تحذيري مسبقا بان داني هو المحرض الاساسي على كتابة تلك الرسالة التي اعادتني الى الوطن.كنت اخترعت له قصة طويلة عن رحلة صيد شجاعة في الادغال والبراري. -اعتقد ان جون مرتاح جدا لمجرد عودتك الى البيت. نظر اليها بتمعن وسألها بهدوء ملحوظ: -وماذا بالنسبة لك يا تانيا؟هل انت ايضا سعيدة بعودتي؟ رفضت الرد على سؤاله بجدية,وقالت له ممازحة: -ثمة اوقات يكون فيها وجودك مجديا ونافعا,فانت مثلا مرب ممتاز لجون. لم يحاول دفعها الى التصريح بأكثر من ذلك,اذ ابتسم وقال: -جميل ان يكون الانسان نافعا في بعض فترات حياته.ها هما يعودان! خرج جون وداني من الباب بحماس ومرح شديدان لا يوازيهما شئ سوي لهفتهما لدخول ذلك المبنى قبل قليل. وسأل جون والديه بتشوق بالغ: -اين محطتنا التالية؟ قالت تانيا انها تقترح المحل المخصص لبيع السكاكر والحلويات.وبعد ربع ساعة كان الاربعة يخرجون من ذلك المكان وهم يأكلون بسرور حلوياتهم المجففة. وسأل داني والد صديقه اذا كان بامكانهم جميعا الذهاب الى تلك البقعة التي تمثل قرية للهنود الحمر.وعندها هز جايك رأسه موافقا امسك داني بذراع جون وقال: -هيا بنا. لنذهب الى الجسر المعلق. سار جايك وتانيا وراءهما بتمهل وهما يتأملان ما يجري حولهما من ترفيه وتسلية ومرح,وشاهدا فتاتين مراهقتين تسيران نحوهما بسرعة وهما تضحكان وتتسامران,دون ان تنظرا امامهما. كادت احدى الفتاتين ان تصطدم بجايك لو لم يضع يديه امامه ويوقفها.رفعت رأسها نحو وجهه بدهشة واحمرت وجنتايها بسرعة فائقة قبل ان تقول له متلعثمة: -اعذرني!انا آسفة! ترك كتفيها وغمزها بمرح وهو يقول لها ممازحا: -كان ذلك من دواعي سروري,يا آنسة. احست تانيا من نظرات الذهول التى رأتها تهيمن على وجه الفتاة,ان جذابية جايك وسحره سجلا انتصارا جديدا. سمعت الفتاتين تتأوهيان باعجاب ظاهر وهما تبتعدان عنهما,وشاركتهما ضمنا كلمات الاطراء التي تبادلتاها عن جايك. -ولماذا هذه الابتسامة الخبيثة,يا عزيزتي؟ ارادت ان تغيظه قليلا,فقالت بلهجة ساخرة بعض الشئ: -اوه,ظنت هاتان الصبيتان انك وسيم جدا. -وهل توافقينهما على رأيهما هذا؟ تظاهرت بأنها تتأمل وجهه بتمعن,وكأن صورته ليست مطبوعة في رأسها وخيالها,وقالت بتمهل مزعج: -اعتقد...اعتقد انك متغطرس الى حد,مما يحرمك من الوسامة الحقيقية. سمعت ضحكة خفيفة وراءها فيما كان يطوق خصرها بذراعيه ويقول مداعبا: -تانيا لاسيتر,انت تغازلينني الان. انطلقت من موضع يديه موجات حرارية قوية عمت كافة انحاء جسمها ولكنها امسكت بذراعيه في محاولة لابعادهما عنها وقالت لاهثة: -لا,لم اكن. اجابها برقة وهو يحدق بشفتيها: -لا بل كنت,وسوف تتحملين مسؤولية هذه . -جايك,الناس يراقبوننا. نظرت حولها بسرعة فلم تشاهد اى شخص قربهما ولكنها مضت الى القول: -كذلك...كذلك فانا لا ارى جون وداني. وضع اصبعه على خدها الوردي وقال لها بهدوء: -اذا كان الولدان السبب الوحيد لممانعتك,فسانتظر وقتا يكون مناسبا اكثر من الان. لحقا بالولدين الصغيرين فيما كانا يرقبان نجارا ماهرا يحفر اشكالا خشبية جذابة.وشاهدا امام الباب تمثالا خشبيا لاحد الهنود الحمر يقف بشموخ وعنفوان وهو يضع ذراعيه على صدره. سأل جايك ابنه بهدوء: -هل تحب ان تراه يحرس حديقة البيت؟ -اعتقد انها فكرة رائعة,ولكني اتصور ان جدتي لن توافق على ذلك. وضع جايك يده بحنان على رأس الصبي,وقال له ضاحكا: -اظن انك على حق يا حبيبي. ثم نظر الى تانيا وقال: -اني احسد هذا الهندي. ولما ابتسمت استغرابا وسألته عن سبب ذلك,قال: -ليس لدي قلب خشبي مثله. تسارعت دقات قلبها عندما سمعت تلك الكلمات المختارة بدقة وعناية,والتي صدرت عنه بنعومة وروية. انه يغازلها كما كانت تغازله قبل قليل.وكان من حسن حظها ان الصبيين كان هناك,فحولت انتباها اليهما... بعيدا عن ذلك البريق المزعج في عينيه. سألتهما وهي تعرف مسبقا انها ستحظى برد ايجابي فوري: -هل تريدان الان زيارة المنجم؟ ونظرت الى جايك باسمة وقالت: -كنت سأقترح معمل الزجاجيات والخزفيات ولكنني اخشي ان يتصرفا كثورين هائجين يحطمان كل شئ حولهما. سألهما جون وهو ينظر بأمل نحو والده: -هل ستأتين معنا هذه المرة؟ كانت تانيا على وشك الموافقة عندما وضع جايك يده فجأة على كتفها وقال: -لا,اذهب انت وداني بمفردكما. بعد دقائق معدودة,كانت تانيا تراقب الولدين وهما يدخلان النفق.كان جايك يقف وراءها مباشرة,والحرارة المنبعثة من جسمه اقوى من حرارة الشمس. وسمعته يسألها بايجاز: -هل لديك انت؟ -هل لدي ماذا؟ -هل لديك قلب خشبي؟ ضحكت تانيا فى محاولة لاظهار سؤاله كأنه نكتة طريفة,وقالت: -طبعا لا. -لو افترضنا انني اصبحت احبك,فماذا ستفعلين؟ اتسعت عيناها ذهولا وخوفا,فقال لها على الفور بلهجة ساخرة: -لا تخافي ,يا عزيزتي.لم اتحدث عن الحب الا افتراضا. استدارت عنه بسرعة وهي تبحث حائرة عن سبيل للتهرب من حديثه ثم تمتمت قائلة: -لم يخطر هذا الموضوع ببالي ابدا,وعليه فانني لا ادري ماذا سأفعل. -لماذا لا يمكنك افتراض ذلك؟انت امرأة جميلة وجذابة, وعلاقتنا تسير على ما يرام منذ شهرين.اصبحت متأكدا الان من انك ام ممتازة,ومن ان لديك نظرة جدية بالنسبة للأمور التي اعجب بها واحترمها.وخلاصة القول ان لديك معظم الصفات التي اريدها في الزوجة.وانا اتحدث هنا عن زوجة حقيقية. احست ان رجليها تجدان صعوبة بالغة في حملها,ولكنها مازحته قائلة: -ها قد عدت لمغازلتي مرة ثانية. -ربما.ولكن ما قلته لك هو الحقيقة بعينها.عدت الى الوطن والى البيت,واريد ان ابقى.تعجبني كثيرا فكرة وجود بيت وحياة وعائلة,وزوجة جميلة تعد لي الطعام وتحضر لي اوراقي وملفاتي.عندما انظر الى جون,اتصور بجدية انه سيفرح كثيرا بوجود شقيق... او ربما اخت صغيرة ذات عينين جمليتين وشعر اشقر جذاب. -لا...لا تتحدث هكذا! حاولت ان تبتعد عنه لالتقاط انفاسها,ولكنه امسك بكتفيها والصقهما بصدره. ثم سألها هامسا: -لم لا؟هل ما زالت تجدين صعوبة بالغة في مبادلتي الحب,حتي بعد هذه العلاقة الجميلة الرائعة التي قامت بيننا طوال الاسابيع الماضية؟ -لا...اعني...نعم... شلت مداعبته لأذنها وعنقها جميع قدراتها على التفكير بروية وسكينة. -اعتمدي جوابا واحدا.نعم ام لا؟ احست بحاجة يائسة للابتعاد عنه قليلا,وقالت له بصوت مختنق: -ارجوك يا جايك.لا اقدر ان افكر بطريقة صحيحة وسليمة عندما تداعبني على هذا النحو. -هذه خطوة في الاتجاه الصحيح. -انها لاتعني شيئا.كل انسان يتجاوب مع المداعبة والمغازلة. احست بفراغ هائل يعصر قلبها عندما لم تعد تشعر بلمساته ومداعباته,الا انها استجمعت قواها ومضت الى القول بهدوء مصطنع: -انك تعجبني.اعتقد انك والد جيد,وكذلك رجل وسيم وجذاب.ولكنني لا اظن انني على استعداد لتعقيد حياتي بوقوعي في حبك. -كيف يكون وقوعك في حبي سببا في تعقيد حياتك؟ من المؤكد ان هذا الامر سيجعل حياتك طبيعية وخالية من التعقيد,بما انك متزوجة مني. وجدت تانيا نفسها في فخ من صنع يديها,فاحتجت بالقول: -انك لا تفهم الموضوع. -احاول ذلك قدر استطاعتي.ربما كان عليك ايضاحه بصورة افضل. -لا...لا اظن ذلك. تحولت نظرات الاستغراب في عينيهاالى حدة وانقباض,وسألها باستياء: -لم لا؟ -لانني ببساطة,لا اريد ذلك.ليس الان,على اي حال. -انا لاالعب معك يا تانيا.اني احدثك بجدية بالغة عندما اقول لك اني اريد انجاح زواجنا.لم يكن الامر سهلا, ولكننا تمكنا في الاونة الاخيرةمن تناسي الماضي الاليم. لا تحاولي التمسك بمرارة الماضي القديمة,لان ذلك لن يؤدي الا الى الحاق المرارة بالمستقبل وافساده. تنهدت بحزن وقالت: -اعرف ذلك.ولكن ثمة اشياء معينة لا يمكن للانسان ان ينساها بسهولة,مهما حاول جاهدا. -يجب ان ننسى يا تانيا. يجب ان ننسى,والا ذهبت جميع محاولاتنا هباء. -انت قلت بنفسك,يا جايك,ان هذه الامور تتطلب وقتا. التمني وحده لن يزيلها. سألها بصوت ناعم وهويدير وجهه عنها: -هل تعتقدين بان ثمة املا في النجاح؟ نظرت الى عينيه شبه المغمضتين,وتمتمت قائلة: -احيانا.احيانا اعتقد ذلك. ابتسم وقال لها بلهجة توحي بثقة كبيرة: -اني مضطر لحملك على استبدال كلمة احيانا بعبارة افضل...معظم الاحيان. -اتمني لو كان بامكانك ذلك يا جايك. احنت رأسها قليلا ولكنه امسك بذقنها ورفع وجهها نحوه قائلا: -كل ما عليك القيام به هو مقابلتي في منتصف الطريق. انا لم اطلب منك ابدا ان تكوني انت التي تعطي كل شئ وتقوم بكافة الخطوات الضرورية.ولكن الزواج ليس مشروعا يتقاسمه اثنان بنسبة خمسين في المئة لكل منهما,كما يقول بعض الناس.كي يكون الزواج ناجحا يجب على كل من صاحبي العلاقة ان يشارك بنسبة مئة في المئة. -ألم تتصور ابدا انك ربما كنت تطلب الكثير من كلينا؟ -ألم تتصوري انت ابدا انك ربما كنت تصنعين من الحبة قبة؟اسمعي!لنأخذ هذا الموضوع بهدوء وروية,ونتوقف عن محاولة دفع الامور بسرعة لا تتحملها. ابتسمت تانيا وسألته: -هل لديك ثقة عمياء بالمستقبل؟ -ألا تعتقدين ان بامكاني ارشادك الى الهدف الصحيح والى شاطئ الامان؟ شعر انها غير راغبة في الاجابة,لانها سوف تضطر للاعتراف بشئ ليست مستعدة بعد تماما للاعتراف به. امسك بيدها وقال بحنان: -ها قد عاد الشابان الصغيران.اعدي نفسك لهجومهما. ارض النار هي محطتنا التالية. قاموا بجولة كبيرة شملت ارض النار وبيت الشجرة والبيت العائم,وتوقفوا مرات عديدة للتفرج على كيفية بناء غرفة من جذوع الاشجار,وصنع الشموع.وشاهدوا عددا كبيرا من الحرفيين الموهوبين وهم يعملون امام حشد من المتفرجين.تعلموا كيف تصنع الادوات الفخارية والخزافية,وكيف تحاك الاغطية,وكيف تقطع الاخشاب. ثم اعلن جون لأمه انه جائع,ووافقه داني على ذلك بسرعة ودون تردد. نظر جايك باسما الى وجنتي تانيا الورديتين,وقال: -وانا ايضا جائع,يا اماه. ردت عليهم بمرح,وهي تحاول اخفاء الحياء الخجول الذي بدا على وجهها بسبب جملته: -هيا بنا الى السيارة. -اين سنتناول غداء النزهة يا تانيا؟ -على صخرة الالهام. -الى صخرة الالهام اذن. رفع جون رأسه بمجرد الانتهاء من أكله,وقال: -لنصعد الى قمة التلة. نظر جايك نحو تانيا بتحد مرح,وسألها: -هل انت مستعدة لذلك,ام انك اليوم صعدت تلالا بما فيه من الكافية؟ -لن ارفض التمتع بهذه المناظر الخلابة مهما كنت متعبة او مرهقة. وقف جون وداني صامتين وهما يتأملان ذلك المنظر الفريد.وقالت تانيا بصوت ناعم هادئ: -انها رائعة,اليس كذلك؟ طوق خصرها بذراعيه وشدها نحوه قليلا,ثم قال: -يقول العلماء ان هذه المرتفعات المسماة تلال أوزارك هي اقدم جبال او مرتفعات في هذه القارة.وانه لامر مثير للدهشة انها لا تزال تبدو غير متأثرة بالحضارة والمدينة على الرغم من هذه السنوات الطويلة. -ابي,كم عمر هذا الممر الذي يقولون ان احدا لا يعرف قدمه؟ -اجبت سؤالك بنفسك,لان احدا في الحقيقة لا يعرف كم عمره. -لماذا لا يعرفون؟ -عندما اتي المستوطنون الاوائل في القرن التاسع عشر, كان الممر موجودا ويربط بين منطقة ماثيور وديوبي بولد ثم ينطلق من هذه الاخيرة مئات الكيلومترات الى العالم الخارجي. قال هؤلاء المستوطنون ان الصيادين وتجار الفرو استخدموه قبلهم. وقال الصيادون ان المستكشفين الفرنسيين والاسبان تنقلوه عليه,وكان يرشدهم عدد من الهنود الذين استخدموه قبل المستكشفين.وقال الهنود ان الممر كان هناك قبلهم.ولذلك كما ترى,اطلقت عليه تلك التسمية الصحيحة...الممر الذى لا يعرف احد عمره. هز جون رأسه وعاد يتأمل باعجاب بالغ ذلك المنظر الساحر. وسمعت تانيا صوت زوجها يأتيها هامسا: -انه صبي ذكي. -ولكنه جدي كثيرا في بعض الاحيان. -انه يبدو لي الان طبيعيا سليم العقل والجسم.انك تقلقين كثيرا بشأنه,يا حبيبتي. قاومت رغبتها في الالتصاق به ومطالبته بعدم التوقف عن مداعبة شعرها وعنقها وقالت له بهدوء مصطنع: -اتصور ان ذلك صحيح.ولكن سبب هذا القلق هو نتيجة اضطراري لأكون الام والاب في نفس الوقت. ضغط عليها بذراعه القوية وقال: -لم تعد ثمة حاجة لذلك بعد الان. نظرت اليه بارتياح ووجهت له ابتسامة سعيدة وهي تقول: -اعرف ذلك. -سيأتي يوم اقبل فيه الدعوة الصريحة من شفتيك,بغض النظر عما اذا كنا على انفراد ام لا. ادارت وجهها عنه لتخفي احمراره المفاجئ واشارت الى شجرة قائلة: -انظر,انظر الى تلك الشجرة المثمرة هناك. -يجب ان نأتي لقطف ثمارها في الخريف القادم,بمجرد حلول اول موجة صقيع. -اني احب ذلك كثيرا. -ألا تعتقدين اننا نخطط لمستقبل بعيد نسبيا؟ تراجعت تانيا الى الوراء بدهشة ولكنه ضحك ومضي الى القول: -فات الاوان!ألزمت نفسك فعلا بمرافقتي لقطف هذه الثمار,ولن اسمح لك بالتراجع.هذه موعد بيننا,ايتها الحبيبة الصغيرة,واتوقع منك ان تحافظي عليه. -انك لست منصفا. -انه الانصاف بعينه. -امي,امي!هل يمكنني اعطاء داني ساعتي الصغيرة هذه مقابل حصولي على هاري؟ارجوك,ارجوك! ابتسمت تانيا وسألته بهدوء: -اولا,من هو هاري؟ اجابها داني قائلا ان هاري هو حيوانه الملل.قال له جايك ممازحا: -ولكنك بالتأكيد لا تريد التخلي عن صديقك المدلل هذا,اليس كذلك؟ -قالت لي امي ان علي التخلص منه بطريقة او باخرى. -هل يمكنني,يا امي,الحصول عليه مقابل ساعتي هذه؟ -لا اعرف... قاطعها جايك موجها سؤاله الى داني: -وما هو هاري بالضبط؟ -بالضبط؟هاري هو صديقي...الفأر الابيض. صرخت تانيا بدهشة بالغة: -فأر؟ -انه لا يؤذي,يا امي! رفضت الام الطلب باصرار,فعاد الصبي يرجوها ويحاول اقناعها بانه سيضعه خارج البيت. تدخل جايك ثانية وقال له بحزم الوالد المطاع: -قالت لك امك لا,يا جون,وهذا يعني لا بصورة نهائية. وفيما ذهب الولدان بانزعاج وغضب ظاهرين,ارتجف جسم تانيا مرة اخرى وقالت انها تكاد تشعر بذلك الفأر اللعين يزحف الى سريرها او يقفز بين قدميها. مازحها جايك قائلا: -مسكينة!هل تخافين من فأر صغير ضعيف؟ -لا يهمني مدى صغره او ضعفه,ولكنني لا اطيقه.انها لسخافة مني,ولكنها الحقيقة. -يجب ان تكوني مسرورة لان جون سألنا قبل اتمامه عملية المقايضة.فالمسكين كان سيخسر ساعته,وفأره ايضا. -اني ممتنة لذلك. -كان بامكانك طبعا تعييني حارسك الامين ضد الفئران. ضحكت تانيا لدى سماعها اقتراحه المرح وقالت تمازحه: -هذا افضل عرض قدمته حتى الان. نظر الى جسمها الجميل بتمعن وقال: -لو حظيت بقليل من التشجيع,لقدمت لك عروضا اخرى افضل. -اعتقد...اعتقد ان الوقت حان كي نأخذ داني الى بيته. -انك خبيرة في تجنب المواضيع الحساسة,اليس كذلك؟ وعندما لم ترد على سؤاله الساخر تنهد وقال: -حسنا,لنذهب.على اي حال,امضينا اليوم اوقاتا ممتعة للغاية. ايدت كلامه بصدق واخلاص,قائلة: -كان حقا يوما رائعا. شعرت تانيا وهي تقول جملتها هذه ان الساعات الطوال التي امضايها معا ذلك اليوم اضافت بعدا ايجابيا جديدا الى العلاقة القائمة بينهما منذ بعض الوقت. وتذكرت كيف انه اصبح في الآونة الاخيرة اكثر اهتماما بها...يوجه اليها تحية خاصة بها كلما عاد الى البيت,يمسك يدها بحنان كلما كانت جالسة او واقفة قربه. تذكرت الاشياء الصغيرة التي تعتبرها تافهة بحد ذاتها,اذ نظرت الى كل منها على حدة.ولكنها كانت جميلة جدا عندما تنظر اليها ككل.وكادت تانيا ان تقتنع بانه يريد ان يحبها لنفسها,وليس لانها أم ابنه. اصبح من السهل عليها اكثر فاكثر ان تدير له خدها كي يطبع عليه قبلة المساء,وتحولت هذه الممارسات ببطء الى عادة وتقليد يوميين. كان دائما لطيفا وحنونا ومسيطرا على مشاعره,ولم يطالبها ابدا باكثر مما كانت ترغب في منحه. الا ان رفضها له,المبني على الخوف,ازداد بنسبة مماثلة لحبها له.ولكن كيف يمكنها ان تطلعه على حبها له,بعد ان احتفظت بهذا السر طوال هذه المدة؟لن يتفهم مشاعرها واسبابها,لن يغفر لها... فتح باب الحديقة ودخلت منه شيلا راينز بمرح ظاهر. -كيف حالك؟هل جايك هنا؟ -لا,لم يعد بعد الى البيت. -انه لامر مؤسف حقا.قال انه سيعود باكرا,وكنت آمل في مقابلته هنا.هل تعلمين ما اذا كان سيتأخر؟ -لا,لا اعرف.هل تريدين انتظاره؟ -لا,يجب ان اعود سريعا.كنت اتطلع قدما الى رؤيته بعد ظهر هذا اليوم. -هل الامر هام؟يمكنك ان تتركي له رسالة معي. -حقا؟طبعا يمكنني الاتصال به هاتفيا في وقت لاحق, ولكني لا اريد ازعاجه عندما يمضي بعض الوقت مع ابنه. وصل الغضب والاشمئزاز بتانيا الى درجة الغليان والانفجار وقالت بسخرية لاذعة: -انك مخلصة وحنونة للغاية. -لقد حدث سوء تفاهم بالنسبة لموعد اللقاء في النادي البلدي.ابلغيه ان الموعد هو الواحدة بعد ظهر السبت, عوضا عن الثانية. -حسنا,الواحدة بعد ظهر السبت. شكرتها شيلا بدلال مثير للاشمئزاز وتظاهرت بالذهاب. الا انها توقفت فجأة وقالت: -كدت انسى.شاهدت قطعة الارض التي كان ينوي شراءها.اخبرته بانها ليست جيدة,لان الوصول اليها شبه مستحيل.سأطلعه السبت على بقية التفاصيل.ربما سنحت لنا الفرصة آنذاك لمشاهدة الارض معا. شل الغضب قدرة تانيا على التكلم.لم يقل جايك كلمة واحدة عن قطعة ارض او اخرى.هل كان يخدعها طوال الاشهر الماضية لتهدئة اعصابها,بينما استمر في اقامة علاقة مع شيلا؟ هذا امر محتمل جدا,والا فلماذا هذه الزيارة المفاجئة وهذا الغنج والدلال! لا بد ان مشاعر الشك والغيرة ظهرت جليا على وجهها, لان عيني الشابة السمراء شعتا ارتياحا وتشفيا. وقالت لها بمرح ظاهر,وهي تلوح بيدها مودعة: -سأقول لباتريك انك تبعثين اليه التحية والسلام.
