العشيقة الذهبية

الفصل الاول
لم يكن "نيكولو "يحبها ....وأغرورقت عيناها بالدموع.وتطلعت "كاتيا "من نافذة الطائره البوينغ 727 التي ترتفع فوق أوروبا مسرعه نحو البندقيه حيث تبدأ شهر العسل. كانصفاء السماء الخاليه من الغيوم.يتناقض مع ما يعتمل في أعماقها من صخب وهياج .وأخذت اصابعها تعبث بتوتر بفصوص الماس والياقوت في الخاتم الذي في اصبعها الثالث من يدها اليسري. شحن جسدها بالتوتر وهي تحس بحرارة وجوده بجانبها , فسمرت أنظارها علي المناظر التي تتعاقب تحتها.ولم تجرؤ علي النظر اليه فتفضحها دموعها . وتساءلت كيف كان بإمكانها ان تحبس الامها كل هذه المده الطويله؟ هل يكون وداع جدها المخادع قد حشرها في مثل هذا الوضع ؟ مما جعلها تجتاز شكليات السفر في المطار, حين لم يبدر منها أي استغراب والمذيع يعلن تاخر رحلتها الجويه بسبب مشكلات تنظيم الطيران فوق اوروبا.وأغمضت عينيها مدعيه التعب, الذي كان في الواقع قسما من السبب, وهي تريح ظهرها الي مسند المتكأ العام في مطار "هيثرو". لم تكن متاكده في البدايه من حقيقه عواطفها نحو نيكولو.ولكنها كانت حقيقيه لم تكن الحياه الهادئه التي امضتها في قريتها في "سافولك" مع جدها وعمتها "بيكي" قد اعدتها لحياه اجتماعيه تمنحها فرصه للتعرف علي النخبه من الشبان .واما الفتيان القليلون الذين تعرفت اليهم في سن المراهقه وبعدها ,أثناء السنه الاولي من عملها ممرضه في قسم العلاج الطبيعي في "مستشفي لندن" الكبير , هذه المعرفه يبدو انها لم تبعث في نفسها ايه عاطفه حقيقيه نحو واحد منهم ولكن منذ استقرارها في وظيفتها عند بلوغها سن الثانيه والعشرين, وهي تشعر بالرضا والاستقرار في حياتها ربما لو كانت لها خبره كافيه في الحب لكان في مقدورها ان تتصرف مع "نيكولو كاشياتور" بشكل أفضل ولكنها كانت قد عزمت ان تعيش نوعا من الحياه لا يسبب الكدر للانسانين الذين رعياها واعتنيا بتنشئتها منذ طفولتها .ولم يكن هذا يعني انها لم تتالم من الحرمان من الحريه الحميميه التي تتمتع بها كثيرات من اترابها او يبدو انهن يفعلن ذلك ولقد شاهدت ما يكفي من الماسي العاطفيه لأن يجعل عندها نوعا من الحذر والتساؤل عما اذا كانت هذه المتع المحدوده تستحق كل هذا الالم عند انتهائها. لقد كان احجامها عن التجربه ,قد اضعف المناعه في قلبها مما سهل معه وقوعها في أسر حب نيكولو منذ حوالي الشهرين غرزت اظافرها في راحتيها وهي تتذكر المره الاولي التي تقابلا فيها لقد كان جدها يستقبلها عند باب بيته الريفي الذي كان قد احضرها اليه عقب موت والديها الفاجع في ايطالياوقفز قلبها وهي تري ابتسامته بعد ان كان فريسه للكآبه وتور العزم.وفي الحقيقه إن ذلك كان نتيجه القلق علي حالته الصحيه ما استحثها لاستعجال عطلتها السنويه .وازدردت لعابها في محاوله لتمالك نفسها وهي تتذكر احدث ذلك اليوم. لم تكد تنتهي من تحيه جدها وعمتها "بيكي" حتي فتح باب غرفة الجلوس المشمسه ليقف فيه رجل غريب. وياله من رجل غريب .انها لا تزال حتي الان . تتذكر كيف فغرت فاها وهي تري أمامها رجلا يمثل جمال الرجوله بشكل لم تر له مثيلا. كان فارع القامه رائع التكوين يرتدي بدله خفيفه من "التويد" وقميصا حريريا تدلت من فوقه ربطه للعنق عقدت برقه واناقه . وبدا ي كل جزء منه رجل الأعمال الناجح الذي عرفته فيما بعد. قدم الجد الواحد منهما الي الاخر وهو يبتسم بسرور قائلا:""نيكولو كاشياتور" حفيدتي كاترينا. كان نيكولو قد خطا الي الداخل مادا يده مصافحا , وقد بعث سواد عينيه الاحمرار الي وجنتيها. ومن دون اراده منها جذبت انتباهها كثافة اهدابه السوداء بينما كانت يده تصافح يدها. لقد تعاملت في مهنتها مع كل انواع الرجال سنا ومركزا, ولم تكن ثمة حاجه بها الي ان يخلع هذا الزائر ثيابه لتعلم أنه نموذج مثالي لرجل في أوائل الثلاثين من عمره , تكوينا وعضلا. شد باصابعه الطويله علي راحتيها وهو يقول:" يسرني جدا ان التقي بك اخيرا يا سنيوريتا.." كان في الحيويه التي تدفقت من كلماته.وفي انحناء فمه الجميل وهو يرحب بها ,الي لمعان عينيه,كان في كل ذلك , ما جعل خفقات قلبها تتسارع. قالت له :" لا اذكر ان جدي اتي علي ذكرك مره واحده يا سنيور." وعاد اليها برودها وهي تتحول بنظرة استهجان الي وجه جدها انطونيو لورنس. قال نيكولو بلطف :" ربما هذه المره الاولي التي نتقابل فيها وجها لوجه , ولكن اسرتينا متعارفتان منذ مده طويله. ولكن تاكدي من ان الحديث عن جمالك وفتنتك قد سبق اجتماعنا هذا . ولمعت عيناه وهو يرد لها التحدي. لقد اجتذبتها المغناطيسيه المنبعثه منه دافعه حواسها الي الانطلاق بينما كان جدها يقودها الي غرفه الجلوس بملامح هادئه مسترخيه لا تشير الي سنيه السابعه والثمانين , ولا الي الفاجعه التي خطفت منه ولده الوحيد في انفجار قارب في احدي بحيرات ايطاليا منذ عشرين عاما. قال لها جدها :" ان نيكولو هو ابن صديق قديم من اصدقائي ." دخلت عمتها في هذه الاثناء تحمل صينيه عليها زجاجه شراب واربع كؤوس بلوريه .وتابع الجد قائلا :" انه هنا حاليا في عمل يقوم به , وقد احب ان يزورني." تناول انطونيو لورنس الجد زجاجه الشراب ليفتحها. ومد نيكولو يده يتناول الكأس من جدها وهو يقول:" ان اسم شركتي في "ميلانو" هو من اشهر الاسماء في عالم هندسه السيارات. والغرض من زيارتي هو لانشاء علاقات مع القمه من مهندسيكم الميكانيكيين وفى نفس الوقت ما الذي يريده السائقون الانكليز ي سياره حديثه." راودتها فكره خبيثه في ان تتحدي خيلائه هذه بقولها :" ما يريده السائق الانكليزي هو يناقض تماما ما تظنه انت." جاءها الرد وهو يجيبها باسف :"ان الاستخاف بذكاء الزبون هو خطا كبير" دون وعي منها , انفجر من بين شفتيها الرد الحاد قائله :" أو بذكاء الفريسه؟" لعله عقلها الباطن استمد هذا التعبير من معني اسم "كاشياتور"بالانكليزيه , وهو "الصياد"فيكون التعبير بالاسم هو الصياد بالفعل ..وربما كانت في اعمق اعماقها تعترف بخطورته. ولكنها الان .والان فقط تكتشف كم هو, فعلا خطر أوما هو براسه الداكن الشعر موافقا بقوله :" وهنا الكارثه." ونظر اليها بامعان وهو يرفع الكاس الي شفتيه متابعا :" نخب صداقتنا يا كاترينا." صداقه ؟ وتساءلت عما اذا كان لكاشياتور اية صديقه منذ احتفل بعيد ميلاده الرابع عشر .ولكن لم يكن الوقت مناسبا الان لمتابعة الخصام, خاصة حين رفع الجد والعمه كاسيهما مبتسمين. وهكذا حسب المعتاد رفعت كأسها تقارع به كاسه قبل ان ترشف الشراب. كان من المستحيل عليها ان تحدد بالدقه , اللحظه التي وقعت فيها بحب نيكولو . لابد انه كان هناك تغيرات في مشاعرها منذ اللحظه التي جاء ليحشر نفسه في حياتها .ولكن, مثل أزهار "الكروكس" التي تنبت كل ربيع تحت شجرة التفاح في حديقة جدها في "سادينغهام" تبقي مختفيه عن أنظارها الي حين اكتمال نضجها ,في ظلمة مكانها المنعزل حيث غرست ,الي ان ياتي اليوم الذي تتالق فيه بكل مجدها الذهبي , رافضه الانزواء. إنها تتذكر تماما ذلك اليوم .فقد كان نيكولو قد أبدي رغبته في شراء حصان من وكيل بنك سلالات دم الخيول, الذي كان صديقا وجارا لهم ,"ريتشارد كارفيل" بغرض وضعه تحت التمرين واعداده للسباق في اوروبا.عندما اعلن عن اختياره نهائيا , كان ذلك في بداية الاسبوع الثاني من اجازتها, كان الطقس رائعا وكانت تباشير الربيع تطل مع بزوغ اوراق الاشجار وتفتح ازهار اشجار الكرز. عادت الي حظائر ريتشارد بعد شوط عدو هادئ علي ظهر "تريجر" مهرة ريتشارد الكستنائيه الخاصه , وهي تتالق بالسعاده والرضي بعد ذلك الجهد , وقد تفجرت كل خليه في جسدها بالرح والحياه والصحه . ما ان ترجلت عن ظهر المهرة , وسلمت زمامها الي سائس ريتشارد في الحظيره حتي سمعت صوت نيكولو يحييها ويبعث الرجفه في كيانها . كان عليهما ان يقضيا وقتا طويلا معا اثناء وجودهما ي "سادينغهام" حيث انه كان ضيف الشرف لجدها . وشيئا شيئا ابتدات تستمتع بصحبته , وبمزيج من السحر اللاتيني والرجوله الطاغيه , استطاع نيكولو أن يتغلب علي طبيعتها الحذره ويتغلل في قلبها وعقلها .قرا هو استسلامها هذا عندما راي نظراتها ..