الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع
الكاتبة : شارلوت لامب
---------------------------
الملخص
----------
الجراح تكون أكثر إيلاماً إذا
كانت ممن نحب .. جينى التى
عذبتها و دمرتها خيانة زوجها
لها، عانت الكثير من هذه الآلام
لكن .. هل يخبو حبها له بعد
إنفصال خمس سنوات، ام يعود
القدر ليجمعهما من جديد؟ و هل
تتزوج من غرانت، الرجل اللطيف
المحب، أم تعود لتشتعل بنار
الحب و الغيرة مع روبرتو بوجود
طفله الذى يذكرها بخيانته لها؟
إنها تحبه و تكرهه ، فكيف يمكن
أن يجتمع الحب و الكراهية
فى قلب واحد؟
الفصل الأول : طوق من نـــار
-------------------------------------
رن جرس الهاتف بينما كانت جيني تضع اللمسة الأخيرة على
رسمها لزي جديد
. . . وتأففت بنفاذ صبر . أكــثر ما يغيظها أن
يقاطعها أحد وهــي تعمل , مما يقطع عليها تركيزهــا .
ووضعت القلم بين أسنانها وسارت بسرعة إلى الهاتف .
ـ نعم . . ؟
ـ هل لــي أن أتحدث مع الآنســة جيني نيوهام ؟
في الصوت لكنة أجنبية , وشـــيء من التردد . بدا على وجه
جيني القلق والصدمــة . فقالت وهي تنزع القلم من فمها :
ـ هـي . من المتحدث .
ـ جيني ؟
ـ من يتكلــم ؟
ـ إيفا .
وسارعت المرأة لتضيف وكأنما خشيت أن تقفل جيني الخط :
ـ أنا مضطرة للاتصال بك . . إن روبرتو . . .
فقاطعتها جيني بخشونة :
ـ لن أتحدث عنه . . . لا الآن ولا أبداً . . . لقد قلت لك من
قبل إيفا . لا أريد جرح مشاعرك . . فانا اعرف أن قصدك الخير ,
ولكنــــي لم أعد أعير ابنك أي اهتمام . .
وردت إيفا بصوت مختنق بدا و كأنه البكــاء :
ـ لم تفهمي قصدي جيني .
فردت جيني ببرود :
ـ بل أفهم جيداً . . أوه . لا تبكـــي إيفا ! لا يجب أن تدعي
الأمر يكدرك . روبرتو لا يستحق ذلـك مطلقـــاً .
وعاد صوت البكاء أعمق من قبل , ومسحت جيني شعرها بيدٍ
مرتجفة :
ـ إيفا . بحق الله لا تبكــي ! أنا آسفــة .
وهمس الصوت المرتجف المخنوق .
ـ إنه يموت . . . يموت يا جيني .
وللحظــات وقفت جيني شاردة تنظر إلى السماء الرمادية . . .
وبدأ تأثير الصدمة يظهر , فتقلصت معدتها , واتسعت عيناها ,
وصــرخت غير مصدقة .
ـ مــاذا تعنين ؟
بالكـــاد استطاعت أن تلفظ الكلمات , فقد خرجت وكــأنها همسة
شبح من بين شفتيها الشاحبتين من شدة التأثر . وأصدرت إيفا نحيباً
جديداً وقالت :
ـ كان يقود سيارته عندما انزلقت وانقلبت به , إذ فوجـــئ
بصهريج زيت منقلب على الطريق . وكان هو أول الواصلين ولم
يلاحظ هذا إلا بعد فوات الأوان . . وأمضى المسعفون ساعتين
لإخراجه . إنه شديد الشحوب لفقدانه الكثير من الدم .
ـ اوه يا إلهــي ! هل هو فاقد الوعــي ؟
ـ لهذا أتصل بك . . لقد استعاد وعيه منذ لحظات وأول شــيء
تلفظ به هو اسمك .
ـ اسمي ؟
وأغمضت جيني عينيها بأسى . وتابعت إيفا الحديث بسرعة
وكــأنها تخاف من أن تقفل جيني الخط :
ـ سأل عنك , ومتى ستأتين . . . جيني إنه يعتقد أنك ما زلت
زوجته .
وطال الصمت بينهما , وأنفاس جيني تتقطع , والألم فــــي
عينيها . ثم ســألت بخشونة :
ـ لمَ تقولين هذا ؟
ـ إن الأمــر واضح . . لقد قال : أين جيني ؟ أين زوجتي ؟ فـــي
البداية ظننته يهلوس . . وبعد حين أدركت أنني مخطئة . . . جيني
لقد فقد ذاكرته , نسي أي شــيء حدث له خلال الخمس سنوات
الماضية . . نســـي أندرو . . . وعندما ذكرت اسمه أمامه لم يعرفه
فأصبت بالصدمة , إنني خائفة .
ـ وهل كان واعياً للحادثة .
ـ يقول الأطباء نعم . . . ولكن الإصابة في رأســه خطرة . لقد
أجروا له عملية عند وصوله المستشفى , ويقولون إنهم خفضوا من
الضغط على الدماغ . . ولكن من يعلم ؟
ورطبت جيني شفتيهــا :
ـ قلت . . قلت إنه يموت . هل هذا رأي الأطباء ؟
ـ أنت تعرفين الأطباء جيني , إنهم لا يعطون الجواب
الصحيح , ويراوغون دائماً . ولكنك ترين الأمــور بادية على
وجوههم , ينظرون إليك فتعرفين كل شـــيء بوضوح .
ـ ولكن ماذا قالوا ؟
ـ أوه . . . إنه ليس على ما يرام . . إنه مصاب بشكل خطير . .
كما قالوا لي , والآن قالوا إذا استطعت المجيء . . سيكون هذا
أفضـــل .
ـ إذا استطعت ؟
واتسعت عيناها , وأصبح اخضرارهما شديداً مقارنة مع بياض
بشرتها . . وعضت على شفتها وقال ببطء :
ـ إيفا . . لا يمكنني الحضور .
ـ إنه يسأل عنك طوال الوقت , يريد أن يعرف لِمَ لــم
تزوريه . أوه . . جيني . . ألا تستطيعين فهمي ؟ إنه يعتقد أنك كنت
معه في السيارة ساعة الحادثة , وأنك مُت , وأننا نخفي الخبر عنه .
راقبت جيني عصفوراً طار من على شجرة قريبة , فارداً جناحيه
دون صعوبة . يرتفع وينجرف مع الهواء الحار . . إنها لا تستطيع
التفكير بروبرتو سوى إنه قوي وشرس , ولا تستطيع أن تتصور بأنه
سيموت . فهو دائماً كان بالنسبة لها مفعم بالحياة . ثم تابعت إيفا :
ـ أعلم أن معاملته لك كانت سيئة .
الملاحظة جعلت شفتي جيني تلتويان بمرارة وقالت قبل أن
تستطيع منع نفسها :
ـ ما هذا التصريح المتأخــر !
ـ ولكنه يموت ! لا يمكنك رفض رؤيته . . جيني . . تعرفين أنه
لا يمكنك .
صحيح . . إنها تعرف , وهذا ما جعلها غاضبة , وقد غلف
الحزن نظراتها , وهــي تتطلع من النافذة , وتابعت إيفا بســرعة :
ـ ســأرسل لك سيارة . وكل ما عليك فعله أن تقفــي قرب سريره
لبضع لحظــات ليرى أنك سالمة . . وهذا لن يؤذيك يا جيني .
كان فــــي كلامها سخرية خفيفة , أدهشت جيني , فلطالما كانت
إيفا لطيفة معها . . فقالت بقلق :
ـ لا بأس .
فتنهدت إيفا ارتياحاً . أقفلت جيني الخط , وأخذت تحدق في
السماء . . المطر ينهمر , رذاذ خفيف ينقر الزجاج وكـــأنه
الأصــابع .
لم تر روبرتو منذ خمس سنوات . . ولقد عانت كثيراً لتتخلص
من ذكراه ولتمسح طيفه من عقلها الباطن . . كانت تحلم به ليلة بعد
ليلية ولسنوات . . كارهة نفسها لعدم قدرتها على السيطرة على
مخيلتهــا .
التقيا وكانت لا تزال صغيرة . . لا خبرة لها بالحياة . . وتقبلت
طابع شخصيته الأكبر سناً والأقوى دون أن تدرك حتى ما كان
يحدث لها . روبرتو , وبطرق كثيرة , كان يجعلها طيعة له . . يعيد
قولبتها وكأنه النحات يقولب الصلصال الطري . يتمتع بفرض
الغموض عليها . . ولقد مرت بنوع من الصراع الداخلي مع نفسها
عندما حاولت التخلص من سيطرته .
لقد كانا متناقضين . . . كان شديد السمرة بقدر ما هي شديدة
الشقار . . مسيطر على نفسه بينما هي متقلبة . . هو متصلب شرس
لا يلين بينما هي حساسة وسريعة العطب . . . ومن الجنون أصـــلاً
أنها انجذبت إليه . . ولكنها أصيبت بالدوار لوجوده كالفراشة أمام
الضوء الساطع , لا تهتم أن تحرق جناحيها . . و روبرتو اغتنم كل ما
فيها من ضعف ليتمسك بها دون رحمــة .
تستطيع أن ترفض الذهاب . . . بالطبع . . . و لكن إذا كان
يموت . . فهل تستطيع الرفض ؟ قد لا تستطيع مواجهة عالم هو
ليس فيه . حتى كراهيتها له تعطيها سبباً للحياة .
تخلصت من دائرة أفكارها المجنونة القاسية , ونظرت إلى
ثيابها . الملطخة بالدهان . . يجب أن تغير ثيابها وغطت رسومها ,
ثم دخلت الحمام , خلعت ملابسها واستحمت , ثم ارتدت فستاناً
صوفياً أخضــر اللون قاتماً .
عندما سمعت رنين جرس الباب كانت جاهزة , فتحت الباب
فإذا بها أمام شاب صغير خطا إلى الأمام وقال مقطباً :
ـ مرحبا جيني .
ـ هل أنت جوليان ؟
لم تستطع أن تصدق أنه ذلك الشاب اليافع أين الخمسة عشرة
سنة عندما قابلته آخر مرة . . . أين التصرفات الخرقاء , والبثور
والبشرة الناعمة , من هذا الشباب ذي الأعوام العشرين , الأنيق
الرقيق , بشعره الذي يصل إلى ياقة قميصه ؟ . . شبهه بأخيه أكثر
بروزاً الآن من ذي قبل . .
ـ كيف حالك جوليان ؟
ورد عليها بصوت خشن :
ـ أنا بخير .
كان دائماً متعلقاً بأخيه , فهم عائلة مترابطة . . الباستينو لهم
علاقة متينة منسوجة بدقة . ولقد وجدت جيني صعوبة كبيرة في
البداية في الانتساب لهذه العائلة . . وأحست في البداية بالمقاومة
لها . . والعدائية . . وحتى الغيرة . . وبالتدريج أحست أنها تلبس
ثوبهم , ولكن في النهاية لم تعد تستطيع الاحتمال .
وأخذ جوليان منها المعطف الذي تحمله وساعدها على
ارتدائه , وقال :
ـ السماء تمطر . . ولدي مظلة , سنضطر إلى الركض نحو
السيارة عندما نخرج .
كان قد مضى زمن طويل لم تركب جيني فيه سيارة فخمة كهذه
السيارة . ونظرت ساخرة إلى الفراش الأبيض المنجد , وإلى لوحة
العدادات اللماعة وكـــأنها صنعت لطائرة حربية .
وملس جوليان شعره الأسود إلى الخلف , واستدار لينظر إليها .
ـ تبدين أكثر جمالاً ممـــا أذكرك جيني .
كان في عينيه وميض إعجاب وهما تحومان حولها لتستقرا
قليلاً عند الساقين اللتين برزتا من تحت حافة الفستان . وكان يمكن
أن تجد اهتمامه الرجولي بها مثيراً لولا أنه ذكرها بأول لقاءٍ لها مع
أخيه . وســألته :
ـ كيف حاله وهل شاهدته ؟
ـ لقد رأيته . وماذا أستطيع أن أقول . . يبدو بحالة رهيبة . .
لقد أحسست بالدوار عندما وقفت قرب سريره وشاهدت عن كثب
ما حدث له . لطالما كان رجلاً قوياً , والآن قد أصبح حـطـــاماً .
فارتعدت جيني !
ـ أنا آسفـــة !
ـ هل أنت آسفــة حقاً ؟ أتســاءل .
فاتسعت عيناها :
ـ وماذا تعنـــي ؟
ـ أنت تكرهينه وأنا لا ألومك , فلديك أسبــابــك , ولكن
أرجوك , لا تدعـــي الحزن وأنت لا تشعرين به . لا بأس بذلك أمام
أمــي , فهي رقيقة القلب لتصدق بأنك لا زلت مهتمة . . أما أنا فلا
أطيق الكذب . فلو كنت مكان روبرتو , ولو كنت أموت , فلن
أرغب في أن تبكـــي قرب سريري .
فلمعت عيناها الخضراوان غضباً :
ـ لم أكن يوماً ممثلة بارعة لأدعي أي شـيء جوليانو . . فأنا
ذاهبة لأراه لأن والدتك توسلـت إلــي . . ولأجــل راحة نفســـي
قبلت . . إنها فكرة سخيفة أن أراه ثانية . لو أنه في وعيه لما فكرت
بالأمر . ولكن إيفا رجتني , وأنا مولعــة بأمك جداً .
كان لجوليانو بقية من الذوق ليخجل , فاحمر وجهه , ووضع يداً
معتذرة على ذراعها .
ـ جيني . . . أرجوك . . أنا آسف حقاً . أنها الصدمة لرؤيته
هكذا , جعلتني أعتقد أن لا شــــيء آمن , لاشــيء ثابت . . قد كان
دائماً صخرة العائلة . . الأقوى بيننا كلنا , كان بالنسبة لــي الأب منذ
وفاة والدي .
أجفل جيني لهذه الذكرى . . فهي لا تريد أن يذكرها أي شــيء
بأنطونيو باستينو . فقد كان عدوها منذ البداية , وآخر مرة رأته فيها
أهانـها بمرارة وأذلها . ولم يخفف موته بعد ذلك بأشهر من شعورها
بالكراهية له .
ـ ألا يجب أن نذهب الآن ؟
ـ أوه . . أجل . بالطبع .
بعد لحظات من انطلاقهما ســــألته :
ـ ماذا تفعل الآن جوليانو . . . أتعمــل في المؤسســة ؟
ـ بالطبع . . وما غيره ؟
فرددت بسخرية :
ـ وما غيره . .
ـ أعمـــل هنا في نيويورك .
ـ أوه . . لم أكن أعلم هذا . . منذ متى أنت هنا ؟
منذ سنة . أمضيت في لندن مع روبرتو ثم أرسلني إلى
هنا لأكتسب المزيد من الخبرة .
ـ وهل تعجبك السكنى في نيويورك ؟
ـ ليست مثل روما .
وابتسم . . فابتسمت بدورها :
ـ صحيح .
ـ أنا مشتاق للشمــــس .
ـ وهل ستعود إلى لندن أم ستقيم هنا ؟
فهز كتفيه :
ـ هذا عائد لقرار روبرتو . . إذا عــــاش .
وساد صمت متوتر , مرفق بأفكــار صامتة , ثم ردت عليه
بغضــــب :
ـ بالطبع سيعيش ! لا تستسلم جوليانو , فروبرتو لن يسمح لك
بهذا لو عرف . يجب أن تؤمن بأنه سيتحسن .
ـ ولكنك لا تصدقين هذا وإلا لما جئت .
بساطة رده صدمتها , ونظرت إلى الطريق متنهدة والدموع تنهمـر
من عينيها . إنه محق , إنها تتظاهر بالهدوء , لكن في الحقيقة . إنها
تشعر بالبؤس يملأ نفسها ولا تجرؤ على البوح به .
توقفت السيارة بهما خارج أبواب المستشفى الزجاجية , وخرج
ليساعدها على النزول واضعــاً ذراع تحت مرفقها , وقـــال :
ـ يجب أن أوقف السيارة بعيداً . انتظري هنا . . لن أتأخـــر .
صحيح أن المطر توقف ولكن السماء ما زالت مكفهــرة , وكأن
المزيد من المطر يتجمع تحت الغيوم , وعاد جوليان بسرعة ليمسك
بذراعها ثانية . . وسارا عبر المدخل المكتظ نحو مصعد فــــي
المؤخرة . ودخل وراءها جمهرة من الناس , وما أن توقف المصعد
حتى بدأ جوليان يشق طريقه معتذراً ليخرجا . ولحقت به جيني ,
قلبها يدق بقوة جعلتها تظن أن كل من كان قربها قد سمعه .
إنها لم تشاهد روبرتو منذ خمس سنوات .
ودخل بها جوليان إلى غرفة الانتظار . أحست بالقشعريرة . .
أسرعت إيفا راكضة نحوها , وذراعها مفتوحتان .
ـ جيني . . أوه يا عزيزتي !
وتعانقتا . . الخد على الخد , رأس إيفا الأسود أقصر من رأس
جيني الأشقر بقليل . كانت قد نسيت كم أن إيفا صغيرة الجسم ,
فبين ذراعيها بدت العجوز كالطفل لصغر بنيتها . وتراجعت جيني
عنها لتنظر إلى البشرة السمراء والعينين البنيتين اللتين تحملان
الحزن والألم . وبدت إيفا أكبر سناً , فمنذ خمس سنوات كانت
متوسطة العمر تمضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة لتظهر أصغر سناً . أما
الآن فهي تبدو مسنة . لقد انقض الزمن عليها كالذئب , فحرمها من
حيويتها . وخسرت من وزنها , وتجور خداها , وأصبحت عيناها
أعمق تحت حاجبيها السوداوين الكثيفين . . . وقالت إيفا مرتجفة
محاولة الابتســام :
ـ كم اشتقت لك .
ـ وأنا كذلك .
ـ كم هي الحياة ساخرة . . أخيراً عدنا والتقينا . . ولكن
الأسبــاب مريعة !
ونظرت جيني إلى من حولها في الغرفة : آنا تعرفها , لم تتغير
أبداً ولا شعرة منها تغيرت . كانت تجلس منعزلة , إنها الفتاة الوحيدة
في العائلة . وجهها الممتلئ هادئ لا ينم عن شــيء وعيناها
السوداوان دون أي تعبير . إنها أكبر ببضع سنوات من روبرتو ,
ومتزوجة من مهندس ايطالي . . زواجها سعيد , ولديها اربعة
أولاد كما كانت تعرف آخر مرة . ثلاثة أبناء وبنت . ولكن الاولاد
بكل تأكيد لا يحملون اسم باستينو ولذلك لا حساب لهم , وآنا
تعرف هذا وتمتعض منه . كانت تكره جيني , لأنها لو حملت بأي
طفل فسيحمل اسم باستينو .
لويس كان يجلس قرب آنا . بدا سميناً و ضخماً . . كتفاه
العريضان يتناسبان تماماً مع سترته المفصلة بدقة على قياسه .
ولروبرتو علاقة تخلو من الود مع ابن عمه . فهو على كل الاحوال
باستينو . ابن أحد ثلاثة اشقاء , عملوا جاهدين لبناء إمبراطورية
باستينو . وباستمرار انتقال لويس الدائم من نيويورك إلى لندن ,
ومن لندن إلى روما , لم يكن عدواً لجيني . . بل على العكس فلقد
حاول عدة مرات إظهار إعجابه بطريقة سمجة اضطرت معها إلى
ردعه ببرود . . وها هو الآن يبتسم لها متمتماً بالتحية فردت عليه
تحيته بهدوء .
وجلس ولد صغير إلى جانب لويس , ويده في يده . عرفت من
هو وخفق قلبهـــا ألمــاً .
ولاحظت إيفا نظراتها إلى الصبي . . فقالت بنعومة :
ـ إنه أندرو .
انزلق الصبي من كرسيه ليأتيها راكضاً , ووضعت إيفا يدها على
رأسه الأسود , وأدارته نحو جيني :
ـ جيني هذا أندرو . . أندرو . . . هذه جيني .
وأحست جيني وهي تنظر إلى الطفل بالغضب والتأثر معاً . إنه
صورة عن أبيه . له عينا عائلة باستينو السوداوان المائلتان إلى
الأعلى , يحيط بهما رموش سوداء كثيفة ترتفع إلى فوق . . وشعر
أسود براق , أنف مستقيم متكبر , وجنتاه مرتفعتان . وحده فمه
الزهري الناعم الملــيء بالحداثة والرقة ذكرها بذلك الفم الذي كان
يجبرها يوماً على الاستسلام .
ـ مرحباً أندرو .
امتدت يده بأدب , وأمسكت بها . وأحست بالألم المفاجــئ
للسرور الذي أحست به لملمسها . . وتفحصتها عيناه . . وكأنه
يعرف كل شــيء عنها . . ولكن هل أخبروه بــشــيء بحق الله ؟
تقدمت آنا . . والامتعاض باد في كل حركاتها , وأدارته ثانية
لتعيده إلى المقعد , ونظرت إيفا لابنتها , وتنهدت . . ثم استدارت
إلى جيني وســألتها :
ـ هل ستدخلين الآن لرؤيته ؟
عند باب الغرفة توقفت والتفتت بقلق إلى جيني .
ـ ستكونين حــذرة . . ألن تفعلــي ؟ لا تدعيه يتكلم , ابتسمي له
فقط .
تبتسم ! وتنهدت بصمت , هل تعلم إيفا ما تطلب منها . . .
ومررت يدها إلى شعرها , وحملقت عينا إيفا بالخاتم الماسي الذي
لمع في يد جيني . . . فصاحت :
ـ لا يمكنك وضعه .
للحظات بدا عدم الفهم على جيني , ثم احمر وجهها ونظرت
إلى الخاتم الماسي في يدها . وتأوهت إيفا :
ـ لو شاهد هذا . . .
فقاطعتها جيني :
ـ ولكنني مخطوبة . . وسأتزوج قريباً .
وبدا الارتباك على إيفا , وأخذت شفتاها بالارتجاف .
ـ جيني . . أنت لا تفهمين . . إنه يعتقد أنك لا زلت زوجته .
ـ إنه مخطئ إذن .
ـ ولكن عليك أن تتظاهري لبضع دقائق . . ستسبب الحقيقة
صدمة قاسية له . . . وأي شــيء يمكن أن يقلب توازنه . . فهل
تستطيعين تحمل موته على ضميرك ؟
ـ أوه . . . يا إلهــي ! أنت تطلبين الكثير إيفا !
وببطء سحبت الخاتم من يدها وسألت :
ـ والآن . . ماذا ؟
فتحت إيفا حقيبة يدها , وببطء مدت راحة يدها المفتوحة
فأجفلت جيني مما رأته هناك :
ـ لا . . لن أفعــل !
ـ إنه يموت . . . ولن تتمكني من الرفض . لن اسمح لك .
وارتجفت جيني , ومدت يدها إلى الخاتم , خاتم زواجها
القديم , ووضعته في اصبعها . . إنه خاتم وراثي للعائلة . . إيطالي
قديم الصنع , له شكل أفعيان ملتفان , ولطالما أثار التعليقات بين
صديقاتها . منذ خمس سنوات خلعته ورمته عبر الغرفة إلى والده .
وانحنى أنطونيو يومها ليلتقطه , ويبتسم ببرود ويقول بلؤم :
ـ سيعود الآن ليكون في اليد المناسبة التي يجب أن تضعه لولا
أن تزوجك روبرتو .
أمسكت إيفا بذراع جيني لتضغط عليها :
ـ شكراً لك حبيبتي . هيا الآن . . إنه بانتظارك .
وأمسكت بيد جيني لتقودها إلى الداخل . . التفتت الممرضة
الجالسة عند الطاولة بفضول , وأخذ قلب جيني يخفق
بجنون , و بدأت تحس بالتعرق في يدها وعلى مؤخرة عنقها عند
أسفل الشعر .
وعلمت أنها تتعمد ملاحظة تفاصيل ما حوله كــي لا تنظر
مباشرة إلى عينيه السوداوين البارزتين من تحت الأربطة البيضاء .
ـ جيني !
صوته كالهمس . . أخف بكثير من أن يسمع . . تقدمت من
سريره .
ـ كنت خائفاً من أن تكوني قتلت في الحادث ويخفون الأمــر
عني .
ـ كنت مسافرة . . . وعدت فور سماعـــي بالخبر .
وتفحص وجهها بنظرته الساخرة المألوفة وتمتم :
ـ لا بد أنك ذعرت . ولكنني أرفض الموت . عندما أخفوا عني
أخبارك تساءلت اذا كنت ســأحتمل الحياة بدونك . . . ولكنني بعد
رؤيتك أنا مصمم على الخروج من هنا , حبيبتي .
والتفتت إلى إيفا , ثم عاودت النظر إليه , فرأته يقطب :
ـ ألن تقبليني جيني ؟
انحنت فوقه مرتجفة , وقلبها يضرب بصوت مرتفع , ولامست
خده بشفتيها . وكانت على وشك أن تستقيم , ولكن يده السليمة
أمسكت بها , ثم لامست وجهها . . ووقعت يده فجأة وأغمــض
عينيه .
وأخرجتها إيفا من الغرفة وذراعها حولها :
ـ إنه دائماً هكذا ! فجأة يصحو ثم فجأة يغيب . . . ولكن هذه
المرة أظنه سينام مرتاحاً لعلمه أنك سالمة . شكراً لك جيني .
ـ لا تشكريني . . بحق الله !
ـ أدرك أن الأمر كان محنة لك .
ـ محنة ؟ كان كالجحيم . . . مم تظنين أنــي مصنوعة ؟ من
حديد ؟ كنت مضطرة للوقوف هنا لتقبيله , وسماعه يناديني . . .
حبيبتي . يا إلهــي . . كم أحسست بالدوار . . . وأنت تشكريني ؟
وانتزعت الخاتم الذهبي الثقيل من إصبعها وأعادته لإيفا :
ـ خذي هذا . لا أريد أن تقع عيناي عليه ثانية . . أو على أي
واحد منكم !
اندفعت في طريقها متجاوزة إيفا , وخرجت راكضة من
المستشفى وكأنما الجن يلاحقها . . تنتحب صامتة . فــي موقف
السيارات توقفت , لم تكن تدري كيف تذهب . . . وفكرت
أخيراُ . . سيارة تاكسي . . يجب أن تحصل على تاكسي . واستدارت
نحو مكتب الاستعلامات لتستخدم الهاتف كي تطلب سيارة تاكسي .
ووجدت نفسها تواجه جوليان , الذي نظر إليها نظرة إشفاق غاضب
قائلاً :
ـ تبدين فظيعـــة .
ـ دعني وشـــأنــي جوليان . . أرجوك !
ـ لا تكونـــي سخيفة . . ســأوصلك .
وانتزعت ذراعها من يده .
ـ ألا تفهم ؟ لقد اكتفيت منكم ! أريد الذهاب لوحدي . . لقد
اكتفيت من عائلة باستينو . . ليوم واحد !
ضحكت بهستيريا وأكملــــــت :
ـ ماذا أقول ! ليوم واحد ! بل للعمـــر كله !
وقال بهدوء جعله يبدو أكثــــر نضجــاُ من سنه :
ـ أفهمـك . ولكنــــني لن اسمـــح لك بالذهاب وحــــدك , فحـــــالتك
بائسة . . . ولا يجب أن تتركي لوحدك جيني . لقد أمرتني إيفا أن
أبقى معك إلى أن تصلـــي شقتك .
وحاولت الخلاص منه , ولكنه لم يتكرها تفعل . . . وقادها
أخيراً إلى سيارته وادخلها إليها . . طريق العودة كانت أكثر صمتاً من
ساعة الذهاب . خــارج شقتها , نظر إليها وهو يطفــئ المحرك .
ـ جيني . . . أمــي ارادتني أن أقول لك . . .
فصاحت يائســة :
ـ لا أريد أن أسمع شيئاً .
فتحت الباب وخرجت قبل أن يتمكن من ملاحظة ما فعلت .
وخرج مستديراً أمام السيارة , ولكنها كانت قد اصبحت داخل المبنى
ووجدت مفتاحها ودخلت الشقة , اقفلت الباب , واتــكأت عليه . . .
تتنفس بعمق .
وبدأت الدموع تنهمر على وجههــا . . وقرع جوليان الباب
وناداها دون جدوى . . فهــي لن تستطيع التحرك حتى ولو
أرادت . . . وأخيراً سمعت وقع أقدامه تبتعد . . . . وببطء , انزلقت
على الأرض . . وغابت عن الوعـــي .
-------------------------------------
الفصل الثاني
-------------------------------------
ـ أقوى من النسيان
-------------------------------------
وقف غرانت في غرفة عملها مائلاً رأسه ينظر إلى رسوم الأزياء
الملونة , بنظرات رصينة لطيفة .
ـ أنت تتحسنين كل يوم . . ولسوف تلمعين في عالم الأزياء
أكثر من دانــــي أتعلمين هذا ؟
ـ وهل يعلم دانــــي بذلك ؟
ضحكت ونظرات عينيها الخضراوين تتراقصان .
ـ بالطبع يعلم . إنه يعرف أكثر من أي منا , دائماً يقول إنك
ستصبحين رائعة .
واقترب غرانت ليحدق بالخطوط الــدقيقة واللمسات الناعمة
لرسم زي الفستان أمـــامه :
ـ يعجبني هذا . . غريب كيف يبدو متماسكاً عن بعد , ويزداد
غموضــاً عن قرب .
ـ ليس من المفترض أن تنظر إليه وأنفك فوقه .
واستدار لينظر إليها ضاحكاً , ثم تقدم ليحتضنها ولامس أنفه
خدها مداعباً :
ـ أنت لا تطاقين جيـــني .
ـ ومــاذا تعني ؟
ـ جميلة , ذكية . . وهذا ليس عـدلاً .
فضحكت :
ـ ليس عدلاً ولمن ؟
ـ لكل إناث الأرض .
ونظرت إليه بعاطفة , ومالت بطريقة كلها ثقة , ولفت ذراعيها
حول وسطــه . . وهمست :
ـ ولكننـــي أحبك .
وارتفع حاجباه :
ـ عندما أطريك ؟
ـ بل فـــي كل ثانية من اليوم .
ـ هذا ما أحب سماعه . . . والآن يجب أن أذهب . . . فلدي
زبون أقابله بعد قليل .
ـ أيجب أن تذهب ؟ لم أراك كثيراً هذا الأسبوع .
إنها بحاجة لرؤيته , وخاصة بعد زيارتها لروبرتو . . لم تكن قد
ذكرت شيئاً أمامه بخصوص الزيارة بعد , فقد وجدت صعوبة في
محاولة الشرح , والله يعلم أنها قصة بسيطة , ولكن أي ذكر لروبرتو
باستينو يجعل غرانت يغضب .
وقال لها بلطف :
ـ بعد أن نتزوج ستتغير الأمور . . . ستصبح مختلفـــة .
غرانت كان يحبها منذ سنوات طويلة , حتى وهي متزوجة من
روبرتو . وكانت دائماً تعرف هذا . فهو لم يبقِ الأمر سراً , ولكنها
لم تستجب له ســوى في السنة الأخيرة , إذ وجدت فيه الأمان الذي
تحتاجه .
قال لها وهو في طريقه إلى الباب :
ـ سيعود دانـــي من باريس بعد يومين .
ـ أعلم . . لقد أرسل لــي برقية . . لا بد أنها كلفته ثروة ! إنها
رسالة أكثر منها برقية .
فضحك غرانت :
ـ أعماله رائجة , وباع كل التصاميم .