*******نهاية الفصل السابع******
8_الماضي العدو
بعد ذهاب شيلا بأقل من نصف ساعة سمعت تانيا صوت سيارة في المدخل المؤدي إلي البيت وبما أن شيلا أبلغتها أن جايك سيصل اليوم في وقت مبكر فقد تأكد لها أن القادم لابد أن يكون هو بنفسه أحست برغبة قوية للخروج بسرعة ومواجهته بتلك المعلومات التي حصلت عليها حول علاقته مع شيلا ولكنها ظلت جالسة علي الكرسي وهي تخفي في عينيها بنظارتين شمسيتين مرت لحظات عديدة قبل أن تسمع باب الحديقة الزجاجي يفتح ويغلق رفعت رأسها فرأت جايك يحمل زجاجتين من العصير البارد ويتطلع إلي ساقيها المكشوفتين حتى حافة السروال القصير لو شاهدت تلك النظرات الملتهبة في ظروف أخري لاحست بأنها ستذوب في نارها أما فهي تعرف أنها نظرات خداع وكذب -عصير بارد لعروس الشمس الجميلة . اخترقت ابتسامته الكسولة خطوط دفاعها وجعلت دقات قلبها تتسارع كالعادة وانبت نفسها علي استسلامها الكلي لسحر ابتسامته ومداعباته في حين انه كان يخدعها طوال الوقت ابتسمت رغما عنها وقالت: -لم أتوقع عودتك في مثل هذا الوقت المبكر. -توقفت أمي في المكتب ظهر اليوم وتناولت الغداء مع أبي .أبلغتني بأنها أخذت جون لحضور حفلة ميلاد احد أصدقائه وجدت أنها فرصة مناسبة جدا كي اختلي بزوجتي ،فأضعت أمي بشراء بعض الحاجيات الضرورية وان تحضر أبي إلي البيت عندما تذهب لإحضار جون . وقفت تانيا والغضب يكاد يخنقها ،ولكنها حافظت علي هدوئها المصطنع وقالت له بلهجة طبيعية جداً: -أتاني اليوم زائرا ؟ -آوه؟من ؟ -شيلا راتيز! لاحظت تانيا مسحة استغراب خفيفة علي وجهه ،ولكنه سألها بصورة عادية: -ماذا كانت تريد؟ -في الحقيقة ،لم تأت شيلا لرؤيتي أنا ... بل جاءت لتبحث عنك. سرت تانيا لأنه لم يحاول التظاهر بالدهشة ،وأحست بسعادة خبيثة عندما شاهدت ذلك العبوس الخفيف في ملامحه ،سألها عن سبب حضورها فقالت: -تركت لك رسالة شفوية معي ،قالت لي أن أطلب منك مقابلتها في الواحدة بدلا من الثانية بعد ظهر السبت في النادي البلدي .وقالت أيضاً أنها شاهدت قطعة الأرض التي تنوي ابتياعها ،وأن تلك القطعة ليست جيدة علي الإطلاق ,وأضافت أن بإمكانكما بحث هذا الموضوع بالتفصيل يوم السبت . أجابها وهو يحاول السيطرة علي أعصابه وكبح جماح غضبه: -كنت انوي اطلاعك بعد ظهر اليوم علي مسألة هذه الأرض . ابتسمت بسخرية وقالت : -لم تعد بحاجة لإزعاج نفسك لأنني أصبحت مطلعة علي الموضوع. -أنت لا تعرفين إلا ما قالته لك شيلا ،ويبدو أنك تبنيت أفكارا خاطئة من جراء ذلك. لم تعد تانيا قادرة علي ضبط أعصابها فصاحت قائلة بحدة: -أوه ،جنبتني الإيضاحات والتفسيرات اللاضرورية! أنا متأكدة من أنك قادرة علي جعل الأمور تبدو وكأنك لم تقم بأي عمل مشين . -هذا صحيح .لم أقم بأي شيء مما تظنين . -أوه ،كم ظهرت مستاء ومتألم ذلك اليوم الذي شاهدتني فيه مع باتريك ! قلت لي آنذاك انك لا تتحمل أبدا أن يخدعك أحد! وضحكت بمرارة ثم مضت إلي القول ،قبل أن يتمكن من تعليق علي كلامها: -أبلغني باتريك في ذلك اليوم بالذات أنك لا تزال تقابل شيلا ،ولكنني رفضت أخذ كلامه علي محمل الجد، قبلت كلمة الشرف منك بأنك ستحاول جاهداً مثلي لإنجاح زواجنا .كان علي أن أتذكر كم هي تافهة ولا قيمة لها تعهداتك ووعودك ! قفز نحوها كنمر متوحش وقال لها بحدة بالغة ،وهو يهزها بعنف: -سوف تستمعين إلي ما سأقوله لك ! أتفهمين؟ كانت سريعة مثله ،فحررت نفسها من يديه وصرخت به قائلة: -لا لست مستعدة بعد الآن للاستماع إلي المزيد من أكاذيبك ! -أنك تفعلين معي ما فعلته أنا معك سابقاً، تتهمنني وتذيلنني قبل ان تفسحي لي أي مجال حتي لتوضيح ما جري ،من المؤكد أن لي الحق بقليل من ثقتك!جلب الخجل المرير دموع الحزن إلي عينيها الجملتين ،وقالت بأسي : -كم أبدو سهلة وغبية أمامك ! كم من مرة صدقتك فيها؟ وكنت تجعلني في كل مرة أبدو أكثر غباء من السابق .تتوقع مني الآن أن أصدقك ثانية عندما تخترع قصة بريئة من نوع ما لنفي وجود علاقة حميمة مع شيلا ... مع أنها هي أوضحت عكس ذلك دون حياء أو خجل. فتح جايك فمه كي يرد عليها ،ولكنها رفعت يدها لتمنعه من ذلك وأضافت: -لا،لا تقل شيئاً.أنت لم تقل لي أبدا أنك سوف تتخلي عن شيلا .لقد تجنبت في الحقيقة الإجابة علي السؤال اليتيم الذي وجهته لك بشأن هذا الموضوع ،وعليه،فان الأمر لم يكن إلا مجرد كذبة بيضاء ،من المحتمل أنني خدعت نفسي ,لم يعد يهم الآن بعد أن عرفت الحقيقة . رد عليها بصوت غاضب: -ولكنك لا تعرفين الحقيقة !ترفضين الإصغاء لحظة لمعرفة الحقيقة! رن جرس الهاتف داخل البيت ،فتعمد جايك تجاهل أمره ولكنها قالت له ببرودة مؤلمة : -المخابرة لك ،قالت شيلا أنها قد تتصل بك في وقت لاحق . أحست تانيا بعد ذهابه أن غضبها بدأ يخف تدريجيا ،شعرت بأنها ترغب في البكاء كي تساعدها الدموع علي التخفيف من الآلام التي تعصر فؤادها،وفجأة ،سمعت جايك يناديها من الداخل : -تانيا ،تعالي إلي هنا. لم ترد عليه ولم تعره أي اهتمام علي الإطلاق ،فصرخ بها: -تعالي فوراً وإلا أتيت وجررتك بنفسي ! أحست بأنه يعني ما يقوله ،فمشت نحوه بتمهل مرهق للأعصاب ,فأمسك بذراعها بقوة وجذبها بعنف نحو الهاتف الذي كانت سماعته لا تزال ملقاة بجانبه . رفع جايك السماعة وقال: -أبي ،كرر ما قلته لي قبل لحظات . ثم وضع السماعة بسرعة علي أذن تانيا فسمعت جاي دي يقول باستغراب : -أكرر ما قلته؟ كل ما قلته لك أن موعد الاجتماع المخصص لمدراء الشركة ومهندسي المناطق تغير من الثانية بعد ظهر السبت إلي الأولي منه ،أنه لقاء غير رسمي والزوجات مدعوات لحضوره ،وعليه فأني أذكرك به كيلا تنسي إبلاغ تانيا بالأمر .من المؤكد أنها تريد إيجاد شخص يبقي مع جون أثناء غيابها عن البيت ،هل من الصعب عليك تذكر هذه المعلومات القليلة العادية؟ تنهدت تانيا بحزن عندما شعرت بمدي الخطأ الفادح الذي ارتكبته بحق جايك، وأعطته السماعة بهدوء وحياء. -شكراً يا أبي . ولكن جاي دي عاد إلي الكلام وبصوت كانت تانيا تسمعه بوضوح: -انتظر لحظة ... ذكرتني أمك للتو أن شيلا تركت علي مكتبي لائحة بقطع أرض وعرة للبيع ،لن أحضر إلي الشركة غداًوعليه فلا تنسي أن تأخذ هذه اللائحة من سكرتيرتي . ثم أضاف ضاحكاً: -لم أكن لأصدق أبدا أن بإمكان شيلا الحصول علي رخصة قانونية للقيام بصفقات عقارية ،ولكنني أعتقد أنها ستنجح في هذا الحقل ،لأنها قوية وجميلة في وقت واحد . أحست تانيا هذه المرة بالصدمة والألم وهي تنظر إلي وجه جايك الحزين ،كانت عيناه لا تزالان تشعان ببريق غاضب ونظرات فولاذية قاسية ،كان يتحدث مع والده ،ولكن ذهولها منعها من سماع كلامه: -أني آسفة يا جايك .آسفة جداً . قالت كلماتها هذه هامسة قبل أن تخطو بخوف وهلع إلي الوراء وتركض هاربة متعثرة نحو الحديقة ،لم تعد قادرة علي مواجهته أو النظر إليه بعد أحكامها المجحفة بحقه . لا يمكن لاعتذارها المرتبك أن يعوض عن تلك الكلمات القاسية التي قالتهاله ،والاتهامات الكاذبة التي وجهتها إليه هرعت نحو البحيرة وهي تقول لنفسها أنه كان عليها الاستماع لإيضاحات جايك قبل إصدار أحكامها المبرمة. انهمرت الدموع غزيرة من عينيها ،فلم تعد قادرة علي رؤية الأشياء بوضوح ،فتعثرت ووقعت ،وراحت تبكي بحزن و مرارة حتى جفت الدموع من عينيها ،شعرت بأنها طفلة ضائعة هربت من البيت ولم تعد تريد سوي معرفة طريق العودة إليه . حطت ذبابة علي ذراعها ثم ذهبت ،ولكنها عادت ثانية فتحركت لإبعادها عنها ،أحست بشيء يلامس ساقها ،نظرت بسرعة فشاهدت عقرباً كبيراً يزحف متثاقلاً علي رجلها ،تسمرت في مكانها هلعاً وراحت تصرخ بصوت عال لم تلاحظ أنها تردد اسم جايك . ولم تسمع وقع قدميه ،ثم حملها بين ذراعيه وشدها إلي صدره وهو يقول: -لا تخافي .كل شيء علي ما يرام . -جايك، جايك. -أنا هنا ،أهدئ الآن ،لن يحدث لك شيء ،قتلت العقرب ،لا تخافي . طوقت خصره بقوة ،فيما كان يربت علي كتفيها بحنان بالغ ويسألها: -هل أنت بخير الآن ؟ هزت رأسها الملتصق بصدره مطمئناً مرتاحاً، وقالت: -أعرف أن من السخافة بمكان أن أخاف إلي هذه الدرجة ،ولكني لا أستطيع التحكم بأعصابي ضمني إليك لفترة أطول يا جايك. أرجوك . -إلي الأبد ، إذا كنت تريدين ذلك . مرت دقائق عديدة قبل أن تسحب تانيا بتردد من حول خصره ،كانت تشعر بأن رجليها لا تزالان ضعيفتين وغير ثابتتين ،ولكن قسماً من صدمتها زال تدريجيا ، فشعرت بالكيفية التي كانت تطوقه فيها تمتمت بصوت خافت : -أظن أنني أصبحت الآن علي ما يرام . أوقفها علي قدميها بهدوء وحنان ثم داعب وجنتيها برقة وهو يسألها : -هل غفرت لي ؟ -ماذا... ماذا؟ -لأني تعهدت بالدفاع عنك ضد الفئران البيض المخيف ونسيت أن اتسلل الحشرات المؤذية. ضحكت بخجل وقالت: -طبعا .ولكني اعتقدت أنك تتحدث عن شيلا . وضع أصبعه علي شفتيها السفلي مداعباً وقال: -لن نتحدث عنها الآن ،أنت لست في وضع يسمح لها بالدخول في المناقشة التي أريد بحثها معك. -أريدك أن تعلم الآن أنني أدرك تماماً مدي الخطأ الفادح الذي ارتكبته عندما لم أسمح لك بتوضيح موقفك . -قلت أننا سنبحث هذا الموضوع لاحقاً. كانت كطفلة تريد التأكد من أنه سامحها علي غلطتها ، فقالت : -أعرف ،ولكني أردت أن أقول لك أني متضايقة جداً من تصرفي معك . ابتسم وضمها إلي صدره بحنان متمتماً: -أنت عنيدة جدا.