وهكذا أدركها الضياع حين جذبها اليه يعانقها . واسترخت عزيمتها ولم تستطع الخلاص من قبلته المحمومه يوقظ بها احاسيسها الجائعه. هكذا , بعد دقائق قليله من اطلاقه لها من بين ذراعيه , عرفت ان حب نيكولو قد استقر في قلبها وكل كيانها . سالها بلطف يغلف عجرفه الفاتح الطاغي :" متي تتزوجين مني ؟" وكان عليها , حينذاك ان تنتبه الي تالق الفوز في ظلمه عينيه السوداوين . ولكن ذلك لم يحدث , ولاحساسها بشبه اغماء مفاجئ , تعلقت بذراعه وهي تشعر بعواطفها تتمزق بين رغبتها الجامحه بنيكولو , وبين ولائها لجدها الذي تدين له بالكثير والذي حاجته اليها مختلفه ولكنها بالتاكيد اقوي من حاجه نيكولو لها. همست من بين شفتيها الجافتين :" جدي . انه لن يوافق ابدا ."وأخذت تتساءل , وهي تشعر بالصراع بين حبها وواجبها , كيف لها ان تجعل نيكولو يفهم مشاعر جدها نحو موطنه ومسقط راسه ؟ في الوقت الذي لا تفهمه هي نفسها؟ توقعت من نيكولو ان يغضب قائلا انها ناضجه بما فيه الكفايه لأن تقرر مستقبلها ونمط حياتها . وفي الوقت الذي كانت تبحث فيه عن الكلمات المناسبه لتقولها , أدهشها قوله :" ليس هناك أي إشكال" وتخللت اصابعه شعرها الذهبي وهو يمسح وجنتها الدافئه بشفتيه ثم يستطرد قائلا :" ساطلب يدك من جدك سائلا اياه ان يباركنا , ولكن , اذا هو رفض , وكانت هذه هي مشيئتك انت ايضا , فانني ساعود الي ايطاليا من دونك." فعلا سافر في نهايه الاسبوع من دونها الي ايطاليا ولكن رحيله لم يكن لأن انطونيو لورنسقد رفض طلبه , وانما لأنه باركهما موافقا , وكان علي نيكولو ان يسافر لينظم اعماله قبل ان يعود الي انكلترا ليتزوجا في شهر حزيران / يونيو. احست بالمرارة . لقد ظنت ذلك الوقت انها تعرف كل شئ عن زوج المستقبل . لقد كان اخبرها ان امه هي الزوجه الثانيه لأبيه الذي يكبرها كثيرا في السن , وأن الزواج الاول الذي ترمل بعده أبوه , لم يثمر أولادا , ولأن اباه كان في الخمسين من عمره عندما ولد هو , كان لمولد نيكولو رنه فرح وبهجه غمرتها العواطف والعطاء المالي من والديه بينما كان يكمل دراسته العليا و اوضح السبب في تاخر زواجه الي اوائل الثلاثينات من عمره أنه أراد ان يري في غرفته امراة يعرف تماما أنها هي زوجه المستقبل التي يتمني .ولأن هذا ما كانت تتمني ان تصدق فقد قبلت هذا التفسير منه , وليس لأنها ارتابت في عدم خبرته بالنسبه للنساء . ولم يكن نيكولو بالجاهل في فنون الحب , وقد سبق وعرفت هذا , وكذلك عليها ان تكتشف خبراته الاخري . ثم ظنت انها تفهم ذوقه في الموسيقي وبقيه الفنون وكذلك في الادب والطعام , وما الذي يضحكه وما الذي يستفزه ويثير سخطه, وادركت ان وراء شخصيتهالطاغيه القويه يكمن قلب محتدم العواطف . ولكنها كانت مخطئه , لو انها فقط كانت ادركت ما تدركه الان , وهو ان ما بدا من اطاعه نيكولو لجدها واحترامه لرغباته , انما هو مؤسس علي ادراك اناني وهو ان الرجل العجوز لن يستطيع الاعتراض علي زواجهما .وذلك رضوخا لظروف خارجه عن ارادته. لقد كان جدها هو الذي اصر علي ان يتزوجا مدنيا في انكلترا قبل ان يسافرا الي ايطاليا لإجراء الطقوس التقليديه الكامله .وكانت سعيده لهذا اذ كان في استطاعتها دعوه اصدقائها من الجيران والمستشفي الي حفل زفافها . وقد وعد نيكولو في ما بعد بان يقيم ايضا الشعائر الدينيه بحضور اسرته واصدقائه في البندقيه . وبطبيعه الحال , فان جدها وعمتها بيكي سيحضران تلك المناسبه . الي اللحظه التي وقفت فيها الي جانبه في مكتب تسجيل الزواج , كانت علي اتم اقتناع بان عدم اعتراض جدها علي هذا الزواج انما كان صادرا عن موافقه تامه . ومنذ موت ولده الوحيد , واحضاره لأبنته لتعيش في كنفهما , هو وعمه كنته , منذ ذلك الحين وانطونيو لورنس لم يظهر نحو مسقط راسه وشعبه سوي المراره , وذلك ما ارجعته هي شخصيا الي الصدمه العصبيه التي انتابته إثر تلك الفاجعه , حتي أنه غير اسم اسرته من" لورنزو" الي اللفظ النكليزي لذلك الاسم "لورنس" وهو ما اصبح يعرف به بعد ذلك . وقد غضب جدا عندما اخبرته انها ستتخذ اللغه الايطاليه لغه ثانيه وهو المطلوب منها لشهادتها المهنيه. عندما سالته متردده عما اذا كانت مشاعره قد تغيرت بالنسبه الي بلده وشعبه , اكد لها ذلك وهو يقول باسما :" حيث انني كبرت في السن , فان رغبتي في رؤيه بلادي تزداد , وابتدات ادرك ان مشاعري واحزاني ربما كانت اكثر من اللازم , ولكنها بطبيعه الحال , ليست من الاهميه بحيث تقف في وجه سعادة حفيدتي الوحيده . ونيكولو كاشياتور رجل غني وسيكون لك زوجا صالحا" غني ؟ ومتي كان الغني اساس السعاده ؟ ولكنها في غمرة السعاده حينذاك , لم يساورها الشك قط في سبب موافقه جدها غير العاديه تلك , لقد كانت متاكده ان نيكولو يبادلها نفس حبها له , وهل ثمه ما يدفع رجلا الي الزواج من فتاه غير الحب ؟ ولقد ذهبت الي حفله زفافها بنظره زائغة لتظهر لها الحقيقه الساطعه بعد ذلك بساعات . حتي الان , ليس في استطاعتها استعادة تذكر المشهد الذي استوقفها عندما اقتربت حفله الاستقبال الصغيره التي اقيمت في منزلها , وهو ما سمعته من كلام جدها مع نيكولو من نهايتها , وقد اعدا نفسيهما , هي ونيكولو , لكي يلحقا بالطائرهالمسافره الي البندقيه بعد ساعه , لقد نزلت السلم بخفه بعد اصلاح زينتها وشعرها , عندما سمعت صوت نيكولو اتيا من غرفه جدها . كانت متجهه للالتحاق به دون تفكير وقد امتص سماكه السجاده صوت خطواتها , وقبل ان تصل الي الباب المفتوح أوقفتها الحاسه السادسه عن التقدم . كانت مشغوفه بجدها , وكانت لهذا تتقبل فكره انه من الطبيعي لرجل في سنه , قد نشأ علي العقليه الايطاليه القديمه التي هي في كونهم , مع اعتبارهم للحياه الزوجيه , يصرون علي الاستمتاع بالصداقات التي تكون بين الرجال . حسنا , ماداما يتبادلان أحاديث الرجال , فما شانها هي بذلك ؟ والاحري ان تتسبب لهما ببعض الارتباك ي ما لو دخلت ...وكانت علي وشك ان تستدير عائده من حيث اتت , عندما اوقفها صوت جدها وهو يقول بصوت خات :"انك تدرك انني لم اكن لاقبل بزواج المصلحه هذا اذا لم اكن متاكدا من ان هذا ما تريده كاتي ." ثم سمعت صوت نيكولو العميق يجيب:" ارح نفسك يا انطونيو انك لم تقم بعمل يشينك. ان كاترينا ستحصل علي الثروة والمركز كزوجه لي وكل شيئ تريدها انت ان تستمتع به ." قال الجد :" وستقسم لي بانك لن تخبرها ابدا بان هذا الزواج قد حصل سدادا لدين يتعلق بالوفاء بين أسرتينا ." واهتز صوت جدها معبرا عن الاسف والشعور بالذنب معا , ثم لتسمع باذنين غير مصدقتين , نيكولو يقول :" ان هذا لا يهمني كثيرا كما تعلم." كان في جواب نيكولو رنه سخريه شعرت بها كطعنه في قلبها . لم تستطع السماع اكثر من ذلك . فاستدارت لتركض صاعده الي غرفتها . لقد اصابها ما سمعت في الصميم . " زواج مصلحه؟..." "سداد دين عائلي يتعلق بالشرف؟...." كان هذا بعيدا عن التصديق , كلا ...لقد تزوجها نيكولو لأنه احبها ...اليس كذلك ؟ ولكن الكلمات التي سمعتها قد حفرت في ذاكرتها ...ولقد فشلت في العثور علي معانِ اخري لها . لقد جاء نيكولو الي انكلترا لغرض واحد .هو طلب يدها للزواج , لقد باعها جدها الغالي الذي تحبه في سبيل تحصيل شرفه . ولكن لماذا ارادها نيكولو ؟ وما الذي تستطيع ان تقدمه اليه اكثر مما تقدمه اليه نساء بلده ؟ ونظرت الي صورتها في المرآه بذهن شارد دون أن تلاحظ شحوب وجهها والكمد في عينيها الزرقاوين . لكن ما زال هناك وقت للخلاص من هذا الرباط الزوجي الذي ربطت نفسها به دون حذر . انها تستطيع ان تهرب بعيدا. ذلك ان رباطها الزوجي ما زال مدنيا ولم يعقد رسميا بعد .فيمكن اذن حل هذا الزواج الذي لم يكتمل حيث انها ترفض الزواج من نيكولو كاشياتور. قطع حبل افكارها طرق علي الباب لتدخل منه عمتها بيكي . ومنحتها عمتها التي تصغر جدها بإحدي عشر سنه , ابتسامه حلوه وهي تقول :" هل انت جاهزه يا حبيبتي؟ ان السائق ينتظر خارجا ليأخذك الي المطار ." مهما كان تصرف جدها مؤلما بالنسبه اليها , كيف لها ان تسبب الالم والكدر لهذين الانسانين اللذين ربياها بالحب والحنان طيله عشرين عاما الماضيه ؟ انها متاكده من انه ليس للعمه بيكي أي دور في زواجها هذا , فما ذنبها لكي تتالم اذا هي اثارت الفضيحه حولها ؟ ثم ماذا عن انطونيو لورنس نفسه وكم يدين لأسره كاشياتور ؟ هل يدين لهم بمبلغ لا يستطيع اعادته؟ كان جدها في السابعه والثمانين وبالتالي مشرفا علي الانهيار , وارتعدت وهي تتذكر الضعف البالغ الذي اصابه حديثا , ربما كان لهربه من موطنه ايطاليا كل تلك السنين , ربما كان لذلك سبب اكثر من مجرد موت ولده , وقد اطبق عليه الماضي الان . اذ انه ما كان يبيع مستقبلها لو لم تكن امور هي في غايه البشاعه , تدفعه الي ذلك . أمسكت العمه بيكي بيدها البارده تتحسسها وهي تسالها :"عزيزتي كاتيا...هل انت بخير ؟ هل ثمه شئ يزعجك؟" حاولت كاتيا ان تتصنع ابتسامه وهي تنهض واقفه وتقول :" ليس بي من شئ يا عمتي ." لا مجال الان للتراجع . ليس ثمه طريقه لأن تخبر جدها أو زوجها بما سمعت ,ذلك انها تخاف , ان هي فعلت ان تنشر التعاسه بين كل هؤلاء الذين تحبهم . "سيداتي سادتي , سنهبط في مطار ماركو بولو , البندقيه خلال دقائق , ونحن نعتذر عن التاخير ..." استمر صوت المذيع في الطائرهولكن كاتيا لم تعد تسمع , وهي تري المدينه باكملها تبدو منتشرة تحت الطائره . ثم غرقت بالمشاعر المتعدده التي تفاعلت في نسها الي جانب الغضب الذي كان مسيطرا عليها. ولم تكد تشعر بيد نيكولو اللتين كانتا تثبتان الحزام الامان حولها بينما الطائره تهبط . كم حلمت بهذه اللحظه , وهي تتصور البهجه ةوالاثاره اللتين ستحس بهما حين تطا قدماها ارض ايطاليا لأول مره وهي الي جانب الرجل الذي تحب . ولكنها كانت احلاما . وكانت هي حجر شطرنج في لعبه لا تعرفها . ولكنها ليست من الغباء بحيث تترك نفسها لعبه في ايديهما في مناوره لم تفهمها . لاول مره منذ تعمدت استراق السمع عند الباب , حل الغضب في نسها محل الياس .ما هو الغرض من قطع نيكولو لكل ذلك الطريق من ايطاليا ليتزوج من امرأه لم يقابلها قط من قبل ..؟ انها ستكتشف ذلك بنفسها . عزمت بغضب واصرار علي ان تعطي هذا الهدف الاولويه ,اذ انها ما لم تعرف أولا ما الذي يمسكه نيكولو ضد جدها , فانها لن تستطيع ان تتدبر امر خلاصها من هذا الوضع الذي سارت اليه مغمضة العينين. وتساءلت عما كان سيحدث لو انها لم تقع في حب نيكولو . هل كان جدها سيطلعها علي الامر متوسلا اليها ان تقبل ؟ كان السؤال فرضيا , فقد كان نيكولو رجلا جذابا وكذلك صفاته و شخصيته مما ساعده علي التظاهر بالحب لها . وكان ما حدث هو النتيجه لذلك كله , ولأول مرة في حياتها تشعر بالندم لعدم اختلاطها بالرجال مما كان حتما سيعطيها المناعه الكافيه فلا تسقط في حب أول رجل جذاب المظهر يقابلها . تصلبت في قرارها وهي تفكر في ان نيكولو قد يظن انه كسب اللعبه . كان واضحا انها يجب ان تخطو بحذر . ولكن كبرياءها كانت تدفعها الي مهاجمه شعوره بالنصر . فلنفترض انه يجب ان يكتشف انه بدلا من ان يوقع في شراكه فريسه رقيقه سهلة الانقياد , قد اوقع فريسه شرسه الخلق؟ ربما عند ذلك سيندم علي عمله ويطلق سراحها . كان ذلك املا ضعيفا , ولكنها يجب ان تتعلق به حيث ان ذلك هو الطريق الوحيد للخلاص من حياه زوجيه خاليه من الحب , أخيرا , يجب علي نيكولو كاشياتور ان يدرك ان ثمة شيئا غير البراءه والدماثه في عروسه اكثر مما كان يتصور بكثير.
الفصل الثاني
في سرعه مدهشه , كانا قد اجتازا الجمارك الايطاليه و أصبحا في الساحة الخارجية للمطار , حيث تجاهل نيكولو العبارة التي تمخر فارغة في مياه القناة الهادئة حيث قصدها الركاب الآخرون . قاد نيكولو كاتيا إلى حيث كان مركب خاص يرسوفي انتظارهما. (( أخيرا أقبل السنيور )) و تتقدم منهما رجل أسمر اللون أخذ بيد نيكولو مصافحا و هو يقول بحراره : (( تهاني لك و للسنيوره )). ناوله نيكولو الحقائب ثم أخذ يساعد كاتيا في النزول إلى المركب , وهو يقول مخاطبا إياه: ((هل أبقيتك في الإنتظار طويلا يا جوفاني ؟)) قال الرجل: (( راجعت المطار قبل أن اترك القصر , و لكنني ظننت أنك لن تصل في الوقت المناسب لتحية ضيوفك. )) ((القصر؟ ضيوف؟ )) و أضيف الفزع إلى مشاعرها المضطربه. كيف بإمكانها أن تتعامل مع الضيوف مع كل ما يتفاعل في نفسها من مشكلات ؟ و غاصت بين الوسائد الناعمه في قمرة المركب الذي كان ينساب مبتعدا عن المرسى. و نفضت بعيدا شيئا علق على بزتها الحريرية المختلطة الألوان التي اختارتها للذهاب بها إلى مكتب تسجيل الزواج. جاء نيكولو ليجلس إلى جانبها متكئا و هو يقول : ((سيكون لنا شقتنا الخاصه الفاخرة في أحد قصور القرن الثاني عشر التي تتصدر القناة الكبيرة )) قالت مبتدئة بأولى كلمات الدور الذي فرضته على نفسها , و قد تجلى الإزدراء في صوتها : ((ألم يكن في أستطاعتك اختيار فندق مناسب ؟ )) و احتد صوتها و هي تضيف : (( لم أكن أتوقع أن اقضي شهر العسل أخدم في شقه )) قال نيكولو يطمئنها : (( ليس عليك أن تقومي بذلك . الشقه مزوده بطاقم كامل من الخدم الذين يقومون بالعمل لمدة اربع و عشرين ساعة. )) قالت: (( شكرا . لقد ظننت للحظة أنني وقعت في غلطة شنيعة إذا ارتبطت برجل شحيح . هل الشقه غالية ؟)) قطب حاجبيه و هو يرى النظرة الشرهة التي تجلت في عينيها و قال: ((كـــــلا.. في الحقيقة , ان هذا القصر هو ملكي , أو ملك شركتي على الأقل , لقد أنقذناه من التداعي و الأنهيارمنذ عشر سنوات تقريبا بمساعدة المصرف, و أعدناه إلى بعض سالف مجده و تألقه من الداخل و الخارج, حسنـــا مازال علينا أن ندخل إليه بعض التجديدات, و لكن الطابق الأرضي قد حول إلى صالة رقص مما اعطى صورة كبيرة عن ثراء القصرالقديم و مجده. وهو يستعمل الآن كمكاتبللشركة باستثناء الطابق الأول الذي قسم شققا للزائرين و الوكلاء و الزبائن )) قالت كاتيا بضعف : (( فهمت )) دون أن تتأكد من أنها فهمت شيئا. لقد كان نيكولو مملوءا بالمفاجآت, ذلك أنه لم يقنع جدها فقط لكي يضحي بها , و لكنه يبدو الآن أكثر غنى و ثاء مما كانت تظن , على الرغم من تظاهرها بعدم ملاحظتها ذلك و لا شك في أن الشيء التالي الذي سيخبرها به هو أنه من امراء البندقية, كذلك كان قد أخبرها بأن جذور أسرته تعود إلى أقصى الجنوب . سمعته يتمتم: (( هذا حسن إنني مسرور اذا لم أخيب توقعاتك و ما زلنا في بداية حياتنا . و لكنني متأكد من أنك قريبا ستدركين أن الأشياء التي تأتي بدون ثمن هي قليلة جدا , و هناك ثمن يدفع للرفاهية التي تنتظرها )) قال ذلك وهو يشملها بنظراته المعبرة. تساءلت هي عما اذا كان على وشك ان يضيف بأنه إنما تزوج منها تبعا لاتفاق ما . و أنه سيخبرها السبب! و لكنها أبعدت الفكرة من رأسها حالا اذ تذكرت انها سمعته يقول لجدها إنه لن يهتم بذكر هذا؟ قالت و هي تهز كتفيها : (( يبدو لي أن هذا شيء ممل و أرجو أن لا يشملني أنا أيضا )) أجاب : (( إنه لكذلك لسوء الحظ , و لكنني مــتأكد من أنه لن يكلفك فوق طاقتك )) كان في لهجته شيء من الغلظه, كما خيل إليها أنها لمحت شيئا من الإنفعال في نظرته إليها . فكــــرت , و قد قوي عزمها في أن نيكولو يعرف أنها لم تكن بالجاهلة و لا بالغبيه . قـــــال: (( إنني سأعقد مؤتمرا صحفيا هذه الليلة للإعلام و لكثيرين من وكلائنا في اوروبا و مناطق اخرى )) و هذا ما كان يعنيه جوفاني حين تكلم عن الضيوف. كنت أرجو أن أعرفك على القصر في وقت الفراغ فأمضي بذلك بعد الظهر معك )) لم يوضح معنى قوله هذا و لكن كاتيا لم تكن بحاجه لذلك . فقد كان غرضه واضحا في الرغبة التي بدت في نظراته التي كانت تحوم على وجهها و هي حافلة بالشوق. هــز كتفيه وهو يقول : (( لسوء الحظ , ان تأخر الطائرة لم يكن ليبقى لنا الوقت الكافي لاستقبال ضيوفنا. و عليننا الآن ان ننتهي من آخر ضيف لكي نستطيع أن ننفرد بنفسينا. هل تمانعين بذلك ؟ )) تساءلت كاتيا ما إذا كان انعدام الحب من ناحية لا يعني ان الزواج سيبقى عذريا..و أذهلتها الفكرة كما أفزعتها في الوقت نفسه, كانت كل خلية في جسمها تشعر بقربه و كان قلبها يخفق كجناحي طائر كما كان فمها ظامئا إلى قبلاته, و لكن كان عليها أن تذكر نفسها بأنه لم يكن يحبها,و أنه إنما كان يضع قناعا زائفا لتمثيل دور العريس العاشق. أو على الاقل كان مجرد رجل بالغ العافية قوي الرغبة في الحب وواثقا من نفسه و من قدراته. وشعرت بالراحة لهذا التأخر , إذ أن كل دقيقة تبعدها عنه, تعطيها الفرصة لتسلح نفسها عقليا و شعوريا ضده. تنفيذا للخطة التي وضعها عقلها المعذب تصنعت الإبتهاج و هي تقول: (( طبعا لا أمانع , فانا شديدة الولع بالإجتماعات. )) كانت تقصد أن يعتقد انها تزوجت منه طمعا في ثروته و أنها لا تكن له أية عواطف صادقة, وبذلك , و هي تطعن كبرياء الرجولة فيه, تستطيع إبقاءه بعيدا عن مخدعها, و تحتفظ بذلك البقية الباقية من كرامتها إلى حين تكتشف السبب في خداعه لها, عند ذلك فقط, يكون بإمكانها ان تنقذ نفسها من هذا الوضع الصعب. قال بخشونة ينبهها إلى هدوئها الظاهر: (( أهذا نموذج للبرودة الإنجليزية التي تجري في دمك ؟ كان الأفضل من هذا الإذعان لو كنت أبديت شيئا من التمرد أو الإحتجاج على الأقل. )) عندما أخذها بين ذراعيه, لم تكن قد هيات نفسها لمقاومة ارادته المتسلطة وهو يعتبرها ملكا له, و سرى في جسدها تيار كهربائي بعث فيه رعشة شاملة. أدركها الفزع و هي تدرك انه إذا كان عقلها قد رفضه فإن كل جزء من جسدها عليه ان يتعلم نفس الدرس. لقد طعنت في الحقيقة رجولته في الصميم, ولكن بدلا من أن تدفعه هذه الطعنة إلى الإنسحاب أصر على ان يأخذ بثأره لهذه الإهانة و ذلك بمهاجمتها تلك حين لم تكن على استعداد لمثل هذا العقاب, مما لم يترك لها ما تفعله سوى التألم بصمت. تركها فجأة من بين ذراعيه مشيحا بوجهه عنها و هو يتأوه . على الرغم من مشاعرها المعذبة بعثت تعابير وجهه الجامعة بين الياس و الحزن ابتسامة باهته إلى شفتيها كما بعثت شعورا بالفوز إلى قلبها, لقد عاملها هو وجدها معاملة مرعبة , و إن التسبب في إصابته بالخيبة و الإحباط هو اقل ما يمكن من الانتقام لما فعله بها . و لكنها كانت تعرف أن هذا الانتقام هو مؤقت, اذ ان رجلا يمتلك كثل جاذبية نيكولو الحميمة لا يمكن أن يقع طويلا فريسة الاحباط و الخيبة . و لكنه, على كل حال سيدرك انه ليس ذلك الشخص الذي لا يمكن لامرأة أن تقاوم تأثيره. نظر إليها نظره لم تعرف هي ما اذا كانت تحوي ضيقا أم ياسا مبطنا بالسخرية وهو يتخلل شعره بأصابعه قائلا: (( تـــــــعالي )) قال ذلك بلهجته المرتفعة التي كانت دوما موجودة تحت قشرة من سحره التي يطبع شخصيته كما عرفتها . استطرد قائلا: (( ها قد دخلنا القناة الكبيرة و حالا سنجتاز سان ماركو . إنه مشهد لا ينسى, وخاصة عند مغيب الشمس )) و بعد ذلك بثلاث ساعات قال نيكولو لهاو هو ينظر إلى وجهها: ((إنك ستكونين مداراهتمام الجميع و سيجعل هذها عينيك الجميلتين تتألقان بالسحر)) قالت و هي تنظر في مرآة بقربها: (( طبـــــعا )) و هنأت نفسها لقدرتها على إخفاء مشاعرها المضطربه, عن نظرات نيكولو المتفحصة , كانت تسعى الى رسم صورة للسلوك الذي ستتخذه دون أن تثير شكوكه . و بين الآلآم التي تملأ قلبها كان ثمة توقع لتصرفه عندما يرى كاترينا لورنس الجديدة تبرز بكل شراستها و حدة طباعها. و بقليل من الحظ سيعترف هو بالغلطة الكبيرة التي وقع فيها و من ثم يحاول فك رباطهما المقدس. ذاك, و لكن لا , بل بكثير من الحظ, اذ أنها مالم تكتشف الاسباب الحقيقية التي دفعته الى هذا الارتباط فأنها لن تستطيع الحكم على أهمية الدور الذي عليها أن تقوم به. قالت كاذبة و هي تنظر لى صورتها في المرآة : (( إنني أنتظر ذلك بغاية الشوق, إن ذلك سيكون و كانه حفلة ثانية للإستقبال بعد العرس. ما عدا أنه لن يعرف أحد طبعا أنني العروس . )) قال نيكولو بلطف: (( هنــــا, أنتي مخطئة يا عزيزتي أن لي بعض الشهرة هنا في البندقية , و الكل يعرف الآن انني تخليت عن عزوبتي في سبيل فتاة أجنبية رائعة الجمال. حتى و لو لم يعرف الناس جنسيتك بعد, و على الرغم من أنني مشهور بتذوقي الجمال, فما أن أقدمك إلى بعض المعارف حتى تنشر الأخبار كالنار في الهشيم. )) (( أرجو أن لا يخيب أملهم )) قالت ذلك بشيء من الحــزن و النزق و هي تعبث بثوبها الحريري غير مكترثة لمديحه هذا, و استطردت: (( لو كنت قد نبهتني هناك,إذن لاشتري بعض الثياب الغالية من لندن قبل حضوري’ بــدلا من أن انتظر شراءها هنا في ايطاليا , شيء يناسب زوجة رجل ثري.)) أجـــــــاب : (( أحــقا ؟؟ و لكنني أعتقد أنك هناك اخترت ارتداء ثوب خاص لهذه الليلة حيث أنه يحمل ذكريات سعيدة.)) كـــانت قد اشترت ذلك الثوب البرتقالي من الشيفونمن حانوت أزياء أثناء الأوكازيون في لندن. شاعرة بالزهو لامتلاكها مثل هذا الثوب الرائع الطراز بمثل ذلك الثياب البخس, كانت فتحة العنق شبه المستقيمة ذات ثنيات رقيقة بينما كان ينسدل على خصرها النحيف بانسجام و جمال و كانت التنورة ذات ثنيات تستدير حول جسمها بشكل جميل. كانت قد ارتدت هذا الثوب في حفلة عشاء راقصة أقيمت في منزل ريتشارد كارفيل على شرف وكلاء سباق الخيل و كان ذلك الأسبوع الأول من عودتها إلى سادينغهام و طبعا كـــان نيكولو هناك. لقد رقصا في تلك الحفلة معا, و كانت تلك هي المرة الأولى التي أخذها فيها بين ذراعيه, إنها لم تذق أي شراب كحولي و لكنها شعرت بنفسها فوق السحاب, و لم تشعر بالخوف كانت مثل الفراشة التي يجذبها نور المصباح الذي سيوردها الهلاك. لقد ظهر أنها لم تكن تملك الإرادة الكافية التي تمكنها من حماية نفسها من المغناطيسية القوية المنبعثة من هذا الرجل التي سيطرت عليها لقد أدركت الآن أنها كانت تنحدر لتصل حيث استسلامها النهائي ليضحك هو منها عند ذاك ساخرا من ضعفها. أبدت حركة تنم عم عدم الموافقة, و لقد صممت على تجاهل هذا الطعم , ثـــم قـــــالت: (( و لكنني الآن في البندقية و أنا أريد أن أملأ خزانة ثيابي بالثياب الغالية . )) أجابها نيكولو بلهجة بان فيها العتاب: (( لا تحكمي على الشيء من ثمنه يا كاتيا, فإن ذوقك الطبيعي ممتاز, حتى ولو لم يكن كذلك, فإن جمالك كفيل بان يغطي كل نقصفي الثوب و يسبغ عليه التألق مهما كانت حالته مزرية)) تراجع قليلا إلى الخلف و مضى يتفرس فيها من رأسها حتى اخمص قدميها, بعين نقادة ثم قـــال: ((ألا تضعين قرطين في أذنيك لهذه الليلة )) هزأت رأسها نفيا و قد عجبت لاهتمامه بالأشياء التي تسرها,و كانت هي قد فكرت في أن حليها العادية قد لا تناسب المحيط الثري الذي تعاشر , و لهذا فضلت عدم وضع قرطين في اذنيها , و لكن نيكولو قد وضع أمامها الآن فرصة تستطيع ان تستغلها لتمثيل دور المرأة الجشعة و سرعان ما بادرت قائلة : (( ليس عندي شيء مناسب , كيف لي أن أضع مجوهرات مزيفة بينما كل النساء حولي يضعن مجوهرات حقيقية؟ ألا يعطي هذا صورة سيئة عنك؟)) لوى نيكولو شفتيه للحظة, و ما لبث أن وضع يده في جيب سترة السهرة التي يرتديها وهو يقول: (( إنك لن تشعري بخيبة الأمل عندما تضعين هذه,كـــما أظن.)) و مد يده إليها بعلبة الجلد الأسود ضغطت عليها بأصبعها لتنفتح عن قرطين ذهبيين صنعا بشكل حراشف السمك, كانا يتألقان على بطانة العلبة البيضاء اللامعة.و فتحت فاها و قد أذهلها جمال ما ترى من الفن الذي اشتهر به صانعو المجوهرات في البندقية. لوى نيكولو شفتيه إزاء صمتها الذي ساءه, وهو يقول: (( ليس من الضروري أن تشكريني الآن , و كما قلت, إن عدم استطاعتك مجاراة غيرك من النساء الثريات, سيعطي صورة سيئة عن سخائي, و إلى جانب هذا فإن استطاعتي الانتظار حتى الليل لكي يكون بإمكانك التعبير عن عرفان الجميل قولا و فعلا)) تناول من يدها العلبة ليضعها على منضدة الزينة الجميلة جدا في غرفة النوم المزدوجة التي أدخلها إليها , ثم أخذ القرطين و ابتدأ يضعهما في أذنيها بينما وقفت هي دون حراك إلى أن سمعت آهة الاستحسان تنطلق من بين شفتيه و ما لبثت أن استدارت إليه تقول بدهشة: ((كيف أمكنك العثور على القرطين بكباسين حيث أن الأقراط الثمينة تصنع فقط للآذان المثقوبة؟ أليس كذلك؟)) قــــــــــــــال: ((هل ظننت أنني لم اكن ألاحظ ان كل جزء من جسمك الجميل البادي للعيان؟ أو أنني لا أطوف على كل محلات المجوهرات في البندقية لأعثر على ما أريد؟ كـــــــــلا يا عزيزتي. لن ترى أمرأة أخرى في القصر هذه الليلة تضع قرطين جميلين كهذه القرطين فلقد صمما خصيصا بهذه الشكل حسب تعليماتي انا)) قـــــــــــــــالت: (( اتعني أنك أوصيت عليهما عندما عدت من انجلترا إلى البندقية بعد أن اتفقنا على الزواج؟)) و قاومت رعشة اعترتها وهي تفكر, ماالذي يخبئه لها المستقبل إذا كان قد قدم سلفا مثل هذا الثمن لخدمتها؟؟ هــز رأسه, و كأنه ينفي تصوراتها هذه, وهو يقول: (( إن الحرفيين أمثال ماريو برينسيب يحتاجون إلى الوقت الكافي لتجسيد أجمل فنونهم , لقد أوصيته على هذين القرطين بعد يومين من لقائي بك.)) (( أحـــــــــقــــــا؟؟)) قال كاتيا ذلك و هي ترفع يديها إلى عنقها و بعث ملمس الذهب البارد شبه شعور بالإغماء سرى في جسدها و هي تتساءل هل كان غرضه من القوة و الصلابة إلى هذا الحد؟؟ لقد أفزعتها فكرة وقوعها فريسة لمثل هذه الارادة الفولاذية. و لقد أراد دوما أن يفصلها عن جسمها سواء بالشدة أو باللين. إن كل حركة يقوم بها تؤكد هذا.و الجد المسكين لم يكن له من القوة ما يقاومه بها. هل كان هذا انتقاما؟ هل كان ينتقم بذلك من خطأ كان جدها قد ارتكبه تجاهه ليكفر هذا عن خطأه بتقديم أعز ما عنده وهو حفيدته؟لقد قرأت كثيرا عن مثل هذه الامور و لكنها لم تتصور رجلا يحمل نفسه عبء مرافقة إنسان لا يكن له هو أية عاطفة؟ قطع نيكولو سلسلة أفكارها و كأنما يؤكد تساؤلها بينها و بين نفسها و ذلك بقوله بلهجة مرتفعة: (( إنني أريد منك أن تضعيه يوم عرسنا, أعني عرسنا الحقيقي و هذا ما يجب أن تفعليه,أعني عرسنا الحقيقي و ليس ذلك التسجيل المضحك الذي أجريناه ذلك الصباح, و غدا ستقابلين مصمم أزياء ليصنع لك ثوبا للزفاف يليق بجمالك الانجليزي و بهديتي لك.)) (( نـــيكـــولو .. )) لفظت اسمه بلهجة تجلي فيها ما تعنيه من عذاب , كــــان ثمة شيء ما في ملامح وجهه الجانبية و هو يحوله عنها مما زاد في معاناتها , قد يكون ذلك لشعورها بأنه مصمم على أن يزيد من قوة الرباط الذي يجمع بينهما و هذا ما عليها هي أن تقاومه بكل ما تملك من قوة. و استدار ينظر بعينيه السوداوين الى وجهها الشاحب و هو يقول: (( نعم .. هل ثمة ما يضايقك؟ )) قــــالت و هي تهز كتفيها : (( كـــــــــــلا .. لا شيء في الحقيقة )) حدثت نفسها بأنه ما زال الوقت مبكرا لتصارحه بكم شيء. ما زال هناك الكثير مما لا تعرفه . و كل ما تستطيع عمله هو أن تقوم بدورها لبعض الوقت آملة أن تجد الفرصة لاكتشاف غرض نيكولو. لابد أن تكون هناك مصلحة تعود عليه من وراء تظاهره هذا ستكتشفها مع الوقت . و اذا كان بامكانها تعطيل هذه المصلحة , فستفعل ذلك. و لكن كان ما يزال ينتظر و قد قطب حاجبيه و هو يراقبها بشيء من الإنزعاج مما حملها على أن تفتش عن سبب لإقافها له. قــــــــالت تسأله بمرح: (( كنت أتساءل عما اذا كان اشتراط جدي في إجراء زواج مدني قبل ان نترك انجلترا, هذا الشرط قد أزعجك)) قــــــــال نافيا ظنها هذا: (( كــــــــــلا, و لو كان عندي , أنا نفسي حفيدة جميلة مثلك لاصررت على اتمام زواجها قبل ارسالها مع رجل مثلي ((زيــــر نســـــاء)) إضافه الى ذلك فقد اردت ان أمنحك الفرصة لدعوة جميع اصدقائك ليشاهدوا سعادتنا و يشاركونا الاحتفال, و انني أشك في أن الكثيرين منهم كان بامكانهم السفر الى البندقية حتى ولو دفعنا لهم أجرة السفر و ذلك لمشاهدة الزواج الرسمي. و إنني اسف لاضطراري لابعادك عن حفلة الاستقبال تلك قبل نهايتها لكي نلحق بالطائرة, و لكنني أظن انهم في الحفلة ,قد استمروا في بهجتهم من دوننا)) لــــم تستطع ان تخفي المراره في صوتها و هي تقول : (( نـــعم , إنني متأكدة من ذلك )) ثم اختفى كل اثر للبهجة بالنسبة إليها في لحظة واحدة,لـــقد نطق نيكولو بكلمة واحدة صادقة, على الاقل منذ عرفته, وذلك عندما وصف نفسه بكلمة ((زيــــر نســــاء)) فقد كان الى جانب كل هذا الثراء رجلا ساقطا أخـــلاقيا. (( هــــل أنتي نادمـــــة على ذلك ؟)) قـــال هذا وقد أصبح أمامها بحركة مفاجئة, و بأصابعه الفولاذية رفع ذقنها ينظر الى ملامحها متحديا يحاول قراءة مشاعرها و كانما هي مكتوبة بوضوح على جبينها. قــــــالت بتذمر : (( كــــــــــلا بالـــــــطبع )) و لــــكن شعورا بالخطر حذرها من ان تكشف اوراقها فقالت مستطردة: (( و هل يمكنني ان أندم لكوني تزوجت منك يا نيكولو؟ )) لقد حاولت ان تضمن جوابها نوعا من التأثر و لكن في آخر لحظة تجلى ألمها الخفي لتبدو لهجتها أقرب الى الشجار. قــــــــال نيكولو: (( لا أدري يا كاترينا )) و بعث جواب نيكولو الهادئ موجة من التوتر العصبي في جسدها بالغة الى حد لايمكنها احتماله , و تابع هو قوله: (( و لكنني أحذرك من مغبة ذلك لانني لن أدعك ترحلين ابدا, لانني شديد التمسك بما املك, و بعد الزواج الرسمي,سيكون ارتباطنا أقوى و أشد من الارتباط التقليدي و حـــده)) أغمضت عينيها كي لا ترى وجهه و قد استبد بها الذعرلشعورها بان تأثيره الجسماني عليها ما زال بنفس القوة التي كان عليها عندما وقعت في حبه,و لكن هذه حماقة بالغة اذ كيف لها ان ترغب في رجل تصرف معها و مع جدها بنفس الدناءة؟؟ أطلقت صرخة قصيرة و هو يترك وجهها ليجذب جسدها إليه يعانقها بكل حرارة العاشق, و لم تستطع ان تتجنب شفتيه, لتقع تحت تأثيره الذي كان قد اعماها عن حقيقته الخداعة. قــــــــال وهو ما زال قريبا منها: (( هــــل فهمت ما أعنيه؟ )) ازداد اقترابا منها لدرجة أنه رأى شرايين عنقها تنبض بعنف, و سمع تنفسها السريع و أحس بخوفها الفجائي. كــــان لها ان تهنئ نفسها اذ استطاعت ان تخدعه بتغير سلوكها. و كانت تفترض ان تجعله يعرفانها لم تعد تلك العروس الغافلة التي ظفر بها , كانت تفترض أن ذلك لابد ان يستغرق بعض الوقت , و لكن يبدو انها قد قللت من شان حساسيته البالغة, و لقد افسد شعورها بالنصر, ادراكها بأنها إنما تلعب بنار هي أخطر مما كانت تتوقع. لـــكنها كانت متأكدة من شيء واحد, وهو انها يجب أن تمنع بأي شكل كـــان زواجها رسميا, و قبل ان يحدث هذا ستكون قد وجدت طريقا للهرب, قد لا يكون هذا سهلا, هذا صحيح, و لكـــنه قطعا أكثر سهولة منه بعد أن تكون قد أجبرت على الاتباط الأبدي. قــــال نيكولو : (( إنني بانتظار جوابك يا كاترينا ؟)) و كـــان هذا ســــؤالا في انجلترا رأت منه فقط الجانب الجذاب الرقيق من شخصيته و لكــن,, هـــنا على تراب وطنه, برز أمامها الجانب الصلب المتعجرف منها, و صعد توترها من ضربات قلبها و هي ترى عينيه القاتمتين تلحان عليها بالجواب . حملت نفسها على التقليل من شان هذا الوضع بإستحداث رنة حدة و احتجاج في صوتها وهي تتناول منديلا ورقيا تمسح به شفتيها بوقار و عدم اكتراث انعكس تأثيرهما على ملامح نيكولو عبوسا و تجهما , قـــــــــــــــــالت: (( بحق السماء, ألا تظن انني لا بد ان أكون متضايقة نوعا ما بعد ذلك السفر المزعج؟أكان ينبغي لك أن تقوم بكل هذه التصرفات فقط لأنني متعبة و علي مواجهة عدد كبير من الغرباء؟ بينما أعلم أنني أسوأ النساء لباسا هناك؟)) قال و قد التوى فمه بتلك الابتسامة التي اشعلت قلبها يوما ما: (( أهذا هـــو كل شيء؟ سامحيني يا عزيزتي اذ كنت ظننت قبل لحظة واحدة انني قد أخطأت و تزوجت من شقيقتك التوأم. ذلك أنني لم أر فيك تلك المرأة التي كانت تقف بجانبي هذا الصباح أمام مكتب تسجيل الزواج, مستعدة لأن تكرس حياتها لأجلي, و لكنني اعلم الآن ان جرح خيلائك و غرورك هو الذي بعث الاحمرار الى وجنتيك و الحدة في صوتك, يمكنني ان افهم ذلك. و لكــــــــن, كوني واثقة من أنك تقللين من شأن مظهرك أمام الضيوف . و الآن, هل ننزل الى القاعة لنتأكد من أن كل شيء جاهز للضيوف؟)) بـــدأ قوله هـــذا و كانه سؤال و لــكن الطريقة التي دفعها فيها من يدها جارا إياها معه على السلم إلى أسفل لم تدع لها مجالا للتردد. نزلت كاتيا معه ليس لانها كانت تريد ذلك, و لــكن بصفتها كاترينا كاشياتور زوجة نيكولو كاشياتور, و هي تستمر في تمثيل هذه الشخصية إلى أن تكشف الغطاء عما يكن خلفها, و من ثم تجد طريقة تهرب بها من كل هذا العذاب. زودتها الحفلة غير المتوقعة بالوقت الذي أمكنها من أن تفكر في وضعها بأناة وروية, إنها تريد ان تستأصل المشاعر التي ما زالت مليئة بشكل لا يصدق بنيكولو, و ذلك على ضوء الحقيقة التي اكتشفتها. ثــــم ماذا عن هذه الليلة عندما تنتهي الحفلة و يعودان الى غرفة النوم !! و لم تكد تصدق انها منذ ساعات فقط كـــانت تنتظر مجيء الليل بفارغ الصبر, و هي متأكدة من أن نيكولو سيجعل من أول تجربة لها في الحب ذكرى لا تنسى. لو بإمكانها فقط أن تعتقد أن نيكولو ينوي أن يتركها وحدها. و لكن هذا الاعتقاد كان مستحيلا,و ارتجفت. لابد أن تجد عذرا , عندما يحين الوقت تستعين به على تجنب إكمال الزواج تلك الليلة أو أية ليلة أخرى, و مهما كانت أخطاء نيكولو فهو لا يمكن أن يأخذها دون ارادتها, ذلك أن اكتشافها لشخصيته المزدوجة قد قتل في نفسها كل أثر لحبها له, و لم يبقى سوى أوهام خطرة تحطم الروح.