ـ هذا يفسر الأمر . هل أبرق لك أيضاً ؟
ـ لا . . بل اتصل هاتفياً . . من هي لورين ؟
ـ لورين ؟ لا أدري . . . هل ذكرها لك ؟
ـ عدة مرات , ولكنني لم أفهم ما هي علاقتها به .
ـ أنت تعرف والدي العزيز . . . ربما تكون عارضة أزياء .
فابتسم غرانت :
ـ آسف لـلسؤال .
فلكمته :
ـ ولماذا ؟ أنا فتاة كبيرة الآن , والأيام التي كان يخبئ فيها
صديقاته عني قد ولت . أتساءل إذا كانت تعرف الطبخ . . أتذكر
لينا ؟ كان طبخها كالحلم .
ـ وكانت عارضة أزياء رائعة . . . تلك الأكتاف الرائعة . . .
وضحكا معــاً . . . وقالت له :
ـ أيها المحتال . . . كتفـيها هاه !
ففتح الباب وقال :
ـ أنسى دائماً أنك لا تتأثرين بشــــيء .
ـ بعد عيشي مع داني طوال حياتي ؟ كيف يمكن أن أتأثر من
شــــيء ؟
وقطب وجهه :
ـ ليس هناك شـيء من الغيرة في نفسك . . أليس كذلك جيني ؟
كلماته جعلتها تجفل واسودت عيناها . انحنى وقبلها على
خدها ثم رحل . عادت إلى غرفة عملها , ووقفت قرب النافذة
تتمتع بشمس الخريف الدافئة , لقد تغير الطقس في اليومين
الماضيين . وتوقف المطر والريح . وحدها الأشجار العارية سوى
من بضع ورقات كانت تذكرها بالخريف .
ليس هناك شــيء من الغيرة في نفسك ! إن معرفته بها قليلة !
وفكــرت بالمشاعر الوحشية الطاحنة التي عذبتها مرة . . وامتدت
يدها إلى معدتها وكأنمــا تلك المشاعر قد عادت لتعصرها ثانية .
وأغمضت عينيها وصرخت . . يا إلهــي ! وبدا صوتها غريباً , مغايراً ,
في الغرفة المشمسة .
لم تسمع شيئاً من عائلة باستينو منذ هروبها من المستشفى يوم
زارت روبرتو . . لا بد أنه استعاد عافيته , فهي لم تشاهد أي خبر
في الصحف عن موته . مجرد فقرة صغيرة تروي الحادثة وتقول إنه
مصـــاب .
حاولت مرة الاتصال بالمستشفى لتســأل عنه , وبالرغم من
امتداد يدها إلى الهاتف , إلا أنها تراجعت . . فلو أنه مات لأبلغت
بالأمــر . ولكن أحلامها كانت تفيض بذكــراه . كرامتها وحدها منعتها
من العودة إلى المستشفى لرؤيته ثانية , ولو للحظات , و لتسمع
صوته الأجش يقول (( حبيبتــي )) .
واستدارت غاضبة عن النافذة لتجلس وتبدأ العمل . . وأخذت
ترسم وجه فتاة ترتدي الزي الذي تصممه . . . ثم توقفت فجأة
لتنظر إلى الرسم بذهول . . قسمات وجه أندرو الطفولية أخذت
تبدو لها من خلال الرسم . فــأجفلت .
ومزقت الورقة من دفتر الرسم , وكادت تقطعها لولا رنين
جرس الباب الذي أوقفها فوضعتها من يدها وتوجهت لتفتحه .
ووقفت إيفا بلطف , وقساوة معاً . وجهها النحيل ملــــيء
بالتصميم . .
وتنهدت جيني :
ـ ماذا تريدين إيفا ؟
العينان السوداوان كانتا ثابتتين :
ـ ألا تريدين معرفة ما إذا كان قد مات أم بقــي حياً ؟
ـ لو أنه مات لعرفت . . . العالم كله كان سيعرف .
وهزت إيفا رأسهـــا :
ـ كيف يمكن لك أن تكونـــي قاسية ؟ إنه بحاجة لك . اذهبـــي
إليه . . لمَ ابتعدت ؟
رفعت جيني كلتا يديها لتمررهما على شعرها لتخرب تصفيفته
الناعمة :
ـ إيفا . . أشفقـــي علي لأجــل الله !
ـ كنت أتمنى أن لا أطلب هذا منك . . . ولكن روبرتو هو فــــي
المقام الأول عندي يا جيني .
ـ إنه هكــذا دائماً . . إنه الأول لدى الـجميع .
فحملقت إيفا بها بعينين واسعتين :
ـ ألهذا الدرجة مرارتك , لقد كان فاقد الوعي معظم الوقت منذ
أن زرتيه . . ولكنه استفاق الآن . . وهو يسأل عنك ثانية .
فشحب لون جيني واشتد بياضه :
ـ أتعنين أنه لم يسترجع ذاكرته بعد ؟
فهزت إيفا رأسها نفياً . . . فاستدارت جيني إلى الشقـــة :
ـ يا إلهــــي !
ولحقت بها إيفا , تنظــر من حولها بفضول , تلاحظ ترتيب غرفـــة
العمل , وكيفية تعليق رسومات الأزياء فوق الــحائط وعلى الرفوف .
ـ إذن . . هنا تعملين ! لقد بدأت تحققين النجاح . هكـــذا
سمعت . ولا بد أن والدك فخور بك .
ـ أجل . . إنه فخور بي . . إيفا . . لن أستطيع الذهاب . . إذا
كان قد أصبح بصحة أفضل . . فيجب إعلامه بالحقيقة .
ـ ونقتلــه !
ـ لن تقتله الحقيقة !
ـ لقد سمعت ما قاله . . بدونك لا يريد العيش .
واستدارت جيني على عقبيها , مرتجفة , عيناها مليئتين
بالاتهـــام :
ـ كلانا يعرف إنه عاش من دوني خمس سنوات . ولن يموت
الآن لمجد تذكره أننــي لم أعد زوجته .
ـ ولكنه لا يتذكر, وصدمة إبلاغه ذلك قد تحدث له ضرراً لا
يمكن إصلاحــه .
بالرغم من اضطرابها , ضحكت جيني :
ـ إنه أقوى من هذا . . . رأسه أقســى من الصلد .
ـ كان هكذا . . . ولكنه الآن ضعيف , هش , يتمسك بالحياة
بخيط رفيع , وأنا أرفض قطع ذلك الخيط بقولــي له ما يرفض
سمــاعه .
والتقت عيناهما . . فتنفست جيني بصعوبة :
ـ لا يريد أن يسمعه ؟ ماذا تعنين ؟
فتمتمت إيفا :
ـ أوه . . . جيني . . . أنت تعرفين بالضبط ما أعنــي . . . لقد
حصلت على رأي أخصائي نفسي بهذا الأمر . . روبرتو لم يفقد
ذاكرته فقط . . بل إن عقله الباطن يرفض أن يتذكــر .
وأخذت جيني تتحرك بقلق :
ـ ولماذا ؟ . . أعرف ما تحاولين عمله إيفا . . . ولكنك لن
تنجحي . . يجب أن تتقبلــي أنني و روبرتو قد انتهى أمرنا معاً ,
وهكذا كان منذ خمس سنوات . وحادثته لن تغير من الواقع شيئاً .
بعد ثلاثة أشهر ســأتزوج ثانية . وأنت تعرفين هذا .
وتجاهلت إيفا ملاحظتها وقالت بخشونة :
ـ روبرتو يحمي نفسه . . . هذا ما قاله الطبيب النفسي . . . إنه
يعرف أنه مريض وقد يموت . . . لذلك عاد إلى أيامه السعيدة
معك , وهذا يشعره بالأمان . ويعطيه سبباً ليعيش من أجلــه
ـ أتعرفين ما تقولين ؟ إنها ليست الحقيقة .
ـ يا عزيزتي . . أنا واثقة . . . روبرتو لم يفقد ذاكرته نهائياً , بل
فقد الجزء الأخير منذ فقدك . لقد أقفل عليها الباب . حــتى
أندرو . . ابنه . . . الذي يحبه . . . صدقيني . . . لا يذكره . ولا
يمكن له أن يرفض تذكــر ابنه للاشــيء . ومع ذلك ينظــــر إلى الولد
دون أحساس ويســأل : من هذا ؟
وعضت جيني شفتها .
ـ يا للولد المسكين ! وهل تألم لهــذا ؟
فتنهدت إيفا :
ـ لقد تكدر بالطبع . ولكنني أبعدته عن الجو , وشرحت له أن
إصابة أبيه جعلته يفقد ذاكرته , وأظنه فهم الأمر .
واستدارت جيني . . . تلف ذراعيها حول نفسها وكــأنها تكاد
تتجمد من البرد . . . وقالت :
ـ مهما يكــــن . . . لن أستطيع الذهاب .
وتقدمت إيفا من الطاولة , حيث ورقة الرسم المنزوعة من
الدفتر الكبير . . والتقطتها لـتنظــر إلى الرسم غير مصدقة :
ـ هذا عظيم . . . عظيم جداً . . . كــم أنت بارعة يا جيني !
فــاحمر وجه جيني .
ـ أوه . . . إنه مجرد خربشة من الذاكرة .
ـ ولكنك التقطت ملامح وجهه ببراعة . هل لــي أن أحتفظ بها ؟
ســأحافظ عليها كأنها كنز . . . جيني . . . أرجوك !
ـ بالطبع .
ـ شكــراً لك .
ونظرت إليها إيفا بعينين دامعتين :
ـ أرجوك اذهبي إليه . . أرجوك !
وتأكدت جيني أن لا مفــر لها . . وستبقى إيفا هنا إلى أن توافق
فقالت :
ـ أوه . . . حسناً .
وفي السيارة سألتهــا إيفا .
ـ مــاذا قال خطيبك عندما أخبرته عن روبرتو ؟
ـ لم أخبره بعد .
ـ ألا يعرف شيئاً عن حالته ؟
ـ أشك في أنه يعرف عن الحادثة أصلاً .
ـ وهل تظنيني سيمانع ؟
فضحكت ببرود :
ـ تعرفين جيداً أنه سيمانع , فأنا خطيبته , ومع ذلك أذهب
لأقف قرب فراش رجل آخــر وأتظاهر إننــي زوجته . . فماذا تتوقعين
منه ؟
ـ مما أذكره عنه , مع ما قلته , كــــان دائماً لطيفاً واسع المخيلة . . .
وبالطبع سيفهم .
توقفت السيارة خارج المستشفى , ولحقت جيني بإيفا إلى
الفناء الداخلـــي , ثم إلى المصعــد . . . خارج غرفة روبرتو توقفتا ,
ومدت إيفا يدها إلى جيني :
ـ الخاتم .
ارتجفت يد جيني وهي تأخذه . وفتحت إيفا الباب هامســة :
ـ ســـأنتظر في قاعة الانتظــــار .
بعد لحظـــات دخلت الغرفــــــة . . وكانت فارغـــــة وصامتة . .
والطيف الملفوف بالأربطــة فوق السرير لم يتحرك وهي تتقدم إليه .
ووقفت بهدوء إلى جانبه . . . ثم انحنت غير قادرة على مقـــاومة
إغراء يدفعهـــا , ولمست بشفتيها جبينه .
وعلى الفور امتدت يده لتلتف حول عنقها . فرفعت نظرهـــــــا
لترى أن جفنيه قد ارتدا عن عيني السوداوين , وهمــس :
ـ جيني . . . حبيبتي . . . أخيراً . . أين كنت ؟
وحاولت الابتعاد عنه دون جرح مشاعره , ولكــــــن يده كان لها
قوة غريبة ولم تتركهـــا . . فقالت :
ـ تبدو أفضـــل حالاً الآن .
ـ قبلينــــــــي ثانية . . . كنت نائماً . . هذا ليس عدلاً . . أريد أن
أكـــــــون مستيقظاً عندما تقبليني .
وقبلته بخفة , ولكن يده ضغطت على عنقهــا , وأبقت وجههـــــــــــا
قربه بينما كان يمرر فمه على خدهـــا .
لم تكن تتصور مطلقاً أنها ستشعر ثانية بهذه المشـــاعر معه .
وآلمها ذلك حتى أنها أرادت أن تهرب . وتخلصــــت من قبضته ,
ووقفت ويداها متشابكتان . . تتنفس وكــأنها كانت تركض .
وتحرك بقلق . . ولاحظت الألم في عينيه , وســألها :
ـ ما بك ؟
ـ يجب أن تبقــى دون حراك . . . فالتكدر لا ينفعك .
ـ ولكنني ســأتكدر أكثر لبرودك معــي . . تبدين أكبر سناً . . .
هل يجب أن تبقى هذه الستائر مسدلة فوق النافذة ؟ أريد أن
أراك . . . اقتربـــــــــي منـي .
واستدارت لتجر الكرسي وتجلس قرب السرير , مبقية رأسها
بعيداً . . لا بد أنه سيلاحظ التغيير عليها , فذاكرته تفتش عن الفتاة
ذات التسعة عشر سنة . وهي الآن امرأة في الرابعة والعشرين .
ـ لا يجب أن أبقى طويلاً .
ـ ولكنك وصـــلـــت لتوك . . ما الأمــر . . لماذا تبتعدين عنــــي
هكــذا ؟
فاستجمعت كل شجاعتها , ومالت إلى الأمـــام مبتسمة :
ـ آسفـــة لهذا . . . كنت قلقة عليك .
فانفجــرت أساريره :
ـ بالطبع ! يا عزيزتي المسكينة ! آسف لأنـــني سببت لك
التعاسة . أنت صغيرة على وضع كهذا . . . يا حبيبتي . والأمــر
صعب عليك . ولكن لست أدري ما حدث , ولا كيف حدث , كل
ما قالوه لــي إننــي حطمت السيارة .
وبدا مريضــاً , ضعيفاً , ولكن لم يبدُ أنه يموت . . إنه منطقــي ,
وواضح التفكير .
ـ لقد انسكب الزيت من صهريج , وتزحلقت السيارة فوقه .
فقطب :
ـ ومتى كان ذلك ؟ آخــر ما أذكــره هو رحلتنا إلى لندن . أذكـــر
عودتنا من مطار هيثرو . . وكنت معـــي في السيارة . . . يومها لم
لم تحصل حادثة أليس كذلك ؟
و أحـــســت بألم في حلقها , وابتعدت بصعوبة .
ـ لم أكن معك ســـاعة الحادثة .
ـ لا . . أمــي قالت هذا . . أذكر . . . لماذا تأخرت عن المجيء ؟
أين كنت ؟ مع داني كما أعتقد ؟ ومع صديقك العزيز غرانت ؟
ووقفت بقوة عن الكرســـي حتى كادت الكرسي تقع .
ـ يجب أن تنام الآن روبرتو . لقد وعدت الطبيب أن لا أبقى
أكثر من دقائق .
ـ أبقي هنا . . لم تردي على ســـؤالي . . هل كنت مع غرانت
كراولــي ؟
ـ لا . . . لم أكن معه . . . كنت مع أبـــي في باريس .
وبدت عليه الراحــــة :
ـ أوه . . . أنا آســف حبيبتي .
ـ والآن يجب أن أذهب .
فهمـــس :
ـ قبليني .
وقبلته . رغـــم إحـــســـاسهــا بالعـــذاب , وداعبت يــده شعرهـــا
الحريري . فارتجفت , ثم عاد إلى الاستقاء متنهداً , وبدا لها مرهقاً
حتى أن مشاعر الحنان لديها تحركت نحوه . فقالت له متوسلة :
ـ عــدني أن تنام الآن .
فابتسم وتمتم بصوت ضعيف :
ـ أعدك .
وقبل أن تتركـــه كان يغط في سبات عميق .
وكـــان مع إيفا رجــــل قصــيـــر ممتــلئ تبدو عليه الأهمــيــة . فابتسم
لها ومد يده :
ـ آه . . سيدة باستينو , سعيد جداً لمقابلتك .
فردت جيني بحدة وهي تنظر إلى إيفا :
ـ أن الآنســة نيوهام .
وقالت إيفا :
ـ هذا هو السيد كيلي , الأخصائي الذي سيتولــى معــالجة
روبرتو .
ونظرت إليه جيني دون اهتمام :
ـ هل أنت طبيب نفساني ؟
فرد بسرور :
ـ من بين عدة أشياء . . كيف وجدت زوجك ؟
فردت بحزم :
ـ نحن مطلقان .
فابتسم :
ـ ولكنه لا يعتقد هذا .
ـ مهما كان يظن . . فنحن مطلقان .
ـ قانونياً أجل . . . ولكن إذا لم يكن يتقبل الأمــر . . . فأنت
مجبرة .
ـ هذا مناف للعقـــل !
فابتسم بخبث :
ـ ولكنك هنا سيدة باستينو , وهذا يدل على أنك تتقبلين فكـــرة
ارتباطه بك .
بدت عليها الصدمـــة والشحوب .
ـ لقد جئت لآن أمــه توسلت إلي .
ـ وإن يكــن . . مهمــا كــان السبب الذي تبررين لنفسك به , فلقد
جئت . وهذا مــا يقول لــي إنك ملتزمــة به .
ووضعت جيني قبضتيها على جبينها :
ـ لا !
وأدار الرجل القصير ابتســـامته نحو إيفا :
ـ هل لــي أن أتحدث إلى السيدة باستينو على انفراد ؟
وأمسك بذراع جيني .
ـ هل تسمحين أن تأتـــي معي إلى مكتبي ؟
فقالت إيفا :
ـ ســـأنتظرك هنا عزيزتي .
وقدم لــها كرسياً أمام طاولته , وجلس مبتسماً :
ـ زوجك لا يذكــر الحادثة . . أتعرفين هذا ؟
ـ قال لـــي .
ـ وهل قال لـك آخـــر ما يتذكر ؟
ـ أجـــل .
ـ وهل تسمحين بقوله لــي ؟
فهزت كتفيها :
ـ لست أرى حقـــاً . . .
ـ أرجوك !
فــتـــنــهــدت :
ـ آخـــر ما يذكره رجوعنا من رحلـــة إلى لندن .
ـ ومتى كــان ذلك ؟
ـ منذ أكثر من خمـــس سنوات .
ـ وهل لهـــذا أي ميزة لــديــك ؟
وجمدت الابتســـامة على شفتيها . . ميزة ؟ . . أجــل . . إنها تذكر :
ـ بعد أيام من عودتنا تشاجرت معه وتركته وعدت إلى منزل
أبــي . . .
ولم تستطـع أن تكمــل , وارتجفت شفتاها , واندفعت الدموع
إلى عينيها .
ـ وبعدها . . .
ـ لم يكن مخلصــاً لـــي .
ـ وهل اكتشفت هذا بنفسك ؟
وهزت رأسها ايجابياً وهي تتذكر , لقد نامت عند والدها ليلة . .
ثم في الصباح اكتشفت خطأها , فأخذت سيارة تاكسي إلى منزلها
في الصباح الباكر , وبكل الحب والشوق ركضت لتصل إلى غرفة
نومها , غرفتهما , وفتحت الباب لتجمد وكأنها تلقت رصــاصة في
قلبها .
من على الوسادة قرب رأس روبرتو الأسود , رفعت جيسكا
رأسها ذي الشعر الأحمر مبتسمة , ولم تقل كلمة , بل تحولت
البسمة إلى ضحكة . . . وأخذت العينان السوداوان تسخران منها .
واستدارت جيني دون كلمة وخرجت من المنزل . . . فيما بعد
ذلك اليوم جاء روبرتو ليراها . ولكن والدها رفض السماح له
بالدخول . ومن غرفتها في منزل والدها سمعت الصراخ . . . وحاول
روبرتو اقتحام طريقه إلى الداخل . . . ووصل غرانت . . . وكانت
معركة قاسية , شهدت كل فصل منها وهي ترتجف وتحس بالسقم .
و معاً . . تمكن والدها و غرانت من طرده . وفي اليوم التالي كانت
جيني في طائرة متجهة إلى لندن للإقامة مع عمتها هناك . . . ومن
هناك أرسلت وكالة لمحاميها لإجراء الطلاق . وأرسل روبرتو عدة
رسائل لها . . لم تفتح أي منها . . . وعادت لتتم إجراءات الطلاق
في أمريكا . . . وبعد أسبوع تزوج روبرتو من جيسكا . وبعد الزواج
بثلاثة أسابيع ولدت له أبنها , أندرو . . الولد الذي وضع روبرتو
كل دمغات العائلة عليه , ولا مجال له لإنكــار بنوته .
ـ وهكذا تطلقتمــا ؟
ـ أجل .
ـ وهل رأيته منذ تركتـــه ؟
ـ لا . . .
ـ إنها قضية فتحت وأقفلت . . . أليس كذلك ؟
ـ صحيح ؟
ـ هيا الآن سيدة باستينو . . .
فصاحت بشراســة :
ـ لا تناديني بهذا الاســم !
ـ يا عزيزتي الشابة , وماذا في هذا الاسم ؟ لا يمكن الجدال
حول الأمر , فزوجك بكل مرارة نادم على الطلاق . ويرفض كل ما
مر به منذ يوم تركته . لقد أبعد تلك الفترة عن ذاكرته , لأنه فــي
حالته الحاضرة , عقله الباطن يعف أنه لا يستطيع مواجهة تلك
المرحلة من جديد . وإلى أن يستعيد عافيته سوف يستعيد ذاكرته .
ـ وماذا إذن ؟ لا أستطيع الاستمرار في الادعاء . فأنا مخطوبة
لـــرجل آخــر .
ـ هكذا عرفت . . . منذ متى أنتما مخـطوبان ؟
ـ منذ أكثر من أسبوع .
واتسعت عيناه بخبث .
ـ حقــاً ؟ هذا مثير للاهتمام !
وحـــدقت به جيني . . . لماذا يبتسم هكذا ؟
ـ هل أعلنت خطوبتكمـــا في الصحف ؟
ـ طبعــاً . . .
شهرة داني في عالم التصميم , وشهرة دار الأزياء التي يملكها
غرانت , جعلت نشر الأمــر محتماً . حتى أن عدة صحف نشرت
قصصاً صغيرة حول الأمــر .
ـ هل تذكرين تاريخ ظهور تلك القصص ؟
ـ يوم الخطوبة بالضبط . . . أوه . . . لا في اليوم التالي . . .
وتوقفت عن الكلام فجأة وحدقت بالرجل . . . ثم قالت ببطء :
ـ يوم . . حصلت . . الحادثة . . لــ روبرتو !
فابتسم , وبدا الرضى على وجهه .
ـ بالتحديد . . . هذا مــا كنت أرتاب فيه . . . وكما قلت قضية
فتحت وهي مقفلة . . . وواضحة جداً .
ـ بل أكثــــر من واضحة . . . وأنا لا أصدقها .
وضم يديه معاً وكأنه يصلي . . . وابتسم دون أن يخفي رضــاه :
ـ وهل لديك تفسير آخـــر ؟
فوقفت :
ـ ليس في الوقت الحاضر . . . ولكنـــني ســأفكــر بتفسير آخــر .
وانفجــر ضاحكــاً .
ـ افعلـــي هذا أرجوك سيدة باستينو .
فحملقت به غاضبة , وقالت بعد تفكيــر :
ـ ألم يتبادر إلى ذهنك لو أن ظهور خبر خطوبتي هو سبب
حادثة اصطدام سيارة روبرتو . . فقد يكون فقدان الذاكرة شيئاً
متعمداً ؟
فاتســعـــت ابتســـامته :
ـ بالطبع . . . ولكن ليس بالضــرورة كمــا تعنين أنت . فهو لا
يدعـــي سيدة باستينو . . لقد فقد الذاكرة حقاً للخمس سنوات
الماضية . لقد جاهد عقله بكل طاقته ليقفل الستارة عن الذكريات
المؤلمة لحماية نفسه . وكما قلت , عندما يستعيد عافيته الجسدية ,
سيسمــح عقله للذاكــرة أن تعود .
ـ وحتى ذلك الوقت ؟
فهــز كتفيه .
ـ يجب أن أصــــر على أن لا تحرريه من هذا الوهم إلى أن
أسمح أنا بذلك . فقد تكون الصدمة مؤذية جداً له .
وحدقـــت بالأرض تعض شفتيها :
ـ لن يموت . . . وأنا واثقة من هذا . لقد كـــان أقوى بكثير اليوم
عمــا شاهدته أول مرة .
ـ ولكن الصدمــة قد تقتل أي إنســـان وهو بصـحــة كــاملة ,
صدقيني ! وعندمـــا يصــاب شخص كــزوجــك سيكــون الخطــر مضاعفاً .
وأغمضــت جيني عينيها . . . وهمست بيــــأس :
ـ أوه . . . يا إلهــــي ! . . . لست أدري كـــم أستطيع أن أتحمــــل
بعــد .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الثالث
-------------------------------------
3 ـ القلب الخائن
-------------------------------------
كان الخريف قد بدأ يولــي ممهداً لقدوم فصل الشتاء الذي
يبطــئ بنعومة متمثلاً بضباب صباحي , وطقس مكفهر بارد ,
وزخات من المطر . بقيت الحرارة مرتفعة أكثر من المعتاد , فترى
النساء والرجال يسيرون في نزهاتهم باللباس الصيفي الخفيف .
بالغرم من كل حكمتها , استمرت جيني بزيارة روبرتو في
المستشفى . . وكانت تمضي معه يوماً نصف ساعة جالسة قرب
سريره . . تمسك بيده . . تراقب النور الساطع في عينيه وهو
يتأملها . كان يمازحها بلطف , كما كان يفعل في الأشهــر الأولى
لزواجها . . مظهراً لها الحنان الدافئ . الذي تتذكره بحزن وأسـى .
تلك الأشهر الأولى كانت أكثر اللحظات سعادة فــي
حياتها . . فروبرتو مُحب مثير , حساس , يعــي تماماً براءتها . يحبها
ويحميها , وإن كان يجرفها معه في لجج رغبته الحارة , العقبة
الوحيدة التي كانت تعكــر صفو تلك السعادة التامة كان والد زوجهـــا
أنطونيو وعدائيته نحوها فهو لم يكن يخفي عن أحد رغبته في أن
يتزوج ابنه من ابنة عمه جيسكا .
بعد عودتهما من رحلة إلى لندن , كمحاولة يائسة لاستعادة
سعادتهما , عادت المشاكل حـــال وصولهما إلى نيويورك . فقد كان
موعد حفلة عيد ميلاد جيسكا ليلة وصولهما . . وكانت جيني حينها
متعبة من السفر , فآوت إلى الفراش باكراً , بينما بقي روبرتو ليحضر
الحفلــة .
لم تستيقظ جيني إلا بعد منتصف الليل على صوت موسيقى
منبعثاً من الأسفل . نهضت من فراشها ومن على فسحة السلم
تطلعت إلى المرآة الضخمة التي تعكس ما في الصالون الطويل ,
فشاهدت جيسكا , مغمضة العينين , تسبح مع الموسيقى بين ذراعي
روبرتو . فعادت إلى فراشها متوترة , والغيرة تنهشها . . . ولم تغط
في النوم إلا حوالي الرابعة صباحاً ولم يكن روبرتو قد عاد بعد إلى
فراشه . . . مع أن المنزل كان خالياً يسوده الصمت .
وكان هذا بالطبع سبباً لخلاف آخــر . وتدخل أنطونيو باستينو
بعنجهيته وكبريائه , مقطباً وجهه قائلاً لها :
ـ إذا كنت تغارين من جيسكا فاسألي نفسك عن السبب ! ألست
تغارين بسبب معرفتك أنها هي امرأة من طبقته , وليس مجرد فتاة
جميلة جاهلة نكـــرة .
عندهــا خلعت جيني خاتم الزواج من يدها لترميه له بينما ظل
روبرتو صامتاً لا يفوه بكلمة . وسارعت إلى منزل أبيها , معتقدة أن
لروبرتو نفس وجهة نظر أبيه , وأنه قد ندم على زواجه منها , لكنها
مع بزوغ أول شعاع لضوء الصباح سارعت إلى منزل باستينو
لمحاولة كسب ود زوجهــا , مهما يكن الثمن .
ما شاهدته يومها لم يكن ليفارق مخيلتها ليلاً ونهاراً ولأشهر
طويلة . . . روبرتو غافٍ في فراشه . . وإلى جانبه جيسكا يعلو
وجهها بسمه انتصــار .
لم تزل هذه الذكرى تحز في نفسها حتى هذه اللحظات . . لم
لم تستطع النسيان , كانت تعرف بالطبع , أن هناك الكثير من النساء
قبلها . . ولكنها آمنت بكــل سذاجــة , أن روبرتو بعد قســمه
بالإخلاص , لن يفعل ما قد يســــيء إليها .
لم تخبر غرانت بالأمر بعد . . بغريزتها أدركت أنه
سيغضب . . . وربما يمنعها من زيارة روبرتو . وهــي تعرف أنها لن
تستطيع أن تمتنع عن ذلــك .
هذا ووضعها النفسي السيء أثر في نتاج عملها , وبدا أنها
فقدت الدافع للعمل . كانت مضطرة لإجبار نفسها على التقاط أقــلام
التلوين , إذ إن يديها بدتا لها متخشبتان مترددتان .
وصــل غرانت بعد ظهر ذلك اليوم وهي تروح وتجــيء متنهدة
أمام رسوم تصميماتها , فوقف قربها مقطباً :
ـ هل هناك شـــــيء مــا ؟
فنظرت إليه متوترة :
ــ ولم تســأل ؟
فضحك مشيراً بإصبعه إلى الصورة :
ـ يا فتاتي العزيزة ! لم أعهدك خرقاء في عملك . . أرى أنك
هنا أعدت الرسم فوق الرسم أكثر من مرة . . . ومـع ذلك فهو لا
يزال سيئاً . . أليس كذلك ؟
ولم يكن هناك جدوى من الإنكار , فهو يعرف عن فن التصميم
الشــيء الكثير أكثر مما يعرفه كبار الرسامين . فقالت له بعد تردد :
ـ أظن أنه قد حان الوقت لأقول لك شيئاً . أجلس يا غرانت .
فنظر إليها متوتراً مقطباً وسألها مازحاً :
ـ وهل ســأحتاج إلى ما يعيدني إلى الصحو إن أغمي علي .
فضحكت جيني وأخبرته القصة بشكــل سريع بكل صراحة ,
وخشونة وشـــاهدت وجهه يتصــلــب ويسود , وبدأت الشعـــلات
الحمراء تغشى عينيه :
ـ يا للجحيم . . . لا بد أنك فقـــدت عـقــلــك . . أنت تزورنه
يومياً منذ أسابيع دون إعلامــي بالأمـر ؟ أتكذبين علي ؟ تغشيني ؟ لا
أستطيع أن أصــدق أنك فعلت هذا يا جيني !
فقالت بـــأسى :
ـ لم أكن أتصور أن الأمر سيستمر طويلاً . لقد أخبروني أول
الأمر بأنه سيموت فلم استطع الرفض ! ثم قال الأخصائي النفسي إن
هو اكتشف أمر طلاقنا قد يصاب بصدمة . . فكيف يمكن أن لا ألبي
طلبهم وألعب الدور المطلوب منــي ؟
ـ أخبريني بالأمــر على الأقل , كنت استطعت التعامل معهم .
هذا إن كنت راغبة في تدخلي , ولكن يبدو أنك لست راغبة . أليس
كذلك جيني ؟ أظن أنك تودين الذهاب لرؤيته , رؤية ذلك الوغد
الإيطالي السافل ! لم تتمكني أبداً من التخلص من ذكراه . . أليس
كذلك ؟ ظننت لفترة أنك نسيته تماماً . . . ولكن لحظة أشـــار لك
عدت زاحفــة إليه كالبلهاء وتركته يستغلك كمـــا كان يفعل من قبل .