ً ضمها إليه بلطف ورقة , ولكنها عندما طوقت عنقه أوقف ذراعيها بيديه ورفع رأسه عنها بهدوء قائلاً: -إني أقبل اعتذارك .والآن ... هل تريدين السير إلي البيت أو أن أحملك إليه ؟ أجابته بأنفاس متقطعة ،وهي تشعر بأنها لو قبلت أن يحملها فلسوف تغازله دونما حياء أو خجل: -لا ، أفضل أن أذهب سيراً. سألها ممازحاً: -هل أصبحت تشعرين بخطر عندما أحملك بين ذراعي ؟ ضحك عندما لم تجب ،وسارا إلي البيت بهدوء فيما كان يمسك بأيديها وراء ظهره ويطوق كتفيها بذراعه ،ولما أوصلها إلي غرفتها ،قال لها: -اذهبي ،الآن وانعشي نفسك بحمام بارد سوف نتحدث في الموضوع بعد خروجك . -أي موضوع؟ لم يجبها ،بل دفعها إلي الداخل بحنان وأغلق الباب وراءها . هل سيحدثها عن شيلا؟ كانت متعبة جداً بحيث أنها لم تكن قادرة علي التفكير بشكل صحيح ,خلعت ثيابها ودخلت الحمام ،وما أن خرجت وجففت نفسها، حتى سمعت طرقة خفيفة علي الباب ،ادخلت جسمها في رداء عاجي جميل ،وقالت: -ادخل . تأملها جايك بدقة قبل أن يدخل ويعطيها فنجاناً من القهوة ، قائلاً: -تبدين الآن أحسن بكثير ،لم تعد في عينيك أي أثار للخوف الهلع. لم تتمكن تانيا من أخفاء ذلك البريق الساطع الذي غمر عينيها وهي تنظر إلي وجهه الجميل الجذاب فأدارت وجهها عنه وقالت: -من المؤكد إني تصرفت كإنسانة غبية جداً ،ولكن خوفي من العقارب لا يضاهي . سمعت حفيف أوراق قرب سريرها ،فأدارت وجهها ثانية نحوه وشاهدت لفة من الورق الأزرق يحملها تحت أبطه ،وسألته بفضول عن هذه الأوراق التي كان يفتحها أمامها علي السرير . -تعالي وانظري . وقف بهدوء قربها عندما كانت تحدق بمحتويات تلك الورقة . ثم قالت: -أنها خطوط عريضة لمنزل جميل . -لا ليس لمنزل .أنها لبيتنا ،يا عزيزتي ،وبما أن شيلا أصرت علي أبلاغك بأني راغب في شراء بعض الأراضي ،فقد قررت أطلاعك علي بقية التفاصيل . تنهدت تانيا بقوة وسألته : -ماذا تعني ...بيتنا؟ -الم تتعبي بعد من السكن مع أمي وأبي ؟ هذا لا يعني أنني لا أحبهما كثيرا ولكن ,ألا تحبين أن يكون لك بيت خاض بك؟ شعرت بما توجيه كلماته ،فقالت مترددة: -طبعاً ,ولكن ... -أذن ،أعطيني رأيك بهذا المخطط الأولي ، ربما كانت هناك أشياء تريدين تغييرها . لم يترك لها جايك مجالاً للتعليق الفوري ،لأنه بدأ يشير بأصبعه إلي موقع غرفة النوم وقاعة الجلوس والمطبخ و... -هل يعجبك؟ -أنه جميل جداً .ولكن ... توقفت عن إتمام جملتها وهزت رأسها لتمنعه من الانحناء تحت وطأة السعادة الفائقة لحصولها علي بيت أحلامها ،رفع رأسها نحوه ليتمكن من النظر إلي ملامح القلق في عينيها ،وسألها بحنان ظاهر: -ما بك يا حبيبتي ؟ ألا تعتقدين أنه حان لنا أن نتمتع ببعض الحرية في حياتنا الزوجية ؟ توترت أعصابها فجأة وخافت من الكلام بقدر حبها له ,وتمتمت عاجزة : -أوه ،جايك ، جايك ! ضمها إلي صدره وفي عينيه نظرات مشتعلة ،شعرت في إذنها نعومة وإغراء ،ثم أشعل نارا في روحها امتدت بسرعة إلي أرجاء كيانها . ثم قال لها بصوت دافئ : -أوه ، كم تمنيت القيام بذلك منذ زمن طويل ! عصفت بها المشاعر المتلاحقة فانطلقت صرخة معذبة وأخذت تبادله الغزل وتردد اسمه بهيام . إلا أن تلك السعادة الفائقة تخطت المشاعر العادية لتجمع بين روحيهما وفؤاديهما ،وتجعل منهما أنساناً واحداً . ابتعد جايك بتردد وعذاب وقال : -لا يمكنك أن تعرفي مدي السيطرة المؤلمة التي مارسته علي نفسي لفترة طويلة ،كيلا افعل ما فعلت الآن. حول جايك نظره عنها ثم أخذ يتأمل عينيها بحثاً عن جواب لسؤال لم يوجهه .كان في وضع يمكنه من امتلاكها دون مقاومة أو احتجاج أو معارضة ،ولكنه ما أن منحها فرصة الاختيار ،حتى دب الخوف والهلع في قلبها ،تألمت وحرقت الدموع المرة عينيها . همس في آذنها بصوت مخملي ناعم: -لا تخافي ،يا حبيبتي ،أنا لا أشعر نحوك برغبة فقط ... مع أنني أريد ذلك من صميم قلبي . -أوه ،جايك! قالت اسمه بصوت أشبه بصرخة مناشدة تطلق بألم من قلبها ،أنها لا تخاف الحب ,ولكنها تخاف غضبه ,تململت قليلاً بين ذراعيه فشدها قليلاً تمتم قائلاً: -لا تتكلمي ،بل اسمعي ،أنا أحبك ,ربما كنت أحبك دائماً،لا أعلم .كل ما أعرفه أنني الآن احبك ،وبأكثر بكثير مما كنت أتصور أن بإمكان الإنسان التوصل إليه. تنهدت بطريقة كشفت مدي هيامها به .وكانت تعرف أنها تحبه بقدر ما هو يحبها .تمنت وهي تستند إليه بوهن أن تظل بين ذراعيه إلي الأبد ،ولكنها توسلت إليه قائلة : -لا تقل أي شيء آخر ،يا جايك ,أرجوك. مرت عليهما لحظة تردد ثقيلة شعرت تانيا خلالها بأن جايك يريد تحويل الأقوال إلي أفعال،ثم سمعته يقول بصوت أجش: -دعيني أنهي كلامي يا حبيبتي ،لأنني لن أتحدث عن الماضي مرة أخري بعد هذه اللحظة ،أنا لم أعد إلي البيت بسبب رسالتك قط ،استعملتها كمبرر ،كان جزء عاملاً مهماً في اتخاذي القرار للعودة ،لأنني أردت مشاهدته ،ولكن رغبتي في رؤية زوجتي كانت أقوي وأشد ،أردت مشاهدة تلك المرأة الجميلة التي كانت تقف قرب الصبي ,أردت رؤيتك أنت يا تانيا ،لأن صورتك ظلت تلاحقني سبع سنوات بكاملها وفي شعرها وعينيها أشعة الشمس الذهبية . كان قلبها يغني بسعادة وألم ,أليس من الممكن أن حبهما قوي بما فيه الكفاية لتجاوز عداء الماضي وأحقاده،ولتمكينه من تفهم أسباب خداعها له طوال هذه السنوات ؟ سمعته يتابع كلامه بلهجة حزينة أدمت قلبها: -يجب عليك أولاً أن تفهمي أني وشقيقي كنا تقاربين جداً.كنا أكثر من مجرد شقيقين ،لا أذكر أنني وعدتك بالعودة بعد تلك الليلة ،ولكني كنت أنوي ذلك ... حتى قتل جايمي ،كان لا يزال شاباً صغيراً ،يا تانيا ،يضج حياة وشباباً.أصبحت أنسانا قاسيا لا شعر إلا بالحقد والمرارة.غطت تلك المشاعر السوداء ذكرياتي الحلوة عن تلك الفتاة الخجولة الرائعة التي التقيتها ،وعندما شاهدتك لأول مرة بعد تلك الليلة اليتيمة ،وكنت أجمل من السابق لعنت نفسي لأنني لم أحاول البحث عنك ... وبخاصة عندما رأيتك وأنت تحملين الطفل بين ذراعيك ،لم تؤثر بي نظرات الاحتقار الباردة التي رأيتها في عينيك . عرفت أنك تريدينني أن أذهب وأتركك لوحدك ،ولكنني لم أتمكن من ذلك ،ولهذا ، تظاهرت أمامك بأنني مهتم بالطفل لتلك الدرجة. هزها برقة بين يديه وكأنه يحاول تخفيف الآلام التي تعصر قلبها ثم أضاف قائلاً: -لن أنسي أبدا تلك الصدمة العنيفة الأولي التي عصفت بي عندما سألتني أن كنت اعرف من تحملين! قلت لي أنه ابني ! ظننت في البداية أنك تكذبين ..انك اكتشفت وجود ثروة لا بأس بها لدي عائلة لاستير ،وأردت تلك الثروة لابنك غير الشرعي !لم اقتنع حتي عندما شاهدت إصبعه الصغير الملتوي ... العلامة المميزة لأفراد عائلة لاستير .لم أتأكد من أنه ابني حقاً ألا بعد أن ذهبت إلي تلك الشقة المتواضعة التي كنت تسكنين فيها .حبيبتي حبيبتي ! هل يمكنك أن تغفري لي ذلك؟ حاولت أن تنظر إليه ولكن ذراعيه ابقيتاها حيث هي فقالت : -لاشيء يتطلب المغفرة يا جايك. -الأمر الوحيد الذي ظل مهيمناً في زواجنا هو صدقك وأمانتك وكان صدقك احد أول الأشياء التي أحببتها فيك ،وأصبح الأساس القوي لحبي لك . _ أوه ،لا، يا جايك ،لا ،ارجوك _لا ألومك لأنك كرهتنني في البداية ،أنا أرغمتك علي الزواج مني ،لم أعد متأكداً الآن من أنني فعلت ذلك للحصول علي ابني أم للحصول عليك كزوجة لي كل ما أعرفه أنني احتقرت نفسي كثيرا نتيجة الإذلال الذي لحق بك وعانيت منه بسببي ، كلما تطلعت إلي ،كنت أتذكر مدي احتقارك لي واشمئزازك مني ،أنت لم تكوني السبب في رحيلي ... خجلي من نفسي كان السبب ،أنت لم ترتكبي معي أي خطأ ،أنا الذي يجب أن يتحمل اللوم كله ،هلا تلاحظين الآن لماذا كنت مضطراً للكشف عن مشاعري الدفينة؟ كنت دوما صادقة جدا معي ،فاضطررت لأن أكون صادقاً مثلك . صادقة !صادقة ! لم يعد أمامها مجال بعد الآن كي تطلعه علي الحقيقة ،صدقها المزعوم هوا لشيء الوحيد الذي أثار إعجابه فكيف ستطلعه علي سرها دون أن ينهار هذا الصدق الهش ... وينهار معه حبه لها؟ بكت وسألته بحدة : -لماذا ؟لماذا تطلعني علي جميع هذه الأمور الآن ؟ لا تعرف أن ذلك لم يعد يهم ؟ -ما بك يا حبيبتي ؟ زاد الاهتمام الصادق الحنون في صوته من الالم الذي يعصر قلبها . -أوه، جايك ،جايك ! أخذت تهز رأسها بعنف حزين ،لم يكن أمامها سوي سبيل واحد للهرب ،سوف يكرهها بسبب ذلك الخطوة التي تنوي القيام بها ،ولكنه سيكرهها أضعاف ذلك أذا اكتشف الحقيقة ،قالت له ببرودة مصطنعة _أرجوك ،أريد الطلاق . -الطلاق ؟ماذا تقولين ؟هل هذه نكتة؟ -لا يا جايك ،أنها ليست نكتة ،أريد الطلاق . أمسك بكتفيها وأدار وجهها نحوه بقوة ،ثم صرخ غاضباً: -قلت لك لتوي أني أحبك ! هل تحاولين أن تقولي لي أنك لا تبادلينني الحب؟ هل هذا ما تحاولين قوله؟ تفادت نظراته الحادة وأجابته بلهجة حازمة واكثر اصراراً: -قلت لك أني أريد الطلاق .أليس هذا الكلام جوابا كافيا؟ -لا! ليس جوابا كافيا علي الاطلاق ! ثم غرز أصابع يديه في أعلي ذراعها وقال لها بعصبية بالغة: -أنا لست جاهلاً إلي الدرجة لا أعرف معها أن هذه المرأة تريدني أم لا، واعرف أنك منذ لحظات معدودة كنت ترغبين في الحصول علي بقدر ما كنت أنا راغب في الحصول عليك ،انا أعلم أنك تحبينني ،أعترفي بذلك ! وضعت يديها علي صدره في محاولة لابعاده عنها ،وصرخت به: - توقف ،يا جايك،توقف! وضع يدا علي ظهرها وشدها نحوه ،وأمسك بيده الأخري شعرها ورفع رأسها نحوه قائلاً: - أريد توضيحا فوريا . أخافتها نظراته القوية ولهجته الغاضبة ،فهمست قائلة : - أنك تؤلمني . رد عليها بصوت قوي ونظرات تشع بلهيب الغضب الساطع : -أنا أحبك ،وسأجعلك تحبينني! رفعها بين ذراعيه بقوة رغم محاولاتها اليائسة للتملص منه ، فمدت يديها بخوف وهلع لتحمي نفسها ،حدق بها بعينين قاسيتين ،غربتين ، لم يصدر عنهما بريق الاغراء الذي كانت تذوب تحت وطأته ،وضع ذراعيها وراء رأسها بحيث تمكن من امساك معصمها بيد واحدة ،فيما امسكت الاخري بوجهها وسمرته امام نظراته الملتهبة , وقال: -كنت تتحرقين قبل لحظات فما بك الآن ،أيتها القطة الشرسة ؟ -أرجوك يا جايك ،لا تفعل ذلك. كان صوتها يرتجف كورقة في مهب الريح ،وجسمها ينتفض كمن لدغته حية سامة ، وعادت تكرر له الرجاء : -لن يغير ذلك شيئاً ،سوف أصر علي طلب الطلاق ،أرجوك ،يا جايك، أرجوك؟ أجابها ببرودة حقيقية : -انا لا أصدقك ،يا تانيا تجمعت الدموع في عينيها وقالت له بصوت ضعيف : -لست قوية بما فيه الكفاية، ياجايك ،لن أتمكن من مقاومتك وصدك. حدق بها طويلا قبل أن يتمتم بقساوة بالغة : -اللعنة عليك! أبعد وجهه عن نظراتها المتوسلة وهو يهب واقفاً بحدة وعصبية ، بكت بحزن وتعاسة وهي تسمع صوت خطاه تيتعد عن سريرها ،ثم سمعت باب غرفتها يفتح ويغلق بقوة ، فتأكد لها أنه تركها وذهب. دفنت رأسها في وسادتها وأخذت تضرب السرير بيديها منتحبة : - أوه ،جايك، جايك، إني أحبك أحبك وأريدك من صميم قلبي .
*****نهاية الفصل الثامن*****
9_المفاجاة الاخرى
كانت الابواب تفتح وتغلق بعنف في الايام التالية,لان جايك كان يرفض البقاء في غرفة واحدة مع تانيا. كان الغضب كغيمة سوداء تلاحقه طوال الوقت,حتى ان جون اصبح يخشى مكالمته خوفا من التعرض لملاحظات قاسية وحادة. كانت تانيا تسمع صوت خطواته ليلا وهو يقطع ارض غرفته ذهابا وايابا. لم تنم هي ايضا برخاء وهناء.ظهر التعب والارهاق على عينيها نتيجة السهر والقلق.كانت تتمنى لو ان باستطاعتها الذهاب اليه والاعتراف له بحبها. ولكنه لن يفهمها ابدا.عانت كثيرا من تلك الليالي الطويلة التي امضتها ساهرة,تحدق بسقف غرفتها حزينة ومذهولة. تألمت من نظرات جوليا التي كانت تحملها مسؤولية ذهاب جايك قبل تناول فطوره,وعودته بعد انتهاء العائلة من تناول العشاء. كان جاي دي الشخص الوحيد الذي ينظر اليها بشئ يشبه التعاطف.ومع ذلك,كان يبدو مستاء ومهتما. وكان جون المسكين الشخص الذي يتألم اكثر من الاخرين.فهو لم يختبر مثل هذا الجو العدائي من قبل.دعاه داني جليبرت لتمضية ليلة معه,فوافقت تانيا بعد تردد. اعترفت لنفسها بان سبب ترددها يعود الى انانيتها.انها تريد الصبي معها طوال الوقت كي يحول انتباهها قدر المستطاع عن جايك. توجهت الى غرفة جون للتأكد من ان لديه كافة الاشياء التي يحتاجها في ضيافة صديقه.وصلت امام غرفة جايك,فتطلعت الى الداخل.تعثرت خطاها وتوقفت. كان جايك يقف امام المرآة ويعقد بتأن ربطة عنق فضية وزرقاء تناسب تماما طقمه الصيفي الرمادي.لم تعرف تانيا انه اتي الى البيت,وبدا لها انه على وشك مغادرته. اضطرت لان تقول له شيئا لانه شاهد انعكاسها في المرآة.سألته بهدوء: -هل ستسهر خارج البيت؟ -نعم. -طلب داني جليبرت من جون ان يمضي الليلة معه. -اذن؟ -تصورت انك ربما احببت ان توصله بنفسك. لم تكن تانيا تعرف حقا لماذا تقول له ذلك,باستثناء ايجاد اعذار لاطالة الحديث معه.سألها ببرودة: -الا يمكن لاحد اخر ان يأخذه؟ -اوه,نعم,طبعا.ولكن جون سيفرح كثيرا لو اخذته انت.انه لا يفهم تماما لماذا لا تبقى في البيت هذه الايام الا نادرا,لماذا...عندما تكون هنا...لا تذهب الا بمفردك! استدار نحوها بعصبية وقال لها: -ربما كان عليك ان تطلعيه على الاسباب الحقيقية لذلك. تجنبت تانيا نظرات الاشمئزاز في عينيه وتمتم بصوت خافت: -ماذا تريدين؟ماذا تتوقعين مني؟هل يفترض بي ان اقول لك اني آسف جدا يا صغيرتي لان الامور لم تسر على ما يرام,واذهب سعيدا مرحا في سبيلي؟لا يملك الرجل سوى شيئين يمكنه منحهما للمرأة...حبه واسمه.وانت,يا تانيا,ترفضينهما معا!كما انه لا توجد لديك حتى اللياقة الكافية لتوضيح هذا الرفض! ضجت في رأسها وافكارها آلاف الكلمات,الا ان ايا منها لم تخرج الى شفتيها.وكان ذقنها يرتجف عندما تمتمت قائلة بصوت ضعيف منخفض: -آسفة.انا آسفة,يا جايك. توجهت الى غرفتها في آخر الممر حزينة بائسة وسمعت بعد لحظات باب غرفته يغلق,فعلمت انه يغادر البيت. جففت دموعها التي انهمرت بسبب كلماته القاسية, واستجمعت قواها المنهارة بحيث تمكنت من اخذ جون الى منزل داني.ولدى عودتها,تجنبت دخول البيت من الباب الرئيسي واختارت الذهاب الى الحديقة من المدخل الخلفي. لم يهمها ما اذا كانت جوليا بحاجة لمساعدتها في اعداد العشاء.كانت تريد الانفراد بنفسها. توجهت نحو البحيرة واخذت تتأمل بضياع سطح الماء وانعكاس الماء وانعكاس الاشجار فيه.شعرت بأسي عميق من جراء الورطة التي اوقعت نفسها بها,وترقرقت في عينيها دموع الشفقة على الذات. وفجأة سمعت صوت جاي دي وراءها يأتي بهدوء ونعومة: -لم اعرف انك هنا. استدارت نحوه بدهشة فقال لها بلهجة عطوفة: -انت تبكين,يا صغيرتي. مسحت وجهها بسرعة ثم هزت كتفيها وقالت: -لا شئ ,لا شئ. قدم لها فنجان القهوة الذي كان يحمله وقال: -هيا,اشربي,فأنت بحاجة الى القهوة اكثر مما احتاج اليها انا.انها ساخنة جدا,ولكنها ستنعشك ولو مؤقتا. شربت جرعة وهمت باعادة الفنجان اليه شاكرة,فقال: -لا,فانت بحاجة الى المزيد.تشاجرتما ثانية,اليس كذلك؟ نظرت اليه بسرعة ولكنها رفضت تأكيد ذلك او نفيه.لم تتمكن من الاجابة.كانت تعلم ان جاي دي لن يقبل كذبها بانها لا تحب جايك. وكانت تخشى ان يصل جزء من الحقيقة الى جايك فيما لو اجابت والده انها حقا تحبه.ابتسم جاي دي وقال: -اعتقد انك تفضلين عدم الاجابة.ولكنك تعرفين بالتأكيد انه يحبك؟ -نعم. اعجبه اعترافها فنظر اليها وسألها بلهجة حنونة صادقة: -هل ستعتبرينني والد زوج متطفلا لو سألتك عن اسباب الخلاف؟ -طلبت من جايك ان يطلقني. نظر اليها باستغراب شديد وسألها ثانية: -لماذا؟ -لاسباب خاصة. -هل تسمحين لي بتوجيه سؤال خاص ثان؟ -وما هو؟ -هل يعلم جايك انك لست أم جون؟ وقع الفنجان وصحنه من يدها وتحطما,فيما تسمرت في مكانها خوا وهلعا.وسمعت جاي دي يقول: -من الواضح انه لا يعلم. -كيف...كيف...عرفت انت...ذلك؟ -لنقل اني لم اكن مستعدا مثل ابني للتصديق بان تلك الفتاة الغريبة التي لم نراها او نسمع عنها من قبل هي من تدعي انها هي.وكان همي الاكبر ان اعرف ما اذا كان الطفل حقا حفيدي ام لا.كنت اتصور انك تحاولين الصاق التهمة بجايك لحمله على تبني الطفل.رفض جايك بحث الموضوع معي,واكتفي بالقول ان الطفل ولد قبل زواجكما.وعليه,قمت ببعض التحريات الخاصة دون معرفته. ونظر اليها بحنان ثم سألها: -لماذا لم يطلب منك جايك ابدا الاطلاع على وثيقة ولادة جون؟ تنهدت تانيا بعصبية وهي لا تصدق ما يحدث معها, وقالت: -طلب مني مرة,ولكنني رفضت ان يراها. -لا يمكنك تصور مدى صدمتي وغضبي عندما شاهدت تلك الوثيقة واكتشفت ان شقيقتك هي والدة جون. -لماذا لم تواجه ايا منا بهذا الاكتشاف المثير؟ -كنتما متزوجين بطريقة شرعية.المحت بضع مرات في رسائلي اليه انه ربما كان هناك امر لا يعرفه.ولكنه كان يصر على القول ان جون ابنه.خيل الي من ذلك الاصرار في اجوبته انه يعرف الحقيقة.ثم بدأت اشعر كم تحبين الصبي,وكأنه فعلا ابنك. -ومتي اكتشفت ان جايك لا يعرف ذلك؟ -عندما اقنعته بالعودة الى البيت.سألته في احد الامسيات عن اختك فقال انه لم يلتق بها ابدا. حل الحزن محل المرارة في قلبها,وقالت: -انه لا يتذكر شيئا عن تلك الليلة سوى وجودنا معا. -لماذا لم تخبريه الحقيقة آنذاك,يا تانيا؟ -لانه قال انه يريد ابنه.كنت اعلم ان لا امل لي في الاحتفاظ بالصبي ما لم اتظاهر بانني أمه.احببت جون منذ البداية.لم تتمكن شقيقتي ديانا من حمله مرة واحدة بين يديها.اصيبت بنزلة صدرية وهي في المستشفى, وتوفيت.انا التي اعتنيت بجون وربيته.كان ابنا لي,وكان جايك سيأخذه مني! انهمرت الدموع من عينيها ووجدت نفسها بين ذراعي والد زوجها,يربت على كتفيها ويحاول التخفيف من عذابها وآلامها. اعطاها منديله وقال لها: -اني اتفهم وضعك,يا صغيرتي.وسبب خلافك الحالي مع جايك نابع من مخافة اطلاعه على ما حدث. -نعم ,لانه سوف يكرهني بسبب ذلك.قال انني انسانة صادقة واقول الحقيقة دائما.فكيف يمكنني ابلاغه الان بانني اكذب عليه منذ سبع سنوات؟ -اعتقد انك مضطرة لذلك. -لا اقدر,لا اقدر! رفع رأسها نحوه بحنان واضح وقال: -اسمعي,يا اعز زوجة ابن في العالم.لا يمكن لجايك ان يتأذى او يغضب اكثر مما هو الان لانك رفضته.هل تعتقدين حقا انه سيكرهك اكثر لاطلاعه على الحقيقة؟ -لا اتصور ذلك ولكني لا اعلم اذا كان بامكاني مواجهته, او حتى اذا كان سيقبل التحدث معي! -سأطلب منه الحضور الى غرفة المكتب في السابعة مساء غد,وسأتصرف معكما كحكم مبارة خلال الدقائق القليلة الاولى. -ربما...