الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع

فتاة الياقة الزرقاء

الكاتب : عمرو عبد الحميد
----------------------------
الفصل الأول
------------
قريتنا صغيرة هادئة تبتعد عن مدينة المنصورة الساحلية قرابة العشرين ميلا، اسمها قرية الخالدية، يقع بيتنا عند طرفها الغربي، بيت قديم البناء يرتفع لطابقين، واجهته الأمامية بيضاء باهتة تطل على حديقة صغيرة من أشجار البرتقال، يقسمها إلى نصفين ممر ترابي
يهبط من الشارع الرئيسي إلى سلالم البيت، تقف فيه أغلب الوقت سيارة الإسعاف التي يعمل عليها أبي، والتي تتبع مركز التبرع الإجباري بالدم، في حين تطل نوافذ بيتنا الخلفية على رقعة زراعية شاسعة تمتد بلونها الأخضر على مرمى البصر حتى تتعانق مع قبة السماء.
كنت قد تجاوزت عامي الثامن بأيام وقتما صار بيتنا هذا فجأة مثار حديث أهل قريتنا جميعهم، بدأ الأمر ذاك المساء، عندما زارنا للمرة الأولى قائد مخفر الشرطة؛ السيد غسان، ذلك الكهل النحيف ذو الوجه الغائر الخدين، والصدر الذي لا يتوقف عن السعال كلما تحدث، وبدأ يفحص غرف البيت السفلية والعلوية بجدرانها ونوافذها وأثاثها واحدة وراء الأخرى برفقة أبي الذي بدا كأنه يتقبل الأمر تماما.
أتذكر أنني وقفت متشبثة بتنورة أمي أراقب ذلك الرجل في قلق، خاصة أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها ضابطا خارج إطار الكتاب المدرسي، إلى أن انتهى من فحصه وتدوينه ملاحظاته في دفتره
لأبي وهو يمسك جزءا من سيجارة قديمة مطفأة بدا أنه وجدها في أثناء فحصه:
لو كان ضابط غيري هنا لحرمكما الآن فرصة عمركما بسبب هذه.. لكني سأتغاضى عن ذلك. ونظر حوله وهو يتابع: أما بالنسبة إلى حالة البيت فلا أجد أي مانع قد يعوق عيشة آمنة لطفلتكما المنتظرة.. سيمنحكما البنك، على كل حال، منحة مالية جيدة، سيكون جزء منها كافيا لتجديد البيت وأثاثه.. هنيئا لكما بمولودتكما الجديدة التي فتحت لكما كل أبواب النعيم. صحت إلى أسكت، وواصلت إنصاتها إلى حديث الضابط الذي أردف لأبي: مولوده . حماس، فوضعت سبابتها اليمنى أمام فمها كي
سترسل لكم هيئة الرعاية الصحية طبيبا في الغد لفحصكم جميعا، وإن دون في تقريره عدم وجود أي أمراض معدية لديكم.. فقد يستغرق الأمر ثلاثة أو أربعة أيام لتسلم الطفلة من مخفر شرطة المدينة. صحت إلى أمي مرة أخرى وأنا أجذب تنورتها: هل سنحصل على طفلة جديدة؟ فأجابتني بنبرة لينة في حين كان الرجل يغادر: نعم يا ليلي، ستحظين بأخت في نهاية هذا الأسبوع. فصرختُ إليها، وعيناي تلمعان من الفرحة: - حقا؟! ما اسمها؟
فقالت بنبرة شاردة ما زلت أذكرها: اتفقت أنا وأبوك على تسميتها سوزان. هكذا ظهرت سوزان في حياتنا مطلع عام 2320 الميلادي، لتجعلنا بين ليلة وضحاها أكثر عائلة مميزة في قريتنا الصغيرة.
ما زلت، أتذكر طبيب القرية وهو يفحص حلقي وأذني قبل أن يستمع إلى صدري عبر سماعته الطبية ويدون ملاحظاته في دفتره الورقي، وما زلت أتذكر ذهاب أبي وأمي في نهاية ذلك الأسبوع لإحضار أختي الرضيعة من مخفر شرطة المدينة، وذلك التجمع الغريب لأفراد عائلتنا في بيتنا للمرة الأولى؛ عمتي وزوجها وولداهما السخيفان اللذان يكبرانني خالتي ثريا وزوجها، جيراننا وأبناؤهم، الكل حضر إلى بيتنا باكرا في صباح ذلك اليوم من أجل رؤية المولودة الجديدة قبل أن يلتفوا حول شاشة التلفاز منصتين إلى قائمة الأسماء التي كانت تتلوها
إحدى المذيعات الشابات ريثما يعود أبي وأمي، لا أعرف إن كانوا قد تجمعوا هكذا يوم وصولي أم لا، لكن نظرات الانتظار والشغف الواضحة في أعينهم كانت أمرا غريبا جدا بالنسبة إلي، تولت خالتي ثريا يومها
بي وإلباسي أفضل فساتيني، سألتها مستغربة وهي تصفف شعري أمام مرآة غرفتي في الطابق العلوي: - هل تجمعتم هكذا يوم ذهاب أبي وأمي لتسلمي؟
تنظر إلى صورتي المنعكسة في المرآة: لا، لم يذهب أبوك وأمك أصلا إلى المدينة لتسلمك، إنك مثل بقية أطفال القرية تسلمك أبواك من مخفر القرية المحلي، إن الوضع مع سوزان يختلف بعض الشيء، إنها من ذوات الياقة الزرقاء
سألتها في تعجب: وماذا يعني ذلك؟! كادت أن تجيبني لولا أننا سمعنا بوق سيارة إسعاف أبي، فركضت إلى النافذة المطلة على الحديقة وصاحت لي: لقد وصلوا
ركضتُ أنا الأخرى إلى النافذة، ومع قامتي التي لم تكن تتجاوز الثلاثة أقدام وقتها، حملتني عاليا لأستطيع الرؤية، فوجدت الجميع قد خرجوا إلى السيارة، والتفوا حول أمي التي كانت تحمل أختي بين ذراعيها مدثرة في لفة زرقاء مباركين ومهنئين، حينذاك همست لي
خالتي وأنا أراقب الفرحة البادية على وجوه الجميع وهم يفحصون وجه الرضيعة ويقبلون جبينها واحدا وراء الآخر: لقد أرسل الله لنا هذه الطفلة في الوقت المناسب تماما

تحميل الرواية من هنا

الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع