ـ هيمه ..حط سماعات الووكمان و عيش معاه ، السكة طويلة من مطروح لمصر ..
قالها عبد الرحيم غالي و هو يقود سيارته عائدا إلى القاهرة من مرسى مطروح بعد أسبوع حاول خلاله بكل طاقته إسعاد ولده إبراهيم ، الطفل الذي لم يكمل التاسعة من عمره ..
ثم وجه حديثه بعد ذلك لأخيه عبد الرحمن الذي يجلس بجانبه في سباقات على الشاطئ و يلعبان الراكيت و يأكلان معه الجيلاتي و المصاصات و البوزو ..
و ماهي إلا لحظات .. لم يدر إبراهيم ما حدث ، لكنه وجد نفسه فجأة في طرقة مستشفى بين غرفتي طوارئ زجاجيتين يرى عن يمينه من خلف الزجاج أباه و هو يتلقى الصدمات الكهربائية في صدره و عن يساره عمه في الحال نفسه و يتابع – دون وعي – الأجهزة الموصلة إليهما ..
و في حركة دائبة داخل الغرفتين و مع انتفاض أبيه و عمه مع الصدمات ، لم يكن غريبا أن يعلم – من خلال المونيترات ورد الفعل داخل الغرف – أن أباه قد فارق الحياة ، أما عمه فقد عاد إليها ..
ليدخل الطفل الصغير في صراع نفسي رهيب .. و تساؤلات قد تكون أكبر من طاقة استيعابه ..
صعدت روح عبد الرحيم غالي إلى السماء و لم تفلح الصدمات الكهربائية في إعادتها ، بينما أفلحت الصدمات نفسها في إعادة الروح لعبد الرحيم غالي ..هكذا تصور إبراهيم و لم يقف في تصوره عند هذا الحد ، حيث اعتقد اعتقادا حثيثا أن روح أبيه قد استقبلتها السماء و فتحت لها الأبواب بينما رفضت السماء استقبال روح عمه عبد الرحمن غالي ..
و منذ ذلك اليوم و لا يشغل بال إبراهيم إلا تساؤل واحد أراد أن يسأله للحارس المسؤول عن مرور الأرواح : لماذا ؟ فقط لماذا يتقبل أرواحا و يترك أخرى ؟ ..
***
في ردهة المنزل مرتفع الأسقف ذي الطوابق الثلاثة بوسط البلد .. أبواب المنزل طويلة ذات شراعات زجاجية مستطيلة طولية و أمام زجاجها حديد ذو أشكال دائرية و قائمة .. و شبابيكه طويلة أيضا ذات شيش و زجاج علوي و سفلي و الحديد نفسه .. و تحيط بمدخل المنزل حديقة صغيرة مهملة الزرع ..
و في الدور الأرضي حيث يسكن ، جلس إبراهيم غارقا في الفيلم الذي يُعرض أمامه في التليفزيون ، متابعا كل تفاصيله حتى يكاد ينتفض مع علو الموسيقى و يرتجف مع رعشتها و مع خروج بعض البشر من الأرض بأعين بيضاء خالية من التعبير و امتداد أيديهم و هم يمشون باهتزاز السكارى منتظرين الضحية التي سيقومون بعضها لتتحول إلى كائن معدوم الإحساس مثلهم ..
ضربة قاضية ..
يلتفت إبراهيم لزوجة عمه ( أُلفت ) مكتظة كل شيء في فزع : - انتي قلبتي ليه ؟ و مصارعة ؟ ..
- مش أحسن من الغم اللي انت فاتحه .. يامّه .. إيه الأشكال دي ؟ .. جتك الأرف .. قوم يا خويا ذاكر ولاّ كلم دوله صاحبك ييجي يلعب معاك و سيبني فحالي .. بتبص لي كده ليه ؟ مش عاجبك ؟ ..
ليطأطا رأسه و يدخل غرفته و يغلق بابها و ينزوي في ركن سريره مطفئا الأنوار ..