ربما كان من الافضل الا تقول له انني سأقابله هناك.قد لا يأتي ابدا اذا علم باني سألاقيه. ابتسم جاي دي بحنان وقال: -ربما انك على حق,لان بامكانه ان يكون اعند من اعند بغال ميسوري.والان,هل تعدينني بانك ستخبرينه الحقيقة؟ تنهدت تانيا وردت عليه ايجابا,وهي خائفة من مضاعفات اللقاء المرتقب اكثر مما ترغب في الاعتراف به لنفسها. كانت تلك الليلة ونهار اليوم التالي اطول اربع وعشرين ساعة عاشتها في حياتها.قاربت الساعة السادسة والنصف مساء ولم يكن جايك عاد بعد الى البيت. كانت تأمل في الا يعود تلك الامسية,مع انها كانت تعلم ان من شأن ذلك اطالة امد تعاستها وعذابها. سيعرف جايك الحقيقة عاجلا ام اجلا,لان والده يعرفها.وتكهنت لو انها طلبت من جاي دي اطلاعه على هذا الامر,لو لم يكن في ذلك جبن وتخاذل من جانبها. استبدلت ثيابها ثلاث مرات متتالية.لم تكن تعرف ماذا ترتدي.نظرت الى المرآة في المرة الثانية,فانطلقت من فمها ضحكة عالية.كانت ترتدي ثوبا اسود وتعقد شعرها فوق رأسها,وكأنها ذاهبة الى جنازة...الى جنازتها هي. خرجت من غرفتها في السابعة الا عشر دقائق وسارت في الممر بصعوبة بالغة.كانت رجلاها ترتجفان, وصدرها يعلو ويهبط تبعا لتنفسها البطئ المتقطع. كان جاي دي يجلس وراء طاولته ويحدق في سقف الغرفة. قالت له بهدوء: -انه لم يعد بعد الى البيت. تنهد الرجل وقال: -صحيح.على اي حال,اجلسي. يمكننا ان نتظره معا. كانت الساعة تجاوزت السابعة والنصف بدقيقتين عندما سمعا صوت سيارة تتوقف امام المدخل.غرزت تانيا اصابعها في المقعد الوثير بهلع ونظرت نحو جاي دي. ابتسم والد زوجها بهدوء وقال: -سينتهي الامر عما قريب. -نعم,سينتهي عما قريب. احست بألم يعصر معدتها وخافت من انها قد تتقيأ. انصتت لتسمع قدميه تقتربان من الممر المؤدي الى تلك الغرفة,ولكنها لم تسمع سوى دقات ساعة الحائط. مرت عشر دقائق تقريبا,فبدأجاي دي يطرق بقلمه على الطاولة وهو يتململ بنفاذ صبر مزعج في كرسيه. توترت اعصاب تانيا الى درجة الانفجار.وفجأة قفزت من مكانها عندما سمعت طرقة خفيفة على الباب. اشار اليها جاي دي كي تجلس ثانية,وقال: -ادخل. دخل جايك وكان يبدو اطول قامة واشد جاذبية.احست بان نبضات قلبها توقفت عن الخفقان وان عينيها تسمرتا على وجهه المتغطرس الوسيم. -آسف اني تأخرت يا ابي. ثم شاهد تانيا,فنظر نحو والده وقال قبل ان يهم بالخروج: -كنت اظنك وحدك.اعذرني. صرخ به جاي دي قائلا: -عد الى هنا يا جايك. -سأعود عندما تكون وحدك. صرخ به جاي دي ثانية,وبنبرة ترفض اي اعتراض او احتجاج: -لا تغادر الغرفة!وتانيا ايضا لن تغادرها. تألم قلبها كثيرا عندما شاهدت ملامح الغضب والانفعال تغطي وجهه.انه يرض ان يكون معها في غرفة واحدة. وسمعته يقول لوالده دون ان ينظر اليه: -لا اريد ان اقلل من احترامي لك,يا ابي,ولكن هذا الموضوع ليس من شأنك اطلاقا. -اني اختلف معك في هذا الرأي,يا بني.فجون حفيدي الوحيد,ويهمني مستقبله الى ابعد حد. -اذا كنت تحاول القيام بدور المستشار العائلي,فاني اقترح عليك ان تبدأ اولا مع تانيا. -لم انتظر نصيحتك كي افعل ذلك,ولهذا طلبت منك الحضور هذا المساء.اقفل الباب وعد الى هنا,واجلس. كانت تانيا تعلم ان بامكان والده وحده توجيه الاوامر له على هذا النحو.ما من شخص اخر يجرؤ على مخاطبته بتلك اللهجة. اغلق الباب بعنف وجلس في مقعد قريب منها.كان يبدو مرتاحا بشكل يثير الدهشة,ولكنها كانت تعرف انه يجلس هادئا متحفزا كفهد شرس... نظر الى ساعته الذهبية,وقال: -لننه الامر بسرعة,فلدي موعد عشاء هذه الليلة. -مع شيلا؟ لم تنتبه تانيا الى انها وجهت سؤالها بصوت مسموع,الا عندما نظر اليها بعينين قاسيتين وسألها بانزعاج واضح: -وهل يهمك ذلك؟ اسكته والده مؤنبا: -كفي يا جايك.لم نأت الى هنا لتبادل الاتهامات والاهانات. احنت تانيا رأسها هربا من نظرات التأنيب والاحتقار التي وجهها جايك الى عينيها وقلبها. وسمعته يسأل والده بشئ من العصبية: -ما هو بالتحديد سبب وجودي هنا؟هل من المفترض ان نبحث نفقات الطلاق,ام ماذا؟ ثم وجه كلامه اليها قائلا: -اذا كان الامر كذلك,فتأكدي بانني لن اعطيك اي نفقة على الاطلاق.وسوف احاربك بكل قواي للاحتفاظ بابني. هبت تانيا واقفة لانها لم تتحمل لهجة الانتقام المرير في صوته.انه يحتقرها!فكيف ستخبره الحقيقة؟ ناداها جاي دي بصوت دافئ مطمئن,وبلهجة تعدها بدعم كامل من جانبه.نظرت اليه والدموع الحارة في عينيها,وقالت هامسة: -لن اتمكن,يا جاي دي,لن اتمكن. شاهد جايك دموعها فقال ساخرا: -يا لهذا الدموع!انها مؤثرة جدا! نظر جاي دي الى ابنه بقسوة,وقال لتانيا: -طبعا يمكنك ذلك يا تانيا.هذا اذا ابقي ابني المتغطرس فمه مقفلا فترة كافية للاستماع والاصغاء. قال له جايك بلهجة غاضبة: -لماذا تصر الى العودة الى هذا الموضوع؟انك لا تعرف ماذا يجري. رد عليه والده بغضب مماثل: -انا اعرف اكثر مما تعرفه انت!واذا خرست لبعض الوقت,فربما تمكنت انت ايضا من معرفة بعض الامور! لم تتحمل تانيا قيام اي خلاف بين الابن وابيه فصرخت بحزن بالغ: -كفي!توقفا عن تمزيق بعضكما!لن اقبل بان تصرخا بوجه بعضكما بسببي! -انت سبب توتر علاقتي مع عائلتي من اليوم الاول لزواجنا.فلماذا تتبدل الامور الان على هذا النحو المفاجئ؟ نزلت عليها كلاماته الساخرة ةاللاذعة كوقع السياط, ولكنه لم ينتظر جوابها بل مضي الى القول: -يمكنك الان ان تخبريه اي قصة تريدين,فقد سئمت من هذا الترقب المثير الاجوف. نظرت تانيا الى الرجل الجالس وراء طاولته وهي تأمل في ان يتكلم نيابة عنها.ولكنه هز برأسه مشيرا اليها كي تتكلم. قالت له بصوت معذب: -لا اعرف كيف ابدأ. صرخ جايك بعصبية فائقة: -بحق السماء!قولي ما تريدين قوله حتى اتمكن من مغادرة هذا المكان! -انت لا تسهل الامور يا جايك. -ومتى كنت تسهلين امور ومجريات حياتي,ايتها العزيزة؟ خيم الصمت بعض لحظات خف خلالها غضبها الانتقامي بسبب تذكيره القاسي بمعاملتها القاسية السابقة له. تنهدت ومسحت دموعها,ثم بدأت تتحدث بهدوء: -عندما كنا نتحدث ذلك اليوم,قلت لي انك معجب بصراحتي وصدقي.لم اكن صريحة وصداقة معك,يا جايك.لقد ضللتك لتقتنع بشئ ليس صحيحا على الاطلاق. تأملته بتمعن وهي تنتظر رد فعله على تلك الجملة.كان ينظر اليها ببرودة وتململ,منتظرا منها متابعة كلامها. -اريد ان احدثك بشأن جون. عضت على شفتها بقوة كي تمنع نفسها من البكاء.واختلط طعم الدم بالألم الذي يعصر قلبها وجسمها بكامله. -وماذا بشأن جون؟ شاهدت نظراته القاسية,فارغمت نفسها على التطلع الى عينيه وقالت: -انه ليس ابني. قفز جايك من مكانه كالمجنون واقترب منها بسرعة الفهود.امسكها بكتفيها وغرز اصابعه حتى العظام.هزها بعنف بالغ,وهو ينظر اليها بذهول مؤلم. -ما هذه السخافة؟ماذا تحولين قوله؟هل تحاولين اقناعي بان جون ليس ابني؟ ترقرقت الدموع في عينيها وانهمرت على وجنتيها الورديتين,وتمتمت: -لا يا جايك.انه ابنك,ولم اكذب ابدا بالنسبة لذلك. -اذن ماذا تحاولين قوله يا امرأة؟ -انه ليس ابني انا.انا لست امه. قطب حاجبيه بدهشة بالغة وسألها بعصبية: -انا لا افهمك الان.ان لم تكوني انت امه,فمن هي اذن تلك الأم؟ ازداد ألمها عندما ضغط بقوة اكبر على كتفيها وقالت بصوت خافت: -انها اختي ديانا. صرخ بها جايك مذهولا: -هذا كذب ونفاق!لا اصدق كلمة واحدة مما تقولين! تنهدت وقالت له هامسة: -انها الحقيقة,يا جايك.اقسم لك على ذلك. -لا!لا! ارعبها صراخه ولم تعد تعلم ماذا تفعل.تركها فجأة وقال: -لا اصدق.لا اصدقك ابدا. تدخل جاي دي قائلا لابنه بهدوء: -انها تخبرك الحقيقة,يا بني. حدق به جايك وسأله بسخرية متألمة: -وماذا تعرف انت عن هذا الموضوع؟لا تقل لي انك تصدق هذه القصة الخيالية؟ لم يرد عليه والده فورا,بل اخرج وثيقة من درجه واعطاها لابنه قائلا بهدوء ونعومة: -اعتقد انك لم تشاهد هذه الوثيقة من قبل. انتظرت تانيا,وهي مشلولة الحركة والتفكير,فيما كان جايك يقرأ تلك الوثيقة عابسا متجهم الوجه. كانت متأكدة من ان تلك الورقة هي نسخة عن وثيقة ميلاد لجون. لا بد ان جاي دي حصل على تلك النسخة قبل بضع سنوات.نظر اليها جايك بعينين فولاذيتين وسألها بعصبية مكبوتة: -ديانا كار هي شقيقتك؟ تسارعت دقات قلبها توترا وقلقا,فاكتفت بهز رأسها دليل الموافقة. سألها بحدة: -لماذا؟لماذا تركتني اعتقد طوال هذه السنوات انك انت ام جون؟ -لانك انت كنت والده.كنت ستأخذه مني.لم تكن لدي اي عائلة,اي مكان لائق اعيش فيه,او اي دخل كاف لاعالة نفسي...وجون.كنت اعلم ان لا امل في ان تمنحني اي محكمة حق الوصاية,وبخاصة عندما يكون جايك لاسيتر والده. - اولا,كان على ان اعيش متألما من انك حملت ابني بطريقة غير شرعية والان,تقولين لي ان أم ابني فتاة لا اذكرها على الاطلاق! قبض على تلك الورقة بعصبية بالغة,وخيم على الغرفة صمت ثقيل لم تسمع تانيا خلاله سوى دقات قلبها. وفجأة رمى تلك الكرة الورقية نحوها قائلا بلهجة تضج عنفا وتوترا: -انك تطلبين الكثير الكثير! شهقت تانيا رغما عنها.لم تعد قادرة على مواجهته بعد الان,ليس بعد هذا الاذى البالغ الذي الحقته به. -آسفة يا جايك. وخرجت من الغرفة بسرعة دون ان تنظر الى اي منهما.