الفصل الثالث
بينما يتحول زورق صغير الى القناة الضيقة التي تجري بجانب القصر , ليرسو في المرسى الصغير , وبينما كانت تفتنها الأشجار المشرفة عليه ومنظر سلال الزهر المتدلية من حاجز الشرفة , توقعت كاتيا ان تجد مكانا تستطيع فيه ان تستنشق الهواء النقي , وتنسى مؤقتا حالة اليأس التي تثقل كاهلها . ولكن الواقع تجاوز كل توقعاتها, فوجدت ضالتها المنشودة اذ ان الأنوار التي وضعت بين أغصان الأشجار لم تكن تكشف الذي كانت تنشده فقط , بل كشف الزوايا حيث كانت دوالي العنب تزحف على شبكات العرائش والأشجار المنتصبة حيث يمتزج حفيفها بنسيم الليل فينعش النفس . ولفت انتباهها حاجز ابيض من الحجر يشرف على القناة الكبيرة , وقد التوى بشكل مقعد مغطى بحشية وثيرة . وجالت كاتيا بأنظارها في تلك النجوم التي ترصع ظلمة الليل, بينما هي راكعة على الحشية الناعمة , وقد ابتعدت بذهنها, مؤقتا عن كل متاعبها. وكانت الأنوار المنبعثة من الفندق القريب تكشف صف الزوارق المربوطة الى مركزها المخطط باللونين الأحمر والأسود . وكانت المصابيح فيها تتألق بينما هي تتأرجح فوق المياة بخفة . وبعيدا على الضفة الأخرى كان في أستطاعتها ان ترى هياكل سوداء لأقبية تعود الى كنيسة " سانتا ماريا " التي يرجع تاريخ بنائها الى القرن السابع عشر حين أقيمت , احتفالا بذكرى زوال وباء الطاعون من المدينة. تثاءبت فجأة . فرفعت يدها تغطي فمها براحتها برغم عدم وجود من يشاهدها . لقد مضت ثماني عشرة ساعة منذ نهضت من فراشها ,ورده قايين . في الصباح السابق , وذلك في منزل جدها في قريتها سادينغهام. وفكرت بشئ من العجب في هذا الوقت القصير الذي أصبحت فيه امرأة متزوجة , لتكشف أنها كانت قد خدعت بكل قسوة ودناءة , ثم تسافر بالطائرة عابرة أوروبا لتضع على وجهها قناعا باسما يخفي غضبها وما تشعر به من احباط وهي تستقبل المدعوين في حفلة الأستقبال التي اقيمت في قصر زوجها . كانت دون شك , تروح وتجئ وتتصرف , كل ذلك على حساب أعصابها . ولكن الآن أذ تغمرها طمأنينة الهدوء الذي تسبح فيه هذه الحديقة الغناء .يتجمع كل التعب الذي عانته اثناء مرور تلك الساعات , في هجمة شرسة تجتاح كيانها . ولكنها مالبثت أن رحبت بهذا وهي تفكر في أن التعب يشكل لها عذرا معقولا للتخلص من ليلة الحب تلك مع نيكولو . ذلك أنه لن يعجبه ان يأخذ الى مخدعه امرأة مرهقة . ودعت الله ان يساعدها فلا يجعل نيكولو يصر على استيفاء حقوقه من امرأة شبه نائمه , مهما كانت نوعيته الأخلاقيه. " أوه , ياللمصادفة الحسنة , ها أنت ذي تستمتعين بنسيم الليل وحدك " يا ماركيزة ".. كان صوتا رجاليا رقيقا انطلق فجأة من خلف كاتيا هبت هذه واقفة على قدميها من قوة المفاجأة وقد قطبت جبينها وهي تستدير على أعقابها وقد استبدت بها الدهشة . كيف حدث واكتشف هذا مكانها؟ استطرد المتكلم :" أسمحي لي بتقديم نفسي . أنني " سيزار برونيللي " وفي خدمتك يا ماركيزة ." كان فتى وسيما في أواخر العشرينات من عمره , لايزيدها كثيرا في الطول , ذا شفتين رقيقتين وعيني قرد تلمعان بسخرية . وكان يبدو حسن الهندام في بذلة السهرة الأنيقة . حملت كاتيا نفسها على مد يدها الى يده الممدوده اليها وهي تقول :" اني مسرورة بمقابلتك يا سنيور برونيللي "لاح على شفتيها طيف ابتسامة حين رفع يدها الى شفتيه يطبع عليها قبلة بكل تهذيب . قالت :" أظنك اخطأت في معرفتي . انني زوجة نيكولو كاشياتور ولست ماركيزة ." هز رأسه موافقا على كلامها دون أن يبدو عليه الأقرار بالخطأ وهو يقول :" كاترينا كاشياتور , ربما كانت الطريقة التي تحدثت بها اليك سابقة لأوانها . ولكن أذا حدث في ما بعد وأسأت اليك في أظهار توقعاتي بالنسبة الى المستقبل فأنني عند ذاك , أقدم اعتذاري ." قالت :" انني لست مستاءة ولكنني مستغربة " كان ذهنها في تلك الأثناء , يعمل جاهدا لفهم ما قد سمعته الآن. قد يبدو اعتذاره بريئا , ولكن كان ثمة شئ ما في تصرفات ذلك الشاب . شئ هو الحذر ممزوج بالرغبة في تداول الحديث . وما لبث التقطب أن عاد الى جبينها وهي تقول " أتريد أن تخبرني أن نيكولو في الطريق الى أن يرث لقب " الماركيز " ؟" ارتفع حاجبا الشاب بدهشة وهو يقول " كاشياتور ؟ طبعا لا . ان نيكولو كاشياتور هو سليل أسرة من الفلاحين قد عاش أجداده بعرق جبينهم وراء قطعان الماشية فوق تلال " كالابريا" وبدت في صوته نبرة ساخرة بعثت الأحمرار الى وجهها . فقالت بحدة :" أذا كان الامر كذلك فأن انجازات نيكولو تستحق اكثر من مجرد الأستحسان ."ورده __قايين_ وعجبت اذ وجدت نفسها تهب الى الدفاع عن نيكولو. أجاب لاويا شفتيه :" ربما . من ناحية اخرى , فأن والده هجر تلك الحياة مع الماشية ليستغل أمواله في مشاريع أخرى وسرعان ما بدأت أحوال أسرته في التحسن بشكل لا يصدق...كلا ..." وسكت الشاب وهو يجيل انظاره في السماء المظلمة ثم استطرد:" ان أسرة كاشياتور ليست الآن بحاجة الى المال لشراء أي شئ ولكن ما هم بحاجة اليه هو المركز النبيل الذي يتماشى مع ثرائهم .: شعرت كاتيا في أعماقها باهتمام مفاجئ دفعها للقول :" أراك تحاول أهانة زوجي في منزله .: وحرصت وهي تقول ذلك على أن لاتظهر اهتمامها بما تقول الى ان ترى ما وراء ذلك مما قد يفيدها. استطردت :" أنني لا اعرف من أنت." انحنى قائلا :" سيزار برونيللي . أنني أسامحك لنسيانك هذا , فقد كان اليوم مليئا بالوجوه والأسماء الجديدة بالنسبة اليك . وعلى الرغم من لقبك الموروث فأن اللغة الأيطالية ليست لغتك الأولى . أليس كذلك ؟ ولكن متى كانت الحقيقة أهانة , يا ماركيزة ؟" أجابت :" منذ قرنتها بتفسيراتك يا سنييور " توقفت عن الكلام تنتظر الأعتذار الذي لم يحصل . فتابعت تقول :" أظن ان الوقت قد حان للعودة الى الحفلة " تحركت تهم بالوقوف آملة أن يحثه عدم أظهارها الأهتمام بالموضوع . على الأنطلاق بحديثه. ولكن قبل أن يتابع . انزلق كعبا حذائيها العاليان على المصطبة المصقولة تحتهما مما حملها على الوقوف وهي تعرج بألم . قفز سيزار برونيللي حالا الى أمامها يسألها وهو يحاول مساعدتها :" هل أصابك ضرر يا ماركيزة ؟" قالت :" كلا . شكرا ." وبرغم ما في كلمتها الصغيرة هذه من رفض له فأنه تقدم يمسك ذراعها يساعدها على التقدم , بينما استطردت هي تقول :" أرجوك ان لاتخاطبني مرة أخرى بهذا اللقب السخيف غير المعقول ." وشعرت بيده تضغط على مرفقها مثبتا أياها وهو يقول بلطف :" وبماذا أخاطب , أذن حفيدة الماركيز ؟" " ماذا قلت ؟ " ولم تمنع معاناة كاتيا ضحكة قصيرة من أن تنطلق من فمها وهي تلقي عليه هذا السؤال , وتابعت :" جدي ماركيز ,لابد انك مجنون او ثمل ." قال سيزار برونيللي بلطف " انك لاتعلمين . أظن ان نيكولو كاشياتور يريد أن يبقي الأمر سرا الى أن يربطك برباط الزوجية نهائيا . ولكن , كيف استطاع أن يقنع جدك بكتمان الأمر . ولماذا بقيت أنت جاهلة ذلك ؟ فكرت في انها يجب ان تدعه لتخيلاته هذه التي لن تنفعها في شئ وتعود الى الحفلة . ولكن شعورا خفيا سمرها في مكانها لتقول :" لأن كل القضية هي من نسج خيالك ". قال : كلا , بل هي الحقيقة , ويمكنني ان اقسم على أن انطونيو لورنزو هو دوق " كاستيلون" لقد استغرقت محاولات المحامين الأيطاليين للعثور عليه وقتا طويلا جدا بعد ان توفي المركيز العجوز دون وريث من صلبه وأنما ابن عمه , جدك الذي كان متواريا في قرية صغيرة في انكلترا " ابتسم كاشفا عن أسنان مثل قطاع الطرق البيضاء وهو يتابع "انطونيو لورنزو هو وارث أمارة دي كاستيلون المفلسة والغارقة في الديون في ولاية توسكاني , انطونيو الورنزو وحفيدته غير المتزوجة والرائعة الجمال..