ـ ولكنه مريض للغاية !
فضحك بخشونة :
ـ كم هذا مقــنــع !
ـ غرانت . . إنه مريــض ! كــان على شفـــير الــمــوت ! لو أنك
شــاهدته في اليوم الأول . . كم كان شاحباً ومتلاشياً كالأموات .
بالكاد كـــان يصدر حركة أو صوتــاً .
والتوت شفتا غرانت بتكشيرة غضب :
ـ إذاً أصبحت ملمة بكـــل ظروفه وجميع احتياجاته , أليس
كذلك ؟ لقد أجبرك على الحضــور . . ألم يفعل ؟
ـ غرانت , كان علي الذهاب , اللياقة تقتضي ذلك !
وأمسك كتفيها بكلتا يديه وهزها بعنف , فتصلب وجهها وهـــي
تنظر إليه مذهولة وعيناها الخضراوان شاخصتان وصــاح بها :
ـ أنت أردت الذهاب ! اعترفـــي بذلك !
واشتد غضبها , منه . . . وأصبحت شرسة . وفقدت السيطرة
على تفكيرها , فافلت لسانها وصاحت به .
ـ حسن جداً . . هذا ما أردته . . أردت رؤية ثانية . . . لأنــي
أحبه !
وقطعت الكلمات بصمت متوتر , وأغمضت عينيها لفترة
قصيرة . ثم نظرت بحزن إلى غرانت :
ـ آسفة يا غرانت . ليس الأمر بيدي . . . لم أرد ذلك . .
ولكن هذا هو الواقع . . . أنا مجنونة به .
فقال غرانت بوضوح وبرود :
ـ أجل . . . أجل . . أعرف هذا . هذا ما عرفته دوماً . كان
واضحاً منذ البداية . . نظرة واحدة منه أوقعتك في غرامه . . وكنت
غبياً إذ ظننت أنك قد شفيت من حبه .
أخفضت جيني رأسها باستسلام , وقد انتابها الندم المرير . ثم
سـحــبــت خــــاتـم الخطوبة من أصابعها وأعطته إياه :
ـ أنا آسفــــة جداً لهذه النهاية بيننا .
تنفس غرانت بحدة , ناظراً إلى الخاتم وكأنه يراه لأول مرة . . .
ثم تنهد :
ـ اسمعـــي يا عزيزتــي . أنا آســف لعدم سيطرتــي على أعصابــي .
فهل تستمعين إلى بهدوء للحظات ؟
ـ بالطبع . فحـــــبي لروبرتو لن يؤثر مطلقــاً على تعلقــي بك . ولم
يكن يوماً ليؤثر . . لقد تعارفنا منذ زمن طويل . . .
فابتسم وشعرت أنها آلمته بهذا الكلام أكثر مما أرضته :
ـ لا تعيدي إلى الخاتم الآن . أبقيه في الوقت الحاضر . ولا
تخبري أحداً أن علاقتنا قد انتهت .
وبدا عليها الارتباك وعدم الفهــــم :
ـ ولمــاذا ؟
ـ لأجـــل حمايتك . فأنا لا أثق بعائلة باستينو , كمــا لم أثق بهم
من قبل . ولا أصدق ادعاء روبرتو بفــقدان ذاكرته . . . إنه خنزير
ذكــــي .
ـ أوه غرانت ! أنت لم تره حقـــاً !
فابتســـــم بقلق :
ـ أوه . . أنا لا أشك فــي أنه مريض بعد حادث تحطم سيارته . .
ولكن ليس هناك من طريقه لمعرفة هذا الادعــاء بفــقدان ذاكرته كمــا
هــي الحال مع عظم مكســور مثلاً . ربمــا هو يحتال على الجميع .
ـ ولمــاذا يفـــــعل ؟
فهز كتفيه :
ـ لقد نجح . . . ! واستعادك , ألم يفعـــل ؟
فاحمـــر وجههـــا :
ـ لو كان يريدنــــي لحاول سابقاً أنسيت أن زوجته قد ماتت منذ
سنتين . . . ولم يحـــاول التقرب منـــي بعدها مطلقاً . . . فلماذا انتظر
هذا الوقت كلــه ؟
ـ ومن يعرف لماذا بحق الشيطان ؟ إنه خبيث مــاكر . . . رجــل
أعمال له تكتيكات ناجحة . جيني . . أنت تقرأين الصحف وتعرفين
كم عدد النساء اللواتـــي شوهد معهن . . . علاقاته بالنساء قذرة . .
هل هو من نوع الرجل الذي ترغبين فيه ؟ رجل لا يمكنك أن تثقــي
به ؟
وأحست جيني بالغثيان , ووضعت يدها على معدتها ,
وارتجفت شفتاها . . وهي تقول بصوت هامس :
ـ لا . . ليس هذا ما أريده . . لا . . بالطبع لا .
ـ إذن . . لمــــاذا ؟
ونظــرت إليه عاجـــزة .
ـ فـــي هذه اللحظات , لأنه يحتاجني !
فضحــك . . وصاحت غاضبة :
ـ إنه بحاجة لــي وطالما عرفت هذا فأنا لن أخيب أمله . لقـــد
حاولت , وكتمت مشاعري , ولكنني . الآن لم أعد اقدر . أنا ضعيفة
غبية , ربما . لكن لا حيلة لي حيال هذا الأمــر .
ـ حسناً . . ولكن , ولأجــل حمايتك استمري فـــي ارتداء
خاتمي . . وانتظري . . لا تلتزمــي مع هذه العائلة ثانية قبل أن تعرفي
حقيقة الموقف , ولا تعرضي نفسك لأي خداع ثانية .
ـ أنت رجــل رائع يا غرانت , وكنت أتمنى من الله لــــو أنني
أحببتك كمـــا أحببتنــــي .
فضحــك عميقـــاً :
ـ وكذلك أنا يا عزيزتي . فأنت جميلة , يا لأســف أن باستينو
هذا لم يقتل فـــي تلك الحادثة .
ـ غرانت . . . لا تقـــل مثل هذا ولو على سبيل المزاح .
ـ ولكني لا أمزح . لو لم تلتقي به لكنا تزوجنا منذ زمن
بعيد . . . وأنا واثق أنه سيرفسك على أسنانك مرة أخرى يومــاً ما .
وســأكون يومئذ بانتظـــارك .
واستدار ليغادر المنزل دون كلمة وداع . . . فوقفت مكانهــا . .
ترتجــف ضائعة بين رفضها لقوله وتصديقها له .
كانت الرباطات قــد أزيلت عن رأس روبرتو يوم زارته .
ضحكت وهي تنظر إلى خصل شعره الأســـود المبعثرة فوق جبينه .
ـ تبدو كــالطفــل . .
فرد بمرارة .
ـ بل أبدو كــــالأبله .
وأخــذ يتحدث عن مشاريعه , ممسكاً أصابعها في يده , يـــعــبث
بها ملاحظاً كيف تختفي في راحة يده الكبيرة .
ـ فكــــرت أن نذهب إلى ايطاليا .
واستوت فــي جلستها لتتحسس جسدها الذي تجمد من هول
المفاجـــأة .
ـ ايطاليا ؟
ـ نيويورك باردة في الشتاء , ولقد اشتقت إلى أجواء بلادي . .
يمكن إعادة فتح الفيلا وتهويتها في مدة قصيرة . . ويمكن أن نطير
إلى هناك فور مغادرتي المستشفى .
كــان قلبها يضرب كطبول الغاب , شفتاها جافتان من شدة
التوتر . . يجب أن يعــــرف . . . لن تستطيع السفر معه . . هذا أمر لا
يمكن التردد فيه .
وســـألها متعجباً :
ـ لمــاذا تصمتين ؟
ـ كنت أفكــر . السفــــر قد يكون متعباً لك . وسيصيبك بالإرهــــاق .
ـ هــــراء !
ونظــــر إليها بوجه ضاحك وابتسامة ســاخرة تذكرها جيداً ,
جعلتها تمسك أنفاسها وترتعش ثم همـــس :
ـ أعتقد أنك تشعرين بالخجل . . ربما لأن فراقنــــا قد طـــال ؟
فكــــرت بسرعة . . مــاذا يعني ؟ وأكمـــل برقة :
ـ هل نسيت وأنا مريض أنك امرأة متزوجــة , وأنك زوجــــتي ؟
ســأغير هذا الوضع قريباً يا حــــبي . . . وســأكون مسروراً بأن أذكــرك
بأنك ملكـــــي .
ودفعها الذعــر لمحاولــة جذب يدها من يده , ولكنه شد قبضته
على أصابعها , موجهاً نظرة حادة إلى وجههــا المضطرب .
ـ كنت أظن أن هذا التمنع اللذيذ قد ولى زمنه . . . ولكنني
أرى العكــــس .
اقترب منها , رفع راحة يدهــا وقبلها , ثم أحاطها بذراعه ملامســاً
بشرتها الزهرية , وأخذ يقبل باطن كفيها مرات ومرات .
أحست بقلبها يخفق خفقاً متلاحقاً ثم ضمها إليه بقوة فشعرت
أنه سيحطم عظــام صدرها , أبعدته عنها ونظرت إليه . . تكرهه . .
وتحبه فــي آن . وســـارعت إلى إبعاد نظراتها عنه عندما أحست بثقل
نظراته عليهـــا .
ـ ربما سنتمكن من السفر إلى ايطاليا فيما بعد , ولكــن ليس
الآن روبرتو .
سحبت يدهـــا من يده وتابعت :
ـ يجب أن اذهــــب الآن .
وســارعــت إلى الباب وعيـنــاه الغاضبتان تلاحقانها . وصـــاح
بحــدة :
ـ عــــودي إلى هنا جيني !
ولكنها تابعت جريها إلى الخــارج , متظـــاهرة بعدم سمـــاعه , وكـــل
جسدهــا ينتفض .
اتجهت من المستشفى إلى منزل باستينو مباشــرة لمقابلة إيفا .
فاستقبلها الخادم القديم الذي تعرفه جيداً . . ولم يكن في وجهه مــا
يدل على أنه من البشر . سمعته يقول بعد أن أدخلهــا إلى غرفة
الجلوس بصوت خال من أي تعبير :
ـ سيدتي . .. الآنســـــــــة نيوهام هنا !
وتقدمت إيفا لتقبلهــا .
ـ حبيبتي . . كم رائع أن أراك فــي هذا المنزل ثانية !
ولامست خدها بخد جيني التي ســارعت للتأوه .
ـ إيفا . . أتعلمين أن الطبيب سيسمـــح له بمغادرة المستشفى
قريباً ؟
ـ أجـــل . . . ما رأيك لو تتناولــيــن القهوة معـــي ؟ اجلســـي يا
حبيبتي .
ونظرت إليها جيني يائســـة :
ـ أصغــــي إلي إيفا . . روبرتو يريد السفر إلى ايطاليا !
ـ فكــرة رائعة ! أنا واثقة أنه سيتعافى بســرعة أكــبر هناك .
وبدا واضحــاُ أن إيفا لم تفهم معنى قولهـــا .
ـ عندما يصــل إلى المنزل , يجب أن تخبروه يا إيفا .
ـ نخبره مــاذا ؟
وجلست إيفا على الكرســـي بقربها ونظرت إليها ببراءة .
ـ أنت تعرفين ما أعنــي . . ! يجب إخباره بــأمـــر طلاقنا !
حينها أمسكت إيفا بيدها , ولامست خاتم الزواج الذي نسيت
أن تخلعــه عندما غادرت المستشفى :
ـ ولمــاذا ؟
فــأجفلت جيني :
ـ أنت تعرفين جيداً لمــاذا لا أستطيع الذهاب معه ! لأنــي لست
زوجته وعاجــلاً أم آجــلاً سيعي ذلك .
فقالت إيفا بنعومــة :
ـ طبعاً عاجلاً أم آجـــلاً . . . ولكن ليــس الآن يا جيني . . . ليس
بعد .
شهقت جيني . . . وحدقت بإيفا .
ـ ألا ترين أن هذا الوضع مستحيل بالنسبة لــي ؟ لـــم أعــــد قادرة
على الاحتمال . . وأنا أدعــــي كل يوم وأذهب إليه . . وأراه . .
وأكذب عليه !
فردت إيفا بهـــدوء :
ـ ولكنك بذلك تجعلينه سعيداً , يا عزيزتي سيكون الأمـــر أفضل
بكثير لو تركناه يستعيد ذاكرته بنفسه . . ألا تعتقدين هذا ؟ وبما أنه
بدأ يستعيد عافيته تدريجياً فلن يطول الأمر حتى يستعيد ذاكرته .
ـ ولكنـــني لا أستطيع السفر معه إلى ايطاليا ! لا أستطيع , إيفا !
أنا لست زوجته . . نحن لسنا متزوجين ! كيف يمكنــني السفر إلى
إيطاليا والعيش معه تحت سقف واحد ؟
فابتسمت بخبث :
ـ لا بأس يا عزيزتي . . وأي ضرر فــي هذا ؟ أتظنين أنه بكــــامل
عافيته ليطالبك بحــقــه الزوجـــي ؟
فــاحمر وجه جيني وهمست :
ـ ولو فعــــل ؟
ضحكت إيفا :
ـ لا أظن . . أنسيت كم هو مريض ؟ مثل هذه الأفكـــار لن تخطر
بباله يا عزيزتي قبل أسابيع طويلة ,وحتى ذلك الوقت لا بد أن
يكــون قد استعاد ذاكرته , كمـــا إنك بحاجة لإجــازة . . لقد مررت
بفترة عصبية . . وتبدين متعبة يا عزيزتــي !
ـ لا أقـــدر .
ـ وهل سيعترض خطيبك ؟
فوقفت غاضبة , فـــي نفس اللحظة التي دخــــل فيها الخادم . . .
فقالت :
القهوة . . عودي للجلوس يا عزيزتــي .
وبينما هما ترتشفان القهوة , قالت جيني لإيفا :
ـ يبدو أنك نسيت كم كان لدي من الأسباب لأكــرهه ! فزواجنا
كان محكوم عليه بالفشل . . وكـــان فراقنا محتماً .
فتغير وجــه إيفا :
ـ لا أريد مناقشة ما حدث . فــالزواج عــلاقة شخصية بحتة !
فضحكت جيني بسخرية , ونظــــرت إليها واضعة يديها على
خصرهـــا ووقفت قائلة :
ـ ولكن الطلاق ليس أمـــراً شخصياً إطــلاقاً . . أليس كذلك ؟
وأنت تعرفين تمــاماً لماذا تطلقنــــا .
ـ جيني أرجـــوك !
كانت جيني غاضبة بشدة أحســـت معها بعدم قدرتها على
التراجع . . . وأصبح وجهها شاحباً مائلاً للبياض وقالت بمرارة :
ـ لقد حدث ذلك فـــي هذا المنزل . . أتذكرين ؟ لقد دخـــلــــت
غرفــــتي ووجدته على فـــراشــــي مع عشيقته .
وبدت الصدمة على إيفا . . وشحب وجههـــا . .
ـ أنـــا . . أنــا آســفــــة . .
ـ آســـفة ؟
قالتها بسخرية وكــأنها تقصد الإهانة وأكملــــت :
ـ أيمكن أن تتصوري كيف كــان الأمــر بالنسبة لــي ؟
في نبرة صوتها , ألم غاضب , وجهها مشدود متشنج , مع
محــاولاتها الجاهدة للسيطرة على البؤس الذي يشتعل في داخلهــا .
وتمتمت إيفا :
ـ أوه . . يا عزيزتي .
ـ أيمكنك أن تنســــي ما حدث لو كنت أنتِ مكــانــــي ؟
أحست إيفا أن السؤال كــالخنجر المصوب إليها , فــأجابت
بصوت أجـــش :
ـ أنت لم تسمحــي لــ روبرتو أن يشرح لك حقيقة الوضع .
ـ يشرح لــي ؟ يشرح ماذا بحق الله ؟ مــاذا يمكنه أن يشرح إيفا ؟
أيشرح لــي لماذا أخذ جيسكا إلى فراشـــي ؟ لقد رأيتهما معاً . .
أتذكرين ؟ تلك الصورة لم تفارق مخيلـــتي قط منذ ذلك الوقت ,
عشت بعدهــا في جحيم . صدقيــني . ليس هناك عذر يبرر مــا
فعـــله .
وردت إيفا بصــوت مرتجف بائس وهــي تنظــر إليها بحزن :
ـ الأمــــور ليست دائماً كمــا تبدو .
فضحكــت جيني بمــرارة :
ـ ما حصــل كــان بسيطــاً إيفا . . واضــح كــوضوح الشمس .
فبــدا الألم فــي عيني إيفا :
ـ لا تتحدثي هكذا ! أكــره سمــاع ما تقولين .
ـ ولست أحب أن أقولـــه . ولكنــني لن أصغـــي إليك وأنت
تدافعين عن الشيطان . . عن روبرتو . . . لا شـــيء تفعلينه يمكن أن
يزيل أندرو من الصورة , ولا أنت تريدين هذا . . أعــرف أنك تحبين
الصــــبي . . إذ إنه ولد صغير طيب , ولكــن كل مرة أسمع اسمه فيها ,
أتذكــر واقع أن روبرتو أصبح أباه وهـــو في فراشـــي أنا مع أمه تلك
الليلة .
وســارت بخــــطى ثابتة نحو الباب وخرجت . . . تاركـــة إيفا
العجــوز تحدق بهـــا بعينين دامعتين
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الرابع
-------------------------------------
4 ـ تتــبع قلبهــا
-------------------------------------
نظــر دانيال نيوهام نحو ابنته بذهول وقال صراحة :
ـ إنه وقح . . وهذا أكيد . . جيني . . لا يمكن أن تفكــري بالسفر
معه إلى إيطاليا . . مرت سنوات لتتخلصي من آثار الكارثة الأخيرة
التي سببها لك , والأبله وحده يذهب بقدميه ليتلقى المزيد من
العقـــاب .
والتوى فمه وأكمـــل بسخرية :
ـ أو يكــون معقداً منحرفــاً . . أهذا ما أنت عليه جيني ؟ وهل
تتمتعين بالمعاملة التي كنت تتلقينها منه ؟
وشحب وجهها . . واتسعت عيناها ثم هزت رأسهـــا :
ـ بالطبع لا !
ـ لماذا إذن ؟ لمـــاذا تتركين هذا يحدث لك ثانية ؟
وضمت يديها إشــارة عجــز :
ـ لــم أكــن أنوي ترك الأمور تصل إلى هذا الحد . أول مرة
جرتــني إيفا للذهاب . ثم اعتقدت أنه سيموت . . فكيف يمكن أن
أرفـض يا دانــي , وهو على وشــك الموت ؟
فرقع والدها بلسانه , ودفع يده فــي شعره الخفيف المشعث .
ـ حسناً إنه لن يموت الآن . وإذا كان قوياً كفــاية للسفــر إلى
إيطاليا فهوى قوي بمـــا يكفــي ليعرف الحقيقة .
ولم تستطع إنكار هذا , فــأحنت رأسهـــا وتنهدت :
ـ إيفا تريده أن يسترجع ذاكرته بشكـــل طبيعي .
فبدت السخرية على وجهه :
ـ ولا يهم كم يطول الأمور ؟ هل ينوون إبعاد كـــل الصحف عنه ؟
والأمور العملية ؟ لأجل الله جيني , ألا يمكن أن تفهمي ما أقصد ؟
يجب أن يــعرف . . يجب أن يخجل من نفســه . . . ألن يطــرح
الأسئلــــة ؟
فاتسعت عيناها :
ـ الصحف ؟ أنا أقرأهــا له عندما أزوره .
فــابتسم ســاخراً :
ـ صحيح ؟ ألم يعلق أبداً على ما تقرأينه له ؟ ألم تظهر عليه
الدهشــة ؟ لقد تغير الكثير منذ خمس سنوات في العالم !
وجلست على مقعد وراءها وكأن ســاقيها لم تعودا تحملانها :
ـ فهمت مـــا تعنـي . . . وهذا لم يخطــر ببالــــي .
ـ نظرة واحدة لتاريخ صحيفة تجعله يتذكـــر . ألا تظنين أنه
سيســأل عن هوة خمس سنوات فــي ذاكرته ؟
نظــر إليها لحظــات بلطف وأكمــل :
ـ حبيبتي . . ألم تلاحظـــي كم تغيرت أنت خلال الخمس
سنوات . آخــر مرة شاهدك فيها كنت صغيرة . . . وأنت الآن امـرأة . .
تسريحــة شعرك , زينتك , ثيابك . لا بد أن يكــون كــل هذا غريب
عليه . . . ومع ذلك لم يعلق مطلقــاً ؟ أتصدقين هذا ؟
ذكـاء داني الحاد الدقيق كان دائماً يتفوق على ذكائها . إنه دائماً
يضع إصبعه على قلب المشكــلة , لا تمنعه قلة تعقلها التي تحد من
تفكيرها . وبتركيز دقيق فعل هذا الآن , وأحـــس على الفور بالتناقض
الذي كان يجب عليها هي أن تراه , ولكن تورطها العاطفي مع
روبرتو منعها من ذلك . بالطبع والدها على حق , من المستحيل أن
يكون روبرتو قد أمضى الستة أسابيع الماضية دون أن يتساءل, ولو
لمرة , عن هذه الهوة في ذاكــرته .
واتسعت عيناها الخضراوان , وســألت بصوت خفيف :
ـ ولِمَ يفعل هذا ؟
ـ لماذا ؟ أنت لست عمياء لهذه الدرجة جيني . أنت تعرفين
لماذا تماماً . . . إنه يريد استرجاعك .
فــاحمر وجهها , وأحست بأن قلبها نســي أن يدق عدة دقــات :
ـ هل لا يزال يحبني ؟
وحملقت بأبيها منتظرة الرد مقطوعة النفس . . . فتجهم وجه
داني :
ـ حب ؟ إنها ليست الكلمة التي قد يستخدمها . . إنه يريدك . . .
إنه رجل يحب التملك , ويدرك مدى قوته . وأنت هربت من بين
يديه . . . ولقد أدهشني يومها لأنه تركك بسهولة . . . يوم جاء إلى
هنا وراءك كان كالحيوان المجنون , واستلزم الأمر وجود غرانت
معي لإخراجــه . أمر واحد علق في ذهني حتى اليوم , وهو قوله
(( إنها لــي ! )) ولطالما ارتعشت كلما تذكرت كيف قالها . إنني لا أطيق
الرجال أمثاله , رجال ينظرون إلى المرأة كنوع من الممتلكات .
كلماته أعادت تدفق الذكريات المؤلمة المريرة التي مرت بها .
وتركها هذا غير قادرة على الكلام للحظات طويلة , تحدق في
الأرض . وعندما استعادت القدرة على النطق , قالت :
ـ مـــاذا ســأفعل ؟
والدها رباها بعد موت أمها . . . وكان مقربان من بعضهما
جداً . ورثت عنه موهبته , ذكــاءه , حبه للجمال . علمها كيف ترى
الجمال في أشياء لا علاقة لها بالجمال . فتح عينيها على الحياة
بكل ما فيها من تسامح . علمها أسس فلسفة هادئة لتبني عليها
نظرتها إلى الحياة . لم تشك لفترة طويلة , أن علاقته بالجميلات
من العارضات اللواتــي مررن في حياته , لها أكثر من الطابع
العملي . . وعندما كبرت لتفهم أنه يحب النساء , كانت قد توصلت
إلى مرحلة تقبلت فيها هذا الواقع دون أن تنزعج . . كمـــا تقبلت
تماماً لورين التي عاد بها معه من باريس , الصغيرة الحجم ,
الصريحة , الأمريكية الأصل , ذات الشعر الأحمر البني , والابتسامة
الواسعة . على الأقل تجيد الطبخ . . . ومع أنها على الأقل تبلغ
نصف عمره , فلديها إخـلاص وصدق جعلها محبوبة . . . وأجابها
داني بقطــع حبل أفكــارها :
ـ ماذا تفعلين ؟ افعلي ما يحلو لك . . ولكني أحذرك . . . إنه
يخدعك . وأنت تعرفين هذا . . . وإذا استمريت في مقابلته
فستتعرضين للألم مرة أخـــرى .
هذا أمــر ممكن . . . إنه يأمل بأن يتمكن من محو الماضــي . .
ومن الممكن أيضاً أنه يعتقد بقدرته على جعلها تقابله حتى يتسنى
لها نسيان ما حــصل . . . وبألم , أحست أن الأمر حقيقــي . . .
وشعرت بغضب يقطع أنفاسها . إذا كان كل هذا ادعاء منه , فهو
شرير خبيث , كذاب قذر .
أقنعت نفسها مئات المرات بأنها لن تذهب لزيارته ذلك
اليوم . . . ولكنها فـــي النهاية ذهبت , توبخ نفسها على ضعفها ,
وتتجادل مع نفسها في كل خطوة من الطريق . حتى وهي واقفة
خارج غرفته , ترددت . . . لقد تجاوزت ساعات زيارته المعتادة
بكثير , ولا تزال أمامها فرصة للرجوع , وهي تقف هناك . . سمعت
صوتاً غريباً في الداخل . . . آهة مخنوقة . إنه يتألم . . وفتحت
الباب على الفور , وعيناها تطيران إليه وشاهدت رأسه مدفوناً في
الوسادة . ولم يتحرك , تاركــاً وجهه مختبئاً عنهــا . فركضت نحوه ,
ولامست كتفه , وهمست :
ـ روبرتو . . . مــا بك ؟
بقــي جامداً للحظات . ثم , ودون أن يرفع رأسه تمتم :
ـ لا شـــيء . . رأســــــي . . .
فجلست قربه , تداعب خصلات شعره البادية من تحت
الرباط , وتدلك له مؤخرة عنقه :
ـ هل يؤلمك ؟ أأستدعــي لك الممرضة ؟
فتنهد :
ـ إنه أفضل الآن . . . استمــري فــي التدليك .
وأحست بعضــلات عنقه تسترخــي . وتنفس بعمق :
ـ آه . . . هذا رائع . . . لك يدان شافيتان يا جيني !
ارتفع الدم إلى وجهها وقد أدركت ما تفعل , وما تشعر . . . كل
نواياها السابقة تلاشت . . كيف يمكن أن تواجهه بعد هذا ؟
استدار ليتمدد على ظهره , ورفع عيناه إلى وجههـــا .
ـ لقد تأخــرت . . . ظننتك لن تأتــي .
ـ كنت أعمــــل .
ـ ترسمـــين ؟
كان وجهه هادئاً , لا قلق فيه , ولو أنه يمثل فهو ممثل
ممتاز . . ماذا لو كان داني و غرانت مخطئان ؟ ماذا لو أنه لا
يخدعها ؟ وهل تستطيع , أو هل تجرؤ , على إجباره ذاكرته على
العودة , لتصدمه وتسبب له نوعاً من الانهيار ؟ أتستطيع أن تعيش مع
ضميرها المعذب لو أضرت به ؟
ونظر إلى أصــابعه التي تمسك بالملاءة البيضاء , والهدوء بادٍ
على وجهه :
ـ هل ترين كراولي كثيراً ؟
فتنفست بحدة , ونظر إليها متسائلاً , فأجابته :
ـ أراه بين حين وآخـــر .
أدار وجهه عنها دون أن يرد . وجهه تعب , شاحب أشفق
قلبها عليه . . . وقالت :
ـ أنت تعب . . الأفضـــل أن أذهب لا تركك تستريح .
مد يده ليمسك بيدها وقال بلهجة لم يكن فيها رجــاء , بل أمر :
ـ ابقي . . . لقد قامت أمـــي بكل الترتيبات لسفرنا إلى ايطاليا .
فــأجفلت وشعر بها , وشد بأصابعه على يدها . . فقالت :
ـ روبرتو . . .
فتحت فمها لتقول إنها لن تذهب معه , لن تستطيع , لن
تستطيع الاستمرار بكل هذا الإدعاء . . . ولكنه قاطعها :
ـ ستكون الممرضة معنا , ولا حاجة لك للقلق علي . أظنهم
سيخدرونــي . . ولا يبدو أنهم مقتنعون بسفري . . ولكنني سئمت من
البقاء في هذه الغرفة , و أريد الإبتعاد عن جو المستشفى , أن أرتاح
في محيط أحبه , لقد سئمت من حياة المستشفى جيني . ستة أسابيع
وقت طويل ويكفــي . وأنا واثق من شفائــي بسرعة أكبر في ايطاليا .
ـ هل هي ممرضة ممن كن يعتنين بك هنا ؟
فضحك وأكمـــل كلامه والابتسامة على شفتيه :
ـ لا . . لقد حصلوا عليها من وكالة خارجية للتمريض ,
وجــاءت هذا الصباح لتتباحث مع الأطباء . . . انتظـــري حتى
تشاهديها . لم أكن أدري أن هناك ممرضات جميلات هكذا .
ـ وكيف تبدو ؟
لا فائدة من كتمان الأمــر . . . إنها تغار , لقد أحست بالعوارض
المألوفة للغيرة في معدتها . فقال ضاحكاً :
ـ إنها حمراء الشعر , ولها جسد كممثلات السينما . يجب أن
انتبه إلى ضغط الدم وهــي معــي .
لمعت عيناها بالغضب , ونظر متسلياً إلى وجهها الغاضب . .
ولكن ما حدث غير مزاجها . . فهو لو كان يذكر الماضي لما
حــاول المزاح وإثارة غيرتها هكذا . ولن تصدق أنه يستطيع فعل هذا
الآن لو أنه يتذكر ما حدث , لو أنه يتذكــر جيسكا , والطـــلاق .
قبل أن تتركــه بعشر دقائق . لم يكن قد عاد لذكر الرحلة ,
ولكنها كانت تعرف أن إرادتها تضعف , وســارت لمدة ساعة في
الجو البارد المثلج . أفكارها المشوشة منعتها من التفكير بتعقل .
يوم فاجأته في الفراش مع جيسكا . . فكرت بالانتقــام , على نفس
طريقة خيانته . فكانت تستطيع أن تستسلم لــ غرانت لولا أن والدها
أســرع بإرسالها إلى لندن .
ليلة سماعها بزواج روبرتو من جيسكا , ذهبت إلى حفلة
راقصة , وعادت إلى شقتها مع شاب , كادت تستسلم له لولا أنها
فــي اللحظة الأخيرة لم تستطع .
عندما التجأت أخيراً إلى غرانت , لم تكن تتوقع أن يكون لها
معه ذلك الشغف الذي عرفته من قبل . لم تكن قادرة فــي الواقع أن
تقدم له الكثير حتى ولو حاولت . صحبتها له عميقة , ولكنها فاترة
فيما لو قورنت بمشاعرها العنيفة تجاه روبرتو .
أخيراً , توصلت إلى قرار قاطع حول ذهابها معه وقدرتها على
تحمل بضعة أسابيع معه فــي ايطاليا لوحدهما .
ذهبت إلى منزل والدته , وجلست إيفا تمسك بيدها بحنان
تصغي بهدوء إليها وهي تحاول سرح مشاعرها المعقدة . وقالت إيفا
بهــدوء :
ـ تجعلين الأمــر يبدو معقداً جداً يا عزيزتــي . . . هناك سؤال
واحد عليك الإجابة عليه . . هل تريدين حــقــاً الذهاب معه ؟
فــتأوهت جيني :
ـ تعلمين جيداً أننــي أريد . . . إيفا . . . منذ سنتين عندما
اتصلت بي بعد موت جيسكا . . . لترتيب لقاء معه , هل كان يعرف
أنك تتصلين بــي ؟
ترددت إيفا بشكـــل ظاهر , واستطاعت جيني أن تلاحظ في
عينيها رغبتها بالكذب . . . ثم تنهدت تهز رأسها :
ـ لا . . . لم يكن يعرف . كان يرغب فــي رؤيتك , وعرفت
هذا . . كنت في أفكاره على الدوام , وكان هناك مئات من الأمور
الصغيرة تدل على ذلك . ولكنه كان يخاف . يخاف أن ترفضيه
بطريقة تعمق جرحه أكثر .
ـ جرحه ؟ أي جرح ؟ توحين لــي أحياناً بأنه كان بحاجة لمن
يشـفق عليه مني . مـــــا حدث كـــان فعـلـتــه وليــست فعلـــتي . . .
مجروح . . ؟ كنت يومها أود أن أراه يحترق بنار جهنم . . أكرهه يا
إيفا .
نظرت إليها إيفا بهدوء تهز رأسها وكأنها لا تصدق كلمة مما
تسمع . . . وأحست جيني أنها سئمت من كل شـيء . . . من نفسها ,
من روبرتو , من كل شــيء , وأكــملت :
ـ لقد بدا منذ شهــر أن كــل شــيء قد انتهى . . . لقد كرهته ,
لدرجة أنني كنت مستعدة لأمر من فوقه وهو جريح ينزف حتى
الموت دون أن أنظر إليه . . ولكن هذا الأسبوع الأخير نسف كل
شــيء , وأحياناً أشك في أنه يفعل هذا متعمداً , وبدأت أشك في أنه
فقد ذاكرته . . أظنه يلعب لعبة خبيثة معي .
ـ إذا كان يفعل هذا , هل سـتفهمين دوافعـه ؟
وأجفلت جيني . . . هل تعترف إيفا بالأمــر ؟
ـ وهل يفعــل ؟
ـ الأطباء يقولون لا . إنهم واثقون من أنه أغلق ذاكرته على
الماضي . . ولكن دعي هذا جانباً . . لو أنه يتظاهر فهل ستفهمين
حاجته للتستر قبل إعادة التقرب إليك , لأجل كبريائه ؟ روبرتو من
آل باستينو , وكبرياؤه لا يوصف . . . كان دوماً هكذا . وستكون
إهانة لرجولته لو اعترف بضعفه , وخاصة أمام امرأة . ألا يمكنك
الغفران له لأجـــل هذا ؟
ـ ولكنه داس على كرامــــتي . . فلماذا أسامحه لحماية كرامته ؟
ـ كرامة المرأة في أن تضحي . . . وكلانا يعرف هذا . . نحن لا
نعير كرامتنا الكثير من الاهتمام . . الرجــال هم من يقدسونها ,
يحاربون لأجلهــا , ومستعدون للموت في سبيلها . . . أما المرأة
فلديها التفكير العملي أكثر كــي لا تضحي بشعرة من أجل الكرامة .
ـ أنت تتحدثين عن الإيطاليين . . أما الرجال في أميركــا فلا
يتحدثون عن الموت لأجل الكرامة صدقيــني ؟
ـ الأميركيون ؟ ولكن نحن نتحدث عن روبرتو , زوجك ,
ابني . . .
ـ لم يعد زوجــــي !
ـ ولا حتى في قلبك ؟
ردت عليها جيني بنفس لهجتها الدرامية :
ـ عندما شاهدته مع جيسكا تحطم قلبي ! لفترة طويلة بقيت
أشعر بالفراغ وكأنني ميتة . وعندما شفيت أصبحت لدي الحكمة
الكافية كــي لا أفرط بقلبي ثانية . . . لا يا إيفا . . . روبرتو لم يعد
زوجي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى .
ـ لماذا إذن الرغبة فــي السفر معه ؟
بدا الانتصـــار على إيفا وهي تسأل , وأحست جيني باحمرار
وجهها من الغضب فوقفت على قدميها وقالت بخشونة :
ـ لأنني حمقــاء . . . وهذا ما أنا عليه . . . وإلا لمــا فكرت
بالأمــر .
فابتسمت إيفا :
ـ ولكنك ستذهبين . . . أليس كذلك جيني ؟
ولم تستطع الرد , بل وافقت وقبضتاها مطبقتان وعلى وجهها
تتصارع مختلف المشاعر . . . وبعد لحظات طويلة أجابت :
ـ إذا ذهبت , فلت أريد تلك الممرضة الحمراء الشعر يا إيفا .
فاتسعت عينا إيفا :
ـ مــاذا ؟
ـ الممرضة التي استخدمتموها , يقول روبرتو عنها إنها صاعقة
الجمــال .
كانت وبكل طفولية قد أعمت الغيرة أبصارها . . . ونظرت إلى
إيفا وشفتها السفلى بارزة إلى الأمام كالأطفــال :
ـ استبدليها . . استخدمــي ممرضة مسنة . لن أتحمل أن يزعجــني
بمزاحة عنها ونحن هناك !
فضحكت إيفا مسرورة :
ـ وهل فعل هــذا ؟
ـ أوه . . ومتعمداً, مع أنه أظهر الأمــر وكأنه مزاح , ولكنــني لن
أتحمله .
فلمعت عينا إيفا :
ـ سأستخدم ممرضة تشبه التنين . . . أعدك .
ـ قبيحة مثل الخطيئة . هكــذا أفضل , ولأرى حينها كيف
سيتغزل بها !
ـ ســأختار أكبر وأقبح ممرضة لديهم .
وضحكت عالياً , ثم رافقت جيني إلى الباب , وقالت :
ـ وتدعين أنك لا تهتمين به ؟
ـ أتمنى هذا . ولكن هذا لا يعني أنني سامحته . . . لن أســامحه
أبداً .
بعد مرور أربعة أيام على هذا اللقاء , كانت جيني فــي طائرة
خاصة تملكها إمبراطورية باستينو , مع روبرتو وامــرأة في الخمسين
تعنى بالمريض .
ونظــر روبرتو إلى جيني :
ـ أعتقد أنه علي أن أشكرك على هذا الغول . . . أم إن هذا
عمــل أمــي ؟
رفعت جيني ذقنها متحدية :
ـ لست أدري عما تتكلم .
فابتسم لها ساخــراً :
ـ صحيح ؟
واضطربت الطائرة بحدة , فشهقت وسارع إلى تغطية يدها
بيده .
ـ لا تقلقــي . . . الطائرة تستدير لتدخل في المسار العالمي
للطيران .
بعد لحظات , انخفض جفناه , فقد بدأت الحبوب المنومة التي
أعطيت له قبل الإقلاع تعطي مفعولها وببطء استغرق في النوم .
حطت بهم الطائرة في مطار لشبونة للتزود بالوقود قبل متابعة
الطريق رأساً إلى نابولي . . . ومن ثم أقلعت إلى جزيرة صغيرة
مقابل خليج نابولي يملكها كبار الأغنياء في إيطاليا . شواطئ
الجزيرة الصخرية بدت واضحة المعالم والطائرة الخاصة الصغيرة
تدور حولها , ثم ظـهرت أمامهــم أنوار المــدرج الذي ستنزل فيه
الطائرة .
الفيلا , كانت تبعد بضعة أميال عن المطار , وجلس روبرتو
يحدق من النافذة متذكراً مرتع طفولته .
قاد جوزيبي السيارة بهم وهو يتحدث إلى روبرتو عن آخــر
أخبار الجزيرة وعائلاتها العريقة , ولكن جيني أحست بالنعاس ,
ولم تستيقظ إلا بعد توقف السيارة , لتجد نفسها ملتصقة بروبرتو ,
وذراعه عل كتفيها , وحرارة صدره تحت خدها . ساعد جوزيبي
روبرتو الذي أصر على السير نحو المدخل . . . وسار ببطء , يرتاح
بعد كل خطوة , ولكنـه أخيراً نجـــح في الوصـــول , ترافقه ابتسامة
جوزيبي واستحسانه . ولاقتهما زوجته ماريا , تعلو وجهها ابتسامة
السعادة وهي تبكي بكلمات الفرح , وتحتضن روبرتو , الذي عرفاه
منذ طفولته , وأخذت تقبل وجنتيه مراراً .
ماريا كانت لا تزال ترتدي السواد حزناً على أبنها الأكبر الذي
مات غرقاً في قارب صيده , ولا زالت حتى الآن تشعل له الشموع
في كنيسة الجزيرة الصغيرة . ابنها الآخر , الاندو , لديه بستان زيتون
في الجبال الداخلية للجزيرة . ويعيش مع زوجته وأولاده الأربعة في
منزل ابيض اللون داخل بستانه , ويزور أبويه يوم الأحد من كل
أسبوع , وســأل روبرتو عنه وتبسم لسماعه لهجة المرأة الفخورة
بابنها بالرغم من اختلافها الدائم معه .
وقفت جيني منتظرة أن تلاحظ ماريا وجودها , وتتساءل عن
ردة فعل المرأة المسنة عندما تراها . وأخيراً استدارت العينان
السوداوان إليها . . ولكن لم تظهر الدهشة على ماريا لرؤيتها بل
مدت ذراعيها بحرارة , فاندفعت جيني إليهما , وأخذتا تتبادلان
القبل .
بدا روبرتو شاحباً , فتدخلت الممرضة طالبة إليه أن يتوجه إلى
سريره . . . وقادتهم ماريا إلى الطابق العلوي . . . هذه الفيلا بناها
جد روبرتو منذ أربعين سنة , ومنذ ذلك الحين لم تلق إلا القليل
من التجديد . . . في طرازها القديم وغرفها الواسعة المرتفعة
السقوف , ونوافذها العالية والشرفات الواسعة المطلة على جزء كبير
من أرض الجزيرة .
أخيراً تُرك روبرتو لرعاية ممرضته , وانسحبت ماريا على
مضض تظهر بوضوح عدم رضاها على ترك مريضها المحبوب بين
يدي امرأة غريبة . لم تنجُ جيني من عدائية ماريا للغرباء بل قد
شملتها هي أيضاً فيما مضى . ولكنها كانت قد بدأت تلين قبل
الطلاق بقليل , وهي تبدو الآن متلهفة لجعل جيني تحس أنها في
بيتها . وأخيراً تركتها لوحدها في غرفتها , لتفاجأ بأن إيفا قد أعطت
تعليماتها الصارمة لجوزيبي وماريا بخصوصها . وترحيبهما المتوقع
لوجودها أبرز ذلك بوضوح .
تعبها الشديد الليلة منعها من إعطاء هذا الأمر أهمية كبرى .
فغطت في نوم سريع لحظة أغمضت عينيها , واستمرت هكذا طوال
ذلك الليل الدافـــئ الطويل .
عندما استيقظت , كان نور الصباح قوياً , واستلقت تصغــــي إلى
هدير أمواج البحر البعيد وهي تتكســر على أقدام الصخور . تتأمـــل
شمس الشتاء وشعاعها الذي يتراقص على جدران غرفتها . . إنها
تشعر براحة غريبة في هذا المكان المنعزل الهــادئ .
بدت لها كل الانفعالات والتوترات التي مرت بها فــي الأســابيع
الماضية وكــأنها ذكرى بعيدة . . . وأحست بقلبهــا يخفق بوعي
مفاجـــئ . . إنها الآن مع روبرتو لوحدهما تحت سقف واحد . . .
بعد خمس سنوات من الفراق .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الخامس
-------------------------------------
5 ـ جزيرة المفـــاجــآت
-------------------------------------
لمدة يومين بعد وصولهما , أصرت الممرضة على ملازمة
روبرتو للفراش , فالرحلة كانت مرهقة له أكثر مما يبدو , وبالرغم
من إقراره بتعبه , فقد أصرت بعناد , وكان إصرارها محقاً إذ أن
جيني كلما ذهبت لزيارته تجده بين النوم واليقظة , فينظر إليها
مترنحاً من النعاس ويقول :
ـ يبدو أن السفر قد أنهك قواي . . . آسف يا جيني .
فتقف قرب سريره تمرر أصابعها على وجهه :
ـ لا بأس روبرتو . . . سوف تستعيد قوتك عما قريب .
بينما هو مستلق ومتعب , كانت تتجول في حدائق الفيلا وكأنها
تستعيد ذكرى ما مضى . . . كلما أطلت على منظر جديد كان
يذكرها بحدة بلحظات من الماضي , وكانت تتخيل نفسها كما كانت
منذ ستة سنوات . ومن نظراتها الناضجة الآن , استطاعت أن تدرك
كم كانت صغيرة , دون خبرة , دون أي معرفة بأخلاق الرجل الذي
تعيش معه , غير واثقة لا منه ولا من نفسها , شديدة الحساسية
ورقيقة . لذلك كانت هدفاً سهلاً لـ جيسكا , ولا عجب أن تلك الفتاة
الايطالية ضحكت عليها !
صباح اليوم الثالث , أصبح روبرتو بصحة جيدة سمحت له
بالوقوف مستنداً إلى الممرضة , وهو يصر بأنه قادر على الوقوف .
وكم كانت تتمنى أن تبقيه في فراشه لبضعة أيام أخرى لو
استطاعت , ولكن طباعه المستبدة تغلبت على عنادها خاصة بعد
استعادته لنشاطه . صاح بها وعيناه السوداوان شرستان :
ـ سوف أقف !
كانت جيني في غرفتها عندما سمعته يصرخ , واستدارت
لتنصت وشبح ابتسامة يتراقص على شفتيها . إنه روبرتو الذي
تذكره . لم تسمع هذه اللهجة في صوته منذ الحادثة .
خرجت لتدق باب غرفته , وتقدمت الممرضة لتفتح لها ,
والانزعاج بادٍ عليها , وهمست بغضب :
ـ إنه يتلاعب سيدة باستينو .
وكأنمــا روبرتو ولد صغير عنيد يلعب حيث لا يسمح له باللعب
وبحاجة إلى ضرب على قفاه . . آه كم تتمنى لو تفعل . لو أنها
تجــــرؤ .
وحدق روبرتو بهما وصـــاح :
ـ لِمَ كل هذا الهمس ؟ جيني تعــالي إلى هنا ! لن أسمح بالتــآمر
علي من خلف ظهــري !
فابتسمت جيني للممرضة , وكأنها تعتذر . . ثم تقدمت نحوه
وعيناه مثبتتان عليها . . . وأحست بالغضب للاهتمام الذي يظهر في
نظراته . . وأحست أكثر فأكثر برغبة في ضربه . وتجولت عيناه في
بلوزتها وسروالها الأســـود .
ـ لِمَ ترتدين هذه الملابــس ؟ أكره النساء اللواتــي يرتدين
الســــروال . . . اخلعيهـــــا .
فنظرت إليه ببـــرود وقد رفعت حاجباً واحداً :
ـ أعصابنا متوترة هذا الصباح . . . أليس كذلك أيتها الممرضـــة ؟
فردت الممرضــة بارتياح :
ـ نحن هكــذا دائماً كلما أحسسنا ببعض التحسن .
ونظــر إليهما روبرتو بغضب :
ـ لا تتحدثا عني هكذا ! وكــأني طفل . . . لأجل الله . . . ! لن
أحتمل هــذا !
فردت عليه جيني بعذوبة :
ـ إذن عليك الاستلقــاء والراحة . أنت لا زلت ضعيفــاً على
الوقوف .
فقال من بين أسنانــه :
ـ جيني . . . ســـأقف !
فهزت رأسها مبتسمة , وهي تعلم أن لا شـــيء يثير جنونه أكثــر
مما تفعــل :
ـ لا يا حبيبي . . . يجب أن تفعل ما تقولـــه الممرضــة .
وصــر على أسنانـه بصوت مسموع , وبرزت عظام فكيه . . وبدا
الحبور على الممرضة التي روعها من قبل بعصبيته , وقالت له :
ـ زوجتك محقة . . . سيد باستينو .
وأردفت جيني بصــوت ناعم خافت :
ـ الممرضة تعرف ما هو أفضــــل لك .
وبدا عليه السكــون , يداه ممدودتان إلى جانبيه وقبضتاه
مشدودتان . ثم تمتم :
ـ يا إله السمـــاوات !
واستدار ليستلقي على جانبه كــي لا يراهما . . كل حــركه فــي
جسده تنم عن الغضب . فغمزت الممرضــة لـ جيني وخرجت . ووقفت
جيني تنظر إلى الرأس الأسود . تراقب التوتر البارز على عضلات
عنقه من خلال تجاعيد شعـــــره :
ـ هل ستبقى مقطبــاً طوال اليوم ؟
فاستدار بحدة :
ـ ومن المقطــب ؟
فـسـخــرت منه وعيناها تضحكان :
ـ أوه . . . روبرتو . . . !
ـ لقد سئمت البقاء مقيداً في السرير . . . وفكرت بقضاء بضع
ساعات معاً .
شـــيء ما في طريقة كلامه جعلها تجفل , وتتراجع خطوة إلى
الوراء , وتندفع نبضاتها متسارعة . وبطريقة ما استطاعت أن تقول
ببرود :
ـ لا زلت مريــضــاً روبرتو . . . أعلم أن الأمــر صعب عليك ,
ولكن يجب أن تواجه الواقع . الرحلة كانت مرهقة لك . فــأعطِ
نفســك فرصة للراحــة .
ـ ابقــي معــــي إذن .
في لهجته دعــــوة أكثــر مما تعني الكــلمــات , فــأحسـت بالــحرارة
تشتــعــل داخــــل جسدهـــــا , فــأشــاحت بنظــرهــــا عنه .
ـ لــو بقيت معـك فلن تــرتاح . . ستستــمر في الكلام . . . يجب
أن تتعلم كــيف ترتاح . . . يجب أن تمــضــي ســاعات يومياً دون أن
تفعل شيئاً على الإطلاق .
فتمتم :
ـ هــذا يبدو مضجــراً للغاية .
فــاستدارت عنه متجهة إلى الباب :
ـ مهما يكن , هــذا ما يجب أن تفعله .
جلس روبرتو فوراً في فراشه , عيناه تلمعان , ورأسه مرتفع
بكبرياء :
ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟
ـ ســأتمشى قليلاً . . أراك لاحقــاً .
ـ عــودي إلى هنــا !
ولكنها تجاهلته وتابعت طريقها , حيث التقت بالممرضــة التي
ابتسمت لها شاكرة فقالت لها جيني :
ـ راقبيه جيداً , فهو سيحاول الخلاص .
ـ لا تقلقي سيدة باستينو . . ســأفعل .
أحست جيني بلذة الانتصار , وخرجت من الفيلا عبر الحديقة
المتدرجة باتجاه البحر . وهبت ريح لاذعة لعبت بشعرها , وأعادت
اللون الزهري إلى خديها . . لقد أحست بسعادة ولذة أكبر في
إجباره على الطاعة , وأحست أنها قادرة على التعامل معه . . . إنه
رجل اعتاد على إصــدار الأوامر , أفسدته سنوات من الثراء
والسلطة , ومع أنه دللها فــي أول أشهر زواجهما , إلا أنها كانت
دائماً تشعر بأنها العبدة وهو السيد . لا يسمح لها أبداً بأن تنسى أنه
المتفوق عليها بكل ما فــي الكلمة من معنى . يعاملها بترفع حتى
وهو يحبها وكأنما هي قطة خائفة تائهة التقطها من الشارع وجاء بها
إلى بيته .
تعمدت جيني البقاء بعيدة عنه لما تبقى من اليوم , مع أنه
أرسل عدة رسائل مع ماريا تفيد بأنه يرغب في رؤيتها , إلا أنها
كانت تشكر المرأة , وتستدير مبتعدة تحت أنظارها الفضولية المليئة
بالدهشة والاستغراب .
آوت إلى الفراش باكراً بعد تأكيد الممرضة لها أنها أعطت
روبرتو دواءً منوماً , وأنه نام بسرعة . نزهتها الطويلة على الشاطئ
أتعبتها وغطت في النوم على الفور تقريباً .
في الصباح التالي كان روبرتو يقرأ جريدة إيطالية عندما وصـــلــت
إلى غرفته . ونظــر إليها ببرود كما نظرت إليه . وعلمت على الفور
أن تصرفاته تغيرت . وقال لها بصوت ملــيء بالشر :
ـ تعالي إلى هنا .
فردت متظاهرة بأنه لم تسمعه :
ـ ســأتمشى قليلاً على الساحل الصخـــري اليوم .
وقال لها وعيناه تضيقان بتهديد :
ـ تعالي إلى هنا , وإلا ســأنهض لآتــي بك .
فاستدارت تتظــاهر بالدهشة :
ـ مــا الأمــر َ؟ أتحس بالتوتر ثانية ؟ الممرضــة تقول أن هذه
علامات التعافــي . . . وســرعان ما ستشعر بالراحــة .
وكشــر عن أسنانه بوحشية وتمتم :
ـ يا إلهــي ! أنت ترغبين بالمشاكــل . . تعالي إلى هنا .
وتقدمت إلى السرير تحدق به . . هل تتخيل , أم إنها تشاهد
أمامها روبرتو القديم , تلك الشخصية القاسية , المتسلطة , القوية ,
التي لم تظهر منذ مرضــه ؟ وقالت بصوت خافت :
ـ لا تكلمني هــكــذا روبرتو .
ومد يده ليمسك بيدهـــا ويجرهـــــا لتجلس على الـــسرير , بحيث لا
يمكن لها أن تتخلص إلا إذا قاومت بعنف وآذته . فــصـــاحــت تتلوى
لتتجنب فمه الذي اقترب منها ليمر فوق خدهــا باحثاً . . .
ـ اتركـــــني !
ولكنه لم يرد , وتابع محــاولاته للسيطرة عليها وأحست بغضــــبه
لمقاومتها , وسمعت أنفــاسه المتحشــرجة , وحركات يديه عليها .
وأدارها إليه بالرغم من مقاومتها وعندما نظرت في عينيه عرفت . .
ســألته والذهــول في صوتها ونظراتها :
ـ أنت . . . تتذكــــر ؟
فابتسم ابتســامة متجهمة , ولم يرد . تصــاعد غضبها ليماثل
غضبه . غضب مرير محرق ســرى في شرايينها وكأنه النار في
الهشيم , وبرز في عينيها الخضراوين .
وأطبق فمه عليها قبل أن تستطيع الانسحاب , دون عاطفة ,
ودن اهتمام . إنه يظهر لها غضبه ويطلب منها الخضوع . ووضعت
يديها على صدره , محاولة صده رافضة أن تلين أمام قوته , وأخيراً
سمح لها بأن تبتعد . . . أخذت أنفاسها تتسارع وهــي ترتجف
ونظرت إلى عينيه الساخرتين .
ـ متى استعدت ذاكرتك ؟
ـ بعد ثانـــي زيارة لك إلى المستشفـــى .
وجمدت , تحدق به غير مصدقة , وجهها شديد الشحوب من
جراء الصدمة التي تلقتها ثم همست بخــشـونة :
ـ أيها الخنزير الكــاذب .
وقاومته لتترك السرير :
ـ اتركني ! لن أبقــى هنا بعد الآن . إني راحلة .
ـ سباحة كمــا أعتقد ؟
وســخــرت منها عيناه . . أوه يا إلهــي . . . بالتأكيد , كيف
سترحل ؟ وصاحت به :
ـ ســـأجد مركب صيد يوصني إلى نابولـي .
فرفع حاجباً واحداً :
ـ أتعتقدين هذا حقــاً ؟
ليس هناك رجل في كل الجزيرة يجرؤ على المخاطر بتلقي
غضب روبرتو باستينو . . . وكلاهما يعرف هذا . وتصاعد غضبها
بعد أن عرفت المأزق الذي رمت نفسها فيه . . . لقد ســارت بقدميها
إلى هذا الكمين وعيناها مفتوحتان .
ونظرت إليه بمرارة .
ـ ولِمَ كــذبت علي طوال هذه الأســـابيع ؟
ـ هل تعنين أنه لم يخطــر ببالك أنني استعدت ذاكرتي ؟
ـ لقد فكرت بهذا طبعاً .
ـ إذن ؟
ـ لم أكن أعتقد أنك ستكون خنزيراً قذراً هكذا . كـــان علي أن
أعرف , فهذا يتوافق مع أمثالك , ولكنني لا زلت أجد صعوبة في
التصديق أن هناك من بإمكانهم التصرف هكذا دون تردد أو خجل .
وأصابت الهدف . . . ضاقت عينا روبرتو و وأصبحتا كالبـركان
الثائر , واشتد فكاه , ولكنه استمر في الابتسام , وكأن كلامها مثل
الماء على ظهر بطة . وعندما عادت لمحاولة الخلاص منه شدها
إليه أكثر وقال بنعومة فائقة :
ـ لا . . لن تفعلـــي .
فقالت بقســوة وهي تنظــر إلى وجهه باحتقار .
ـ لا أطيق أن تلمســـني .
ارتجفت شفتاه , ولكنه استمر في الابتسام , وزاد ضغط يديه على
ظهرها , وأحست برغبة الأذية تغطيها تلك الابتسامة , وقالت , وهي
تتمنى لو أنهـــا تثق بمــا تقول :
ـ لن تستطيع استبقائي هنا رغمــاً عني .
ـ ألن أستطيع .
ـ ســأجد سبيلاً للهرب من الجزيرة !
فضحك عالياً :
ـ كما قلت لك . . بإمكانك السباحة , وأرجو أن تكون
سباحتك قد تحسنت . آخر مرة رأيتك في البحر كنت تعومين
كالـكـلب , ولم تستطيعي اجتياز مسافة قصيرة .
وكان الغضب قد استبد بها حتى لم تستطع أن تجيب ,
فأشاحت بوجهها عنه . وبعد لحظات قالت :
ـ لا بأس إذن . بإمكانك حجزي هنا . . ولكنك لن تجبرني
على رؤيتك .
وتمتم بكلمات إيطالية ثم قال :
ـ لا ؟ . . . وبعد كل هذه الأسابيع من اللطف والمحبة ؟ لقد
تمتعت حقاً بوجودك إلى جانبي كل يوم . . . حلوة مطيعة . بالكاد
تعرفت إليك . لقد ظننت حقاً أنك تغيرت !
ـ ولكنك كنت مخطئاً .
ـ هذا ما يبدو , لأسف . لقد أحببت تمثيلك المحتشم . .
حقاً . . كدت تخدعيني .
ـ كدت أخدعك ؟ وتقولها بأعصاب باردة ؟
ـ كان يجب أن تكونـــي ممثلة .
ـ أنا لست من صنفك , فتمثيلك متقن , لقد أحسـســت فعلاً
بالأسف عليك . لقد أقنعتني كمــا أقنعت أمك بأنك ستموت .
وظهرت الحدة في عينيها :
ـ ولكن هل هذا ما حدث حقاً ؟ أم أن إيفا كانت تشاركك ؟ هل
كانت تعلم بأنك تمثل ؟ أعتقد هذا !
وأحست بألم لا معنى له . . لقد كذبت عليها إيفا . وهذا
يؤلمها والجواب ظــاهر على وجهه . . .
ـ يا إلهي . . لم يكن بمقدوري تصديق هذا عنها . . . كيف
يمكن لها أن تفعل هذا بي؟
وتراجعت يداه عنها , وقال ببرود :
ـ لقد فعلت هذا لأجــلــي . وإذا كنت تريدين لوم أحد . .
فلوميــني أنا . فأنا منعتها من إخبارك بأنني استعدت ذاكرتي . . لقد
كانت معي عندما عاد كل شــيء إلى رأســي . وكانت ستقول لك لولا
أنــني توسلت إليها .
واستدار لينظــر عبر النـافــذة . . فــســألته , كــارهة نفسها لهذا
الســـؤال :
ـ لماذا ؟ لمــاذا أردت إخفاء الأمــر عني ؟ لماذا استمــريــت بالتمثيل
يوماً بعد يوم ؟
فهــز كتفيه ببطء :
ـ كــنت أتمتع بالأمور كــمـــا هي .
ـ لقد استغفلتــني . وكذلك إيفا . لطالما أفســدتك . . .
واحمــر وجههــا ذلاً . فضحك ضحكــة متوترة :
ـ أنــا ؟ . . أنت من أفــســدك الدلال يا جيني !
فـــحــدقت به غير مصدقة مــا تسمع :
ـ ومــاذا تعني بكلامك هــذا ؟
ـ لقد ترك لك والـــدك حرية العيش كما يحلو لك . كان لديك
الكثير من الحرية . . . فنــشــأت غير مبالية وعنيدة , أمــــام حاجات
ورغــبات الآخــرين .
ـ أنت تعـــني حـــاجــاتك . . ورغباتــك !
ـ كــنــت زوجــك !
ـ بل سجاني . كنت تمتلكــني كما تمتلك قطــة أعجبتك من
الشارع . . . أوه . . . لقد أعطيتــني الحرير والفرو والمساحيق التي
أرغب بها , ولكن لم يكن لـي مكان حقيقي في حياتك روبرتو .
كانت عائلتك تهمك أكثر منــي بكثير . لم أكــن سوى مجرد دمية
تمتلكهـــا .
تحركت لتقف , ولكن يداه أمسكتـــا بها , بقــوة لم تستطع
مقاومتها وجذبها هذه المرة فوقه حتى أصبح جسدها مستلقياً فوق
جســده , وقال بخشونة .
ـ دمية لها مخالب . لقد تركت مخالبك آثــاراً عل جســدي
مراراً .
ـ فقط عندما كنت تعاملــني بقسوة .
ـ ولكنك لم تكونـــي مستاءةً من قسوتــي . . . أليس كذلك ؟
فهمست بصوت كــالفحيح :
ـ أكـــرهك .
فاقترب منها :
ـ قد يتحول هذا إلى تحدٍ . . . ألم يخطــر ببالك هذا ؟ قد أجــد
حقدك ورفضك محفــزاً لـي أكثر من الإذعان .
ـ هذا يحدث مع متوحش يتمتع بأذية النساء .
أزعجــه هذا الكلام , وسمعت صوت تنفســه الحاد . واشتدت
قبضة يديه عليهــا , وحجزها بعنف :
ـ لا تجعليني أغضب , وإلا ستكتشفين كم أستطيع أن أكـــون
متوحشـــاً .
ـ لست بحــاجة إلى درس آخـــر . . فأنا أعرف .
صمت للحظــــات . . ثم تمتم :
ـ وهل كراولي متوحش يا جيني ؟
وأحســت بخديها يحترقان :
ـ غرانت ؟
ـ هل هو متوحش ؟ لطالمــا اعتبرته كلباً مدللاً أكثــر منه
رجلاً . . . فلا تقولــي إنك وجدته العاشق الملائم يا حلوتي ؟
فردت بصــوت متوتر :
ـ أنا أحب غرانت . . ولن أتحدث عنه معك .
ـ وهل تستخدمين مخالبك عليه ؟ أم إن الأمــور تجـــري بلطف
بينكما ؟
ـ أوه . . أخــرس ! غرانت رجــل صبور وكريــم و . . .
وقاطعها بلهجة فيها غضب غريب محــرق :
ـ صبور ؟ أوه . . أجــل . . . إنه هــكــذا . وسيبقى دائمــاً
موجوداً . . . ينتظرك أليس كــذلك ! حتى خــلال زواجنا . . كنت
تتسلليــن ســراً إليه .
ـ كنت أذهب لأســاعد أبــي في تصاميمه , وكــان غرانت يزوره
من وقــت لآخـــر .
فضحك بخــشــونة :
ـ تساعدين أباك . . كم أنت مقنعة بهــذا العذر !
وصــدمها هذا الكلام بقســوة , وارتفع غضبها , فنـظــرت إليه :
ـ صدق أو لا تصــدق . . . فأنا رســامة أزياء ممتازة . . . فاستبقِ
سخــريـتـك لنفسك . . فلقد بدأ اسمـــي يظهر فــي عالم الأزياء , واللعنة
علــيــك !
ـ أنت تعنين أن كراولي يصنع لك ذلك الاسم . . لقد قلت لـــي
مرة أن صاحب دار الأزياء هو من يصنع أو يحطم المصمم الفنان .
وهو يتأكــد من فع تصاميمك للتنفيذ كلما سنحت له الفرصــة . .
فأنت من صنعه فـــي عالم الأزياء .
فردت صــارخة :
ـ هذا كذب ! أنت تكــره الإقرار بأن المرأة يمكن أن تكـــون
ناجحة في أي شــيء .
ـ بالعكــس . . . فالمرأة ممتازة . . . لشـــيء وحد .
ـ أنت الخبير . . فلديك مـا يكفي منهن !
فرفــع رأسها إليه قبل أن تستطيع منعه :
ـ ليس ما يكفــي . . لا يا جيني .
وحدقا ببعضهما , ثم حاولت إرجــاع رأسها إلى الوراء ولكن
يده خلف عنقها منعتها , وعندما لامس فمه وجهها كــان في عناقه
نوايا عديدة . فقد جعلها عن قصــد تشعر بمــا يشعر به .
ولكنها لم تستجب , بل تمــاسكت متصلبة رغم أن أحــاسيسها
كانت تشتعل بحركاته المغرية . ورفع رأسه ليقول بلؤم :
ـ كراولي لم يعلمك الكثير .
ـ لقد علمني أن العلاقات العابرة تثير الاشمئزاز .
فــأجفل لكلامهــا الجارح , فاغتنمت الفرصــة لتتخلص منه
وتهرب خــارج الغرفة . ثم سعت إلى الحرية عند الــشــاطئ
والصخور , لتجد في تغريد الطيور , وهدير الأمواج , راحة النفس
التي تحتاجها .
إنها غلطتها . . لقد حذرها داني و غرانت . . . وكذلك حذرها
تفكيرها السليم . . . ولكنها وقعت في حبائل خداعه كالغبية , أطبق
عليها فخ ضعفها أمام الرجــل الذي يـجب أن تكــره .
وغطت وجهها بيديها . . أوه . . يا إله السمــاوات , كم دخلت
الفخ بكــل إرادتها , وكــأنها نعجة تساق للذبح . ليس هو من جعلها
تعمى عن الحقيقة , بل هي أرادت لنفسهــا هذا , وتعاونت معه
بصمت . . . وإيفا كذلك . . ولكن لا عجب فــي هذا بعد وضوح
رغبتها هي في ذلك .
مشت فوق الصخور تلوم نفسهــا . . ماذا ستفعل ؟ الطريقة
الوحيدة هي على متن قارب وما من أحد من الصيادين سيأخــذها
مهما عرضت عليه من ثمن . فـروبرتو رجل له نفوذ , ومصالح كبيرة
في إيطاليا . . . وستكون عاجزة عن القيام بأي عمل إذا ما استخـدم
هــذا النفوذ .
وتذكرت أن هناك ممراً بين الصخور يفضي إلى الطريق العام
ثم إلى الفيلا دون أن تضطر للعودة أدراجها من حيث أتت . وهكذا
استدارت لتسير عبره فوق الصخور الخشنة غير المستوية تحت
قدميها . . . هناك بضع سيارات في الجزيرة , ولكن أهل الجزيرة إما
يسيرون أو يستخدمون الحمير الصغيرة الحجم التي تتسلق الوعر
وكأنها المــاعز .
صوت محرك أجفلها حتى أنها للحظات جمدت من الدهشة .
ثم ركضت عبر الدغل المنخفض , تلوح , وتنظر إلى الطريق لترى
غيمة كثيفة من الغبار لا بد أنه ناتج عن مرور سيارة .
كانت السيارة مســرعة , فزادت هي من سرعة ركضها , خائفة
ألا يراها راكب السيارة , كانت تركز انتباهها بشدة , حتى أنها لم
تشــاهد الصخور البارزة أمامها إلا بعد فوات الأوان . واهتز جسدها
كله وهي ترتمي على معدتها فوق الصخور . وصرخت من قوة
السقطة , ثم لاذت بالصمت على أثر الألم الذي صدمها واستلقت
بين الشجيرات الصغيرة الشائكة , لا تحس بـــشــــيء سوى الألم في
عظامها .
ما هي إلا لحظات حتى شعرت بيدين ترفعانها عن الأرض ,
وتديران وجهها إلى فوق . ومرت يدان مرتبكتان بسرعة على
جسدها , تبحثان عن إجابات محتملة . وفتحت عينيها , تتأوه من
الألم , ليطل عليها وجه أسمــر يتوج رأسه شعر أشقــر ملون
بالغبار بعينيه الزرقاوين المتلألئتين المليئتين بالقلق .
ـ أنت بخير ؟
كان يركع إلى جانبها يسند رأسه بيده بعد أن تفحصها باحثاً
عن إصابات . . . ويتكلم الانكليزية . فأجابته غير واثقة :
ـ أجــل . . . هل أنت إنكليزي ؟
فــابتسم :
ـ بل أميركي . . . وأنت كذلك . . ما هذه الصدفة !
ـ وماذا تفعل هنا ؟
ـ ألتقط الصـــور .
وأحست فجأة أن يده الأخرى ترتاح على خصرها بطريقة
حميمة جعلت الاحمرار يعلو خديها البيضاويين . وحــاولت
الجلوس , فدارت الدنيا حولها . فقال لها بصوت مفعم بالاهتمام .
ـ هــاي . . لا يجب أن تتحركــي . . سقطتك كانت قوية .
فلفت جيني ذراعيها حول ركبتيها وأراحت رأسها عليهما ,
تتنفس ببطء وعمق . وتركها هكذا لبضع لحظات , وعندما توقف
الدوار . رفعت رأسها ببطء , فســألها مبتسماً :
ـ هل أنت أفضــل حالاً الآن ؟
فهزت رأسها وردت تأدباً :
ـ شكــــراً لك .
ـ لقد ظننت نفســـي أتخيل عندما خرجت نحوي راكضــة .
ـ وهذا يجعل منا أثان , فآخر شــيء كنت أتوقع رؤية هو
سيارة .
فضحـــك :
ـ هذا يوضح ما حصل . فالسيارات نادرة هنا . . أليس كذلك ؟
السيارة الوحيدة الأخرى هي لباستينو . ولكن , لا بد تعرفين هذا . .
فأين يمكن أن تقيمي في هذا الجزء من الجزيرة سوى في فيلتهم ؟
سمعت أنه هنا . . . لا بد أنك ممــرضته .
فــأجابت بسرعــة ودون تفكــير :
ـ ممرضــة ؟ . . . لا !
ـ لا . . ولكنك تقيمين في الفيلا التي يملكها أليس كذلك ؟
أوه . . أنا آسف لم أقصــد أن أطرح أسئلة ذات مغزى .
وفهمت جيني ما يجول في ذهنه . نظرته السريعة إلى يدها
اليسرى أوضحت أنه يفكر بوضعها , وأنه قرر أن روبرتو قد جاء
بإحدى عشيقاته معه . وبدا عليها الغضب . . . فتراجع الرجل إلى
الوراء لرؤيته بريق اخضرار عينيها . ووقفت . . . فتحرك لمساعدتها
بعد أن رآهــا تترنح . . وقال :
ـ ســأوصلك إلى الفيلا . . . أهذا مــا كنت ستطلبينه ؟
ـ أجل . . . شكــراً لك .
وســـار إلى جانبها نحو السيارة وعيناه تحدقان بها باهتمام . .
وقال لها بعد قليل :
ـ يجب أن نعرف عن أنفسنا . . أنا تومــاس مارشال .
ـ وأنا جيني نيوهام .
ـ جيني . . . اسم غير مألوف . . ولكنه يناسبك .
فتح لها باب الروفر . . فصعدت إليه , ثم انضم إليها . أدار
المحرك فانطلــقت السيارة , وســألته :
ـ مــاذا تفعل على الجزيرة ؟
ـ أنا عالم اجتماعات .
ـ يا إلهي !
ـ ولماذا يجيب الناس هكذا على نوع عملي , ما الخطـــأ في
دراسة الجنس البشري ؟
ـ أهذا ما تفعله هنا . . . تدرس أهــل الجزيرة ؟
ـ أجول في الجزر أدرس حياة الناس الاجتماعية , فأنا اخضر
لأطروحة التخرج , التي تتناول مجتمعات الجزر .
ـ يبدو الأمر مذهــلاً .
ـ هذا صحيح .
ـ وأين تقيم ؟
ـ فــي الفيلا .
ـ ماذا ؟ ولكنني لم أشاهدك هناك .
ـ آه . . هذا لأنني لم أكن موجوداً . لقد ذهبت إلى الجبال
لأزور ابن جوزيبي , الانرو . وبقيت هناك لبضع أيام للتعرف على
نمط حياته إنه شاب طيب , وقد اتفقت معه بشكــل جيد .
ـ وهل يعلم روبرتو أنك تقيم في الفيلا ؟
ـ لقد اتفقت معه منذ أشهــر . في الواقع هذه السيارة له . وهل
ظننت أنني ســأستخدم بيته كفنــــدق دون إذنه .
ـ آسفة . . . بالطبع لا . كل ما في الأمر أن أحداً لم يذكرك
لـي . ولم يكن لدي فكرة عن وجود غريب . وكم ستبقى هنــا ؟
ـ ليومين آخــرين .
عندها فقط خطرت فكرة لها , فتنفست بحدة , فالتفت تومــاس
مارشال متسائلاً , فبادرته بالسؤال :
ـ وكيف ستغــادر ؟
فضحك :
ـ بالمركب طبعاً . وســأذهب إلى محطتي التالية . . لقد رسمت
خط رحلتي منذ سنة . ولا يزال أمــامي رحلة طويلة .
ـ وهل سيأخذك أحد الصيادين ؟
ـ بل صديق في الواقع . إنه يعمل في (( سودينية )) ويملك مركباً .
وهو يحب الإبحــار إلى حد الجنون . . . سيأخــذني من هنا ويوصني
إلى محطتي التالية , ثم يغيب بضعة أيام قبل أن يعود ويلتقطني
ثانية .
ـ وهل هو أميركــــي ؟
ـ تقريبــاً .
ـ وماذا يعني هذا ؟
ـ لديه جواز سفر أميركــي , ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ
سنوات طويلة . التقيته في اليونان منذ خمس سنوات ومنذ ذلك
الوقت سكن في إفريقيا , ثم الخليج العربي , وأخيراً في تركيا ,
قبل أن يستقـــر مؤخراً في سردينيا .
وتنفست جيني ببطء :
ـ وهل يمكن أن يأخذ معه راكباً ؟
فاستدار تومــاس إليها وحاجباه يرتفعان :
ـ أنتِ ؟
ـ أنا . . . أريد الهرب من الجزيرة .
ـ وهل يعرف باستينو ؟
ـ لا تقل له أرجوك . لا يجب أن يعرف . . ولكن يجب أن
أهرب من هنــا .
يأسها كــان واضحاً في صوتها , مما أوضح له الأمــر . فصفر :
ـ أوه . . فهمت . . لقد سمعت عنه أنه ذئب كــاسر . . . لماذا
جئت معه وأنت تعرفين هذا عنه ؟
ــ لابد أنــني فقدت عقلــي . أتساعدني ؟
كانت لهجتها شديدة الإقناع ولم يتردد :
ـ بالطبع , ويجب أن تسافري خـفيفة , دون حقائب , فالمركب
ليس كبيراً . كل ما يمكنك أخذه حقيبة صغيرة . وتعلمين أنك
يجب أن تعملي للمساعدة . . أتجيدين الطبخ ؟ فهذه مساعدة جيدة .
وأجابت بارتياح وحبور :
ـ أجيد الطبخ . . . شكــراً لك . لن تستطيع تصور كم أنا شاكرة
لك .
فضحك لهــا :
ـ هذا سيعلمك أن لا تسيري في أماكن خطرة . . . لا بد أن
أمك علمتك أن لا تتعاملي مع رجال من أمثال روبرتو باستينو ؟
ـ لم يكن لــي أم .
فلانت عيناه , ونظــر إليها بلطف :
ـ آسف . . . انسي ما قلته .
وصلا الفيلا , أوقف السيارة خارج الباب الرئيسي . . فنزلت
متصلبة تنفض الغبار عن ثيابها . وانفتح الباب , وحدقت ماريا
بهما , فابتسم لها توماس وقال :
ـ لقد عدت ثانية . الاندرو يرسل لكما حبه . . . ولدي أربع
قبلات لك من أحفــادك .
فابتسمت ماريا ابتسامة خفيفة . . . ثم تحولت عيناها السوداوان
إلى جيني .
ـ أين كنت ؟ لقد قلقنا عليك , قد غبت ســاعــات .
وتحركت جيني داخــل الباب وتوماس إلى جانبها :
ـ لقد ســرت طويلاً على الشاطئ .
ـ من الخطــر الابتعاد عن الفيلا سيدة باستينو .
كانت تستخدم الاسم متعمدة , وأحســت جيني أن توماس
أجفل . وسمعت صوت تنفسه العميق . وأعماها الغضب , فقالت
ببرود لاذع محــدقة إلى ماريا بتحدٍ .
ـ أنا لست السيدة باستينو .
وسمعت صوتاً بارداً من خــلــف ماريا يقول :
ـ ستعطين السيد مارشال فكــرة خاطئة عنك جيني .
وخفق قلبها لرؤية روبرتو يقف هناك . . . وتابع بسخرية :
ـ أحببت هذا أم كرهته , فلـدي صورة زفافنا تثبته . أمـا الباقــي
فأعطني قليلاً من الوقت بعد .
احمــر وجه توماس مارشال , وبدا عليه الغضب . ونظــرت إليه
جيني يائســة وهي تعرف تماماً ما يفكر به . قال وهو يفرك مؤخرة
عنقــه :
ـ عذراً . . فأنا بحاجــة لحمــام وحلاقــة ذقن .
صعـد السلم , واختفت ماريا , فنظرت جيني إلى روبرتو
بمــرارة :
ـ يا إلهـــي كم أكرهك !
وبدت القســوة على وجهه :
ـ حقــاً ؟ حسناً . . لـدي أخبار سارة لـك يا حبيبتــي . . . مــا
تشعرين به لــي هو بسيط جــداً بالنسبة لمـا أشعر به نحوك .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل السادس
-------------------------------------
6 ـ لــم يكن لهـا
-------------------------------------
فاجأها التصريح وحملقت به وفمها مفتوح , فـابتسم لها ابتسامة
باردة قــاسية :
ـ لقد فاجأك هذا . . . أليس كذلك ؟
أحست بردات فعل متضاربة من جراء ما سمعته , ألم , غضب
وحقــد متأجج .
ـ أنت تكرهني ؟ ولكنـني لست أنا من . . .
فقاطعها رافعاً حاجبيه السوداوين بتحدٍ ســاخر :
ـ ألم تكوني أنت . . . وهل مر وقت طويل , قبل أن تعطي
كراولي ما كان يرغب به منك ؟
اقترب منها , وفقدت الإحساس بمكان وجودهما . . . وقال لها
بهمــس كالفحيح :
ـ متى كان ذلك جيني ؟ تلك الليــــلة ؟ هل هربت من منزلـــي
لترتمــي بين أحضانه ؟
العجرفــة في عينيه الباردتين اخترقت تظاهرها بعدم الاكتراث .
فابتعدت عنه كطفل خائف مرتعب .
ـ ليس لك الحق لتسأل , و أنا لن أجيب عن أي سؤال . لماذا
كذبت على السيد مارشال ؟ أنا لست زوجتك , وسأخبره بأمر
الطـــلاق .
ـ أعرف أنك ستفعلين .
ـ بكــل تأكيد ســأفعل .
وحــاولت جذب ذراعيها من قبضته , إلا أن أصابعه اشتدت أكثر
على لحمها .
ـ ولكنك لن تفعلــي . . . لأنك لن ترينه ثانية . ســأطرده من
الجزيرة الليلة !
ـ لن تستطيع هــذا !
ولكنها تعرف أنه قادر . . سيأمر أي صياد بأخذه إلى أي مكان
وسيفعل دون تردد . ولن يستطيع توماس أن يعترض على أوامره .
ـ ألن أستطيع ؟ بل أستطيع فعل أكثر من هذا . . كلمة واحدة
مني في المكان المناسب وسيطير من إيطاليا كلها , وستذهب
دراسته إلى الجحيم . وسيجد نفســه غير مرغوب به أينما ذهب في
هذه المنطقة , وسيكون على أول طائرة عائدة إلى أميركا قبل أن
يعرف إلى أين هو ذاهب .
تمتمت بكــراهية وصوتها يرتجف :
ـ أيهــا الخنزير القذر .
وشــد يده بقسوة على ذراعها ليمنعها من الابتعاد , محدقـاً
بوجهها الغاضب :
ـ قد أكون أكـثر ميلاً للأذية . . . وتذكري هذا عندما تفكرين مرة
أخرى باستخدام ذكاءك للهرب جيني !
فصـــاحت :
ـ لست أدري عم تتكلــم .
ـ أوه . . بلى . تعرفين . . أنا لست غبياً . . . لحظة أن التقيت
بمارشال شــاهدت فيه سبيلاً لخلاصك .
ـ لن تستطيع منعه من أخــذي معه .
فضحك ضحكــة قبيحة :
ـ حاولــي . . . حـاولي فقط . ســأخرجك من المــوكـب في
ثانيتين .
ـ لن تستطيع حجــزي هنا رغماً عن إرادتي !
ـ إرادتك ؟
ابتسم بسخرية قاسية , وامتدت أصابعه إلى حنجرتها , يضغط
عليها , وبدأت نبضاتها تتسارع تحت أصــابعه .
ـ سنرى كم هي قوية هذه الإرادة . . هل نفعل هذا جيني ؟
ـ لا !
وشدها إليه , وغرز أصابعه في عنقها من خلف لتجبر رأسها
على الاقتراب منه , وأطبق عليها بقسوة , وضغط بقسوة عليها
فأخذت تتلوى وتدفعه عنها , ولكنها كانت عاجزة أمام قوته . . ومع
ذلك فقد فات أوان هذا . . فهناك شــيء ما في داخلها قد حدث .
كتلة جليدية عمرها خمس سنوات بدأت فجــأة بالذوبان , ومشاعر
طال نكرانها بدأت تنطلق من عقالها وأحس روبرتو بذوبانها ,
واستجاب عناقه لهذا الذوبان , وارتفعت ذراعاها حول عنقه ,
واندفعت أصابعها إلى شعــره الكث الأسود . وتصلب جسدهــا كله
ليلتصق به . . . وأخذت تتأوه وانفجرت شفتاها , فتمتم روبرتو
وهو يمرر يداه على ظهــرها مداعباً :
ـ يا إلهـــي !
وقع خطوات فرقتهما , فقفزا معاً إلى الخلف . ونظــر إليهما
توماس مارشال بحرج . . .
ـ أوه . . كم أن آســف . لست أدري مـا . . .
استعاد اتزانه . . . وابتســم :
ـ أوه سيد مارشال . . تفضل معنا لتناول القهوة . لا بد أنك
جئت طلباً للغــداء . ماريا ستحضره قريباً .
ـ شكــراً لك .
تأمل توماس بجيني مرتبكاً . فأشــاحت بوجهها عنه وهي تعلم
أنه يظنها كــاذبة . وقالت :
ـ يجب أن أذهب لأبدل ملابســي .
فقال روبرتو بصوت ضاحك , ونبرات صوته توحـــي بأنه
يتسلــى :
ـ افعلــي هذا يا حبيبتي !
ركضت إلى غرفتها , ووقفت تتأمل نفسها في المرآة , منتقده
نفسها , تشاهد بأسى ونفاذ صبر بشرتها المشتعلة بالحرارة وعينيها
المحمرتين . . . ماذا يحاول روبرتو أن يفعل بها ؟ لماذا جـاء بها إلى
هنا ليخدعها ويوقعها في الفخ , ويجعلها سجينته ؟ لقد اكتشفت أنها
لا زالت تذوب تحت وقع عناقه , وقبلاته .
ولكن عليها أن تجبر نفسها على تذكر أشياء أخرى , وأن
روبرتو يستجيب لكل النساء هكذا , إنها مجرد استجابة جسدية
لديه , ولن تتركه يستغلها ليرضي نفسه للحظات .
رفعت رأسها الأشقـــر بتصميم . . . ونزلت إلى الطابق الأرضــي ,
لتواجه نظرات روبرتو المعجب بها , ببرود دفعة إلى الابتســام .
ووضع فنجان القهوة من يده واستدار إلى توماس مارشال يقول
بفخـــر :
ـ زوجتي فنانة . . . وهي موهوبة جــداً .
ومرت عينا تومــاس فوقها , وسحبهما بســرعة :
ـ أوه . . حقاً ؟ هل هي محترفة أم . . . ؟
فانزعجت جيني للســؤال :
ـ أنا محترفة بكل ما في الكلمة من معنى سيد مارشال .
وتمتم روبرتو :
ـ جيني تحب أن تنظر إلى فنها بجدية . . أليس كــّلك جيني ؟
فالتفتت تواجهه بنظرة باردة متحدية إياه أن يسخر :
ـ أجل . . هذا صحيح !
فقال توماس بشكل أخرق . . محاولاً الاسترضــاء :
ـ وهل تدربت ؟ أعني هل ذهبت إلى كلية الفنون ؟
ـ أجــل . .
ســارعت لإخباره بشوق عن مدى تدريبها , وفي عينيها كل
الطموح الذي تشعر به . . وصــاح توماس فجأة , محدقــاً بها :
ـ يا إلهي ! هل أنت . . . لقد قلت إن اسمك نيوهام . . . هل
لك قرابة بدانييل نيوهام . . . مصمم الأزياء الشهير ؟
ـ إنه والدي .
فردد الشاب :
ـ إنه . . . إنه فنان رائع .
ـ أجل , فوالدي مصمم رائع . وأنا فخورة به .
وتدخل روبرتو ليقول ببرود :
ـ ولكن زوجتي أفضــل منه . . .
فردت نظرها إليه غير مصدقة . ولكنه لم ينظر إليها بل إلى
وجه توماس مارشال النحيل , وأكمل :
ـ . . . تعال وأنظر بنفسك .
وقاده تتبعهما جيني , إلى غرفة جلوس صغيرة تستخدمها إيفا ,
وأمام ذهولها أشار إلى رسم بالأسود والأبيض , لوجه طفل . . .
إنه أندرو . . . الرسم الذي أخذته إيفا منها يوم كانت في شقتها . .
لماذا ؟ لماذا يعلق الصورة هنا ؟ أمن أجل ولده أم من أجلها ؟
وأدار روبرتو رأسه إليها .
ـ أمــر مثير للاهتمام . . . أليس كذلك ؟
ربما يكون كلامه موجه إلى توماس , ولكنه في الواقع كان
يتحدث إليها . . . واستدار توماس مارشال وابتسم لها والإعجاب
بادٍ فــي عينيه .
ـ زوجك على حق . . . أنت فنانة جيدة . . . وإذا كنت فخورة
بأبيك , فلا شك أنه فخــور بك أكثر .
أطلت ماريا فجأة من الباب معلنة :
ـ الغــداء جـاهز .
وأضافت بالإيطالية أنه سيفسد إذا لم يتناولوه على الفور , ثم
أضافت بلهجة لاذعة أنه مجنون لخروجه من سريره , فهو ليس قوياً
كفاية . فرد عليها روبرتو بفظاظة بالإنكليزية : اخــرسي ! ولكن عيناه
كانتا تضحكان لها , متقبلاً أنها قلقة عليه . . . فقالت جيني :
ـ أظن أن عليك تناول عشاءك في الفراش . أعتقد أن الممرضة
هي من سمح لك بالخروج .
ـ سمحت لـــــي ؟ لن تستطيع تلك المــرأة أن تملــــي إرادتهـــا علي .
المرأة الوحيدة , التي تستطيع إجباري على الصعود إلى الفراش هي
أنت حبيبتي .
فاحترق وجههــا خجـلاً . . وغضبت منه , وهــي تدرك أن هناك
أكثر من زوج من الآذان تستمع وأن ماريا تبتسم , وأن توماس بدأ
وجهه يحمــر .
فقالت تستخدم مزاحـــه ضده :
ـ إذن ســأقول الكلمة الآن . . اذهب إلى فراشك روبرتو . .
ما كان يجب أن تخرج أصلاً .
فرفع حاجبيه مبتسماً :
ـ لوحدي ؟
فاستدارت غاضبة , محرجة , واتجهت نحو الباب دون كلمة .
غير قادرة على التفوه بشــيء قد يحدث انفجاراُ أمام ماريا
وتوماس . . . كيف يجرؤ على هذا الكلام . . كيف يجرؤ ؟
مرت ساعة الغداء ببطء . . وأحست بالأسى على توماس .
وتعمدت دفعه للكلام عن عمله . فاندفع بلهفة للشرح . . . ولم
يحدث خلال هذه الساعة أي تصادم بينها وبين روبرتو .
وبدأ الشحوب يظهر جلياً على روبرتو , وهم يقفون بعد الوجبة
فقالت له بجدية .
ـ يجب عليك أن تذهب إلى الفراش . تبدو مريضاً جداً
روبرتو .
لا بد أنه كان يشعر فعلاً بالضعف فقد هز كتفيه واعتذر ثم
تحــرك نحو السلم , قائلاً بحدة :
ـ تعالي معي جيني . أود الاستناد إلى ذراعك وأنا أصعد
السلم .
وصاحت به بعد أن وصــلا إلى غرفته وانهار فوق سريره :
ـ لماذا تركت فراشك بحق الشيطان ؟
فقالت الممرضة ببؤس :
ـ لقد قلت له هــذا .
واستلقى على الوسادة ويده تفك ربطة عنقه , جفناه نصف
مغمضتين , يحدق بها بابتسامة ســاخرة :
ـ لم تأتي إلي فجئت إليك .
ـ حسناً ستبقى الآن في الفراش لما تبقى من الوقت .
فقالت الممرضة :
ـ بالطبع يجب أن تبقى . وإذا رفضت نصيحتي سيد باستينو ,
فلا فائدة من بقائي هنا . كنت مريضاً جداً والراحة ضرورية لك .
ـ لا تفتعلي ضجة يا امرأة .
تركته جيني بين يدي الممرضة لتحضره للنوم , فســألها :
ـ أين أنت ذاهبة ؟
فوقفت عند الباب :
ـ أظن أننــي سأنام قليلاً . . . فتلك النزهة صباحاً أتعبتني .
فقالت الممرضة :
ـ هذا هو التعقل بعينه .
فأردف روبرتو سـاخراً :
ـ وهل بدأت تضعفين يا جيني ؟ مشوار صغير وأحسست
بالإرهــاق ؟
فردت بخشونة :
ـ هــذا صحيح .
وتسللت من الغرفة لتسمعـه يضحك وهي تقفل الباب . فــي
الواقع كانت مرهقة أكثر مما تصورت , فما أن أسدلت الستائر ,
واستلقت فـي الفراش حتى غطت في نوم عميق .
عندما استيقظت كانت الغرفة غارقة في ظلام حالك . لا يوفره
سوى الريف حيث لا أضواء صناعية فيه . . ناعسة , تحس بوجههـا
الحـار وشعرهـــا المشعث , نهضت من الفراش , وأضــاءت المصباح
قرب سريرها , فشعشعت غرفتها بأنوار ناعمــة .
نظرت إلى ساعتهــا , وأدركت بـــذهول أنهـا نامــت خمس سـاعات .
ولقد فات وقت العشــاء . . . أحست بالجــوع لدى تذكرهـــا الطعام .
فسرحت شعرها بسرعة , وتركته منسدلاً حول وجهها , ورشت على
بشرتها قليلاً من المـاء , وصبغت شفتيهــــا بقليل من أحمـــر الشفاه
الزهــري .
توقفت لحظة عند باب غرفة روبرتو , متسائلة ما إذا كــان قد نام
أم لا . . وأكملت المسير , لتفاجــأ به يفتح باب غرفته ويقف فــي
بيجامته الحريرية السوداء فوقها الروب الأسود . وسألها ممازحاً :
ـ استيقظت أخيراً ؟ اعتقدت أنك لن تستيقظــي .
ـ كنت تعبة .
ـ كنت تبدين كفلة صغيرة متكورة على جانبيها .
خفق قلبها كــالرعد وقد عرفت أنه دخل غرفتها . . . وأغضبها
هذا , حتى احمرت وجنتاها , ولمعت عيناها الخضراوان وقالت :
ـ ابتعد عن غرفي روبرتو !
واختفى عن وجهه تعبير المزاح , وتحولت عينــــاه إلى
البرود . . . فأمسك بذراعها وجذبها إلى غرفته فصرخت وهي
تقاومه :
ـ اتركــني !
فتجاهلها :
ـ لقد تركت لك ماريا بعض الطعام هنا .
ـ ســـآكل في غرفة الطعام .
ـ ستأكلين حيث أقرر أنــا .
ـ اللعنة عليك , توقف عن دفعـــي هكذا !
أقفل الباب بقدمه , وتركها مستنداً إلى الباب :
ـ اجلســي وتناولــي عشاءك .
أعلنت معدتها الإنذار بأنها جائعة , فرفعت الغطاء الأبيض عن
الصينية . . رائحة الطعام لا تقاوم , ومع أنه بارد . فجلست وبدأت
تأكــل . واستدار روبرتو إلى فجوة في جدار غرفته وأدار الكهرباء
على إبريق القهوة . . . وما هي إلا دقائق حتى تصاعدت الرائحة
الذكية لتملأ الغرفة . وصب لنفسه ولها فنجانين من القهوة التركية
الثقيلة الخالية من السكر . فقالت له :
ـ إنها قوية عليك .
فرد عليها بتقطيبة .
ـ أنا كبير بما يكفي لأقرر ما هو صالح لي وما هو غير صالح .
لقد كان دائماً مدمناً على هذا النوع من القهوة الثقيلة . يحتسي
كوباً وراء كوب منها . . . فقالت :
ـ إنها مضرة لأعــصــابك !
ـ الإحباط هو الســـيء للأعصــاب .
ـ لن أصـغي إلى ترهات كهذه . . كيف تجرؤ على الحديث معي
بهذه اللهجة , خــاصة بعدما فعلت معــي ؟
ـ وماذا فعلت ؟
ـ تعرف جيداً ما أعنـــي !
وبدا على وجهه براءة الملائكة :
ـ أخبرينــي . . .
كادت تقذفه بالقهوة الساخنة , وأخذت يداها ترتجفان راغبة
في صفع ذلك الوجه البارد وقالت ساخـــرة :
ـ لا تتظـــاهر بأنك فقدت الذاكرة ثانية .
فضحك :
ـ ذاكرتي كــاملة . . وكيف حال ذاكرتك ؟
ـ أوه . . . كل التفاصيل فيها كنور الشمس . . . أتعتقد
أنني نسيت مقدار ذرة مما رأيته بعيـني ؟
ورد بخشــونة :
ـ لا . . . لا أعتقد أنك نسيت .
الاعتراف آلمها بوحشية وكأنه سيف يغرز في قلبها . . . لم
يكونا قد تحدثا عن الأمر من قبل . فهي لم تشاهده منذ مغادرتها
لغرفة نومها بعد أن شاهدت جيسكا بين ذراعيه , ونظرت إليه
بكراهية :
ـ وكيف يمكن لك أن تواجه الأمر بكل هذا البرود ؟ أكنت
تتوقع أن أتجاهل ما فعلت ؟ لو كنت أنت من دخل وشاهدني بين
ذراعي رجل آخـر . . . هل كنت ستقول (( آه . . . أن آسف )) وتعود
للخــروج ؟
و نطقت شعلة النار في عينيه قبل أن يتكلم .
ـ ألأنني لم أشاهدك مع كراولي , هل تظنين أن هذا أسهــــل
عـلي ؟
ـ ولكنــني لم . . .
ولم يفته معنى كلامهــا , فسأل بحدة :
ـ ألم تفعلــي ؟ كل هذه السنوات وأنت معه طوال الوقت ,
وتتوقعين أن أصـــدق أنكما بريئان .
ـ علاقتي معه ليست من شأنك . . . وعل كل الأحوال أنا
ســأتزوجه . أتذكر هذا كما أرجو ؟ نحن مخطوبان .
ارتدت شفتاه عن أسنانه مكشراً تكشيرة الغضب :
ـ أوه . . بل أذكر . . . فهذا ما كان يشغل بالي وأنا أقود
السيارة .
ـ عندما حصل الحادث ؟
ـ أجل عندما حصل الحادث ؟
فقالت له ساخرة :
ـ لسوء الحظ أنك لمــرة واحدة لم يكــــن تركيـزك الـــرائع يعمــــل .
علــمــت أنها تـمــــادت , وهـــي تلاحظ الشرر يتطاير من عينيـه . .
وقفت بسرعة ولكن متــأخـــرة , فقد قبض عليهــــا روبرتو بعنف ,
وعندما أطبق بفمه عليهـــا أحست بأنهـــا كانت تنتظر منه هذا مـنذ
دخلت غرفته , لقد تجاوزت مرحـلة الادعـــاء . . . أرادت أن تحـس
بجسده القاسي يجبرها على الالتصاق به . حتى إنها لم تقاومه وهو
يفعل , وتعانقا بجوع , والحرارة تكـاد تشعل جسديهما . وأدركت كم
تتلهف لأن تكون له ثانية . وسمعته يهمس في أذنها :
ـ قولــي لــي . . الحقيقة . . . هل أنت وكروالي . . ؟ هـــل
كنتمــــا . . . ؟
السؤال شتت مزاجها وكأنها تلقت صفعة . . وعــاد إليها
وعيها , فكرهت نفسها على الجنون الذي استولى على جسدها
وجعلها تنسى ما فعله روبرتو بها , وما سيفعل بكل سهولة
مستقبلاً . فشهقت , لتقاوم لتحرر نفسها :
ـ اتركنـــــي . . . !
ـ أجيبي أولاً !
فنظرت بمرارة إلى عينيه وصــاحت :
ـ أجل . . . أجــل !
وضربها , وكــادت الصفعة تطيح برأسها عن رقبتها , فحدقت به
مصدومة وفي أُذنيها طنين حــاد .
ـ أيها الخنزير !
فضربها ثانية , وقفزت الدموع من عينيها , وأخذت ترتجف ,
وذعرت فجأة , فقد ظهرت في عينيه غيرة متوحشة , وأصبح غريباً
تماماً عنها . . . بربري بدائي , عدواني قد يفعل أي شيء .
وقفت تنظر إليه بذعر , وكأنها حيوان خائف . كان ينظر إليها
وهو يتنفس بقوة وكأنه يفكر بما سيفعل تالياً , أو كأنه يكافح كي
يستعيد السيطرة على أعصابه . إنه يحاول السيطرة على مشاعره التي
تجعل دمه يغلي . . ثم قال بأنفاس متقطعة :
ـ لم أكن أنوي أن أراك ثانية .
ـ وأنا تمنيت من الله أن لا أراك .
فتنهد بخشونة . . ثم قال بعد صمت :
ـ صحيح . . لقد آلمنا بعضنا بعمق حتى أننا لن نستطيع أن
نغفر لبعضنــا .
وغلى دمها لكــلامه :
ـ آلمنا بعضنا ؟ ماذا فعلت أنا لك ؟ لقد ارتكبت الخيانة
الزوجية , ولست أن من ارتكبها روبرتو !
ـ لقد اعترفت لتوك أنك هربت من منزلي إلى ذراعي كراولي .
ـ لقد ذهبت إلى منزل والدي . . و غرانت لم يكن هناك .
ـ ولكنك رأيته تلك الليلة ؟
ـ لا !
ـ لا تكذبي علي . أعرف أنك فعلت هذا جيني . كنت فــي
فراشه تلك الليلة .
وصــاحت بغضب :
ـ لا !
ـ أيتها الكاذبة العينة ! لقد اعترف هو بهــذا .
واجتاحتها موجــات من الصدمة :
ـ عم تتحدث ؟ متى قال لك غرانت . . . ؟
ودفعها عنه ثم ســار إلى الطرف الآخر من الغرفة :
ـ لقد جئت إلى منزل أبيك في اليوم التالي . حينما أخبرني !
وأحست ببرودة الثلج . . . وتذكرت العراك الذي سمعته ,
وصوت غرانت الغاضب المرتفع , ولهجة روبرتو الخشنة المتسائلة ,
لقد كذب عليه غرانت . . ولكن لماذا ؟ أم إن عليها أن تكون شاكرة
لهذه الكذبة ؟ إنها تدرك الآن أن غرانت كان يحاول إنقاذ كبريائها ,
ويرد الصاع صاعين لـ روبرتو , بعد معرفته بأنها وجدت جيسكا في
فراشها
وتنهدت . . . تنهيدتها دفعت روبرتو للتحديق بها , ثم قال :
ـ كــان يجب أن أسـتــدعــي كراولي للــشهــــادة في محكـمة
طلاقنا . . . ولكن هذا كان سيعطي الصحف مادة فضائح إضافية
للنشــر .
ـ لقد كان لديهم مـا يكفــي لنشره عندما تزوجت جيسكا , خــاصة
أنها كانت على وشك أن تلد لك ابناً .
التوى فمه وعاد إليها متوتراً :
ـ لم يقــل لــي كراولي متى . . . فهل ذهبت إليه مباشــرة بعد أن
شــاهدتني . . .
عرفت بالطبع ما يعني , وسمعت لهجته المكبوتة فقالت ببرود :
ـ لست أنوي مناقشــة الأمر معك .
فــأمسكها بكتفيها وهزهـــا :
ـ أوه . . بحق الله ! الأمــر مهم لــي , ألا تفهمين , يجب أن
أعــرف ؟
فنظرت إليه ببرود وازدراء .
ـ غرورك بنفسك بحاجة ليعرف أنــني ذهبت إلى غرانت لأنــني
وجدتك غير مخلص لــي . . أليس كذلك ؟
ـ أيتهــا العاهر !
وردت وهي تكافح لتظهـــر البرود :
ـ على الأقل . . لم أحمــل بطفل لأثبت لك هذا .
فهمس بألم :
ـ أوه . . يا إلهي . . يا إلهـــي . . أكاد أقتلك !
ورفعت حاجبيها ببرود وتعالٍ :
ـ تكاد تقتلني ؟ لطالما نظــرت إلى كل شــيء من زاويتك
أنت . . ولكنني لم أكن لأتصور أنك أعمى لدرجة أن تلومني أنا
على فعلتك .
ودفعته في صدره وقالت ببرود وأدب :
ـ هل لــي أن أنصرف الآن ؟ أرجوك ؟ فهذا النقاش يضجرني .
فابتسم , وكانت الابتسامة سلاحاً بحد ذاتها . فقد أغضبتها
وأرسلت قشعريرة رعب فــي أوصالها , لتذكر على الفور أنها تحت
رحمته , ولا يوجد من تطلب العون منه .
وقال بنعومة , نعومة زائدة :
ـ لا . . حبيبتي . . لم أنته منك بعد .
فهمست بصوت خافت مذعور , وقد تخلت عن كل كبريائها :
ـ لو لمستني فـســأكرهك أكثر .
ضحك , وبدت الرغبة واضحة في نظراته . لم ينظـر إليها من
قبل هكذا . . صحيح أنه كان ينظر إليها دائماً برغبة , ولكن ممزوجة
بالحب . . أما الآن , فلم يكن هناك شـيء دافئ أو ناعم في تعبير
وجهه . . لم تشاهد مثل هذا التعبير على وجه رجل من قبل .
ولكنها أصبحت تعرفه الآن . . . إنها الشهوة . إنها كلمة قبيحة لشعور
أقبح . ولكن هذا ما شاهدته في وجهه . . في عينيه بريق شيطاني ,
غير إنساني , وفتحتا أنفه ابيضتا . فهمست :
ـ لا تفعل هذا ! أرجـوك !
وراقبت يداه تتحركان ببطء , ولم تكن تتمكن من الحراك , فقلبها
كان يضج في حنجرتها , وتسمرت في مكانها . وسمعته يقول :
ـ كان أمامك خمس سنوات لتتعلمي فيها كيف تسعدين
الرجل . أريد أن أعرف كم علمك كراولي في هذا المجال .
وأفلتت من الرعب الذي جمدها . . وصاحت به .
ـ أفضــل أن أموت .
ـ بإمكانك الموت بعد أن أنتهــي منك .
وأجبرها على الاستلقاء فوق السرير , ودفع ذراعيها فوق رأسها
حتى أصبحت عاجزة , مثبتة بفعل جسده . وأخذ يراقبها وهي هكذا
وكأنه يتمتع بإذلالها مـراقباً محاولات خلاصهــا .
وواجهت عقم مقاومتها فصاحت به من بين أسنانها :
ـ أوه . . . كم أكرهك !
ـ عظيم . . هذا يجعل الأمــر ألذ بالنسبة لـي .
وأطلق أحد ذراعيها , وأمسك بالبلوزة الحريرية , وتعالى صوت
تمزيق الحرير الرفيع وقالت بطفولية :
ـ لقد أفسدت فستاني .
فضحك وهمس :
ـ ســـأشتري لك آخر . . . يا حبيبتي .
وقاومت المشاعر التي بدأت تظهر كما قاومت تماماً يديه ,
حتى لم تعد تستطيع الادعاء بأن هذا لا يحصل لها , أو إنها تحلم
كمــا كانت تحلم من قبل .
وأخذ يتنفــس بصعوبة , وغطست جيني داخل أمواج الـرغبة التي
تدفقت من بحر ذكرياتها . . ومنذ اللحظة توقفت عن المقاومة
غير المتساوية .
واعترفت لنفسها أنها لم تعد تهتم حتى . فقد ذابت بنعومة بين
يديه , مع علمها الوثيق أنها تركب موجة قد تدمرها . ولكنها كذلك
تعرف , أنها عــادت بعد خمس سنوات إلى روبرتو روحاً وجســداً .
***
الفصل السابع
-------------------------------------
7 ـ لحظة اعتراف
-------------------------------------
استفاقت في اليوم التالي منهكة , رأسها يؤلمها , ووجهها
شاحب . نظرت إلى الساعة الذهبية الدقيقة التي وضعتها على طاولة
قرب سريرها , فوجدت أن الساعة قد أصبحت العاشرة , وعلى
مضض نهضت واغتسلت , وارتدت فستاناً من الحرير الأبيض الرائع
التفصيل . ومشطت شعرها , ولفته حول رأسها وثبتته بأصابع
مرتجفة .
عندما نزلت إلى أسفل , نظرت إليها ماريا وسألتها بصــوت
عميق :
ـ قهوة وكرواسان ؟
ـ شكراً لك .
عندما أحضرت لها طعام الفطور , جلست إلى الطاولة وصبت
لنفسها فنجان قهوة دون سكر عل قوتها وسخونتها تعيد إليها شيئاً
من قوتها . ولم تستطيع لمس طعامها . فقالت ماريا :
ـ روبرتو لم يأكل شيئاً كذلك !
احمر وجه جيني . وارتعش جفناها . . وأكملت ماريا :
ـ إنه في فراشه . . لقد تعب البارحة .
انفجرت جيني بضحك هيستيري , لم تستطع السيطرة عليه ,
وعلمت أن ماريا تحدق بها بفضول . . واستجمعت ما استطاعت
من قوة لتسيطر على نفسها . . . وأحنت رأسها على فنجان القهوة .
ودخل توماس مارشال بعد دقائق وحياها بأدب :
ـ صباح الخير سيدة باستينو .
ـ صباح الخير .
وقال لها بلهجة غريبة :
ـ أنا مسافر اليوم .
وأحــســت أن روبرتو قد دبـر أمر رحيله .
ـ حسناً . . سعيدة بلقائك . أتمنى لك رحلة موفقة .
ونظــر إليها :
ـ البحر هادئ تماماً اليوم .
ـ وهل سيأتي صديقك أم ستستقل قارب صيد ؟
ـ لقد اتصل زوجك بصديقـــي .
ـ أتمنى أن تكون قد أنجزت دراستك . وأتمنى لك التوفيق
فيها .
ـ شكــراً لك سيدتي .
واستدارت عنه لتخرج من المنزل . . .
سارت فوق صخور الشاطئ , تراقب لمعان البحر الفضي
تحت شمس الشتاء الباهتة الأمواج كانت هادئة ساكنة . بينما كان
الأفق متشحاً بالزرقة الموشحة بالغمام الأبيض هنا وهناك .
عندما عادت إلى المنزل , وجلست تتناول الغداء لوحدها قالت
ماريا :
ـ لقد ذهب !
علمت أنها تقصــد توماس , وتذوقت قطعة من لحم الحمل
الذي طبخته ماريا بالأعشاب البرية وابتسمت لها :
ـ أنت طباخة ماهرة .
وبدا السرور على ماريا .
ـ على الأقل أنت تأكلين الآن .
ـ وهل أكـــل روبرتو ؟
فأجــابت ماريا بابتسامة :
ـ أجل قد أكــل . لقد نام طوال الصباح . لقد كان متعباً . . يا
للمسكين .
ـ أراهن أنه كـــان تعباً .
أحست بالغضب لما قالته بعد أن انفجرت ماريا بالضحك
وخرجت . وبطريقة ما جعلها هذا أكثر غضباً . . وبدر في ذهنها أن
روبرتو ما أجبرها على هذا إلا ليرضي غروره . إن له قوانينه التي
تنطبق على الرجال وليس على النساء . ولا يشعر بأي خجل لأنه نام
مع جيسكا , بينما يسمح لنفسه بأن يغار ويغضب لأنه يظن أنها
عاشرت غرانت .
وأحست بنفسها تتلوى من الداخل , كما تتلوى الأفعى . لقد
خانتها مشاعرها وتجاوبت معه . . . وأحست بهذا الآن . شعرت
وكأنها تستحم بطوفان جليدي كلما تذكرت ما حصل .
هل من الممكن أن تحب وتكــره , تحتقر وترغب في آن واحد ؟
أغمضت عينيها , وتناهى لها عن بُعد هدير الأمواج وكأنها
تقهقه بسخرية . . يا إلهي كم تكره نفسها ! لقد كانت سهلة المنال
أمامه . . كانت تتظاهر بأنها تقاوم . . ولكنها بعد دقائق استسلمت .
ونزل روبرتو للعشاء , لم تكن تتوقع رؤيته , وأحست بالألم
يعتصر قلبها لرؤيته . فارتجفت وشحب وجهها . . . ولم تستطع أن
تتكلم بل رفـعـت رأسها أمامه متحدية . . وابتسامة صغيرة ملتوية
تطفو على شفتيها .
ـ لا شـــيء تقولينه . هذا تغيير ملحوظ !
وتكلمت عـنـدهـا . . الكلمات تنطلق بغضب :
ـ وماذا تتوقع أن أقول ؟ أنت تعرف تماماً ما أشعــر به نحوك .
فمنظرك لوحده يثير الغثيان !
وضاقت عيناه :
ـ ولكن هذا لم يكن الانطباع الذي لاحظته ليلة أمــس .
ـ قد تكون هذه أخبار جديدة عليك . . . ولكن للـنساء رغبة
كذلك . حتى مع الرجال الذين يكرهونهم .
ـ يجب أن أخنقك لهذا الكلام !
ـ لماذا ؟ ألا تحب سماع الحقيقة ؟ أما كانت التجربة لكلينا
إذن ؟ كنت ترغب بي , وأنا كذلك .
وتراجع , وأحست بتراجعه من طريقة فرضه لقناع هادئ فوق
وجهه الغاضب . بعد دقائق بدت أبدية قال :
ـ أوه . . صحيح حبيبتي . . لقد رغبت بك .
ـ لا تناديني بهذا !
وكانت لهجتها مقرفة . . فكرر وهو يعلم أنه يؤلمها :
ـ حبيبتي !
فهمست بنفس لهجته :
ـ أكرهك !
ـ كيف تشعرين وأنت تحترقين رغبة مع من تكرهينه ؟
أحست به يقف إلى جانبها , وتكهرب جو الغرفة كله , أسندت
رأسها على ظهر الصوفا تحاول تهدئة نفسها , وقالت عبر أسنانها :
ـ لقد مر علي الوقت كالجحيم . . ولكنه انتهى أخيراً .
فضحك ســاخراً , وبدت أسنانه من بين شفتيه :
ـ كالجحيم . . وهل تظنين نفسك ستتمكنين من الخلاص من
الجـحـيـم ؟ قولي هذا بعد شهر وقد أصدقك .
أحست بالشتات والضياع فصاحت :
ـ شهر . . لا . . لا يمكنك هذا ! لأجل الله روبرتو !
ـ أتظنين أنني سـأتركك تذهبين بعد ليلة أمس ؟
ـ ألم تكفك . . ؟ ستدمرني هكذا . . دعني أذهب !
ـ لــن يريدك كراولي بعد الآن . . مرة أو مئات المرات مــا
الفرق ؟ حقيقة أنني حصلت عليك ستبقى شوكة في حلقه .
فــاحمر وجهها غضباً :
ـ أهذا هو الـسـبـب ؟
وانحنى فوقها ليرفع رأسها بأصابعه :
ـ تعرفين تماماً أنه لا !
ـ أنت لا تطاق . . أرجوك دعني أذهب . . لا أستطيع تحمل
هذا !
ـ لقد جئت إلى هنا بمحض إرادتك .
ـ لقد أوقعت بــــي .
ـ يا عزيزتي , الفخ كان واضحاً , وكنت تعرفينه . وسرت إلى
داخله بإرادتك . . لم أجبرك على المجــيء . . كيف يمكن أن أفعل
هــذا ؟
ـ لقد صدقت أنك فاقد الذاكــرة , وأنك مريض .
ـ اكــذبي على نفسك , وليس علي . لقد جئت لنفس الغرض
الذي أردتك أن تأتــي من أجله . لم ينته الأمـر بيننا جيني . . . ولن
ينتهي . إنه ما زال يلتهمك من الداخل . . أليس كذلك ؟
عندما كانا يتناولان القهوة بعد العشاء الذي أعلنت عنه مارا ,
أخذت تفكر بالمستقبل . ووضعت فنجانها من يدها ووقفت . . .
فأمسك بها :
ـ أين تظنين نفســك ذاهبة ؟
ـ إلى الفراش . . . فأنا متعبة .
فتركها وقال بخشونة :
ـ تصبحين على خير إذن .
لم تــســـتطـع التصديق , وسارعت للابتعــاد . وفي غرفتهـــا وقفت
تصغـي لعله يتبعهـــا . ولكنهــــا لم تسمع ســــوى الصمت , وخلعت
ملابسهــا ودخلت السرير . . . وبصمت استلقت وكأنها تتوقع شيئاً ,
فهي تعلم أنه لو جاء , فسيـأخذ ما يريد , فليس لديها قــوة الإرادة أو
الطاقة لمقاومته .
عندما استيقظت صباحاً كانت الشمس تملأ الغرفة , وعندما
خرجت من غرفتها كانت الممرضة تقف في الممر خارج غرفة
روبرتو . . . فنظرت إليها قائلة :
ـ ألن تزوري زوجك اليوم . . . لقد استفقدك بالأمــس .
حسدتها جيني على سذاجتها في رؤية الأشياء دون فهمها
وقالت بأدب :
ـ بالطبع ســأراه . . بعد تناول الفطور .
أثناء تناولها للقهوة , قالت لها ماريا فجأة :
ـ ستجهدين نفسك في مقاومته . روبرتو لم يقر بالهزيمة في
حياته كلها .
وردت بأدب ولكن بحزم وغضب :
ـ لن أناقش أمــر زواجي معك ماريا .
وازداد غضبها عندما ضحكت ماريا .
ـ لقد كان هكذا منذ صغره . عنيد , متملك , وأي شــيء
يمتلكه يصبح من المحرمات .
ـ ولكنه لا يمتلكني !
ـ صحيح ؟
فوقفت جيني لتقلب الكرســي بعنف إلى الوراء :
ـ لا ماريا ! فأنا أملك نفســـي !
ولكن هل هذا صحيح ؟ سألت نفسها وهي تصعد لرؤيته . .
كيف تدعــي ملكيتها لنفسها وهو قادر على امتلاكها متى شاء ؟ وهو
يعرف هذا تماماً كما تعرفه هي !
كانت الممرضة ترتب الأدوية فوق الرف قرب السرير ,
فابتسمت لجيني مرحبة :
ـ أرأيت سيد باستينو , قلت لك إنها قــادمة !
وقفت جيني عند النافذة وقالت :
ـ وأنا هنا , يمكنك رؤية ابنك . . ألم تحن إليه ؟
ـ بلى . . شاهدته في المستشفى . أخبرتني أمــي بهذا . . ما رأيك
بــه ؟
ـ إنه يشبهــك .
فضحــك .
ـ وهـل هذا إطراء أم إهانة للصبــــي المسكين ؟
ـ لا شيء . . إنه تقرير لواقع محدد .
ـ وهل تكرهينه لأنه ابن جيسكا ؟
فشهقت للسؤال . . ثم قالت بخــشونة :
ـ لا يمكن أن أكره طفلاً لأي سبب كان .
ـ ولكنك تفضلين أن تتذكري وجوده ؟
ـ وهل ستحب رؤيتي مع طفل غرانت ؟
فــرد بحــدة :
ـ لا !
نظرت إليه متفحصة . . هل هي الرغبة فقط التي تحس بها أم
إن خلفها شيء آخر ؟ وهل سيحس بالمرارة إذا عرف أن ما بينهما لا
يحتوي الحب بل الرغبة فقط ؟ وسمعته يقول وكأنه يكلم نفسه :
ـ أندرو سعيد على ما هو عليه .
وســارت نحو الباب فسألها كالعادة :
ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟
فردت بحدة :
ـ إلى أي مكان غير هنا . فأنا أجد صحبتك لا تحتمل !
وأغلقت الباب كي لا تسمع ما سيقول , وهربت إلى الخارج ,
إلى الهواء النقي البارد . . عندما تعود إلى منزلها ستحبس نفسها
لتعمل وتنسى كل شــيء . . . ومع ذلك فسيكون كل عملها مصبوغ
بمرارة هذا الشهر الذي ستقضيه هنا .
لم ينزل روبرتو للعشاء . فتناولت الطعام لوحدها , وحافظت
ماريا على جو ودود معها وهي تخدمها .
تلك الليلة لم تستطع النوم إطلاقاً . استلقت صاحية تماماً في
فراشها تصغي إلى همهمة البحر البعيدة . . تتأمل برغبتها التي
تركتها بيضاء شاحبة ومنهكة القوى في الصباح . وتفحص روبرتو
وجهها ملياً عند الفطور , وعلمت أنه قرأ العلامات بالأبيض
والأسود على وجهها .
وخرج معها في نزهة قصيرة في الحديقة , يقف من وقت إلى
وقت ليحدق بالبحر . الهواء بارد وفي السماء غمام خفيف تختبئ
الشمس خلفه .
وقت العشاء , لامست يده يدها وهو يناولها قطعة خبز ,
وأحست بقشعريرة . ولم تستطع كبح ارتجافها . . . وتمتم :
ـ الأمر يزداد صعوبة . . . إنه هكذا دائماً .
ـ عمَ تتحدث ؟
ـ عن الإدمان . . مهما قاومت بقوة , إذا كان يجري في دمك
فستحتاجين جيني إليه . . وكلما ازدادت مقــاومتك له كلما زاد
جوعك إليه .
ـ لن أدع هذا يحدث مرة أخــرى .
وتركته لتذهب إلى غرفتها .
مضت ساعات على الصمت المطبق الذي يغلف المنزل .
ولكنها تعلم أن روبرتو صاحٍ , فذبذبات مشاعره كانت تصلها من
غرفته عبر الجدران , لتبقيها صاحية , تحارب نفسها وتحارب
نــداءه .
عندما فتحت باب غرفته كان ضوء المصباح الأصفــر يكوّن
دائرة صفراء حيث يستلقي . . رأسه الأسود فوق الوسادة , وعيناه
تضيقان فوقها وهي تدخــل .
وببطء ارتفع رأسه , وضــاقت عيناه فيها , لتبدي إعجابها بثوب
النوم الحريري بلون القهوة الذي ترتديه , والروب المماثل بأطرافه
الحريرية المطرزة القاتمة .
حــرك يده , ليعم الظـــلام الغرفة . . . وتقدمت نــحـوه في
الظلام . . وأطبقت يداه عليها بقسوة وكأنه يعاقبها على تأخرها في
مقاومته , فحبها له ورغبتها فيه لم يموتا بعد , وهذا ما عليها أن
تعترف به . . . لقد فقدت كل كرامتها , ولم تعد تهتم لــشــيء وهي
تهتف له : أحبك . . أحبك !
وعادت إلى غرفتها في الضوء الشاحب للصباح , كــارهة أن
تتركه نائماً , وتبتعد عن دفء ذراعيه . وأخلدت للنوم فقط بعد أن
أفرغت رأسها وقلبها من الدموع .
دهشت عندما شاهـدته وقد نزل إلى غرفــة الطعام لتناول
الفطور . . ونظرت ماريا إليه بابتسامة دافئة راضية , وقالت :
ـ هكذا يجب أن تبدو ! أنا أشاهد روبرتو الذي أعرفه !
نظرة واحدة أفهمت جيني ما تعنيه ماريا . فقد ذهب اللون
الشاحب عن وجهه , وعيناه عادتا إلى الحياة , مليئتان بالصحة ,
جسده يتحرك برشاقته القديمة , مزاجه كله مزاج رجل استعاد قوته .
تركتهما ماريا , وجلس روبرتو على كرسيه عند الطاولة . . .
نظر إليها وتنهد :
ـ هــل ستبقين مكتئبة طوال النهار . . ألم نتخلص من الأرواح
الشريرة ليلة أمـــس ؟
ـ صحيح ؟
لم تنظـر إليه . . هل يظن أن بإمكانه طرد ذكـــرى جيسكا بمجرد
أن تقضي ساعتين معه ؟ وقال لها :
ـ لا بد أن ما ذرفته من دموع كان له معانٍ ؟
فاستدارت إليه غــاضبة :
ـ ألا تعلم ماذا تعني ؟ إنها تعني أنــني كنت خجلة من نفســي .
عاد وجهه إلى القساوة وضاقت عيناه :
ـ أتخجلين من الاعتراف بأنك تحبينني ؟
أصــابها كلامه بلكمة في معدتها , فأجفلت من الصدمــــة ,
وراقبتها عيناه فتأوهت وغطت وجهها بيديها :
ـ أوه يا إلهـــي ! كم أنت وغــد !
ـ ألهذا السبب لم تستطيعي أن تتزوجي بكراولي ؟
وصب لنفسه القهوة وأخذ يحتسيها , وكأنما ردها لا أهمية له .
وردت بمرارة :
ـ زواج واحـــد كان يكفيني .
ـ ومع ذلك كنت تنوين الزواج به .
فهزت كتفيها :
ـ نحن ملائمان لبعضنا . . فلمَ لا ؟
وكشف عن أسنانه بابتسامة قاسية :
ـ كراولي لن يناسبك مطلقاً . . إنه ناعم جــداً .
كان كلامه أقرب إلى الحقيقة حتى إنها أحســت بالغضب :
ـ لا تسخر من غرانت ! أنت من بين كل البشر ! ليس هذا من
حقك . إنه يــســاوي عشرة منك !
ـ ومع ذلك أنت تحبينني أنـا .
وردت بعنف :
ـ لا !
فقال ببرود :
ـ أوه . . . بلى . . . أنت تحبينني , ولكن الاعتراف يــؤلمك
جداً . بيد أنـي انتزعت ذلك الاعتراف منك .
وأصبحت عيناها واسعتان وحشيتان كعيني قطة برية متوحشة
وأردفت :
ـ ولكنني لا أريد أن أحبك .
فابتسم وقال :
ـ أعلم . . . لقد أوضحت لي هذا . . . فأنا خنزير لا أطــاق ,
وأنت تكرهين رؤيتي . هل تعتبرين عدم قدرتك على الابتعاد عن
فراشي إطــراء لـي ؟
وطارت إليه مكورة الأصابع لتخبش وجهه , ولكنه أمسك بها
وأنزلها إلى ركبتيه , فقاومته بعنف , وصلبت جسدها فوق ذراعيه .
ثم أخذ جسمها الغبي الخائن , يخونها من جديد , والتفت ذراعاها
حول عنقه , تلامس شعره , مؤخرة عنقه , وأخذت تتأوه لعناقه .
وأخيراً توقف , ونظر إلى وجهها الأحمر الملتهب بحرارة .
ـ كيف تمكنت من الســماح له بلمسك , وأنت تحبينني هكذا ؟
كيف ؟ أخبريني الآن . . هل ذهبت إليه بعد أن شاهدت جيسكا
معــي ؟
فهزت رأسها نفياً وبضعف , فــأجفل , وســأل همساً :
ـ وقبلها ؟
ـ لــم يلمســني يوماً .
وغُرزت أصابعه في كتفيها :
ـ مــاذا ؟
ـ أو . . . لقد كنت غاضبة لدرجة الاستعداد لرمــي نفسي بين
ذراعي أي رجــل لمجرد الانتقــام . . . ولكنني لم أفعل !
فحدق بها :
ـ ولكن كراولي قال . . .
ـ لقد كذب . . . كلانا كذبنا . . . إنه لم يكن يوماً . .
ـ اللعنة عليه ! الكــاذب اللعين !
وعلا وجهه بياض بارد كالموت بدد كل أثر للحياة فيه ما عدا
حركة عينيه السوداوين فقالت بقلق :
ـ روبرتو .
فدفعها عنه , ووقف , ثم أخــذ يذرع الغرفة مكفهـر الوجه
متصلب الجسد . ووقفت جيني حيث هي . . . ترتجف , تفكيرها
مشوش تماماً . . ماذا قالت له كــي يغضب هكذا ؟ لقد توقعت منه أن
يبتهج , لا أن يغضب بمرارة .
هل هو غاضب لأن غرانت كذب عليه ؟ لا بد أن يفهم أن
غرانت كان يحميها منه ؟ لقد انزعجت في البداية عندما علمت ما
قاله له . ولكنها بعد ذلك فهمت أنه فعل هذا لمصلحتها , لإنقاذ
كرامتها . فلماذا يغضب روبرتو هكــذا ؟
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل الثامن
-------------------------------------
8 ـ لن أدخـــل سجنك
-------------------------------------
لم تشاهد جيني روبرتو لما تبقى من ذلك النهار , ولا زارته ,
فقد جرح مشاعرها بقوله إنها ستزحف إليه .
جلست في غرفتها تتسلى بمراجعة رسومها , لتكتشف أن خلفية
كل تصاميمها كانت مناظر تأثرت بها هنا , مرت من عينها إلى يدها
دون أن يتأثر عقلها بها , فقد وجدت في مناظر الجزيرة عاملاً
محــركاً لاتجــاه آخر في الرسـم . . . وهي تعلم أنها قادرة على
رسمها , بل أرادت أن ترسمها , فأصابعها كانت تتوق للرسم . كان
عقلها الباطن يسجل مناظر أحست بوجوب نقلها إلى لوحة .
اليوم الثاني كان براقاً وصافياً , والشمس قوية , والبحر متألق
هادئ بالرغم من وجود بضع موجات بيضاء تبدو في الأفق البعيد
وهي تقترب من الساحل , وطيور البحر قريبة من الأرض , وهذا
دائماً يعني أن طقساً سيئاً يختبئ خلف هذه المناظر .
عندما نزلت إلى الطابق الأرضي , كان روبرتو هناك , يقرأ
الصحف . قهوة بردت في الفنجان , وقطعة كرواسان تحمل قضمة
منه .
تنفست عميقاً ثم تقدمت نحوه , فرفع نظــره إليها , وسأل :
ـ أنمت جيداً ؟
ـ نعم شكــراً لك . . وأنت ؟
ولامست إبريق القهوة لتجده فاتراً , فرن الجرس :
ـ ستأتيك ماريا بغيره .
وعرفت ماريا ما هو المطلوب , فأحضرت معها إبريق قهوة
طازجة ونظرت إلى روبرتو ويديها على خصرها :
ـ هل قلت لهــا ؟
ـ اهتمــي بشؤونك !
فشخرت ماريا وضـاقت عيناها بالغضب :
ـ أليس هذا من شأني ؟ إذا ازدادت حالتك سوءاً فمن سيعتني
بك ؟
ونظرت إليه جيني بفضول :
ـ عم تتحدثان ؟
ـ لا تأبهي لها .
فقالت ماريا :
ـ الممرضة .
فرفع رأسه ونظر إليها بغضب :
ـ عودي إلى المطبخ .
فتابعت :
ـ سيطردها .
وزعق روبرتو :
ـ أخرجي من هنا !
وأصبح فجأة كالثور الهائج , تخنت رقبته بعضلات الغضب ,
وانتفخت أوداجه , واحمرت عيناه . فخرجت ماريا رافعة رأسها , ثم
قالت وهي تغلق الباب :
ـ إذا ذهبت , فستندم .
وما إن أقفل الباب حتى احتجت جيني :
ـ لا يمكنك طردها , روبرتو , كن متعقلاً !
تناول جريدته من جديد , وهزها , ثم بدأ القراءة . فقالت جيني
بتعقل :
ـ السبب الوحيد الذي جعلهم يسمحون لك بالمجيء إلى هنا
هو اصطحابك لممرضة . فلم تبعدها ؟ وما الفارق لو بقيت ؟
ـ إنها مزعجة !
ـ ولماذا ؟ ألأنها تجعلك ترتاح . أوه روبرتو . لا تكن أحمقاً !
ـ لأنها طالما هي هنا , لن تبقــي معي أنت طوال الليل .
ارتجفت بشــدة لهــذا . . . ولم تستطع إجابته , فأخفض
الصحيفة , وفي عينه تجهم وسخرية :
ـ هل ستفعلين ؟
فاحمر وجهها وأشاحت بنظرها عنه :
ـ هذا ليس بعذر . . .
ـ إنه عذر كاف لي . أريد أن أراك معــي عندما أستيقظ .
وأحست بالنار تسري في جسدها . ففي كلامه حنان ورقة ,
وإحساس مختلف عن الرغبة المتوحشة التي كان يظهرها لها , كان
فيه شــيء من حلاوة المزاح الذي كان بينهما قديماً . . . وسألته :
ـ ومتى ستذهب ؟
ـ اليوم .
ـ بالقارب ؟
فنظــر إليها بقلق :
ـ بالطائرة . . . ولكن إياك والتخطيط لتسلل فيها حبيبتي . . .
فأنت ستبقين هنا . . . أريدك معي طوال الوقت إلى أن تقلع
الطائرة . وأتأكد أنك لم تحتالي للدخول إليها .
وسـألته مقطبة :
ـ ولكن إذا لم تكن قد تعافيت تماماً فكيف لي أن أعرف ؟ لا
يعجبني هذا روبرتو . . أرجوك . على الأقل دعها هنا عدة أيام .
ـ لا . . . إنها تتدخل في حياتي كثيراً , وعلى كل لن نحتاجها ,
فأمــي قادمة .
ـ إيفا ! . . متى ؟
ـ اليوم . . أيسعدك هذا ؟
ـ أنت تعرف أنني أحب أمك .
فابتسم وأصبحت عيناه لطيفتان تذكرانها بعيني أمه المليئتان
بالدفء.
ـ أجل أعرف أنك تحبينها . وهذا ما كان يسعدني دوماً . وهي
تحبك , أكثر مما تحب آنا على ما أظن . فأختي وأمي لم تتفقا
يوماً . فآنا تحب أن ترمي بثقلها أينما كان . . و أمي أرق من أن
تحتمل هــذا .
فقطبت جيني :
ـ آنا لم تحبني يوماً .
ـ لا .
ـ كانت تكرهني لأنني .
ـ لأنك زوجتي . أعرف هذا . كانت دائماً تغار مني ونحن
صغار . كانت تتمنى لو تكون صبياً , الابن الوحيد للعائلة . فيها
تعطش كبير للسلطة والتملك , وزوجها المسكين مضطر للتحمل .
ولكنني لا أنوي مطلقاً السماح لها بالتدخل في حياتي .
وتنهدت مرتجفة :
ـ والدك كان يكرهــني أيضــــاً .
صمت للحظــات , ثم قال :
ـ أجل . . . كان يكرهك , وأنا آســف يا حبيبتي , ماذا أستطيع
أن أقول ؟ لم يكن يثق بك لأنك غريبة .
ـ كان يفضــل جيسكا .
فرد ببرود : (( أجل )) .
ـ وفي النهاية فعلت أنت مثله .
فســارع يلف خصرها بذراعه , ويقول متأثراً :
ـ لا . .
فقالت مرتابة :
ـ وماذا تعني بلا ؟ مــا هو السبب إذن ؟
فصمت , وبدت الحيرة والارتباك في تعابير وجهه . . . وتردد
مع أنه يرغب في الكلام . . . والتوى فمه . . فهمست :
ـ لا تتلاعب روبرتو .
وتخلصت منه بشــراســة وركضــت خارج الغرفة , أحضــرت
سترتها وخرجت من الفيلا لتسير فوق الصخور عند الشاطئ .
واستدارت مرة نحو الفيلا لتجد صورته من وراء الزجاج . . كان
ينظر إليها , يقرأ غضبها من تحركات جسدها , وأحست بتزايد
غضبها لشدة شفافيتها .
لم يعتذر , لم يــشــرح , حتى ولا أبدى نــدمــه عن أي شيء . لقد
استردها , وهــي رمت بكل كبريائها أدراج الرياح عندما همست له
أنها تحبه . . ولا بد أنه راضٍ عن نفسه الآن . لقد انتصر . . ولكن
ألا ينتصر دومــاً ؟
أول غلطة ارتكبتها كانت ذهابها إلى المستشفى . . كان يجب
أن تقول لإيفا إنها آسفــة ولن تستطيع الذهاب .. . ففي ذهابها إليه ,
اعترفت بضعفها نحوه , ولقد تمسك بهذا الضعف . وعرف كيف
يستغل الموقف , وتركها توقع بنفسها بعد أن أعد فخه . ولو أنها
حقاً كانت تكرهه لما ذهبت إليه , لما خلعت خاتم غرانت لتستعيد
خاتمه . لما قبلته , لمـا سمحت له بمناداتها حبيبتي . . . أجل هي
من سهلت الأمور له . . . وهذا اعتراف مرير .
كان عليها العودة إلى الفيلا أخيراً . . فأين لها أن تذهب ؟
والتقاها روبرتو عند الباب , يتفرس وجهها ويقرأ بسهولة كل ما
دار فــي رأسها من أفكــار , وقال لها :
ـ تبدين كــالأموات .
فرفعت رأسها الأشقــر بمرارة , وعيناها قاسيتان شديدتا التألق :
ـ شكــراً لك .
أحـست بنفسها كالجيش المهزوم , المتقهقر دون أمل , يواجه
المنتصر القاهر . . يكره نفسه وهو من غير دفاع .
ـ أنت بحاجة إلى شراب ساخن يعيد لك قواك .
ـ هذا تصريح مقصود لإظهــار ضعفي .
وابتسمت . . دخلا إلى غرفة الجلوس حيث كانت ماريا قد
حضرت إبريق شاي ساخن . . تناولت فنجاناً , شعرت بالدفء بعده
وعاد اللون إلى وجهها , ولكنها استمرت في شعورها بعار الهزيمة .
ولاحظ روبرتو هذا متجهماً .
بعد الغداء , جلسا معاً يستمعان إلى الموسيقى . . . وأحست
جيني بنعاس غريب , فتكورت إلى جانبه كالقطة . رأسها مشدود
إلى صدره بيده . . . ولطالما كان هذا ملاذاً لا يخيب بالنسبة لها .
عندما استيقظت , لم تجد روبرتو قربها فقد وقع رأسها بكل
لطف فوق الوسائد , والغرفة معتمة بنور بعد الظهر المتأخر . وفجأة
سمعت صوت الطائرة من بعيد , فنهضت بسرعة , ومن النافذة
أخذت تراقب الطائرة تدور في دوائر فوق الجزيرة قبل أن ترتفع
وتختفي في السماء الزرقاء . إذن لقد رحلت الممرضة , وستكون
إيفا هنا بعد لحظات .
وخرجت إلى الردهة , وفتح الباب الخارجي وتناهى إليها
صوت روبرتو يتحدث الإيطالية بسرعة , وفي نفس اللحظة دخلت
إيفا . صغيرة , مرتبة , قلقة العينين , ولرؤيتها جيني ابتسمت فوراً ,
ومدت ذراعيها :
ـ يا عزيزتي ! هل اندهشت لرؤيتي ؟ أنا المندهشة لوجودي هنا .
ولكن روبرتو اتخذ هذا القرار السريع . . . كانت رحلة متعبة . .
مررنا بعاصفة كهربائية فوق المحيط . وأخذنا نعلو ونهبط ككرة
مضرب . ولكن أندرو تمتع بكل لحظة من الرحلة , لقد ظن أنهم
يفعلون هذا لأجله . . .
اختفى صوتها عندما شحب وجه جيني , وضغطت بيدها على
قلبها وكأنها تتألم . . ثم همست :
ـ ألم تكوني على علم . أوه . . . جيني !
دخــل روبرتو من الباب , والصبي على كتفه , يضحكـان . عينا
الصبي كعينا أبيه , ويداه تداعبان شعره .
ونظــرت جيني إلى وجه روبرتو بوحشية :
ـ لعنة الله عليك !
ثم استدارت وركضت تصعد السلم , وأقفلت باب غرفتها .
وجاء إليها فيما بعد ليقرع الباب , ولكنها لم ترد . كانت مستلقية
في فراشهــــا ترتجف . يدها فوق فمها والغرفة ظلاماً . وصـــــاح
بها آمـــراً بحــدة :
ـ افتحــــي الباب !
في مكان ما من المنزل سمعت ضحكة الصبي , بابتهاج على
طريقة الأطفال . وكأنما أحد يزكزكه , وعضت جيني أصابعها
محدقة في الظلمة . . . وسمعت روبرتو يطلق تهديداً فارغاً :
ـ هل أكسـر الباب ؟ أنت تتصرفين كالأطفال وحق الله !
فردت بصــوت عميق أجـش :
ـ اذهب من هنا .
ومرت لحظـات صمت , وكأنما رنة صوتها أذهلته , ثم تكلم
بلهجة مختلفة , لطيفة , متملقة :
ـ كان يجب علي إخبارك . . . أعلم . كانت صدمة لك . وأعلم
هذا أيضاً ولكنني كنت أخشى أنك لو عرفت لحاولت الهرب في
الطــائرة .
وردت عليه بنفس اللهجة :
ـ كذاب ! ما كنت لتسمح لـي بالاقتراب منها .
وصدر صوته من بين شقي الباب , وبصوت ناعم :
ـ افتحي الباب . . . من السخف أن نتحدث معاً عبر باب
موصد . أتريدين أن يسمعنا من في المنزل ؟
ـ لست أهتم . . . فليسمعوا . . . ولماذا آبه للأمر ؟
ـ سيزعج هذا أمــي .
ـ أمك ؟ إنها تعرف حقيقة شعوري تجاه الصبي . هل قلت لها
إنني أصبحت الآن عشيقتك لا زوجتك, أم لا لزوم لأن تعرف ؟
هذا ما كنت تريده منذ البداية يا روبرتو . . أليس كذلك ؟ أنا لم أكن
يوماً بمستوى أن أكون من آل باستينو . . . ولكنت أغويتني أصــلاً
دون زواج مني لو استطعت . . . ولكن لدي أب يهتم بما يحصل
لي . وكان يحميني أكثر مما كنت تتصور فلم تجرؤ على نيل ما
تريده دون زواج . وكان يناسبك أكثر لو أن لا أب لــي .
كانت تصيح , صوتها شخن , مليء بالألم والغضب . . فتمتم
بصوت منخفض بالكاد سمعته :
ـ لا تقولي هذا .
ـ لا أقول الحقيقة ؟ لماذا جئت بي إلى هنا إذن ؟ هل أحسست
بحاجتك إلي ثانية ؟ صحيح روبرتو ؟ وهذه المرة لست مضطراً
لسخافة الزواج . . ما عليك سوى أن تمد يدك وتأخذني . . .
وتوقفت كلماتها الغاضبة , الشرسة , المريرة , وسط اختناقها
بالدموع . ودفنت وجهها بين يديها .
وضــرب بقبضتيه على الباب فاهتز :
ـ افتحــي الباب !
ولم ترفع رأسها . . . بل همست بخشونة :
ـ إذهب إلى الجحيم !
ســاد الصمت , وعرفت أنه ابتعد . وبقيت مستلقية كما هي
والعتمة تزداد كثافة . وتوقفت ضحكات الصبي . . وتساءلت ماذا
يفعل روبرتو الآن . وعلمت أنها تتصرف بغباء , ولكنها لم تكن
تستطيع منع نفسها . . . ما كان يجب أن يأتي بالصبي إلى هنا .
لم يكن غضبها بسبب أن الصبي هو ابن جيسكا بقدر ما كــان
يغضبها أكثر شدة شبهه بأبيه . ووجوده الآن هنا يجعل ما يجري
بينها وبين روبرتو مخزٍ . إنها علاقة ليس لها مكان في حياته
أندرو هو ابنه . . . باستينو . . . وهي مجرد عشيقة لروبرتو . إحدى
نسائه يستغلها مثلهن . . ومع الوقت ما من شك أنه سيصرفها كما
كان يصرفهن . وسينظر إليها اندرو ليوازيها بالأخريات اللواتي مررن
في حياة أبيه . وهذا ما تجده لا يحتمل .
وسمعت صوت روبرتو فجأة يصرخ :
ـ بعد نصف دقيقة ســأطلق النار على هذا القفل اللعين .
فجلست مجفلة في فراشها . . لا يمكن أن يعني ما يقول . . .
ولكنه يعني بالطبع . فلديه مجموعة جميلة من الأسلحة في مكتبته ,
ويعرف كيف يستخدمها جميعاً . إنه رامٍ من الطراز الأول .
منتحبة . . تقدمت لتفتح الباب , فدخـل كالعاصفة والمسدس
في يده , وفي عينيه الخطر , وقال متمتماً :
ـ أيتها الحمقــاء الحقيرة !
رمى المسدس إلى الطاولة , وأمســك بوجههــا بيد وأضـاء النور
بالأخرى . فأحست بالدوار يغشى بصرها . . . وشاهد روبرتو
الدموع على وجهها وآثار الألم . وقالت هامسة :
ـ ما كان يجب أن تأتــي به إلى هنا .
ـ وهل أسألك السمــاح له بالمجــيء ؟ وكيف يمكن أن يكون
ردك ؟ كنت ستصرين على الرحيل . أليس كذلك ؟ اعترفي ؟
ـ كمــا سأصــر الآن !
وأسمك بكتفيها :
ـ لن أتركك تذهبين أبداً . أنت لـــي .
ـ لقد قلت هذا لوالدي . . وتطلقنا . . ولم تقترب مني لخمس
سنوات .
ـ لأنني كنت أعتقد أنك تنامين مع كراولي .
وصدقته . . فعمق الغيرة في صوته كان مقنعاً . وأكمل :
ـ كنت أريد قتله . . وقتلك , ولكنك اختفيت , ثم قيل لي إنك
تطلبين الطلاق مني رسمياً . . ولو كنت وجدتك لسببت لك إصابة .
عندها كنت سأتركك .
ـ ألا زلت تعتقد أن علاقتك بجيسكا غير مهمة ؟ كل ما عندك
هو الاتهام , لا تدافع عن نفسك أبداً . . ترفض أن ترى أي خطـأ
فيما فعلته . . . أليس كذلك روبرتو ؟ كل ما يهمك من الأمر أن أحد
ممتلكاتك قد شرد منك ؟
إحدى يديه , تسللت إلى شعرها , وأخذت تلف خصــلات منه
حول أصابعه . . . وقال :
ـ ولكنه لم يشرد مني ثانية . . . لقد استعدتك , وســأحتفظ
بك .
ـ وهل تظن حقاً أنــني سأرضى بأن أكون في منزلة العشيقة في
نظر ابن جيسكا ؟
تأوه طويلاً :
ـ آه . . هذا هو الأمــر إذن .
ـ لن أقبل بهذا مطلقاً .
ورد ببرود :
ـ ولنفترض أننا متزوجان ؟ فمــا الفارق ؟
وشهقت بأنفاسها , وصمتت للحظات , ثم ردت بخشونة :
ـ لم تذكــر الزواج من قبل .
فالتوت شفتاه :
ـ لم يبدُ لـــي مهماً .
ـ أتصور هذا . فكــل ما كان في بالك أن تحصل علي . أليس
كــذلك ؟
وانحنى نحوهــا مبتسماً .
ـ لا شـــيء غيره . . . ولأسابيع بعد استردادي لذاكرتي . يا
حبيبتي !
ـ خنزير !
ـ وما كان رأيك بما حدث ؟ صدقاً الآن ؟
ـ كنت أود لـو أرميك في الزيت المغلــي .
ولكنها كانت تكذب وكلاهما يعرفان هذا .
ـ فكري الآن . . لو تزوجنا, فهل ستقبلين بأندرو كابن لــي ؟
ـ أجل . . سأقبل به . . ولكنني لن أتزوجك روبرتو , في مطلق
الأحوال . فأنا لا أثق بك . فهناك الكثير من النساء في حياتك ولن
أمر ثانية في تجربة رؤية امرأة أخرى في فراشــي يوماً من الأيام .
ـ لن يحصـــل هذا .
ـ تقول هذا الآن , ولكنك سرعان ما تغير رأيك . صدقتك فيما
مضى . . . وكنت صغيرة وحمقاء . . ولطـالمــا حذرني والدي
و غرانت . . .
فاحمرت عيناه :
ـ لا تذكري اسم كراوي أمامي . . . وإلا لن أكون مسؤولاً عما
سيحصــل !
ـ أنت لم تحب غرانت يومــاً !
فضحك ضحكة غاضبة وقال :
ـ أكــره رؤيته ويكره رؤيتي . وكلانا يعرف لماذا .
وردت بهدوء .
ـ لطالما كان طيباً معــي .
ـ بالطبع . . فهو رجل صبور . يعرف ما يريد , ومستعد للانتظار
على أمل الحصول عليه .
ـ أظنك تســـيء الحكم عليه .
ـ لا . . . بل أنت من أســأت الحكم عليه . . . ولكنك لن
تتزوجيه . . . وستتركيني أعيد له خاتمة بنفسي , لأضعه في حلقه .
ـ لا تتكلم هكذا ! أنت لا تنصف غرانت ! مهما كان شعورك
نحوه فهو من ألطف الرجال الذين عرفتهم .
ـ ولكنه أساء إلينا كثيراً . . ولا ندين له بشيء . . صدقيني .
أحــســت بالحرارة تؤلم خديها :
ـ ولكنه فعل هذا لأجلي . . . كان يحاول إنقاذ ماء وجهي . .
إنقاذ كبريائي . . وأظنه كان يحاول إيهامك بأنـني لا أهتم بما
فعلت .
ـ وهل تؤمنين بهذا حقاً ؟ لقد فعل هذا لأجل نفسه ! لقد شاهد
أمامه فرصة وتمسك بها , فرصة تفريقنا والفوز بك لنفسه .
ـ كنا سنفترق على كل الأحوال بعد الذي رأيته !
فهز رأســه ببرود وقال :
ـ لا جيني . . . فما رأيته لم يفرقنا . . بل كراولي هو الذي
فعـــل.
وأحست باليأس . . إلا يمكن له أن يرى الحقيقة ؟ ألا يمكن له
أن يفهم ؟ أكان أعمى لهذه الدرجة تجاه خيانته لها ؟ أيمكن أن
يعتقد حقاً بأنها كانت ستتجاهل خيانته ؟
ـ نحن نتكلم بلغتين مختلفتين . . . لن أستطيع تقبل أن للرجل
الحق في الخيانة الزوجية . . ربما فتاة من بلادك قد تهز كتفيها دون
اكتراث لشيء كهذا . ولكنني أنا لن أستطيع . ويجب أن تفهم هذا .
أنا لا أتحدث عن الأخلاقيات أو القوانين . . . أنا أتحدث عن
الحــب .
وتسللت يده بنعومة من ذراعيها إلى عنقها :
ـ الحــب .
فجذبــت نفسها منه :
ـ لا تفعل هذا ! . . . بإمكانك إجباري على التجاوب . . .
ولا أستطيع الإنكـار . . ولكنني لا أتكلم على التجاوب الجسدي . أنا
أتكلـــم على الثقة , والصدق , ولا أستطيع أن أثق بك في كليهمـــا ,
روبرتو . أتظن أنني أريد زواجاً أكون خلاله محتارة دوماً , أتسـاءل
في أي فراش أنت ؟ أي نوع من الحياة هذه ؟ سـأجن في وقت قصير
وهو كتفيه :
ـ حسناً . . . أصلحــي وجهك . مشطــــي شعرك . وانزلي إلى
الطابق الأرضي قبل أن تظن إيفا ولويس أنني أقتلك .
ـ لويس ؟ وماذا يفعل هنا ؟ لماذا جاء بحق الشيطان ؟ لا تقل لي
كذلك إن أختك آنا هنا ؟ وكذلك جوليان . . هل جاءت كل عائلتك
اللعينة ؟ ماذا جرى ؟ هل هو تجمع قبيلة بني باستينو ؟
فتحرك نحو الباب , ونظر إليها من فوق كتفه :
ـ لقد طلبت من لويس أن يأتــي .
ولسبب ما , أحست بلسعة قاسية لم تفهم سببها .
ـ لم تكــن حكيماً في قرارك هذا , روبرتو . فهو سيتساءل
بفضول . . . فلطالما كان معجباً بي .
فنظر إليها بحدة :
ـ إنه يعبث مع كل أنثى يلتقي بها يا عزيزتي . . . فلقد ولد وهو
منتهز للفــرص .
ـ ألم تندهش لســـماعك أنه غازلني ؟
فابتسم :
ـ ســأدهش أكثر لو سمعت أنه لم يفعل . أنت جميلة , ولم
يفتني أبداً إعجــابه بك .
وغضبت جيني للهجته , وقالت :
ـ ولكنك كنت واثقاً جــداً مني . . . أليس كذلك روبرتو ؟
فابتسم ابتسامة غريبة وقال :
ـ أنا أثق بك عزيزتي .
وترك الغرفة . . . تاركاً إياها ترتجف من جــراء رده .
-------------------------------------
* * *
الفصل التاسع
-------------------------------------
9 ـ كذبة واحــدة تكفي
-------------------------------------
أخذت جيني وقتها لتستعد , وهي تشعر بالحرج لما حدث في
الساعة التي مرت , لهذا لم تكن متلهفة لمواجهة إيفا ولويس .
أمضت نصف ساعة قبل أن تترك غرفتها . . . وسارت ببطء تنزل
درجات السلم ووقفت في الردهة تصغي إلى الهمهمة الخافتة
المنبعثة من الصالون . . . وكان سهلاً عليها أن تميز صوت لويس
العميق البطيء . وكانت إيفا تضحك بنعومة , وتقول (( كم هــذا
سخيف )) عندما فتحت جيني الباب لتقف متحدية الجميع , رأسها
مرتفع بكبرياء , وعيناها تبرقان .
قالت إيفا بهدوء وكأن شيئاً لم يكن :
ـ ها أنت يا عزيزتي ! تعالي واجلســي قربي .
نظرت جيني حولها , فلم تجد أندرو . وفهمت إيفا تلك
النظرة . . . فقالت بصوت هادئ :
ـ أندرو نائم .
ـ آه . . فهمت .
وقطعت الغرفة شاعرة بوقع نظرات روبرتو عليها , تتجول من
صدرهـــا المرتفع تحت الفستان الحريري حتى ساقيهـــا الطويلتين
الناعمتيـن تحته . وجلست تضــع ساقاً فوق ساق . . . والتفتت إلى
لويس , الذي كان يركز بنظرة إعجاب عليها كذلك . . . فابتسمت له
جيني بإغراء :
ـ مرحباً لويس . . . ما الذي دفعك لترك النوادي الليلية في
نيويورك ؟
فرد مبتسماً :
ـ روبرتو . . ومن غيره ؟
ـ ومن غيره !
وسألها لويس وهو يقف :
ـ ماذا ستشربين ؟
ـ شراب الكرز مع الصودا .
فصب الكأس لها بينما راحت عيناه تتجولان على جسدها وهو
يقدمه لها وقال لها بصوت كمواء القط :
ـ لقد أصبحت أجمل من آخر مرة رأيتك فيها .
فنظرت إليه متفحصة , ورموشها ترتعش متعمدة , فهي تعلم أن
روبرتو ينظر إليهما .
ـ شكراً لك لويس .
فسألتها إيفا بسرعة , والقلق في صوتها :
ـ هل كنت ترسمين وأنت هنا ؟
فاستدارت جيني إليها مبتسمة :
ـ لقد رسمت بعض الرسوم . . ولكنني وجدت نفسي أرغب في
رسم لوحة لهذه المناظر . عندما أعود إلى منزلــي سأرســم لوحة
كبيرة تمثل منظر الأرض هنا ولدي عشرات الأفكار الأخرى .
ونظر لويس إلى ابن عمه , وســألها :
ـ وهل ستعودين قريباً ؟
قال روبرتو دون تردد , وهي يتكــئ إلى ظهر كرسيه والكأس
في يده :
ـ لا !
ولم تنظر إليه جيني , بل تجاهلته وردت إلى لويس :
ـ بأسرع وقت ممكن . يجب أن أعود إلى عملــي . . . فلقد
ضيعت الوقت الكثير هنا .
فعلق لويس :
ـ أنت تكتسبين شهرة في عالم الأزياء . . ولا بد أن هذا
يكسبك المال الآن . . لقد قرأت مقالة عنك في مجلة أميركية .
فقالت مبتسمة بخبث :
ـ أجل . . فقد أراني غرانت المقال .
فابتسم لويس ابتسامة غريبة . . وطافت عيناه فيها بطريقة لم
تعجبها , ثم تمتم بنعومة :
ـ آه . . خطيبك ! أيعلم بأنك هنا . . على فكــرة ؟
أحست جيني بالحرارة في كل جســدها , ولكنهـــا أجـابــت
بصراحة :
ـ أجل . . . يعرف .
ونظرت إلى لويس متحدية , تتحداه أن يقول كلمة أخــرى حول
الأمــر . ولكنه قال :
ـ لديه أفكار متحررة , لو كنت لــي , أظن أنــني ســأكون أكثر
تملكــاً .
فصــاح روبرتو من بين أسنانه :
ـ هذا يكــفي !
فكشر لويس بابتسامة له :
ـ هيا . . روبرتو . . لم تعد زوجتك , وهــي حرة في اختيار من
تريد . برضى كراولي أم بغير رضاه .
وصمت روبرتو لكن وجهه بقي متجهماً وعيناه تلمعان من شدة
الغضب . ثم قال للويس بحدة :
ـ أتريدني أن أقتلك ؟
واختفت البسمة عن وجه لويس :
ـ ألم تكتف منها بعد ؟ لقد حصلت عليها لمدة أسبوع . وأظن
هذا سبب مجيئك بي إلى هنا . . . كي آخذها منك , ولن تكون
المرة الأولى التي ترمي فيها إحدى نسائك علي للتخلص منها .
أليس كذلك .
أحست جيني بالإذلال يحرق وجهها . . . وقفزت على قدميها ,
فأمسك روبرتو بمعصمها , ليعيدها إلى كرسيها وكأنها طفلة :
ـ ابقي هنا .
وأطلقت في وجهه غضبها الحارق :
ـ وأستمع إليه ؟ ماذا تحاول أن تفعل معي روبرتو ؟ أهذا هو
سبب وجوده هنا ؟ هل ستسلمني إليه كلعبة تعبت منها ؟
وقال لويس , والبريق في عينيه جعلها تحس بالغثيان :
ـ لعبة جميلة جداً . قد لا تجدين هذا التبادل سيئاً جيني . وقد
أفاجئك .
وأخذ يتفحصها , والاحمرار يتصاعد من عنقها ليشعل وجهها .
ووقف روبرتو باسترخاء . ولكن لم يكن في وجهه أي شيء يدل
على الاسترخاء . تراجع لويس فجأة وقد امتلأ وجهه بالرعب . .
وأطبقت يدا روبرتو على عنقه . . . وقام لويس دون جدوى , يلعن
ويسعل , يداه لا تستطيعان زحزحة قبضة روبرتو عن عنقه , ثم طار
فجأة ليقع فوق الكرســي , وأخذ يشهق محاولاً التنفس , وجهه شديد
الاحمرار . . . وهو مستلقٍ في مكانه يتلمس عنقه بخوف .
حدق روبرتو به متجهماً ثم تمتم :
ـ أنت محظوظ لتركي إياك تتنفس . وما تركتك تتمادى معها إلا
لكــي تعرف أي نوع من الخنازير أنت .
والتفت إليها :
ـ لقد تركته يظن أن بإمكانه معاملتك كما اتفق , كــي تعرفي
حقيقته , وأنا آســف لأنه آلمك , جيني . لم يكن سهلاً علي
الاستماع إلى قذارته . صدقيني .
ومالت إيفا إلى الأمام ولمست ذراع جيني بكل لطف :
ـ أريد أن أخبرك قصـة .
فتمتمت جيني :
ـ لا أود سمــاع شــيء . . .
فقال روبرتو :
ـ يجب أن تسمعي . لقد جئت بهما إلى هنا كي تستمعي . فلو
أخبرتك أنا , لما صدقتني . . . استمعي لأمـي جيني .
فردت بغضب :
ـ لقد ثبت لــي أنها قد تكـذب إذا أردت أنت منها هذا .
ـ ولكنها لـن تكذب هذه المرة .
ـ وكيف أعرف ؟ لن أصدق كلمة تقولها بعد الآن .
فحدق بها ثم التفت إلى لويس وقال لها :
ـ راقبي وجهه وهي تتحدث . . . وستصدقين .
ونظرت إلى لويس لتشاهد الصدمة في وجهه , وكان ينظر إلى
ابن عمه , قسماته خائفة , مضطربة , يعلو وجنتيه الاحمرار .
وجلست جيني ببطء . . . نظرت نحو إيفا :
ـ حسناً ؟
فقالت إيفا :
ـ لست بحاجة لأقول لك , إن زوجي وقبل أن يلتقي بك روبرتو
بزمن طويل كان يحاول إجباره على الزواج من جيسكا . . . لقد كان
لا يستسيغ فكرة أن لا يتزوج ولده من إيطالية . ولم يكن يحب
فكرة استقلالية ابنه عنه . ولطالما أراد فرض إرادته على روبرتو ,
ولكن لروبرتو إرادة من فولاذ . فهو أصلب من أبيه , ولا ينحني أبداً
أمام أي كان . ولطالما تشاجرا بمرارة . . . وكان أنطونيو لا يخفي
الأمر عن أحد , وجيسكا كانت تعلم بأنه اختارها زوجة لروبرتو . . .
ولسوء الحظ كانت تواقة بشكل غريب للحصول على ما تريد .
وتكلم لويس , وعنقه يؤلمه من قبضة ابن عمه :
ـ لقد كانت ال***** الصغيرة مفتونة به .
فسأله روبرتو بصوت غريب :
ـ وهذا ما أزعجك . . . أليس كذلك ؟
ـ لقد كنت أشعر بالسقم عندما أشاهدها تتودد إليك , وكأنك
نوع من الآلهة , وأنت لا تأبه لها . . كان عليك أن تكون شهماً
أكثر .
ـ كمــا كنت أنت ؟ !
ـ لقد تركتك تدوس عليها , ظنت بأنك ستتزوجها في النهاية
حتى وهي تعلم بأنك تكرهها وعندما تزوجت جيني . . . شعرت
بالإحباط , وبدت كالحمقاء . وكنت قد حذرتها فلم تستمع إلي .
فتمتم روبرتو بنعومة :
ـ ولكنك كنت مستعداً لمواساتها ؟
فاحمر وجه لويس بعمق . ولم يرد , بل حدق بابن عمه الذي
تابع قائلاً :
ـ لقـــد لاحقتهـــا دون هـــوادة . وأمطرتهـــا بالغزل الذي وجدته فـــي
النهاية لا يقاوم . . . كم استغرق ذلك لويس ؟ ستة أشهر ؟ تسعة ؟ لم
تكن سهلة المنال , أليس كذلك ؟ كان عليك أن تعمل جاهداً لتحقق
أهدافك .
فشخــر لويس , وقد تصاعد غضبه :
ـ لا تزُه بنفسك ! لقد كانت ناضجة للقطاف بــعد أن أذللتهــا
بالزواج من أخرى . وهكذا وقعت في يدي كالتين الناضج .
وحدقت به جيني وذهنها يعمل بسرعة . . إذن كان لجيسكا
علاقة غرامية بلويس ؟ ولم يدهشها هذا . ولكنها لم تدر ما علاقة
هذا بما حصل فيما بعد وقال روبرتو بلهجة بارة كالجليد .
ـ أهكذا ستقص الأمــر على زوجتك ؟
فشهق لويس بحدة وارتباك , وتلاشى كل لون من وجهه وحدق
بروبرتو بعينين مشدوهتين :
ـ لا يمكنك ! لا يمكنك إخبارها ! سيقتلها هذا !
ـ كــان عليك أن تفكر بهذا قبل الآن .
ونظر لويس إلى إيفا , متوسلاً :
ـ إيفا . . . أنت تعرفين ما قد يفعل هذا بها ! لا يمكنك تركــه
يخبرها . لن تتحمل الصدمة !
وبرز الحزن والمرارة على وجه إيفا :
ـ المسكينة ! إنها تستحق أفضل من وغد مثلك .
ـ لأجل الله ! . . أنا رجل طبيعي , وهذا كل شــيء . أتظنين أنه
من السهل العيش مع امرأة أحبها ولا أستطيع لمسها ؟ أعلم إنني
كنت أعرف هذا الواقع منذ البداية . ولكنني أحببتها كثيراً , وأرادتها
زوجة لـي , مع إنني أعرف أن حالة قلبها تهدد بموتها في أيه
لحظة . . وكانت تعرف أن لــي علاقات , وتتجاهلها . . ولكن
جيسكا ؟ . . . لن تسامحني على هذا . . . سيقتلها الخبر .
خلال خمس سنوات , كانت جيني قد نسيت كل هذا , ولكنها
تذكرت الآن وارتعدت . كانت قد قابلت زوجته مرة واحدة . كانت
تمضي أوقاتها كلها في الفراش لمرض مزمن في قلبها . وتذكرت
جيني كذلك أن جيسكا كانت . . . شقيقتها .
كانت إيفا تنظر الآن إلى لويس بكل احتقار , وهزت كتفيها :
ـ كنت تعرف تماماً ما تفعله . . لقد أغويت شقيقة زوجتك عن
قصد ولا تحاول الإنكار . . . فلقد كنت تعرف أنها الخيانة التي لا
يمكن أن تغفرها لك .
ونظر إليها كالحيوان العالق في الفخ , وشفتاه مكشرتان عن
أسنانه . . . وصاح :
ـ الكلام سهل عليك . لن تتمكني من معرفة حقيقة الأمــر
بالنسبة لي .
ـ صحيح ؟ ولكن زوجتك كانت تعرف , وتعرف إنك ضعيف
الإرادة على حيــاة التقشف . . . ولم تتزوجك بسهولــة لويس , لقد
ناقشت العائلة الأمـر لفترة طويلة معهــا قبل أن تعطيك الرد . وكانت
تعـــرف تماماً أنك تريد الزواج منهــا لأجل حصتهـا من مال العائلة .
وصــاح بألم ظاهر في صوته :
ـ لا ! إنها لا تعرف هذا . . . لا يمكن !
ـ لقد فكرت بكل شيء , وكانت كل القرائن ضدك , ولكنها
كانت تحبك فقررت المخاطرة ومواجهة الألم الذي كانت تعلم إنك
ستسببه لها , كما تحملت بكل شجاعة الألم والخوف من حالتها
لسنوات .
وفجأة أحنى لويس وجهه بين يديه . وســاد الصــمــت في
الغرفة . . أشعل روبرتو سيكاراً , وأسند رأسه على الكرسي يدخن .
ونظره مثبت على رأس ابن عمى المنحني . وراقبته إيفا كذلك ,
وكأنهما نسيا وجود جيني . بعد دقائق , استوى لويس في جلسته ,
ووجهه شاحب وقال :
ـ أنا أحب زوجتي . . ولهذا كنت أريد . . . بل كان يجب أن
أحصــل . . . على جيسكا , لأنها تشبهها .
ولم تبدو الدهشة على إيفا لهذا الاعتراف . بل هــزت رأسهــا
وقالت :
ـ كانت جيسكا تعرف هذا . . لقد آلمتها . ولم تحاول إخفــاء
سبب رغبتك بها عنها . . أنت تقول إن روبرتو هو من جرح
كرامتها . . . ولكنه على الأقل لم يستخدمها كبديلة في الفراش عن
زوجته . . . شقيقتها .
فوقف عند النافذة :
ـ لماذا تفعلان هذا ؟ لمــاذا تعيدان الذكرى بعد خمس سنوات ؟
لماذا الانتظار خمس سنوات لتهديدي الآن بالكشف عن الأمر ؟
نظر روبرتو إلى طرف سيكاره المشتعل . . . وقال :
ـ أندرو .
فاستدار لويس بحدة وهو مقطب :
ـ ما شأنه ؟
ونظــر روبرتو إلى جيني بسرعة , ثم إلى إيفا بصمت , فســارع
لويس يسأل بقلق :
ـ حسنــاً ؟
فقالت إيفا ببرود :
ـ اجلــس يا لويس .
ـ أوه . . . لأجل الله !
فصــاح به روبرتو :
ـ اجلس !
فجلس ينتظر والغضب يملأ وجهه , فقالت إيفا :
ـ إنه ابنك .
فــحدق بها لويس بشراسة , ثم إلى روبرتو بعينين ضيقتين :
ـ أوه . . لا . . أنتما تكذبان ! . أتظنان أنـني لم اسألها عن هذا ؟
يا إلهــي . . . عندما أفكــر . . .
وأدار وجهه الوسيم نحو جيني , وعلت وجهه تكشيرة :
ـ آه . . . لقد فهمت . . . أنت تحاول تبرئة نفسك أمامها . أليس
كــذلـك ؟
فقالت جيني بخشونة :
ـ لن أستمع إلى أي شيء من هذا بعد الآن . . . إيفا أقدر لك
ما تحاولين فعله , ولكن , لأجل السماء , لا تكذبي حول ذلك
الصبي الصغير المسكين . لا أريده أن يتألم إيفا . . . أي نوع من
الوحوش تظنينني ؟
فقالت إيفا بهدوء :
ـ لدي الدليل .
وبدا أن لويس على وشك الاختناق . وســأل بيأس :
ـ أي دليل ؟
فردت ببرود :
ـ اعتراف جيسكا وسأريك إياه بعد لحظــات . فأنا لم أخبر
جيني بقصتي بعد فالزم الهدوء لويس , لأكمــل القصة .
والتفتت إلى جيني .
ـ ليلة تشاجرت مع روبرتو , وخرجــت إلى منزل أبيك . . .
حصل شجار حاد آخر بين روبرتو وأبيه . . . وأصيب بألم حاد في
رأسه حتى إنه اضطر إلى ابتلاع أكثر من حبة منوم . ووجدته في
مكتبه بعد منتصف الليل , فاستدعيت خادمان ليحملانه إلى فراشه .
ولم نستطع إيقاظه وكانت جيسكا في المنزل بالطبع . وخرجت من
غرفتها بملابس النوم لتعلق بشكــل لاذع على حالته , والشجار
بينكما . . . وكنت حادة معها . . . فعادت إلى غرفتها غاضبة .
وقاطعها روبرتو بصوت عميق :
ـ نمت كالميت طوال الليل . وعندما استيقظت وجدتها في
فراشــي .
فضحك لويس بخشونة :
ـ هنا تبدأ القصة الخرافية يا جيني .
ونظــر إليه روبرتو بغضب :
ـ اقفل فمك أو أقفله لك !
وعــاد إلى جيني :
ـ كان رأســي يضج كالطبول . . وأحـسـســت بالغثيان . . وآخــر
شيء كنت أرغب فيه هو النســاء . وخــاصة جيسكا . . يا إلهـي
جيني . . . كان بإمكاني الحصول عليها في أي وقت وبإشارة من
إصبعــي .
وشــاهد إجفالها فضحك :
ـ أعلم أن هذا كلام قاس . ولكن هذه هي الحقيقة . لقد
عرضت جيسكا نفسها علي على طبق من فضة عشرات المرات .
ولكنني لم أكن أهتم بها . . . وقلت لها يومها أن تخرج من
غرفتي . . . فضحكت . ثم قالت بأنك عدت ووجدتها في فراشي . .
كانت قدرت أنك قادمة من الخارج , فســارعت إلى غرفتنا واندست
في الفراش معــي . . . يا إلهي ! تلك ال***** ! كان يجب أن تري
وجهها وهي تخبرني بالأمر ! فنهضت من الفراش لأرتدي ملابسي
وأسرع للبحث عنك . ولم أتوقع أن يقابلني كراولي بتلك الكذبة .
كان محظوظاً أنني لم أقتله , ولكنه تمكن مع والدك من طردي
خارج المنزل .
أكملت إيفا القصة بعد أن توقف :
ـ عاد إلي يومها بحالة مريعة , وصدمت بما أخبرني به . .
ولكنني أصريت على رؤيتك بنفسي . . كنت أعلم أنك ستخبريني
الحقيقة . . وطلبت من روبرتو أن يتركك وشأنك إلى أن أراك .
وتعرفين ما حدث بعد ذلك اختفيت , ورفض والدك تمرير أي
رسالة لك . وقلت لوالدك الحقيقة حول ما حدث بين روبرتو
و جيسكا . . ولكنه لم يصغ إلــي .
وذهلت جيني :
ـ أخبرت والدي ؟ لم يقــل لــي كلمة عن الأمــر .
فرد روبرتو :
ـ لأنه لم يحــبي قط . . . كلانا كــان له أب خــلق المشاكـــل بيننا
بوجهات نظره ولأكن صريحاً , فإن والدك كان يتوق لمنع زواجك
مني .
وأكملت إيفا بنعومة :
ـ للإنصاف . . لم يصدق والدك قصتي . قال إنها قصــة لا يمكن
أن تصدق . وربما لم يخبرك لهذا السبب .
وقال روبرتو :
ـ كتبت لك . ولم تقرأي رسائلي , أليس كذلك ؟ لــم يكن سهلاً
علي تصديق أنك أحببت كراولي . . . ولكنني كنت آمـل أن يكون
ذلك للانتقام فقط . مجرد دواء ليشفي جراح كرامتك . وحاولت
الوصول إليك فرفضت , ولم أستطع أن أجد مكانك حتى تطلقنا .
ثم رأيت كراولي وقال لي بأنكما ستتزوجان .
ـ غرانت قال لك هذا ؟
ـ قال إنك مغرمة به , وصدقته . . وتركته وأنا أتمنى لو أستطيع
أن أخنقك بيدي .
ـ ولكنك تزوجت جيسكا .
ـ آه . . أجل . . . جيسكا . . لقد بدا عليها حتى ذلك الوقت
بوضوح عوارض الحمل . وعندما أصـــر والدي على معرفة والد
الطفل , قالت بأنه لــي .
فصــاح لويس :
ـ لقد كان ابنك . . . إنه يكذب جيني . . . إنه أبوه . . صدقاً . .
لقد نام معها تلك الليلة .
فصرخت إيفا بحدة :
ـ لا ! بالطبع أصــرت جيسكا على هذا . وأنت أصريت على
وجوب زواج روبرتو منها حال أن يصبح حراً .
وقال روبرتو :
ـ أما أنا فلقد كنت في مــزاج لم يسمح لـي بالاهتمــام بشـــيء . . .
ولكنــني كنت أكره جيسكا لما فعلته لنا . وقلت لها هذا . فهـددت أن
تقول الحقيقة لأختهــا عنهــــا وعن لويس إذا لم أتزوجها . عندهـــا
فهمت من هـــو والـــد الطفل وعندما أظهرت لها معرفتي , اعترفت
بكــل برود . . طبعاً ليس أمام والدي .
فشخــر لويس :
ـ كم هذا مقنع .
فرد عليه روبرتو :
ـ ماعدا أنني كنت احتطت للأمر .
ـ وأي احتياط ؟
ـ سجلت لها كل كلمة قالتها .
وســاد الصمت , وأحس لويس بالاختناق , ومرر أصــابعه على
شفتيه وكأنهما جفتا . وأكمــل روبرتو :
ـ وعندما علمت جيسكا أن لدي دليل على كذبها على أبي ,
غيرت لهجتها . . وأصيبت بالهستيريا , وهددت أن تجبر لويس على
الاعتراف بالطفل حتى ولو قتل هذا شقيقتها .
وتنهدت إيفا .
ـ كانت تعني ما تقول . كانت تغـار من شقيقتها وكانت تعلم
أنك لم ترغب بها إلا لأنها تشبهها . . وأظنها كانت تود أن تطلعها
على الأمر ورحبت بتلك الفرصة .
وقال روبرتو :
ـ لم أستطع تركها تفعل . كنت خسرت جيني على أي حال .
وهكذا تزوجت جيسكا لإعطاء أندرو اسمي . إنه دم آل باستينو في
كل الأحوال , وله حق بالاسم .
ووقف لويس ببطء :
ـ حتى ولو اعترفت جيسكا بهذا , فليس هناك دليل على أنه
ابني .
فقال روبرتو بهدوء :
ـ عندما ولد , كان بحاجة إلى نقل دم فوري , وأنت تعــرف
لمــاذا كما أعتقد يا لويس فئة دم (( أر إتش )) سلبي أليس كذلك ؟
ـ أجــل .
ـ وفئة دم جيسكا (( أر إتش )) إيجابي , وهذا له علاقة بدم القربى
والطفل الذي يحمله لا يمكن أن يعيش إلا إذا تغير دمه فوراً ,
وخــلال دقائق من ولادته .
فتنفس لويس بعمق :
ـ يا إلهــي !
ـ ولكن جيسكا لم تكن تعرف هذا , ولا الأطباء , الذين كانوا
يعتقدون أنني والد الطفل . وأن فئة دمي مماثلة لفئة دمها , وكانت
صدمة لهم عندما ولد الطفل بلون أزرق .
فقال لويس بصوت خفيف :
ـ إذن هو ابني . . . يا إلهي . . . ! إنه لـي . لماذا لم تخبرني من
قبل ؟ أنت تعرف أنــني كنت أجهل هذا الأمــر .
فنظر إليه روبرتو ببرود :
ـ لــم يكــن لك الحــــق بأن تعـرف . . . وحتى الآن كنت تنكـــره .
ـ هـــذا لأنـــني لم أكن أعــــرف . ولو عرفت لأسعدنـــي هذا ! أنت
تعرف أن زوجتي لا يمكن لها أن تنجب ولداً . والآن تقول لـــي أن
لدي ولد . وولد يحمل دم زوجتي ودمــي .
فنظرت إليه إيفا بغضب وقالت ببرود :
ـ ولكنك لن تتمكن أبداً من المطالبة به . . زوجتك يجب أن لا
تعرف .
بدا على لويس الذهول . . وأغمض عينيه وهو يقول :
ـ لقد نـسيـت وهذا عقـابي . . . إنه ابني . . . ولن أستطـيع
الاعتراف به .
وتوجه نحو الباب وقــال ساخراً :
ـ إنها أرواح الانتقــام . . دائماً تنتقم فــي آخر المطاف .
بعد أن ذهب , وقفت إيفا لتسير نحو الباب . . . تاركة روبرتو
يسند رأسه على ظهر كرسيه , يراقب جيني متفحصاً .
-------------------------------------
* * *
-------------------------------------
الفصل العاشر و الأخير
-------------------------------------
10 ـ صــوم السنين
-------------------------------------
بعد لحظات صمت مذهول . . سألت جيني :
ـ لمــاذا لم تقل لــي كل هذا منذ زمن ؟
فرد بصوت منخفض :
ـ ما كنت صدقتني , حتى ولو أصغيت إلي . لا . . كان يجب
إحضــار لويس وإيفا إلى هنا لأتأكد من سماعك كل شـيء .
ونظرت إليه عبر رموشها قائلة :
ـ يجب أن تعترف . . . تبدو القصة بعيدة عن التصديق .
فضحــك :
ـ والدي صدق جيسكا . وبالطبــع كان يريد أن يصدق . وكــان
سعيداً لتطور الأمور بهذا الشكــل .
وفكــرت بـ جيسكا لأول مرة بتفهم وعطف :
ـ يا للفتاة المسكينة . . أصيبت بالأذى والألم من كل الجهات .
منك ومن لويس , لا بد أنها يئست .
وأعطاها ابتسامة صغيرة ملتوية :
ـ ولو أنها تألمت , فقد استخدمت مخالبها لتنتقم , فلا تقلقي ,
كانت مستعدة للذهاب إلى شقيقتها . وحتى معرفتها بأنها يمكن أن
تقتلها لم تعنِ لها شيئاً , كانت مستعدة لاستخدام كل الوسائل
المتاحة لها لتحصل على ما تريد . وكانت مصممة على تحميلي ولد
لويس .
ونظرت إليه مقطبة :
ـ كنت أعتقد أنها تحبك .
فهز رأســه :
ـ لا تكوني عاطفية يا جيني . . جيسكا لم تحب سوى جيسكا .
ـ وهل . . .
وأحجمت عن السؤال , وأخفضت عينيها وقد احمر وجهها . .
فسألها بخبث وهو يبتسم :
ـ هل . . ماذا ؟
فنظرت إليه بسرعة :
ـ تعرف ما كنت سأسأل .
ـ هل نمت معها ؟ مـا رأيك . . حبـيبتي ؟
وشدت على أسنانها , تريد أن تضــربه :
ـ وكيف لي أن أعرف ؟ كانت زوجتك لثلاث سنوات .
ـ كانت تحمل اسمي لثـلاث سنوات . ولم تنم لحظة في
فراشـي . . . مع حب أو بدون حب . لم أكن أرغب بها ولم أدَّع هذا
قط . . أوضحت منذ البداية أن زواجنا اسمي فقط . حصلت على ما
أرادت . . . أصبحت زوجتي أمام الناس . . . وعندما غرقت لــم
أستطع الشعور بالأسى عليها .
ـ مسكينة جيسكا .
ونظرت إلى الساعة :
ـ لقد اقترب موعــد العشاء .
فضحك :
ـ تغيرين الموضوع ؟ لمــاذا يا ترى ؟
فوقفت , ووقف معها . أمسك بذراعها محدقاً في وجهها
الـمتجهم :
ـ ما الأمــر الآن ! لقد صدقتني , أليس كذلك . . . لم ألمس
جيسكا تلك الليلة . . أقســم لك .
ـ أصـدقـك . . . ومع ذلك .
ـ مع ذلك . . . مــاذا ؟
ـ خمس سنوات . . . لماذا انتظرت خمس سنوات لــرؤيتي
ثانية ؟
ـ إنه كراولي . . . لقد صدقته , كنت أتصور حالتك الذهنية ,
بعد رؤيتي مع جيسكا . . . وكنت أعرف أنه ينتظر الفرصة . .
وعندما قال إنــك استسلمت له . . صدقته . . . أحسست بغيرة
قاتلة . . . ولكن حتى هذا كنت مستعداً لغفرانه . ولو قابلتـك
لأصلحت الأمور . ولكنك ابتعدت . ثم انشغلت بمشاكل جيسكا
والطفل . وصدقت أنك فضلته عني فقررت أن أزيلك من تفكيري .
فقالت ببرود :
ـ هكذا بكـــل بســاطة ؟
ـ لا . . لم يكن الأمر سهلاً . كنت أعتقد أنك تنامين معه .
ـ ألم تستغرب عدم زواجــي به ؟
ـ بلى . . ولكن كنت أتصور كراولي يحاول إقناعك بالزواج
ويفشــل .
ـ وماذا يؤكد لك أنه لم يكن هناك رجــال غيره ؟
ـ ستقولين لــي أنت هذا .
ـ وهل ستصدقني ؟
ـ أنا مضطر لتصديقك . . فأنا لن أتمكن من تركك تبتعدين
عني ثانية .
ـ لقد أردت الابتعاد عنك , ولكنني لم أستطع .
ـ لا تدعي رجلاً آخر يلمسك وإلا قتلتك وقتلته . . أحبك . .
جيني قولــي لي إنك تحبيني .
ـ لقد قلت لك .
ـ ولكنك كرهت ذلك الاعتراف .
فتنهدت :
ـ وهل تلومني ؟ كرهت نفسي لرغبتي بك بالرغم من كل ما
حــدث .
ـ والآن ؟
فمررت أصابعها فوق فمه , فــأحست به يرتجـف للمستها .
فهــمــســت :
ـ الآن ! . . أستطيع القول إننــي أحبك دون أي تحفظ .
فســألها :
ـ ومتى ستتزوجين منــي ثانية ؟
ـ حين تريد .
فلامـس شعرها بخفة :
ـ هنــاك شرط واحـد .
فنظرت إليه بدهشــة :
ـ شـرط ؟
ـ أجل . . . كـراولي . . أريده أن يبتعد عنك . . . وإلى الأبد .
لقد قام بما في وسعه لتفريقنا . . إنه يحبك بقدر ما أحبك أنا . ولا
أريد أن يكون بقربـك .
ووضعــت يديها على كتفيه :
ـ وأنت روبرتو . . . لدي شرط عليك .
فرفع حـاجبيه :
ـ أوه . . وما هو ؟
ـ مـا من امرأة أخــرى . . وإلا فلن أهرب فـي المرة القادمة إلى
منزل أبي . بل سـأقتلك بأحد مسدساتك .
فضــحـك :
ـ لن يكون هناك أي تأكيد أنــني لن أكون مع امرأة أخرى سوى
أن لا تغادري فراشــي مطلقاً .
وعانقها بشــدة وأكمـــل :
ـ أريد أن استيقظ كل صباح لأجدك بقربي . . . وهذا هو ما
جرفني إلى الجنون عندما شاهدت صورة خطوبتك في الصحف
وأدركت إنك ستتزوجين كراولي .
ـ قل لـي الحقيقة . . هل حدث الاصطدام بسبب الصورة ؟
ـ الله يعلم . لا أذكــر شيئاً . كنت أقود سيارتي أفكر بك , ثم لم
أدر إلا وأنـا في المستشفى .
ـ كانت خدعة ممتازة منك وكــان على إيفا أن تكــون أذكرى من
أن تـقــع .
فابتســم :
ـ إنها تحبني . . . وكنت لا زلت ضعيفاً , ولم ترد أن تغضبـني .
ـ أنت حقاً ماكــر لا تطاق .
ـ وهذا ما أبقاني حياً . وتركك معلقة على صنارتي . كنت
أراقبك تتلوين بين رغبة الهرب ورغبة البقاء .
ـ أكــرهك .
ـ لا . . لن تستطيعي , لقد قـاومت قدر استــطــاعتـك وراقبت
محــاولاتك للخــلاص . . . وكنت واثقاً أنـني لو أصبحت معك
لوحدنا . . لاستطعت . . .
ـ استطعت مــاذا ؟
ولكنها كانت تعرف الجواب . رقصت عيناه وهو يجيب :
ـ لاستطعت الانفراد بك .
ونظــر إليها متسائلاً فقالت :
ـ أيهــا . .
وأخرس كلماتها الغاضبة بوضع يده فوق فمها .
ـ ولكنني حصلت عليك . . . ألم أفعــل ؟
ـ لم تحصل علي دون معركــة في البداية .
فرفع حاجبيه سخرية .
ـ بل مجرد مناوشة بدائية , زادت من المتعة بعد قبولك .
ـ أكــرهـك .
ولكنها كــانت تضحك . . وجذبها إليه وعانقهــا طويلاً . . بعد
فترة ســألها :
ـ ماذا عن أندرو ؟ مع أنه ليس ابني فأنا أحبه يا جيني ولطالما
عاملته على أنه ابني طوال حياته ولن أستطيع التخلي عنه الآن .
ـ بالطبع لا . . لقد أصبح سهلاً علي أن أحبه الآن . فلن تقف
الغيرة في الطريق .
واخــذ يلف خصلة من شعرها حول إصبعه :
ـ أولادنا لن يعــانوا من شــيء .
فاحمـر وجهها .
ـ سنفكر بهذا عندما نصل إليه . . ولكني أظن بأنك يجب أن
تسمح للويس برؤيته . . إنه بشــر . وتلقى صدمة فظيعة لمعرفته
أن أندرو ابنه .
ـ إنه يستحق هذه الصدمة . . ! لقد تصرف بكل خبث حتى إنه
غازلك , وأمامي . فقد اعتقد أنني اضعف من أن أمنعه . لقد كان
دائماً غيوراً خبيثاً قذراً . ولكن زوجته امرأة رائعة , وبما أن أندرو
ابن أختها يمكنه البقاء معها معظم الأوقات .
فابتسمت جيني :
ـ فكــرة رائعة .
دقة على الباب أجفلتهما معاً وأدخلت ماريا رأسها ونظـــرت
إليهما ببرود وســألت بالإيطالية :
ـ ستتناولان العشاء الليلة أم لا ؟
فرد عليها بنفس اللهجة :
ـ وماذا يجعلك تظنين أننا لن نتعشى ؟
فكشرت وجهها بطريقة ساخرة . . . فقال روبرتو مبتسماً لها :
ـ نحن قادمان . فاذهبي من هنا واتركــي لـي فرصة لأقبـــل
زوجــتي .
فردت ماريا بخبث :
ـ إذا لم تكن قد فعلت هذا بعد فقد أضعت نصف ساعة من
وقتك سدى .
وخــرجـت من الغرفة وصفقت الباب وراءها . . فقال روبرتو
متجهمــاً :
ـ لقد أضــعــت خمس سنوات سدى . . وأمامي الكثير لأعوض
عنه .
وشد بيديه على جيني :
ـ ليس علينا الانتظــار إلى يوم الزفاف , أليس كذلك ؟
فســألـته , وقد فتحت عينيها على اتساعهما ببراءة لذيذة :
ـ ننتظـــر مـاذا ؟
ـ يا لعينة . . نستطيع الزواج بعد أسبوع , ولكن الأسبوع وقت
طويل بالنسبة لـي .
فقالت برزانة :
ـ الصيــام جيد للروح .
وهربت منه خــارج الغرفة .
ونـظـرت إليهما ماريا :
ـ لقد أفسدتما العشاء . . . اعلما هذا .
فابتسمت إيفا لجيني .
ـ لا تهتمـي يا عزيزتي . . ماريا معتادة على الضجيج .
ولم يكن هناك أثر للويس . جلسوا إلى المائدة , يتبادلون
الحديث , ثم قالت إيفا :
ـ ستكون العائلة على أهبة الاستعداد , وسيسبب الزواج ضجة
في الصحافة .
فهـز روبرتو كتفيه :
ـ ليس كثيراً . أظن أن الجميع عرف الآن أن جيني معـي . .
وسينـشغل الناس بالحساب لما سيحدث .
فقالت جيني ,
ـ ليس بالضرورة , فسبب وجودي هنا سهل التفسير .
ـ حقــاً ؟
ـ أتعلم بمـاذا سيفكــر الناس . . . لن يعرفوا بالتأكيد أنــني جئت
هنا لأتزوجك مرة أخرى .
فابتسم ســاخراً :
ـ وخاصة بعد وقت قصير من إعلان خطوبتك على رجل آخـر .
لا بد أن هذا سيصب كراولي بصدمة .
فـصــاحـت به بغيظ :
ـ أوه . . اصمت . . مسكين غرانت !
ـ وهذا ما يذكرني . . . أعطني خاتم خطوبته لأعيده له مع
رسـالة شرح مناسبة .
ـ لا . . لن تفعل . سـأفعل هذا بنفسي . فأنا أعرف ما ستقـــول
لـه .
فرد ببرود متصلب الوجه :
ـ أنا مدين له بالكثير . ويجب أن أنتهز أي فرصــة لإبلاغه بهذا .
فتوسلت جيني :
ـ لا تفعل روبرتو أرجوك . . إنس الأمـر .
ـ خمس سنوات ؟ أتتوقعين أن أمســح خمس سنوات من الدين
دون كلمـة ؟
ووضعت يدها فوق يده :
ـ لقد انتهى الأمـر .
ونظـر إليها بخبث :
ـ لا . . فأنا دائماً عصبي المزاج وأنا صائم .
فنظرت إليه إيفا بذهول .
ـ صائم روبرتو ؟ بالتأكيد أنت لا تتبع حمية وأنت مريض ؟
فاحمرت جيني تحت وقع عينيه الخبيثتين , واحتجت .
ـ أنت تغش فــي اللعب .
فشهقت إيفا وقد فهمت ما تعنيه كلماتهما , وابتسمت مشيحة
بنظرها عنهما . ونظر روبرتو إلى عيني جيني :
ـ حسنــاً . . ما قولك ؟ هل أصوم أم لا ؟
فتأوهــت :
ـ أيها المبتز الخالي من الحياء . لمــاذا تريد دائماً أن تنفذ مـــا
تريـــد ؟
فرفع يدها ليقبلها . . . مع نظرة خبيثة واعدة , وقال بـصـوت
ناعـم :
ـ أنــا هكــذا دومــاً .
* * *
النهاية