******نهاية الفصل التاسع******
10_تلك الليلة
-تانيا! سمعت صوته الغاضب,ولكنها لم تتوقف.مشت بسرعة اكبر عندما احست بانه يتبعها.لم تتمكن من التوقف حتى بعد ان سمعته يناديها ثانية. -تانيا,توقفي وعودي الى هنا! كان يحتقرها لانها رفضت حبه,ومن المؤكد ان شعور الاشمئزاز تضاعف لديه بعد ان تبين له كيفية استغلالها له طوال السنوات السبع الماضية.كيف يمكنها ان تلومه؟ لم تكن تفكر بشئ الا الوصول الى غرفتها وعزل نفسها عن الاخرين. كادت تصطدم بوالدة زوجها,التي هرعت الى الممر لدى سماعها صوت جايك العاضب. لم تأبه لنظرات الذهول والاستفسار التي غطت وجه جوليا. وسمعتها تسأل ابنها: -جايك,ماذا حدث؟ماذا يجري هنا؟ ازاحها بعصبية قائلا: -ليس الان,يا امي,ليس الان. قالت له بغضب ظاهر: -اريدان اعرف ماذا يجري.لدي كل الحق لمعرفة ماذا يحدث في بيتي! -دعيه وشأنه,يا جوليا. رفضت الاصغاء لكلمات زوجها الهادئة,ومضت الى القول بحدة: -ولكني اريد ان اعرف... وضع جايك يده على فمها,وقال: -سأخبرك كل شئ في وقت لاحق.اين جون الان؟ -في الحديقة. سمعت تانيا الجملة الاخيرة فيما كانت تغلق الباب وراءها وتقفله بالمفتاح. -افتحي الباب,يا تانيا! تسمرت في مكانها من جراء ذلك الصوت الغاضب, وقالت له: -ارجوك ان تذهب,ياجايك.اذهب. -افتحي هذا الباب والا حطمته! ترددت دقيقة قبل ان تمد يدا مرتجفة لتفتح الباب.حاولت جاهدة ايجاد القوة الكافية لعدم الانهيار اثناء استجوابه المتوقع. قررت الا تبكي,والا تحاول استجداء عطفه وشفقته.ليس من حقها ان تفعل ذلك,ليس بعد الطريقة التي اساءت فيها استخدام ثقته.احست بوجوده داخل الغرفة حتى قبل ان تسمع صوت الباب يغلق بقوة. تنفست بقوة ونظرت نحو السقف,وانتظرت. صرخ بها جايك بلهجة غاضبة: -انظري الي يا تانيا. استدارت نحوه ببطء ثقيل,وهي لا تعرف كيف تبدو ملامحها في تلك اللحظة بالذات. حدقت في عينيه الفولاذيتين القاسيتين وسألته بنبرة حادة: -الا يمكننا تأجيل ذلك حتى الى غد,يا جايك؟ سوف تتأخر عن موعدك لهذه الليلة. ابتسم بحرقة وقال لها ما كانت تفكر به الى حد ما: -انا واثق تقريبا من انك ستجمعين ثيابك واغراضك وتغادرين البيت,بمجرد خروجي منه.سوف ننهي هذه المناقشة على الفور,وفي هذه الغرفة بالذات. رفعت رأسها نحوه بصورة لا شعورية وقالت: -ليس هناك شئ اخر اضيفه على ما قلته لك سابقا.يمكنني فقط ان اقول اني اشعر بأسف شديد وبخجل قوي لانني لم اخبرك الحقيقة,قبل الان. نظر اليها بعينين ساخرتين غاضبتين وقال: -انك حقا حزينة بسبب تصرفاتك!لا ادري كيف تمكنتي من اقناع ابي بمدى الاخلاص والنية في عملك هذا,ولكنك بالتأكيد لم تقنعيني انا بعد. -اقنعك بماذا,يا جايك؟ -بسبب زواجك مني. -تزوجتك لاجل جون.قلت لك مرات عديدة في السابق.عندما اخطأت بابلاغك ان جون ابنك,وادركت انك لم تأخذ الموضوع بسهولة,شعرت بانه ليس امامي اي خيار اخر.احببته كأنه فعلا وقولا ابني من لحمي ودمي. -الم تخطر ببالك قط فكرة تحولك من تانيا كار الى السيدة لاسيتر؟الم تخطر تلك الفكرة حتى عندما علمت ما يعنيه ذلك من سكن في بيت جميل رائع...وتحرر من اي مشاكل مالية...وتمتع بحمل اسم لاسيتر المشهور... وارتداء ثياب لم تكوني تحملين حتى بالاقتراب منها قبلا؟الم تؤثر هذه الامور قط على قرارك؟ رفعت رأسها بشموخ واباء وقالت بهدوء راسخ: -لن اتظاهر بانني كنت اجهل ان عائلة لاسيتر ثرية ومحترمة.ولكني لن اتمكن من اقناعك بان هذه الامور لم تكن لتعني لي شيئا لو لم تكن لصالح جون ومستقبله. كانت من حقه بالولادة,في حين لم تكن ابدامن حقي انا. تمتم بسخرية لاذعة: -من المضحك انك لم تتوقفي ابدا عن استخدام هذه الامور لصالحك انت. -اذا اردت ان تصنفني كامرأة جشعة تبحث عن الذهب والشهرة,فلن اتمكن من منعك.ما يمكنني قوله فقط هو ان مستقبل جون كان ولا يزال همي الوحيد. حدق بها جايك فترة طويلة,ثم هز رأسه بعصبية وتمتم غاضبا: -لا اعرف لماذا اصدقك,ولكني اصدقك. اختنقت الكلمات في حلقها,ولم تتمكن الا من توجيه كلمة شكر يتيمة.وضع جايك يده على رأسه وسار نحو النافذة. تأمل الافق البعيد واحمرار المغيب بعينين زائغتين وافكار متعثرة. ثم قال لها دون ان يلتفت اليها: -يمكنني قبولك كوالدة جون.يمكنني تصديق ذلك.ولكن ان اكتشف فجأة ان امه الحقيقية انسانة لا اتذكرها... توقف فجأة ثم سألها: -اريد ان اعرف كل شئ عن تلك الليلة,يا تانيا. تمتمت بصوت ضعيف احتجاجا على سؤاله المزعج: -اوه,جايك! -هل هي التي...هل اخبرتك اختك بانني والد الطفل؟ لاحظت تانيا انه مصمم على معرفة كافة التفاصيل. اجابته بهدوء: -نعم,هي التي اخبرتني بذلك. -اخبريني ماذا حدث تلك الليلة.اخبريني كل شئ تعرفينه. كان صوته قويا ولهجته آمرة,الا انه لم يبعد نظره عن النافذة.تأملت بحب وحنان ظهره الجميل ومنكبيه العريضين ورأسه الشامخ.تمنت لو ان بامكانها ان تهجم عليه وتضمه الى صدرها بقوة تخفف عنها بعض الألم. ولكن جايك يصر على الحاق المزيد من الألم.لم تعرف من اين تبدأ,فقررت اطلاعه على جميع التفاصيل منذ البداية. قالت له بتردد: -ذهبنا انا واختي معا الى المعرض والى قاعة الرقص.كانت مع بعض صديقاتها عندما التقيتني انت.انا متأكدة من انها لم تكن قريبة مني عندما دعوتني تلك المرات القليلة الى الرقص.كنت جذابا جدا وساحرا للغاية.وشعرت انك تسرق مني انفاسي كلما نظرت الي.لم اقابل احدا مثلك من قبل. -لماذا هربت مني؟ تنهدت تانيا وقالت: -سيبدو الامر سخيفا الان.عانقتني مرات عديدة اثناء وجودنا على حلبة الرقص ولكن المرة الاخيرة...اوه, كانت مختلفة.افزعتني.افزعتني بسبب ما بدأت اشعر به. اردتك ان تمضي في عناقي.افزعتني تلك المشاعر والرغبات الدافئة,فهربت. -بحثت عنك,فلم اجدك.الى اين ذهبت؟ -ذهبت الى سيارتنا التي سمح لنا والدانا باستخدامها. ذهبت اليها وانا انوي العودة فورا الى البيت.ولكني لم اتمكن لان ديانا لم تكن معي.بدأت اشعر باني سخيفة وغبية لاني تخيلت ذلك العناق كتنين هائل.عدت الى قاعة الرقص...لم اعد فورا بطبيعة الحال لاني ترددت بعض الوقت قرب السيارة.ربما مر على وجودي خارجا نصف ساعة او اكثر. تنهدت بقوة وهي تتذكر احزان تلك اللحظات ومآسيها, واضافت: -عندما عدت شاهدت صبيا اعرفه كان يقف قرب المدخل.سألته عن ديانا,فقال لي انها في الجهة الخلفية للقاعة.دخلت القاعة,فرأيتها تقف الى جانبك. سألها بشئ من الحدة والعصبية: -هل انت متأكدة انها كانت معي؟الا يمكن انها كانت تقف قربي؟ ردت عليه بهدوء وقد بلغ منها التأثر حدا كبيرا: -لا,يا جايك.تبعني ذلك الصبي الذي كان واقفا امام الباب,ثم اشار اليك وسألني اذا كنت ذلك الشخص الذي كان يعانقني قبل قليل.لا اذكر اذا كنت اجبته نعم ام لا,ولكنه طالبني على الفور بتحذير اختي.وقال لي ان شباب عائلة لاسيتر لا يضيعون وقتهم...فاذا لم تقبل بهم هذه الفتاة وجدوا تلك. استدار نحوها بعصبية وسألها بوجه عابس غاضب: -وهل تصدقين ذلك؟ هزت تانيا رأسها بهدوء وقالت: -ليس الى حد كبير,في الوقت الحاضر.صدقت كلام الشاب آنذاك,وصدقته اكثر في وقت لاحق. قال لها ببرودة: -وكان هذا سبب احتقارك لي الى تلك الدرجة!عندما لم انجح في الحصول منك على ما اشتهيه,استخدمت اختك. هذا ما كنت تعتقدينه,اليس كذلك؟كيف عرفت بالتأكيد ان اختك كانت معي؟ -في الوقت الذي اردت التقدم نحوكما,اقترب شاب يافع ودعاها الى الرقص.شاهدتك تطوق خصرها بذراعك وتدفع الشاب بعيدا قائلا له انها...بضاعة خاصة. تنهد جايك بقوة وعاد ينظر الى الخارج.