المستقبل يا ماركيزة..ياجوهرة النبل التي تزين تاج كاشياتور التجاري ..." لم يكن ثمة مجال لأنكار رنة الصدق في صوته , التي بعثت الرعشة في أنحاء جسمها . وتساءلت ان كان يمكن أن تكون القضية بمثل هذه البساطة والفظاعة معا . يجب أن تتحقق من ذلك لأنها , أذا كانت هذه هي الحقيقة فأنها ستوضح جزء كبيرا من القضية الغامضة . ابتدأت تقول بحذر :" أذا كان ما تقوله صحيحا يا سنيور برونيللي ." فقاطعها :" ناديني سيزار من فضلك كما يفعل الجميع ." تابعت كاتيا كلامها متجاهلة مقاطعته :" فأنني أخبرك بشكل قاطع أن جدي لا علم له بالأمر ." أجاب :" وأنا أقول لك أذا كنت حقا تعتقدين بذلك فأنك مخدوعة . ذلك أن لي اتصالات ممتازة مع رجال القانون الذين قاموا بالتفتيش عن وارث اللقب . وكان ذلك موضوعا صغيرا ذا اهمية . وقد فكرت في أنه قد يسلي قرائي عند اتمامه , وقد حدث هذا فعلا . أذ ان نجاحه النهائي وزعته وكالة الأنباء بقلمي في كل أنحاء ايطاليا ." وردة__قايين قالت وقد غمرها شعور غريب بأن الأمورابتدأت تتضح في ذهنها . "هل انت مخبر صحافي ,مخبر هنا في القصر ؟ " فلوى سيزار برونيللي برأسه وهو يقول : " أفضل أن أدعى صحافيا وليس مخبرا حيث انني لا أسعى وراء الأخبار ولكنني اكتشف وأتابع قصصي الخاصة . وهنا في القصر طبعا , ولم لا ؟ أن أهمية المقال الأجتماعي لاتقل عن أهمية مقال يتعلق بالسيارات التي يعقد زوجك عنها مؤتمرا صحافيا هذه الليلة . وسوا شئت ذلك أم أبيت ياسنيورا فأنا هنا بدعوة رسمية ." تساءلت كاتيا , لماذا بحق السماء , لم يخبرها جدها بكل هذا , وقفز الجواب حالا الى ذهنها المضطرب . وهو أن ذلك لأن نيكولو منعه من أن يخبرها . لأن نيكولو لم يشأ قط لها أن تكتشف السبب في مطارحته لها للغرام, قبل أن ترتبط به للأبد ولايبقى هناك مجال لها للفرار . ولكن , شكرا لله لأتضاح الحقيقة لها بما سمعته الآن , لقد فشلت خطته , قد يكون بأمكان نيكولو أن يفعل أي شئ ما عدا جرها الى مذبح الكنسية ليربطها به الى الأبد , الا أذا خدرها أولا يكفيها الأرتباط المدني الذي تستطيع الفكاك منه على الأقل بخلاف الأرتباط الديني . جاءها صوت برونيللي يردها الى الواقع بقوله :" يبدو انك متضايقة يا ماركيزة . سامحيني اذا كنت قد سببت لك الألم عندما قلت أنه يخيل الى أن زوجك أنما كان يسعى وراء اللقب وليس وراءك . لقد كان نيكولو دوما خبيرا جدا بجنس النساء , وأكون مجنونا لو فكرت لحظة في أن ثمة شيئا غير جمالك اجتذبه اليك ." ابتسم لها ولكن عينيه كانتا تراقبانها وهو يتابع قائلا :" أنني مثلا , لم أصدق أبدأ أنه كان مغرما بجينا كابريني وأنهما اتفقا على الزواج أذا هي أستطاعت أن تتخلص من زوجها قانونيا دون التسبب بفضيحة تهدم أمبراطورية كاشياتور . ذلك لأن كل أنسان كان يدرك أن زوج المرأة جوزيب كابريني لم يكن من الحماقة بحيث يعطيها ما تطلب ." " جينا كابريني ؟ " انساب هذا الأسم من بين شفتيها الباردتين قبل أن تستطيع ضبط لسانها , وذلك عندما واجهت الجانب الآخر من شخصية نيكولو المخادعة . لم يكن بأمكان سيزار برونيلي أن يعلم باكتشافها انه قد غرر بها لتتزوج نيكولو , وهي تستطيع ان ترى بوضوح تام مالذي كان يفعله , منكرا ما سبق وادعى انها الحقيقة وذلك لجرها الى الخروج عن تحفظها . فجأة انتبهت الى حركة في القناة الصغيرة بجانب مدخل الزوارق القادمة . كان ثمة أصوات . ها قد ابتدأ الضيوف في الخروج ولا بد لها من أن تكون في القاعة لتقوم بدور الزوجة الى أن ترى متى يتوضح كل شئ . عاد يقول :" ألم يأت زوجك على ذكر جينا قط ؟ ما هذا الاهمال ؟ ان كل شخص في البندقية يعرف جينا . انها احدى أشهر فتيات المدينة , فهي تملك سلسلة من محلات الأزياء في ايطاليا وفرنسا "وعض على شفتيه وكأنه تذكر أمرا ثم تابع :" ثمة كثيرون سيخبرونك أنها أمضت في أعمالها وقتا أطول مما أمضته مع زوجها , ولهذا فشل زواجها . كما ان آخرين ...." هز كتفيه " حسنا , سيخبرونك ان جوزيب كابريني اكتشف أن زوجته تخونه كما أنه شك في شخصية عاشقها ولكنه لم يستطع أثبات ذلك .." تغلب غضب كاتيا لجرأة الشاب , على رغبتها في سماع المزيد فقالت :" أظنك قلت ما فيه الكفاية ." سبب لها الضيق والتوتر الما مفاجئا في صدرها ضاق معه تنفسها فرفعت راحتها الى صدرها وهي تشعر بتسارع دقات قلبها . فأن الشئ الرئيسي هنا هو أن نيكولو حقق أمرين من وراء الزواج منها , الأول هو جعله من الزواج ستارا يحجبه وعشيقته, وفي نفس الوقت يجعل له من صلة بنبلاء ايطاليا القدماء وهذا هو ما يسعى اليه من كل قلبه . وأن صوتا معذبا في داخلها :" أوه نيكولو ... كيف يمكنك ان تكون بهذه الدناءة ..." قالت بصوت ينضح بالألم :" أن زوجي..." قاطعها قائلا :" زوجك ؟ وهل قلت أنا انه عشيق جينا ؟" وارتفع حاجباه بدهشه مصطنعه وهو يتابع :" انك اسأت فهمي يا ماركيزه . لو كان ذلك صحيحا لما تزوج منك اليس كذلك ؟الا اذا كان قصده بالطبع , القاء القاء جينا خارجا . وتقول الشائعات ان كلا منهما يسعى الى شاهد اثبات ضد الآخر , وبهذا يتحول الأنفصال الى طلاق . تصوري الفضيحة . وأذا ظهر أن كاشياتور هو المذنب . فسيكون في ذلك احراجا كبيرا له لأن كابريني . الزوج . هو المدير الممول لشركة زوجك ." لم تكن كاتيا بحاجة الى كل هذا الشرح للأدلة والأثباتات من برونيللي في ورطتها هذه. لقد كان كل شئ واضحا . ليس فقط أن موت الماركيز الكبير قد دل على مكان جدها مما جعل هذا معروفا , وعرضه الى مطالبة أسرة كاشياتور له بما يدين لها به , ولكن كان أن دفع الدين بشخصها هي . ولو كان جدها قد أظهر تمنعا وكراهية لرؤيتها تنقاد الى زواج دون حب , فأن في امكان نيكولو , دون شك , أن يلطف من الأمر بأن يساومه على ذلك بألغاء ديون الماركيز الكبير . لابد أنه فعل ذلك عندما فتح الموضوع مع جدها . وهذا يوضح ذكر كلمة دين في حديثهما الذي سمعته . أنه ثمن صغير يدفع لمصلحة نيكولو . حدثت كاتيا نفسها وقد توهجت وجنتاها من الغضب , اللعنة عليه .. كيف يجرؤ على معاملتها بمثل تلك العجرفة والتعالي ؟ لابد انه سعى جهده لدى جدها لكي يحصل على موافقته . مستخدما لسانه المعسول في اقناعه بأن نصيبها يكمن في أيطاليا موطن أسلافها . أذ ان جدها لم يكن ليوافق أبدأ على زواجها لأجل المال فقط . بدون أية كلمة , تركت ذلك الأيطالي المبتسم ومضت . لتجعله يظن أن كل قصصه انما وقعت في آذان صماء . فلو علم مقدار عرفان الجميل الذي شعرت به تجاهه لكل ما أخبرها به , لما بدا عليه كل هذا السرور الآن . كانت قاعة الرقص قد أخليت بسرعة . وكان أعضاء الفرقة الموسيقية يحزمون آلاتهم . ولأنها كانت ما تزال ثقيلة الأنفاس , فقد وقفت على عتبة غرفة رائعة الجمال وهي تتمسك بستارة ثقيلة تستند اليها بينما أنظارها على الأرض التي جددت بشكل حسن . انها تريد أن تكتشف الحقائق . لماذا تشعر بنفسها قد دمرت بهذا الشكل ؟ أيمكن لأنها كانت تدعو الله , طيلة الوقت , أن يحدث معجزة ما تجعلها قد اخطأت في فهم الحديث الذي كانت قد سمعته في غرفة جدها : وأن نيكولو في الحقيقة يحبها قدر ما تحبه او بالأحرى قد أحبها : ولكنها ردت على نفسها بعنف أن المعجزات لم تعد جزءا من القرن العشرين . جاءها صوت نيكولو يقول بحدة :" كاتيا , أين كنت ؟" وارتفعت نظراتها الى وجه العابس وهو يتابع :" كنت قلقا لأجلك ." قالت ضاحكة بتوتر :" هل ظننت بأنني هربت منك في ليلة عرسنا ؟ ولماذا أفعل ذلك ؟" نظر اليها بعينيه السوداوين يتأملها بهدؤ ثم قال :" أنك لست على ما يرام . لقد أصبحت تصرفاتك غريبة منذ اللحظة التي وطأت بها أقدامك أرض ايطاليا . ماذا حدث لك يا عزيزتي ؟" أجفلت وهي تلمس رنة المحبة غير المخلصة في صوته وقالت له بضعف متجاهلة لهجة القلق في صوته والذي اعتبرته تمثيلا , وقالت :" لقد شعرت بالضجر طوال المساء . لم أكن ادرك كم ستكون عليه من الكآبة " فمد يده يلامس وجنتها قائلا :" يا للصغيرة المسكينة ." فأبعدت وجهها هن يده كمن لسعتها حشرة . قال لها :" انها ليست الطريقة التي نقضي بها أول ليلة لنا كزوج وزوجة. انك تبدين شاحبة جدا . تعالي فقد قاربت الحفلة على النهاية , وسأصعد بك الى شقتنا , ثم أعود اليك بأسرع وقت ممكن ." أومأت كاتيا برأسها . لم يكن ثمة فائدة من التحدي , حتى ولو شاءت ذلك . فقد رأت من التعبير الذي بدا على ملامحه أنه لدى ادنى تردد منها , سيأخذها بين ذراعيه بالقوة . وكان يسندها بذراعه الملتفه حول وسطها صاعدا بها السلم الرخامي , وصلا الى الرواق الذي تطل عليه بقية الشقق وكانت هي تنظر الى السجادة العجمية السميكة تحت قدميها مفكرة في أنها لابد أن تكون ثمينة جدا نظرا لقدمها , لقد سبق وقرأت مرة أن أسوأ ما يمكن ان يفعله انسان هو ان يعرض سجادة عجمية على الجدار. ذلك أن قيمتها الحقيقية تأتي من الرثاثة أذ ان مرور الأقدام عليها تمنح الصلابة والأحكام لألاف العقد فيها مما يرفع من قيمتها . قال لها وهو يوقفها على عتبة غرفة النوم :" اذهبي الى فراشك ياكاتيا . لقد أمضيت يوما شاقا , وسألحق بك حالما استطيع." شعرت بالراحة أذ لم يقبلها قبل أن يتركها . ولما أصبحت وحدها في الغرفة , تهالكت على فراشها وقد راح ذهنها يعمل بسرعة بينما عيناها تجولان في ما حولها , تنظران دون تركيز , في السجادة ذات الألوان المماثلة لألوان صدف اللؤلؤ , ثم الجدران المغطاة الى منتصفها بالخشب, عارضة مختلف الرسوم . وكذلك السقف المزخرف. و ر د ه ق ا ي ي ن . ووضعت يديها بعصبية على غطاء السرير المزدوج. شعرت بالغثيان وهي تفكر في ما ينتظرها عند عودة نيكولو , حين ترفض مجاراته في رغباته . ونهضت من الفراش بضعف وهي تفكر في أنه قد يرفض ادعاءها التعب . أثناء خطوبتهما القصيرة , كان يقصر رغباته على فرص قليلة كانا يخرجان فيها معا وذلك اعتبارا لقيم جدها ورغبتها هي في اتباع السلوك الذي نشأت عليه . أو على الأقل , هذا كان رأيها . أما الآن فهي تفسر سكوته ذاك ابتعادها عنه , بمعنى مختلف . بالنسبة لكل ما ادركته الآن , يمكنها ان تبتهج اذ لم تسمح لها أفكارهاالمثالية , بالوقوع في خطأ السماح له بأن يصبح عشيقها . كما أن رغبتها في أن تحافظ على كرامتها وشرفها وألاتدعه يئثر على نفسها . هذه الرغبة لم تتغير . وبيدين ترتجفان خلعت القرطين هدية نيكولو ووضعتهما في علبتهما على طاولة الزينة قبل أن تخلع ثيابها كليا وتدخل الحمام آخذه معها قميص نومها آملة أن ينعشها " الدوش" الخفيف الذي ستأخذه ولكن خاب أملها وهي تلمس عدم جدواه. وضعت عطورها المفضلة التي تلائم بشرتها العسلية اللون في مياة الحوض وهي تغتسل ثم ارتدت أخيرا , قميص نومها الساتان الأزرق بعد أن سوت ثنياته حول وركيها المستديرين برشاقة . لقد كانت حين اشترته, تملؤها البهجة لتوقعها ارتداء ليلة عرسها . كانت غرفة نومها تنتظرها بصمت , وبنفس الصمت قصدت فراشها . وسحبت الغطاء لتظهر الملاءات الحريرية بألوانها الزرقاء الشاحبة والرمادية وكذلك اكياس الوسائد. ولكنها لم تكد تلحظ هذه الرفاهية وهي تريح جسدها المتعب بينها . النوم , كانت تنشد النوم , الذي لم تستطع مقاومته وقبل ان تمد يدها لتطفئ النور بجانب فراشها كان آخر ما فكرت فيه هو ان نيكولو سيوقظها عند قدومه ليمارس معها حقوقه الزوجية التي يدعيها دون شك . عندما أستيقظت , كان ثمة ضوء خفيف . وللحظة ظنت نفسها وحدها في السرير الواسع . ولما جلست في الفراش اكتشفت خطأ ظنها , كان بجانبها , بعيدا عنها مسافة تكفي شخصا آخر , كان ثمة وجه نيكولو مطمئنا بين الوسائد المتعددة الألوان بينما كان جذعه العاري مكشوفا تماما وقد استرخت عضلاته بتأثير النعاس , كل ذلك جعل أنفاس كاتيا تتوقف في بلعومها . بينما أخذت تعجب لضبطه نفسه , هذه الليلة , عادت بها ذاكرتها الى مقابلتها سيزار برونيللي , لقد أفاد النوم العميق جسمها وأعاد اليها حدة ذهنها . وعليها الآن أن تتابع التمثيلية التي أخذت على نفسها القيام بها . وبحذر أنزلت ساقيها من السرير , ثم جمعت ثيابها وحملتها معها الى الحمام . وأخذ منها غسل وجهها وأسنانها وارتداء سروال جينز وقميص , فقط عدة دقائق , لقد كانت بحاجة الى بعض الوقت تقوم فيه بتنفيذ خطتها , ولهذا , أرادت أن تنفرد بنفسها . من دون ان تزعج نيكولو تركت الغرفة بخفة ونزلت الى أسفل مجتازة قاعة الرقص الخالية , ثم خرجت من احد الأبواب الزجاجية الى الحديقة . كانت في الليلة السابقة قد لاحظت بوابة حديدية قود الى مكان رسو الزوارق بجانب القصر وأستغرق منها ارزاحة رتاج البوابة عدة ثوان لتجتاز , بعد ذلك , الجسر الحجري المزخرف الذي يعبر القناة الصغيرة . لم يحدث حذاؤها الجلدي الخفيف أي صوت وأسرعت نحو مفترق الطرق المتاشبك الذي رأته أثناء رحلتها في اليوم السابق والذي يقودها الى ساحة سان ماركو تاركة القناة الكبيرة خلفها , وعرفت بقدر ما ان تتذكر أين تكون الساحة وبالنسبة الى الجهة التي توجهت اليها سيكون بأمكانها أن تعود فتقتفي آثار قدميها . هامت في الشوارع الضيقة الخالية , بأشاراتها الصفراء التي تعين الأتجاهات الى ساحة سانت ماركو , أو الى جسر ريالتو, واجتازت الساحة الصامته حيث كان الحمام يسبح في برك من الماء تجمعت من القطرات النازلة من المضخات , لاتكاد تنتبه الى الشرفات التي تتدلى منها الأزهار أو الدوالي التي تغطي الجدران , كانت البندقية قد بدأت تستيقظ مستجيبة الى فجر جديد . وكانت هي قادرة على أن تنفرد بنفسها لتستعرض ما عرفته في تلك الليلة ....ورده... اهتزت وهي تفكر في سيزار برونيللي ودوره في كل هذا ..ما أشبهه بواحد من قوارض الطير يقف على السياج منتظرا الجيفة . ليتهافت عليه ليسمن . ولكن ليس عليها أن تحترم أو تحب برونيللي لكي تصدقه . ذلك أن عرضه كان واضحا . انه يريد أن يثير أكبر عدد من الفضائح لكي يكتب عنها , فليس له أية عداوة شخصية نحوها أو نحو نيكولو , كما أن ليس عنده ضمير يتحرك لنتيجة ما يقوم به . وامتلأت عيناها بالدموع وتوقفت عندما وصلت الى جسر ضيق يعبر قناة صغيرة , ونظرت الى اعماق المياه التي مازالت تعكس صور المنازل العالية على جانبيه , مما حول المياه الى شبه مرآة داكنه وقد ابتدأت خيوط أشعة الشمس في اختراق ظلمتها . وكان هناك زورق صغير واقفا لايتحرك . وعلى مسافة منه أمكنها رؤية انعكاس كامل رائع في المياة للجسر الذي يليها , بينما يغرق عالمها هي في الحطام المحيط بها . قبضت على حاجز الجسر بيديها بشدة , أن مصيرها بين يديها الآن , ولكنها يجب ان تكون فطنة . كانت تدرك أن المواجهة المباشرة لن تكون في مصلحتها. ولكن بطريقة أو بأخرى , يمكنها أن ترغم نيكولو على الأعتراف بغلطته التي ارتكبها , ومن ثم تقنعه بأن من الأفضل لهما معا , أن يطلقها

تحميـــــل الملــــف مـــن هنــــــا