ارادت التوقف عن متابعة هذه الذكريات المؤلمة,ولكنها كانت تعرف انه يصر على معرفة ادق التفاصيل. -تمكنت في وقت لاحق من رؤية ديانا على انفراد. حاولت تحذيرها منك,ولكنها رفضت الاصغاء الي. قالت لي انها راشدة بما فيه الكفاية وتعرف كيف تتصرف. طلبت مني ان اذهب الى البيت.ففعلت ذلك دون تردد. كانت الساعة تشير الى الخامسة صباحا عندما عادت الى البيت.لم تتحدث الا عنك وعن انك ستأتي لمقابلتها في نهاية الاسبوع التالي.قتل والدنا بعد بضعة اسابيع بحادث اصطدام سيارة,فاخبرتني على اثر ذلك بانها حامل. -لماذا لا يمكنني ان اتذكر شيئا؟لماذا؟لماذا؟ ثم استدار نحوها وتأملها طويلا قبل ان يسألها ثانية: -هل كانت تشبهك؟هل من الممكن انه شكل علي التفريق بينكما؟ ردت عليه بهدوء: -كانت سمراء داكنة الشعر,اقصر مني. خيم الصمت الثقيل مرة اخرى لفترة طويلة لم تسمع تانيا خلالها سوى صوت تنفسها.وضع جايك يده على حافة النافذة فيما كان يراقب جون وهو يلعب بجرافته الصغيرة بين الصخور. واخيرا سألها دون ان ينظر اليها: لماذا؟لماذا وافقت على بذل جهود لانجاح زواجنا؟هل كان ذلك ايضا لاجل جون؟ تحملت سخريته الباردة وقالت له: -لا,وافقت في البداية لانك قلت لي اننا سنبحث عن بديل لانهاء زواجنا,فيما لو فشلت هذه الجهود والمحاولات.لم يغن لي ذلك البديل شئ سوى الطلاق,وهوامر كنت اتوخاه من صميم قلبي. صرخ بصوت غاضب ومتألم: -لماذا لم تقولي ذلك قبلا؟هل كان طعم الانتقام قويا لدرجة انك اردت اذلالي حتى النهاية؟ -لو سألتني ذلك قبل سنوات,لاجبت بالايجاب.اما الان,او قبل اسبوع,او حتى قبل شهر,لكان جوابي مختلفا وقلت لك ان كلامك غير صحيح.اعتقدت ان امامنا فرصة طيبة لانجاح زواجنا,وانك قد تنظر الى بعين الحب والعاطفة...او على الاقل ان تتفهم سبب كذبي عليك في البداية. ضحك بمرارة وقال لها وهويترك النافذة متوجها نحوها: -انك تقللين من اهمية قدراتك يا تانيا. اغمضت عينيها لحظة وقالت: -عندما قلت لي انك تحبني... وتحبني لنفسي وصدقي, تمنيت لو ان الارض انشقت وابتلعتني.كنت افضل الموت على ان تكتشف الطريقة التي كنت اخدعك بها. -لماذا قررت اطلاعي على هذه الامور؟هل ارغمك ابي على ذلك؟ -قال لي ان من الافضل ابلاغك بالامر. -كان بامكانك ان تتركيني اعتقد ان جون ابنك.لماذا لم تفعلي ذلك؟ نظرت بطريقة لا شعورية الى السرير ثم قالت له بحياء بالغ: -لو لم اخبرك الحقيقة,واصبحت زوجة حقيقية...لكنت اكتشفت بنفسك انني...انني لست اما. حدق بها جايك بذهول وكأنه لم يفهم كلامها. ثم اقترب منها ووضع يديه على كتفيها قائلا: -هل تعنين...هل تقولين انك...انك... اطلقت صرخة قوية عندما قرأ جوابها في وجهها,ثم ضمها الى صدره بقوة واغرق وجهه في عقدة شعرها الجميلة. امسكت به وهي تصلي بالا يتركها ابدا,وبان يبقيها بين ذراعيه الى الابد وهو يردد اسمها بصوت حنون هامس. كان قلبها يغني عندما تمتمت قائلة: -هل يمكنك ان تغفر لي؟اني احبك كثيرا يا حبيبي. -لماذا؟بسبب جون؟هل ما زلت تريدينه؟ فهمت سبب تشككه بصدق حبها,فاعترفت له بما يجول في قلبها: -اني احب جون,ولكن حبي لك يختلف عن ذلك,اعرف انك لن تغفر لي لاني خدعتك بشأنه.ولكني احبك,يا جايك,احبك كثيرا. ابعد رأسه عنها بقساوة وهو يقول: -لا,لا.انا الذي يحتاج الى المغفرة بسبب ما فعلته معك ومع اختك. ظلت ممسكة به رافضة ابتعاده عنها,وقالت: -لم اعد اشعر باي مرارة تجاهك. -ولكنها موجودة,وموجودة بيننا.لا يمكننا التظاهر بانها لم تحدث. وحدق بها ببرودة ثم مضى الى القول: -احبك يا تانيا.ربما الان اكثر من اي وقت مضى بعد ان ادركت مدى تضحيتك تجاه ابني. وضعت يديها برقة ونعومة حول وجهه وقالت: -اليس هذا هو الذي يهم,يا حبيبي؟ان نحب بعضنا؟ -اللعنة!الا تفهمين؟ ابعد يديها بغضب عن وجهه,ومضى الى القول: -هذا الفراغ المرعب في ذاكرتي عن تلك الليلة... يرهقني,يؤلمني,يكاد يقتلني.لا اعلم لماذا اتوقع منك ان تصدقيني,لم افكر بشئ عن تلك الليلة الا بك.ولا اذكر ابدا انني نظرت الى اي فتاة اخرى. ضمته اليها بقوة,وكانت عيناها تشعان بكل مشاعر الحب التي تحس بها من رأسها الى اخمص قدميها. ابتعد عنها وسألها بهدوء: -هل توجد معك صورة لها؟ربما اذا شاهدتها,سأتذكر. فتحت حقيبتها واخرجت صورة اختها ثم اعطتها له.تأملها بدقة ولفترة طويلة,ثم هز رأسه وتمتم قائلا وهو يعيد الصورة اليها: -ليس وجهها مألوفا,مع ان لديها ابتسامتك الجميلة. بدأت تعيد الصورة الى الحقيبة,ولكنه سارع وامسك بمعصمها قائلا بلهفة: -انتظري لحظة! نظر مرة اخرى الى الصورة ثم الى تانيا.تنفست بصعوبة وسألته: -هل تتذكرها الان؟ -تذكري جيدا يا تانيا.هل قالت لك انها امضت ليلتها معي؟اعني انا بالتحديد,بالاسم؟ هزت رأسها بارتباك وقالت: -اعتقد ذلك.الى ماذا تحاول التوصل,يا جايك؟ -اني اسألك عما اذا قالت لك انها كانت مع جايك لاسيتر,ام انك انت افترضت ذلك؟ -لم اعد اتذكر.كنت متألمة جدا واشعر بالمرارة والغضب لم ارد التحدث عنك. -اليس محتملا انها قالت انها كانت مع جايمي لاسيتر؟ -جايمي شقيقك,فلماذا كانت ستطلق عليك اسمه؟ -لان اخي كان معي تلك الليلة.اذكر كحلم قديم اننا لم نعد الى الفندق معا,ولكني كنت اعزو ذلك حتى الان لوجودي معك. -ولكني شاهدتك مع ديانا! -هل كان معا احد آنذاك؟ -لا يمكنني ان اتذكر ذلك. -اعرف انه التقى فتاة هناك.ولكني كنت ابحث عنك كالمجنون,فلم انتبه الى شكلها...سمينة,نحيفة,قصيرة,طويلة,لا ادري. -جايك,الى اين كان جايمي ذاهبا تلك الليلة التي قتل فيها؟ -لا اعرف.اعتقد انه كان على موعد مع فتاة شمال هاتفليد. -متى قتل؟يعني في اي يوم بالتحديد؟ استعاد وجهه بعض الارتياح وهو يجيبها قائلا: -يوم السبت...نهاية الاسبوع التي كان يفترض بي لقاء ديانا خلالها.جايمي هو والد الطفل! -عندما ابلغتني بانها حامل,سألتها عما اذا كان والد الطفل هو ذلك الرجل من عائلة لاسيتر الذي التقيته في قاغة الرقص.وبالطبع قالت نعم,ولم نذكر الاسم بعد ذلك الحين.عندما ولد جون,كانت ديانا مريضة جدا وكنت انا التي اعطت المعلومات الخاصة بوثيقة الولادة.اعطيتهم اسمك...وبقيت الومك على ذلك طوال هذه السنين.اوه,جايك,انا آسفة. تنهد بقوة وقال: -انا لست آسفا.لا يمكننا التأكد من ان جايمي كان والد جون. ابتسمت تانيا وقالت: -ولكننا,يا حبيبي,لا يمكننا التأكد من عكس ذلك.اننا نعرف ان جون هو من عائلة لاسيتر قولا وفعلا.ارتني جوليا صورا فوتوغرافية لكما عندما كنتما طفلين,واؤكد لك ان ثمة شبها هائلا بين جون وجايمي. -تحطمت سيارته بين هنا وسيداليا.احب كثيرا ان اصدق انه كان في طريقه لمقابلة ديانا.ربما وقعا بحب بعضهما تلك الليلة.احب جدا ان اصدق ذلك. وافتر ثغره عن ابتسامة ارتياح ومضى الى القول: -احب ان اصدق ذلك,ان لم يكن لشئ فلكي اريح ضميري من عذابه. -ليس هذا الامر صعب التصديق.اعتقد انني احببتك تلك الليلة,لفترة قصيرة على الاقل. ضمها بحنان نحو صدره وطوقها بذراعيه,ثم تمتم قائلا: -لا ادري ماذا كان سيحدث لو انك اطلعتني على الحقيقة قبل سبع سنوات. تنهدت,ولكن بسعادة,وقالت: -اعتقد اننا لن نعرف ذلك ابدا. -احبك يا تانيا,يا زوجتي الطيبة الصادقة.واعتقد انني كنت سأحبك آنذاك كما احبك الان.كان من الممكن ان نكتشف حقيقة ما جرى بين جايمي وديانا,وان نتجنب المرارة والكراهية اللتين عشناهما طوال تلك السنوات. التصقت به بقوة وقالت: -احب ان اعتقد ان هذا الامر جعل حبنا اقوى وامتن لانه ولد وعاش حيث لم يكن يحق له ذلك.الا توافقني على هذا الرأي؟ ولكنه هذه المرة اجابها بالافعال عوضا عن الاقوال...
تمت

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا